65- وكان إخوة يوسف يجهلون أن يوسف وضع أموالهم في حقائبهم ، فلما فتحوها ووجدوا الأموال عرفوا جميل ما صنع بهم يوسف ، وتذرعوا بذلك إلى بث الطمأنينة في قلب يعقوب ، وإقناعه بالاستجابة إلى ما طلب العزيز وبالغوا في استمالته ، فذكروه بما بينه وبينهم من رباط الأبوة ، فقالوا : يا أبانا أي شيء تريده أجمل مما جرى وينتظر أن تجرى به الأحداث ؟ هذه أموالنا أعيدت إلينا دون أن يحتجز منها شيء ، فنسافر مع أخينا ونجلب الميرة لأهلنا ، ونرعى أخانا ، ويزيد ميرتنا حمل بعير لحق أخينا ، فقد رسم العزيز أن يعطى الرجل حمل بعير .
ثم إنهم { وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ } هذا دليل على أنه قد كان معلوما عندهم أن يوسف قد ردها عليهم بالقصد ، وأنه أراد أن يملكهم إياها . ف { قَالُوا } لأبيهم - ترغيبا في إرسال أخيهم معهم - : { يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي } أي : أي شيء نطلب بعد هذا الإكرام الجميل ، حيث وفَّى لنا الكيل ، ورد علينا بضاعتنا على الوجه الحسن ، المتضمن للإخلاص ومكارم الأخلاق ؟
{ هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا } أي : إذا ذهبنا بأخينا صار سببا لكيله لنا ، فمرنا{[446]} أهلنا ، وأتينا{[447]} لهم ، بما هم مضطرون إليه من القوت ، { وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ } بإرساله معنا ، فإنه يكيل لكل واحد حمل بعير ، { ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ } أي : سهل لا ينالك ضرر ، لأن المدة لا تطول ، والمصلحة قد تبينت .
( وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ )
وبعد الاستقرار من المشوار ، والراحة من السفر فتحوا أوعيتهم ليخرجوا ما فيها من غلال فإذا هم يجدون فيها بضاعتهم التي ذهبوا يشترون بها ، ولم يجدوا في رحالهم غلالا !
إن يوسف لم يعطهم قمحا ، إنما وضع لهم بضاعتهم في رحالهم . فلما عادوا قالوا : يا أبانا منع منا الكيل ، وفتحوا رحالهم فوجدوا بضاعتهم . وكان ذلك ليضطرهم إلى العودة بأخيهم ، وكان هذا بعض الدرس الذي عليهم أن يأخذوه .
على أية حال لقد اتخذوا من رد بضاعتهم إليهم دليلا على أنهم غير باغين فيما يطلبون من استصحاب أخيهم ولا ظالمين :
قالوا : يا أبانا ما نبغى . هذه بضاعتنا ردت إلينا . .
ثم أخذوا يحرجونه بالتلويح له بمصلحة أهلهم الحيوية في الحصول على الطعام :
والميرة الزاد ، ويؤكدون له عزمهم على حفظ أخيهم . .
ويرغبونه بزيادة الكيل لأخيهم :
ويبدو من قولهم : ( ونزداد كيل بعير )أن يوسف - عليه السلام - كان يعطي كل واحد وسق بعير - وهو قدر معروف - ولم يكن يبيع كل مشتر ما يريد . وكان ذلك من الحكمة في سنوات الجدب ، كي يظل هناك قوت للجميع :
{ ولما فتحوا متاعهم وجدوا بضاعتهم رُدّت إليهم } وقرئ { ردت } بنقل كسرة الدال المدغمة إلى الراء نقلها في بيع وقيل . { قالوا يا أبانا ما نبغي } ماذا نطلب هل من مزيد على ذلك أكرمنا وأحسن مثوانا وباع منا ورد علينا متاعنا . أو لا نطلب وراء ذلك إحسانا أو لا نبغي في القول ولا نزيد فيما حكينا لك من إحسانه . وقرئ " ما تبغي " على الخطاب أي : شيء تطلب وراء هذا الإحسان ، أو من الدليل على صدقنا ؟ { هذه بضاعتنا رُدّت إلينا } استئناف موضح لقوله { ما نبغي } . { ونمير أهلنا } معطوف على محذوف أي ردت إلينا فنستظهر بها ونمير أهلنا بالرجوع إلى الملك . { ونحفظ أخانا } عن المخاوف في ذهابنا وإيابنا . { ونزداد كيل بعير } وسق بعير باستصحاب أخينا ، هذا إذا كانت { ما } استفهامية فأما إذا كانت نافية احتمل ذلك واحتمل أن تكون الجمل معطوفة على { ما نبغي } ، أي لا نبغي فيما نقول { ونمير أهلنا ونحفظ أخانا } . { ذلك كيل يسير } أي مكيل قليل لا يكفينا ، استقلوا ما كيل لهم فأرادوا أن يضاعفوه بالرجوع إلى الملك ويزدادوا إليه ما يكال لأخيهم ، ويجوز أن تكون الإشارة إلى كيل بعير أي ذلك شيء قليل لا يضايقنا فيه الملك ولا يتعاظمه ، وقيل إنه من كلام يعقوب ومعناه ، إن حمل بعير شيء يسير لا يخاطر لمثله بالولد .
أصل المتاع ما يتمتع به من العروض والثياب . وتقدم عند قوله تعالى : { لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم } في سورة النساء ( 102 ) . وأطلق هنا على إعدال المتاع وإحماله من تسمية الشيء باسم الحالّ فيه .
وجملة { قالوا يا أبانا } مستأنفة استئنافاً بيانياً لترقب السامع أن يعلم ماذا صدر منهم حين فجأهم وجدان بضاعتهم في ضمن متاعهم لأنه مفاجأة غريبة ، ولهذه النكتة لم يعطف بالفاء .
و { ما } في قوله : { ما نبغي } يجوز أن يكون للاستفهام الإنكاري بتنزيل المخاطب منزلة من يتطلب منهم تحصيل بغية فينكرون أن تكون لهم بغية أخرى ، أي ماذا نطلب بعد هذا . ويجوز كون { ما } نافية ، والمعنى واحد لأن الاستفهام الإنكاري في معنى النفي .
وجملة { هذه بضاعتنا ردت إلينا } مبينة لجملة { ما نبغي } على الاحتمالين . وإنما علموا أنها رُدّت إليهم بقرينة وَضْعها في العِدل بعد وضع الطعام وهم قد كانوا دفعوها إلى الكيالين ، أو بقرينة ما شاهدوا في يوسف عليه السلام من العطف عليهم ، والوعد بالخير إن هم أتوا بأخيهم إذ قال لهم { ألا ترون أني أوفي الكيل وأنا خير المنزلين } [ سورة يوسف : 59 ] .
وجملة { ونمير أهلنا } معطوفة على جملة { هذه بضاعتنا ردت إلينا } ، لأنها في قوة هذا ثمن ما نحتاجه من الميرة صَار إلينا ونمير به أهلنا ، أي نأتيهم بالميرة .
والميرة بكسر الميم بعدها ياء ساكنة : هي الطعام المجلوب .
وجملة { ونحفظ أخانا } معطوفة على جملة { ونمير أهلنا } ، لأن المير يقتضي ارتحالاً للجلب ، وكانوا سألوا أباهم أن يكون أخوهم رفيقاً لهم في الارتحال الذكور ، فكانت المناسب بين جملة { ونمير أهلنا } وجملة { ونحفظ أخانا } بهذا الاعتبار ، فذكروا ذلك تطميناً لخاطر فيهم .
وجملة { ونزداد كيل بعير } زيادةٌ في إظهار حرصهم على سلامة أخيهم لأن في سلامته فائدة لهم بازدياد كيل بعير ، لأن يوسف عليه السلام لا يعطي الممتارَ أكثر من حمل بعير من الطعام ، فإذا كان أخوهم معهم أعطاه حِمل بعير في عداد الإخوة . وبه تظهر المناسبة بين هذه الجملة والتي قبلها .
وهذه الجمل مرتبة ترتيباً بديعاً لأن بعضها متولد عن بعض .
والإشارة في { ذلك كيل يسير } إلى الطعام الذي في متاعهم . وإطلاق الكيل عليه من إطلاق المصدر على المفعول بقرينة الإشارة .
قيل : إن يعقوب عليه السلام قال لهم : لعلهم نسوا البضاعة فإذا قدمتم عليهم فأخبروهم بأنكم وجدتموها في رحالكم .