إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{وَلَمَّا فَتَحُواْ مَتَٰعَهُمۡ وَجَدُواْ بِضَٰعَتَهُمۡ رُدَّتۡ إِلَيۡهِمۡۖ قَالُواْ يَـٰٓأَبَانَا مَا نَبۡغِيۖ هَٰذِهِۦ بِضَٰعَتُنَا رُدَّتۡ إِلَيۡنَاۖ وَنَمِيرُ أَهۡلَنَا وَنَحۡفَظُ أَخَانَا وَنَزۡدَادُ كَيۡلَ بَعِيرٖۖ ذَٰلِكَ كَيۡلٞ يَسِيرٞ} (65)

{ وَلَمَّا فَتَحُواْ متاعهم وَجَدُواْ بضاعتهم رُدَّتْ إِلَيْهِمْ } أي تفضّلاً وقد علموا ذلك بما مر من دَلالة الحال وقرىء بنقل حركةِ الدالِ المدغمة إلى الراء كما قيل في قيل وكيل { قَالُواْ } استئنافٌ مبني على السؤال كأنه قيل : ماذا قالوا حينذ ؟ فقيل : قالوا لأبيهم ولعله كان حاضراً عند الفتح : { يا أَبَانَا مَا نبغي } إذا فُسّر البغيُ بالطلب فما إما استفهاميةٌ منصوبةٌ به فالمعنى ماذا نبتغي وراء ما وصفنا لك من إحسان الملِك إلينا وكرمِه الداعي إلى امتثال أمرِه والمراجعةِ إليه في الحوايج وقد كانوا أخبروه بذلك وقالوا له : إنا قدِمنا على خير رجلٍ أنزلنا وأكرَمنا كرامةً لو كان رجلاً من آل يعقوبَ ما أكرمنا كرامتَه ، وقوله تعالى : { هذه بضاعتنا رُدَّتْ إِلَيْنَا } جملةٌ مستأنفةٌ موضِّحةٌ لما دل عليه الإنكارُ من بلوغ اللطفِ غايتَه كأنهم قالوا : كيف لا وهذه بضاعتُنا ردّها إلينا تفضلاً من حيث لا ندري بعد ما منّ عليها من المنن العظامِ هل من مزيد على هذا فنطلبَه ؟ ولم يريدوا به الاكتفاءَ بذلك مطلقاً أو التقاعدَ عن طلب نظائرِه بل أرادوا الاكتفاءَ به في استيجاب الامتثالِ لأمره والالتجاءِ إليه في استجلاب المزيدِ كما أشرنا إليه وقوله تعالى : { رُدَّتْ إِلَيْنَا } حالٌ من { بضاعتُنا } والعامل معنى الإشارةِ وإيثار صيغةِ البناءِ للمفعول للإيذان بكمال الإحسانِ الناشىءِ عن كمال الإخفاءِ المفهومِ من كمال غفلتهم عنه بحيث لم يشعُروا به ولا بفاعله ، وقوله عز وجل : { وَنَمِيرُ أَهْلَنَا } أي نجلُب إليهم الطعامَ من عند الملكِ ، معطوفٌ على مقدَّر ينسحب عليه ردُّ البضاعة أي فنستظهر بها ونمير أهلنا { وَنَحْفَظُ أَخَانَا } من المكاره حسبما وعدْنا فما يصيبه من مكروه { وَنَزْدَادُ } أي بواسطته ، ولذلك وُسّط الإخبارُ بحفظه بين الأصلِ والمزيد { كَيْلَ بَعِيرٍ } أي وُسْقَ بعيرٍ زائداً على أوساق أباعِرِنا على قضية التقسيط .

{ ذلك } أي ما يحمِله أباعرُنا { كَيْلٌ يَسِيرٌ } أي مكيلٌ قليلٌ لا يقوم بأَودنا فهو استئنافٌ ، وقيل : تعليل لما سبق ، كأنه قيل : أيُّ حاجة إلى الازدياد ؟ فقيل ما قيل ، أو ذلك الكيلُ الزائد شيءٌ قليلٌ لا يضايقنا فيه الملِكُ أو سهلٌ عليه لا يتعاظمه أو أيُّ مطلب نطلُب من مهماتنا ، والجملةُ الواقعة بعده توضيحٌ وبيانٌ لما يُشعِرُ به الإنكارُ من كونهم فائزين ببعض المطالبِ أو متمكنين من تحصيله فكأنهم قالوا : بضاعتُنا حاضرةٌ فنستظهر بها ونمير أهلَنا ونحفظ أخانا فما يصيبه شيءٌ من المكاره ونزداد بسببه غيرَ ما نكتاله لأنفسنا كيلَ بعير فأيّ شيء نبتغي وراءَ هذه المباغي ، وقرىء ما تبغي على خطاب يعقوبَ عليه السلام أي أيَّ شيء تبغي وراء هذه المباغي المشتملةِ على سلامة أخينا وسَعة ذاتِ أيدينا أو وراءَ ما فعل بنا الملكُ من الإحسان داعياً إلى التوجّه إليه ، والجملةُ الاستئنافيةُ موضحةٌ لذلك أو أيَّ شيء تبغي شاهداً على صدقنا فيما وصفنا لك من إحسانه ، والجملةُ المذكورةُ عبارةٌ عن الشاهد المدلولِ عليه بفحوى الإنكارِ .

وإما{[449]} نافية فالمعنى ما نبغي شيئاً غيرَ ما رأينا من إحسان الملِك في وجوب المراجعةِ إليه ، أو ما نبغي غيرَ هذه المباغي ، وقيل : ما نطلب منك بضاعةً أخرى والجملة المستأنفةُ تعليلٌ له . وأما إذا فُسِّر البغيُ بمجاوزة الحدِّ فما نافيةٌ فقط والمعنى ما نبغي في القول وما نتزيّد فيما وصفْنا من إحسان الملك إلينا وكرمِه الموجبِ لما ذكر ، والجملةُ المستأنفةُ لبيان ما ادّعَوْا من عدم البغي ، وقوله : ونمير أهلَنا عطفٌ على ما نبغي أي ما نبغي فيما ذكرنا من إحسانه وتحصيلِ أمثالِه من مَيْر أهلِنا وحفظِ أخينا فإن ذلك أهونُ شيء بواسطة إحسانِه ، وقد جوز أن يكون كلاماً مبتدأً أي جملةً اعتراضيةً تذييليةً على معنى وينبغي أن نميرَ أهلَنا ، وشبّه ذلك بقولك : سعَيْتُ في حاجة فلان ويجب أن أسعى . وأنت خبيرٌ بأن شأن الجملِ التذييلية أن تكون مؤكّدةً لمضمون مصدرٍ ومقرِّرةً له كما في المثال المذكورِ ، وقولِك : فلانٌ ينطِق بالحق فالحقُّ أبلجُ ، وأن قوله : ونمير الخ ، وإن ساعدَنا في حمله على معنى ينبغي أن نمير أهلَنا بمعزل من ذلك أو ما نبغي في الرأي وما نعدل عن الصواب فيما نشير به عليك من إرسال أخينا معنا ، والجملُ إلى آخرها تفصيلٌ وبيانٌ لعدم بغيهم وإصابةِ رأيهم ، أي بضاعتُنا حاضرةٌ نستظهر بها ونمير أهلنا ونصنع كيت وذيت{[450]} فتأمل .


[449]:وهذا هو الاحتمال الآخر في معنى "ما" في قوله السابق: "يا أبانا ما نبغي".
[450]:يقال: كان من أمره كيف وكيت، وكيت وذيت، وذيت وذيت، بمعنى واحد.