البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{أَوَلَمۡ يَهۡدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ ٱلۡأَرۡضَ مِنۢ بَعۡدِ أَهۡلِهَآ أَن لَّوۡ نَشَآءُ أَصَبۡنَٰهُم بِذُنُوبِهِمۡۚ وَنَطۡبَعُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ فَهُمۡ لَا يَسۡمَعُونَ} (100)

{ أو لم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم } قال ابن عباس ومجاهد وابن زيد { يهد } يبين وهذا كقوله { وأما ثمود فهديناهم } أي بيّنا لهم طريق الهدى والفاعل بيهد يحتمل وجوهاً ، أحدها أن يعود على الله ويؤيد قراءة من قرأ { يهد } بالنون ، والثاني أن يكون ضميراً عائداً على ما يفهم من سياق الكلام السابق أي { أو لم يهد } ما جرى للأمم السالفة أهل القرى وغيرهم وعلى هذين الوجهين يكون أن لو نشاء وما بعده في موضع المفعول بيهد أي أو لم يبيّن الله أو ما سبق من قصص القرى ومآل أمرهم للوارثين أصابتنا إياهم بذنوبهم لو شئنا ذلك أي علمهم بإصابتنا أو قدرتنا على إصابتنا إياهم ، والمعنى أنكم مذنبون لهم وقد علمتم ما حلّ بهم أفما تحذرون أن يحلّ بكم ما حل بهم فذلك ليس بممتنع علينا لو شئنا ، والوجه الثالث أن يكون الفاعل بيهد قوله { أن لو نشاء } فينسبك المصدر من جواب لو والتقدير أو لم نبين ونوضح للوارثين مآلهم وعاقبتهم إصابتنا إياهم بذنوبهم لو شئنا ذلك أي علمهم بإصابتنا أو قدرتنا على إصابتنا إياهم والمعنى على التقديرين إذا كانت { أن } مفعولة و { أن } هنا هي المخففة من الثقيلة لأن الهداية فيها معنى العلم واسمها ضمير الشأن محذوف والخبر الجملة المصدرية بلو و { نشاء } في معنى شئنا لا أن لو التي هي لما كان سيقع لوقوع غيره إذا جاء بعدها المضارع صرفت معناه إلى المضي ومفعول { نشاء } محذوف دلّ عليه جواب { لو } والجواب { أصبناهم } ولم يأتِ باللام وإن كان الفعل مثتباً إذ حذفها جائز فيصحّ كقوله { لو نشاء جعلناه أجاجاً } والأكثر الإتيان باللام كقوله

{ لو نشاء لجعلناه حطاماً } { ولو شئنا لرفعناه بها } والذين يرثون الأرض أي يحلفون فيها من بعد هلاك أهلها وظاهره التسميع لمن كان في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم من مشركي قريش وغيرهم ، وقال ابن عباس يريد أهل مكة ، { ونطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون } الظاهر أنها جملة مستأنفة أي ونحن { نطبع على قلوبهم } والمعنى أنّ من أوضح الله له سبل الهدى وذكر له أمثالاً ممن أهلكه الله تعالى بذنوبهم وهو مع ذلك دائم على غيّه لا يرعوي يطبع الله على قلبه فينبو سمعه عن سماع الحق ، وقال ابن الأنباري يجوز أن يكون معطوفاً على أصبنا إذا كان بمعنى نصيب فوضع الماضي موضع المستقبل عند وضوح معنى الاستعمال كما قال تعالى { تبارك الذي إن شاء جعل لك خيراً من ذلك } أي إن يشأ يدل عليه قوله { ويجعل لك قصوراً } انتهى فجعل { لو } شرطية بمعنى أن ولم يجعلها التي هي لما كان سيقع لوقوع غيره ولذلك جعل أصبنا بمعنى نصيب ومثال وقوع لو موقع أن قول الشاعر :

لا يلفك الراجيك إلاّ مظهرا *** خلق الكرام ولو تكون عديما

وهذا الذي قاله ابن الأنباري ردّه الزمخشري من جهة المعنى لكن بتقدير أن يكون { ونطبع } بمعنى طبعنا فيكون قد عطف المضارع على الماضي الذي هو جواب { لو نشاء } فجعله بمعنى نصيب فتأوّل المعطوف عليه وهو الجواب وردّه إلى المستقبل والزمخشري تأوّل المعطوف وردّه إلى المضي وأنتج ردّ الزمخشري أنّ كلا التقديرين لا يصحّ ، قال الزمخشري : ( فإن قلت ) : هل يجوز أن يكون { ونطبع } بمعنى طبعنا كما كان لو نشاء بمعنى لو شئنا ويعطف على { أصبناهم } ، { قلت ) : لا يساعد هذا المعنى لأنّ القوم كان مطبوعاً على قلوبهم موصوفين بصفة من قبلهم من اقتراف الذنوب والإصابة بها وهذا التفسير يؤدي إلى خلوهم عن هذه الصفة وأن الله تعالى لو شاء لاتصفوا بها انتهى هذا الردّ ظاهره الصحة وملخصة أنّ المعطوف على الجواب جواب سواء تأوّلنا المعطوف عليه أم المعطوف وجواب لو لم يقع بعد سواء كانت حرفاً لما كان سيقع لوقوع غيره أم بمعنى إن الشرطية والإصابة لم تقع والطبع على القلوب واقع فلا تصحّ أن يعطف على الجواب فإن تأوّل { ونطبع } على معنى ونستمر على الطبع على قلوبهم أمكن التعاطف لأنّ الاستمرار لم يقع بعد وإن كان الطبع قد وقع .

وقال أبو عبد الله الرازي : تقرير صاحب الكشاف على أقوى الوجوه هو ضعيف لأنّ كونه مطبوعاً عليه في الكفر لم يكن منافياً لصحة العطف وكان قد قرّر أن المعنى أو لم يبين للذين نبقيهم في الأرض بعد إهلاكنا من كان قبلهم فيها أن تهلكهم بعدهم وهو معنى قوله { أن لو نشاء } أصبناهم أي بعقاب ذنوبهم { ونطبع على قلوبهم } أي لم نهلكهم بالعذاب { نطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون } أي لا يقبلون ولا يتّعظون ولا ينزجرون وإنما قلنا إن المراد إما الإهلاك وإما الطّبع على القلب لأن الإهلاك لا يجتمع مع الطبع على القلب فإنه إذا أهلكه يستحيل أن يطبع على قلبه انتهى .

والعطف في { ونطبع } بالواو يمنع ما ذكره لأن جعل المعنى على أنه إما الإهلاك وإما الطبع وظاهر العطف بالواو وينبو عن الدلالة على هذا المعنى فإن جعلت الواو بمعنى أو أمكن ذلك وكذلك ينبو عن قوله إن لم نهلكهم بالعذاب ونطبع على قلوبهم العطف بالواو وأورد أبو عبد الله الرازي من أقوال المفسّرين ما يدلّ على أنّ كونه مطبوعاً عليه في الكفر لا ينافي صحة العطف فقال أبو علي ويعني به والله أعلم الجبائي الطّبع سمة في القلب من نكتة سوداء إن صاحبها لا يفلح وقال الأصم : أي يلزمهم ما هم عليه فلا يتوبون إلا عند المعاينة فلا تقبل توبتهم ، وقال أبو مسلم : الطبع الخذلان إنه يخذل الكافر فيرى الآية فلا يؤمن بها ويختار ما اعتاد وألف وهذه الأقوال لا يمكن معها العطف إلا على تأويل أن تكون الواو بمعنى أو وأجاز الزمخشري في عطف { ونطبع } وجهين آخرين أحدهما ضعيف والآخر خطأ ، قال الزمخشري : ( فإن قلت ) : بم يتعلق قوله تعالى { ونطبع على قلوبهم } ، ( قلت ) : فيه أوجه أو يكون معطوفاً على ما دلّ عليه معنى أو { لم يهدني لهم } كأنه قيل يغفلون عن الهداية { ونطبع على قلوبهم } أو على { يرثون الأرض } انتهى فقوله أنه معطوف على مقدر وهو يغفلون عن الهداية ضعيف لأنه إضمار لا يحتاج إليه إذ قد صحّ أن يكون على الاستئناف من باب العطف في الجمل فهو معطوف على مجموع الجملة المصدرة بأداة الاستفهام وقد قاله الزمخشري وغيره ، وقوله أنه معطوف علي { يرثون } خطأ لأنه إذا كان معطوفاً على يرثون كان صلة للذين لأنّ المعطوف على الصلة صلة ويكون قد فصل بين أبعاض الصلة بأجنبي من الصلة وهو قوله { أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم } سواء قدرنا { أن لو نشاء } في موضع الفاعل ليهدأ أو في موضع المفعول فهو معمول ليهد لا تعلق له بشيء من صلة { الذين } وهو لا يجوز ومعنى قوله { أصبناهم بذنوبهم } بعقاب ذنوبهم أو يضمن { أصبناهم } معنى أهلكناهم فهو من مجاز الإضمار أو التضمين ونفي السماع والمعنى نفي القبول والاتعاظ المترتب على وجود السماع جعل انتفاء فائدته انتفاء له .