الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{أَوَلَمۡ يَهۡدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ ٱلۡأَرۡضَ مِنۢ بَعۡدِ أَهۡلِهَآ أَن لَّوۡ نَشَآءُ أَصَبۡنَٰهُم بِذُنُوبِهِمۡۚ وَنَطۡبَعُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ فَهُمۡ لَا يَسۡمَعُونَ} (100)

قوله تعالى : { أَوَلَمْ يَهْدِ } : قرأ الجمهور " يَهْدِ " بالياء من تحت . وفي فاعله حينئذ ثلاثة أوجه ، أظهرها : أنه المصدر المؤول من " أنْ " وما في حَيِّزها ، والمفعولُ محذوفٌ والتقدير : أو لم يَهْدِ أي : يبيِّن ويوضِّح للوارثين مآلهم وعاقبةَ أمرهم وإصابتنا إياهم بذنوبهم لو شِئْنا ذلك ، فقد سَبَكْنا المصدر من " أنْ " ومن جواب لو . الثاني . أنَّ الفاعلَ هو ضميرُ اللهِ تعالى أي : أو لم يبيِّن الله ، ويؤيده قراءةُ مَنْ قرأ " نَهْدِ " بالنون . الثالث : أنه ضميرٌ عائد على ما يُفْهَمُ مِنْ سياق الكلام أي : أو لم يَهْدِ ما جَرَى للأممِ السابقة كقولهم : " إذا كان غداً فَأْتني " أي : إذا كان ما بيني وبينك مما دلَّ عليه السياق . وعلى هذين الوجهين ف " أنْ " وما في حيِّزها بتأويل مصدر كما تقدَّم في محلِّ المفعول والتقدير : أو لم يُبَيِّن ويوضح الله أو ما جَرَى للأمم إصابتنا إياهم بذنوبهم لو شئنا ذلك .

وقرأ مجاهد " نَهْدِ " بنون العظمة و " أنْ " مفعول فقط ، و " أنْ " هي المخففةُ من الثقيلة ، " ولو " فاصلةٌ بينها وبين الفعل ، وقد تقدَّم أن الفصلَ بها قليلٌ . و " نشاء " وإن كان مضارِعاً لفظاً فهو ماضٍ معنىً ؛ لأنَّ " لو " الامتناعيةَ تخلِّصُ المضارع للمضيّ . وفي كلامِ ابنِ الأنباري خلافُه فإنه قال في " ونطبعُ " : " هذا فعلٌ مستأنف ومنقطع مما قبله ، لأنَّ قولَه " أَصَبْنا " ماضٍ و " نَطْبع " مستقبل ثم قال : " ويجوز أن يكونَ معطوفاً على " أَصَبْنا " إذ كان بمعنى نُصيب ، والمعنى : لو يشاء يصيبهم ويطبع ، فَوَضَع الماضي موضع المستقبل عند وضوح معنى الاستقبال كقوله تعالى : { إِن شَآءَ جَعَلَ لَكَ } [ الفرقان : 10 ] أي : يجعل ، بدليل قوله " ويجعل لك " . قلت : فهذا ظاهرٌ قويٌّ في أنَّ " لو " هذه لا تخلِّصُ المضارع للمضيّ ، وتنظيرُه بالآيةِ الأخرى مُقَوٍّ له أيضاً ، وسيأتي تحقيق ذلك عند قوله " ونطبع " .

وقال الفراء : " وجاز أن تَرُدَّ " يَفْعل " على فَعَلَ في جواب " لو " كقوله :

{ وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ }

[ يونس : 11 ] قوله : " فَنَذَرُ " مردودٌ على " لقُضِي " . قلت : وهذا هو قول الجمهور ، ومفعولُ " يشاء " محذوفٌ لدلالة جواب " لو " عليه ، والتقدير : لو يشاء تعذيبَهم أو الانتقامَ منهم . وأتى/ جوابُها بغير لام وإن كان مبنيَّاً على أحد الجائزين ، وإن كان الأكثرُ خلافَه ، كقوله تعالى : { لَوْ نَشَآءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً } [ الواقعة : 70 ] .

قوله : { وَنَطْبَعُ } في هذه الجملة أوجه ، أحدها : أنها نسقٌ على " أَصَبْناهم " وجاز عطفُ المضارع على الماضي لأنه بمعناه وقد تقدم أنَّ " لو " تُخَلِّصُ المضارع للمضيِّ ، ولما حكى الشيخ كلامَ ابن الأنباري المتقدِّم قال : " فجعل " لو " شرطيةً بمعنى " إنْ " ولم يجعلها التي هي " لِما " كان سيقعُ لوقوع غيره ، ولذلك جعل " أَصَبْنا " بمعنى نُصيب . ومثال وقوعِ " لو " بمعنى " إنْ " قوله :

لا يُلْفِكَ الرَّاجيك إلا مُظْهِرا *** خُلُقَ الكرامِ ولو تكون عَدِيما

وهذا الذي قاله ابن الأنباري رَدَّه الزمخشري من حيث المعنى ، لكن بتقديرِ أنْ يكونَ " ونطبعُ " بمعنى طَبَعْنا ، فيكون قد عَطَفَ المضارع على الماضي لكونه بمعنى الماضي ، وابنُ الأنباري جَعَلَ التأويل في " أَصَبْنا " الذي هو جوابُ " لو نشاء " ، فجعله بمعنى نُصيب ، فتأوَّل المعطوفَ عليه وهو جوابُ " لو نشاء " ، فجعله بمعنى نُصيب ، فتأوَّل المعطوفَ ورَدَّه إلى المُضِيِّ ، وأنتج ردُّ الزمخشري أنَّ كلا التقديرين لا يَصِحُّ " .

قال الزمخشري : " فإن قلت : هل يجوز أن يكون " ونطبع " بمعنى طبَعْنا ، كما كان " لو نشاء " بمعنى لو شِئْنا ، ويعطف على " أَصَبْناهم " ؟ قلت : لا يساعد على المعنى ، لأنَّ القوم كانوا مطبوعاً على قلوبهم ، مَوْصوفين بصفة مَنْ قبلهم مِن اقتراف الذنوب والإِصابة بها ، وهذا التفسير يؤدِّي إلى خلوِّهم من هذه الصفةِ ، وأن الله لو شاء لاتَّصفوا بها " . قال الشيخ : " وهذا الردُّ ظاهرهُ الصحةُ ، وملخصه أن المعطوفَ على الجوابِ جوابٌ سواء تأوَّلنا المعطوفَ عليه أم المعطوفَ ، وجوابُ " لو " لم يقع بعدُ ، سواءً كانت حرفاً لِما كان سيقع لوقوع غيره أم بمعنى " إنْ " الشرطية ، والإِصابةُ لم تقع ، والطَّبْعُ على القلوب واقع فلا يَصحُّ أن تَعْطِفَ على الجواب . فإنْ تُؤَوِّل " ونطبع " على معنى : ونستمر على الطبع على قلوبهم أمكن التعاطف لأن الاستمرار لم يقع بعدُ وإن كان الطبع قد وقع " . قلت : فهذا الوجه الأول ممتنع لِما ذكره الزمخشري .

الوجه الثاني : أنْ يكون " نطبع " مستأنفاً ومنقطعاً عَمَّا قبلَه فهو في نية خبرِ مبتدأ محذوف أي : ونحن نطبع . وهذا اختيارُ أبي إسحاق والزمخشري وجماعة .

الوجه الثالث : أن يكونَ معطوفاً على " يرثون الأرض " قاله الزمخشري . قال الشيخ : " وهو خطأٌ لأنَّ المعطوف على الصلة صلة و " يرثون " صلةٌ للذين ، فيلزم الفصلُ بين أبعاض الصلة بأجنبي ، فإن قوله " أنْ لو نشاء " : إمَّا فاعلٌ ليَهْد أو مفعولُه كما تقدَّم ، وعلى كلا التقديرين فلا تَعَلُّقَ له بشيء من الصلة ، وهو أجنبيٌّ منها فلا يُفْصل به بين أبعاضها ، وهذا الوجهُ مُؤَدٍّ على ذلك فهو خطأ " .

الرابع : أن يكونَ معطوفاً على ما دَلَّ عليه معنى " أو لم يهد لهم " كأنه قيل : يغفُلون عن الهداية ونطبع على قلوبهم . قاله الزمخشري أيضاً . قال الشيخ : " وهو ضعيفٌ ؛ لأنه إضمار لا يُحتاج إليه ، إذ قد صَحَّ عطفُه على الاستئناف من باب العطف على الجمل فهو معطوفٌ على مجموع الجملة المصدَّرة بأداة الاستفهام ، وقد قاله الزمخشري وغيره " .

قوله : { فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ } أتى بالفاء هنا إيذاناً بتعقيب عدم سماعهم على أثر الطبع على قلوبهم .