100- أغاب عن الذين يخلفون من قبلهم من الأمم سنة الله فيمن قبلهم ، وأن شأننا فيهم كشأننا فيمن سبقوهم ؟ وهو أنهم خاضعون لمشيئتنا ، لو نشاء أن نُعَذبهم بسبب ذنوبهم لأصبناهم كما أصبنا أمثالهم ، ونحن نختم على قلوبهم لفرط فسادها حتى وصلت إلى حالة لا تقبل معها شيئاً من الهدى ، فهم بهذا الطبع والختْم لا يسمعون الحكم والنصائح سماع تفقه واتعاظ .
{ 100 - 102 ْ } { أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ * تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ * وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ ْ }
يقول تعالى منبها للأمم الغابرين بعد هلاك الأمم الغابرين{[321]} { أَوَ لَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ ْ } أي : أو لم يتبين ويتضح للأمم الذين ورثوا الأرض ، بعد إهلاك من قبلهم بذنوبهم ، ثم عملوا كأعمال أولئك المهلكين ؟ .
أو لم يهتدوا أن اللّه ، لو شاء لأصابهم بذنوبهم ، فإن هذه سنته في الأولين والآخرين .
وقوله : { وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ ْ } أي : إذا نبههم اللّه فلم ينتبهوا ، وذكرهم فلم يتذكروا ، وهداهم بالآيات والعبر فلم يهتدوا ، فإن اللّه تعالى يعاقبهم ويطبع على قلوبهم ، فيعلوها الران والدنس ، حتى يختم عليها ، فلا يدخلها حق ، ولا يصل إليها خير ، ولا يسمعون ما ينفعهم ، وإنما يسمعون ما به تقوم الحجة عليهم .
( أو لم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم ، ونطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون ) . .
إن سنة الله لا تتخلف ؛ ومشيئة الله لا تتوقف . فما الذي يؤمنهم أن يأخذهم الله بذنوبهم كما أخذ من قبلهم ؟
وأن يطبع على قلوبهم فلا يهتدوا بعد ذلك ، بل لا يستمعوا إلى دلائل الهدى ، ثم ينالهم جزاء الضلال في الدنيا والآخرة . . ألا إن مصارع الخالين قبلهم ، ووراثتهم لهم ، وسنة الله الجارية . . كل أولئك كان نذيراً لهم أن يتقوا ويحذروا ؛ وأن يطرحوا عنهم الأمن الكاذب ، والاستهتار السادر ، والغفلة المردية ، وأن يعتبروا بما كان في الذين خلوا من قبلهم . عسى ألا يكون فيهم . لو كانوا يسمعون !
وما يريد الله للناس بهذا التحذير في القرآن أن يعيشوا مفزعين قلقين ؛ يرتجفون من الهلاك والدمار أن يأخذهم في لحظة من ليل أو نهار . فالفزع الدائم من المجهول ، والقلق الدائم من المستقبل ، وتوقع الدمار في كل لحظة . . قد تشل طاقة البشر وتشتتها ؛ وقد تنتهي بهم إلى اليأس من العمل والنتاج وتنمية الحياة وعمارة الأرض . . إنما يريد الله منهم اليقظة والحساسية والتقوى ، ومراقبة النفس ، والعظة بتجارب البشر ، ورؤية محركات التاريخ الإنساني ، وإدامة الاتصال بالله ، وعدم الاغترار بطراءة العيش ورخاء الحياة .
والله يعد الناس الأمن والطمأنينة والرضوان والفلاح في الدنيا والآخرة ، إذا هم أرهفوا حساسيتهم به ، وإذا هم أخلصوا العبودية له ؛ وإذا هم اتقوه فاتقوا كل ما يلوث الحياة . فهو يدعوهم إلى الأمن في جوار الله لا في جوار النعيم المادي المغري . وإلى الثقة بقوة الله لا بقوتهم المادية الزائلة . وإلى الركون إلى ما عند الله لا إلى ما يملكون من عرض الحياة .
ولقد سلف من المؤمنين بالله المتقين لله سلف ما كان يأمن مكر الله . وما كان يركن إلى سواه . وكان بهذا وذاك عامر القلب بالإيمان ، مطمئناً بذكر الله ، قوياً على الشيطان وعلى هواه ، مصلحاً في الأرض بهدى الله ، لا يخشى الناس والله أحق أن يخشاه .
وهكذا ينبغي أن نفهم ذلك التخويف الدائم من بأس الله الذي لا يدفع ، ومن مكر الله الذي لا يدرك . لندرك أنه لا يدعو إلى القلق إنما يدعو إلى اليقظة ، ولا يؤدي إلى الفزع إنما يؤدي إلى الحساسية ، ولا يعطل الحياة إنما يحرسها من الاستهتار والطغيان .
والمنهج القرآني - مع ذلك - إنما يعالج أطوار النفوس والقلوب المتقلبة ، وأطوار الأمم والجماعات المتنوعة ، ويطب لكل منها بالطب المناسب في الوقت الملائم . فيعطيها جرعة من الأمن والثقة والطمأنينة إلى جوار الله ، حين تخشى قوى الأرض وملابسات الحياة . ويعطيها جرعة من الخوف والحذر والترقب لبأس الله ، حين تركن إلى قوى الأرض ومغريات الحياة . وربك أعلم بمن خلق ، وهو اللطيف الخبير . .
وقوله { أو لم يهد للذين يرثون الأرض } الآية ، هذه ألف تقرير دخلت على واو العطف ، و «يهدي » معناه يبين والهدى الصباح وأنشدوا على ذلك :
حتى استبنت الهدى والبيد هاجمة*** يسبحن في الآل غلفاً أو يصلينا
ويحتمل أن يكون المبين الله ويحتمل أن يكون المبين قوله { أن لو نشاء } أي علمهم بذلك وقال ابن عباس ومجاهد وابن زيد : و «يهدي » معناه يتبين ، وهذه أيضاً آية وعيد ، أي ألم يظهر لوارث الأرض بعد أولئك الذين تقدم ذكرهم وما حل بهم أنا نقدر لو شئنا أن نصيبهم إصابة إهلاك بسبب معاصيهم كما فعل بمن تقدم وكنا نطبع : أي نختم ، ونختم عليها بالشقاوة ، وفي هذه العبارة ذكر القوم الذين قصد ذكرهم وتعديد النعمة عليهم فيما «ورثوا » والوعظ بحال من سلف من المهلكين ، ونطبع عطف على المعاصي إذ المراد به الاستقبال ، ويحتمل أن يكون ونطبع منقطعاً إخباراً عن وقوع الطبع لا أنه متوعد به ويبقى التوعد بالإهلاك الذي هو بعذاب كالصيحة والغرق ونحوه ، وقرأ أبو عمرو : { ونطبع على } بإدغام العين في العين وإشمام الضم ، ذكره أبو حاتم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.