119- لكن الذين رحمهم الله لسلامة فِطَرِهم ، فإنهم اتفقوا على حُكم الله فيهم ، فآمنوا بجميع رسله وكتبه واليوم الآخر . ولهذه المشيئة التي اقتضتها حكمته تعالى في نظام هذا العالم ، خلقهم الله سبحانه مستعدين لهذا الثواب والعقاب ، وبهذا يتحقق وعد ربك بأنه لا بد من أن يملأ جهنم من أتباع إبليس من الجن والناس .
{ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ ْ } فهداهم إلى العلم بالحق والعمل به ، والاتفاق عليه ، فهؤلاء سبقت لهم ، سابقة السعادة ، وتداركتهم العناية الربانية والتوفيق الإلهي .
وأما من عداهم ، فهم مخذولون موكولون إلى أنفسهم .
وقوله : { وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ ْ } أي : اقتضت حكمته ، أنه خلقهم ، ليكون منهم السعداء والأشقياء ، والمتفقون والمختلفون ، والفريق الذين هدى الله ، والفريق الذين حقت عليهم الضلالة ، ليتبين للعباد ، عدله وحكمته ، وليظهر ما كمن في الطباع البشرية من الخير والشر ، ولتقوم سوق الجهاد والعبادات التي لا تتم ولا تستقيم إلا بالامتحان والابتلاء .
{ وَ ْ } لأنه { تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ْ } فلا بد أن ييسر للنار أهلا ، يعملون بأعمالها الموصلة إليها .
شاء الله ألا يكون الناس أمة واحدة . فكان من مقتضى هذا أن يكونوا مختلفين . وأن يبلغ هذا الاختلاف أن يكون في أصول العقيدة - إلا الذين أدركتهم رحمة الله - الذين اهتدوا إلى الحق - والحق لا يتعدد - فاتفقوا عليه . وهذا لا ينفي أنهم مختلفون مع أهل الضلال .
( وتمت كلمة ربك : لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين ) . .
يفهم أن الذين التقوا على الحق وأدركتهم رحمة الله لهم مصير آخر هو الجنة تمتليء بهم كما تمتليء جهنم بالضالين المختلفين مع أهل الحق ، والمختلفين فيما بينهم على صنوف الباطل ومناهجه الكثيرة !
يخبر تعالى أنه قادر على جعل الناس كُلِّهم أمة واحدة ، من إيمان أو كفران{[14991]} كما قال تعالى : { وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا } [ يونس : 99 ] .
وقوله : { وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ } أي : ولا يزال الخُلْفُ بين الناس في أديانهم واعتقادات مللهم ونحلهم ومذاهبهم وآرائهم .
قال{[14992]} عكرمة : { مُخْتَلِفِينَ } في الهدى{[14993]} . وقال الحسن البصري : { مُخْتَلِفِينَ } في الرزق ، يُسخّر بعضهم بعضا ، والمشهورُ الصحيح الأول .
وقوله : { إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ } أي : إلا المرحومين من أتباع الرسل ، الذين تمسكوا بما أمروا به من الدين{[14994]} . أخبرتهم به رسل الله إليهم ، ولم يزل ذلك دأبهم ، حتى كان النبي صلى الله عليه وسلم الأمي خاتم الرسل والأنبياء ، فاتبعوه وصدقوه ، ونصروه ووازروه ، ففازوا بسعادة الدنيا والآخرة ؛ لأنهم الفرقة الناجية ، كما جاء في الحديث المروي في المسانيد والسنن ، من طرق يشد بعضها بعضا : " إن اليهود افترقت على إحدى{[14995]} وسبعين فرقة ، وإن النصارى افترقوا على ثنتين وسبعين فرقة ، وستفترق أمتي{[14996]} على ثلاث وسبعين فرقة ، كلها في النار إلا فرقة واحدة " . قالوا : ومن هم يا رسول الله ؟ قال : " ما أنا عليه وأصحابي " .
رواه الحاكم في مستدركه بهذه الزيادة{[14997]} وقال عطاء : { وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ } يعني : اليهود والنصارى والمجوس { إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ } يعني : الحنَيفيَّة .
وقال قتادة : أهلُ رحمة الله أهل الجماعة ، وإن تفرقت ديارهم وأبدانهم ، وأهل معصيته أهل فرقة ، وإن اجتمعت ديارهم وأبدانهم .
وقوله : { وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ } قال الحسن البصري - في رواية عنه - : وللاختلاف خَلَقهم .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : خلقهم فريقين ، كقوله : { فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ } [ هود : 105 ] .
وقيل : للرحمة خلقهم . قال ابن وهب : أخبرني مسلم بن خالد ، عن ابن أبي نَجِيح ، عن طاوس ؛ أن رجلين اختصما إليه فأكثرا{[14998]} فقال طاوس : اختلفتما فأكثرتما{[14999]} ! فقال أحد الرجلين : لذلك خلقنا . فقال طاوس : كذبت . فقال : أليس الله يقول : { وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ } قال : لم يخلقهم ليختلفوا ، ولكن خلقهم للجماعة والرحمة . كما قال الحكم بن أبان ، عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس قال : للرحمة خلقهم ولم يخلقهم للعذاب . وكذا قال مجاهد والضحاك وقتادة . ويرجع معنى هذا القول إلى قوله تعالى : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات : 56 ] .
وقيل : بل المراد : وللرحمة والاختلاف خلقهم ، كما قال الحسن البصري في رواية عنه في قوله : { وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ } قال : الناس مختلفون على أديان شتى ، { إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ } فمن رحم ربك غير مختلف . قيل له : فلذلك خلقهم ؟ [ قال ]{[15000]} خلق هؤلاء لجنته ، وخلق هؤلاء لناره ، وخلق هؤلاء لرحمته ، وخلق هؤلاء لعذابه .
وكذا{[15001]} قال عطاء بن أبي رَبَاح ، والأعمش .
وقال ابن وَهْب : سألت مالكا عن قوله تعالى : { وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ } قال : فريق في الجنة وفريق في السعير .
وقد اختار هذا القول ابن جرير ، وأبو عبيدة{[15002]} والفراء .
وعن مالك فيما رويناه عنه في التفسير : { وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ } قال : للرحمة ، وقال قوم : للاختلاف .
وقوله : { وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } يخبر تعالى أنه قد سبق في قضائه وقدره ، لعلمه التام وحكمته النافذة ، أن ممن{[15003]} خلقه من يستحق الجنة ، ومنهم من يستحق النار ، وأنه لا بد أن يملأ جهنم من هذين الثقلين الجن والإنس ، وله الحجة البالغة والحكمة التامة . وفي الصحيحين عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اختصمت الجنة والنار ، فقالت الجنة : ما لي لا يدخلني إلا ضَعَفَةُ الناس وسَقطُهم ؟ وقالت النار : أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين . فقال الله عز وجل للجنة ، أنت رحمتي أرحم بك من أشاء . وقال للنار : أنت عذابي ، أنتقم بك ممن أشاء ، ولكل واحدة منكما ملؤها . فأما الجنة فلا يزال فيها فضل ، حتى ينشئ الله لها خلقا يسكن فضل الجنة ، وأما النار فلا تزال تقول : هل من مزيد ؟ حتى يضع عليه ربّ العزة قَدمه ، فتقول : قَطْ قط ، وعزتك " {[15004]} .
وقوله : { ولذلك خلقهم } اختلف فيه المتأولون ، فقالت فرقة : ولشهود اليوم المشهود - المتقدم ذكره- خلقهم ، وقالت فرقة : ذلك إشارة إلى قوله - قبل - { فمنهم شقي وسعيد } [ هود : 105 ] أي لهذا خلقهم .
قال القاضي أبو محمد : وهذان المعنيان وإن صحا فهذا العود المتباعد ليس بجيد ؛ وروى أشهب عن مالك أنه قال : ذلك إشارة إلى أن يكون فريق في الجنة وفريق في السعير .
قال القاضي أبو محمد : فجاءت الإشارة بذلك إلى الأمرين : الاختلاف والرحمة وقد قاله ابن عباس واختاره الطبري ، ويجيء - عليه - الضمير في { خلقهم } للصنفين ، وقال مجاهد وقتادة ذلك عائد على الرحمة التي تضمنها قوله : { إلا من رحم } ، أي وللرحمة خلق المرحومين ، قال الحسن ، وذلك إشارة إلى الاختلاف الذي في قوله : { ولا يزالون مختلفين } .
قال القاضي أبو محمد : ويعترض هذا بأن يقال : كيف خلقهم للاختلاف ؟ وهل معنى الاختلاف هو المقصود بخلقهم ؟ فالوجه في الانفصال أن نقول : إن قاعدة الشرع أن الله عز وجل خلق خلقاً للسعادة وخلقاً للشقاوة ، ثم يسر كلاًّ لما خلق له ، وهذا نص في الحديث الصحيح{[6540]} وجعل بعد ذلك الاختلاف في الدين على الحق هو أمارة الشقاوة وبه علق العقاب ، فيصح أن يحمل قوله هنا{[6541]} وللاختلاف خلقهم : أي لثمرة الاختلاف وما يكون عنه من الشقاوة . ويصح أن يجعل اللام في قوله : { ولذلك } لام الصيرورة أي وخلقهم ليصير أمرهم إلى ذلك ، وإن لم يقصد بهم الاختلاف .
قال القاضي أبو محمد : ومعنى قوله { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون }{[6542]} أي لآمرهم بالعبادة ، وأوجبها عليهم{[6543]} ، فعبر عن ذلك بثمرة الأمر ومقتضاه .
وقوله ، { وتمت كلمة ربك } أي نفذ قضاؤه وحق أمره ، واللام في { لأملأن } لام قسم إذ «الكلمة » تتضمن القسم{[6544]} . و «الجن » جمع لا واحد له من لفظه وهو من أجن إذا ستر و «الهاء » في { بالجنة } للمبالغة . وإن كان الجن يقع على الواحد فالجنة جمعه{[6545]} .
لمّا أشعر الاختلاف بأنه اختلاف في الدّين ، وأنّ معناه العدول عن الحق إلى الباطل ، لأنّ الحق لا يقبل التعدّد والاختلاف ، عُقّب عموم { ولا يزالون مختلفين } باستثناء من ثبتوا على الدين الحق ولم يخالفوه بقوله : { إلاّ من رحم ربك } ، أي فعصمهم من الاختلاف .
وفهم من هذا أنّ الاختلاف المذموم المحذّر منه هو الاختلاف في أصول الدّين الذي يترتّب عليه اعتبار المخالف خارجاً عن الدين وإن كان يزعم أنّه من مُتّبعيه ، فإذا طرأ هذا الاختلاف وجب على الأمّة قصمه وبذل الوسع في إزالته من بينهم بكلّ وسيلة من وسائل الحقّ والعدل بالإرشاد والمجادلة الحسنة والمناظرة ، فإنْ لم ينجع ذلك فبالقتال كما فعل أبو بكر في قتال العرب الذين جحدوا وجوب الزكاة ، وكما فعل عليّ كرّم الله وجهه في قتال الحروريّة الذين كفّروا المسلمين . وهذه الآية تحذير شديد من ذلك الاختلاف .
وأما تعقيبه بقوله : { ولذلك خلقهم } فهو تأكيد بمضمون { ولا يزالون مختلفين } . والإشارة إلى الاختلاف المأخوذ من قوله : { مختلفين } ، واللاّم للتعليل لأنّه لمّا خلقهم على جِبِلّة قاضية باختلاف الآراء والنزعات وكان مريداً لمقتضى تلك الجبلّة وعالماً به كما بيّناه آنفاً كان الاختلاف علّة غائية لخلقهم ، والعلّة الغائية لا يلزمها القصر عليها بل يكفي أنها غاية الفعل ، وقد تكون معها غايات كثيرة أخرى فلا ينافي ما هنا قولُه : { وما خلقت الجنّ والإنس إلاّ ليعبدون } [ الذاريات : 56 ] لأنّ القصر هنالك إضافيّ ، أي إلاّ بحالة أن يعبدوني لا يشركوا ، والقصر الإضافي لا ينافي وجود أحوال أخرى غير ما قُصدَ الردّ عليه بالقصر كما هو بيّن لمن مارس أساليب البلاغة العربية .
وتقديم المعمول على عامله في قوله : { ولذلك خلقهم } ليس للقصر بل للاهتمام بهذه العلّة ، وبهذا يَندفع ما يوجب الحيرة في التفسير في الجمع بين الآيتين .
ثم أعقب ذلك بقوله : { وتمّت كلمة ربّك لأملأنّ جهنم من الجِنّة والنّاس أجمعين } لأنّ قوله : { إلاّ من رحم ربّك } يؤذن بأنّ المستثنى منه قوم مختلفون اختلافاً لا رحمة لهم فيه ، فهو اختلاف مضاد للرحمة ، وضدّ النعمة النقمة فهو اختلاف أوجب الانتقام .
وتمام كلمة الرب مجاز في الصّدق والتحقّق ، كما تقدّم عند قوله تعالى : { وتمّت كلمات ربّك صدقاً وعدلاً } في سورة [ الأنعام : 115 ] ، فالمختلفون هم نصيب جهنم .
والكلمة هنا بمعنى الكلام . فكلمة الله : تقديره وإرادته . أطلق عليها كلمة } مجازاً لأنّها سبب في صدور كلمة ( كن ) وهي أمر التكوين . وتقدّم تفصيله في قوله تعالى : { وتمّت كلمات ربّك صدقاً وعدلاً } في سورة [ الأنعام : 115 ] .
وجملة { لأملأنّ جهنّم } تفسير للكلمة بمعنى الكلام . وذلك تعبير عن الإرادة المعبّر عنها بالكلام النفسي .
ويجوز أن تكون الكلمة كلاماً خَاطَبَ به الملائكةَ قبل خلق الناس فيكون { لأمْلأنّ جهنّم } تفسيراً ل { كلمة } .
و { من الجِنّة والنّاس } تبعيض ، أي لأمْلأن جهنم من الفريقين . و { أجمعين } تأكيد لشمول تثنية كِلا النوعين لاَ لِشُمُول جميع الأفراد لمنافاته لمعنى التبعيض الذي أفادته { من } .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم استثنى بعضهم: {إلا من رحم ربك}، أهل التوحيد لا يختلفون في الدين، {ولذلك خلقهم}، يعني: للرحمة خلقهم، يعني: الإسلام، {وتمت}، يقول: وحقت، {كلمة ربك}، العذاب على المختلفين، والكلمة التي تمت قوله: {لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين}، يعني:الفريقين جميعا.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 118]
يقول تعالى ذكره: ولو شاء ربك، يا محمد، لجعل الناس كلها جماعة واحدة على ملة واحدة ودين واحد... عن قتادة، قوله: {وَلَوْ شَاءَ رَبّكَ لَجَعَلَ النّاسَ أُمّةً وَاحِدَةٍ}، يقول: لجعلهم مسلمين كلهم.
وقوله: {وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ}، يقول تعالى ذكره: ولا يزال الناس مختلفين، {إلاّ مَنْ رَحِمَ رَبّكَ}. ثم اختلف أهل التأويل في الاختلاف الذي وصف الله الناس أنهم لا يزالون به؛
فقال بعضهم: هو الاختلاف في الأديان، فتأويل ذلك على مذهب هؤلاء ولا يزال الناس مختلفين على أديان شتّى من بين يهودي ونصراني ومجوسي، ونحو ذلك. وقال قائلو هذه المقالة: استثنى الله من ذلك من رحمهم، وهم أهل الإيمان... عن عطاء:... {إلاّ مَنْ رَحِمَ رَبّكَ}، قال: هم الحنيفية.
... سئل الحسن عن هذه الآية: {وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إلاّ مَنْ رَحِمَ رَبّكَ}، قال: الناس كلهم مختلفون على أديان شتّى. {إلاّ مَنْ رَحِمَ رَبّكَ}، فمن رحم غير مختلف. فقلت له: {ولذلك خلقهم}؟ فقال: خلق هؤلاء لجنته، وهؤلاء لناره، وخلق هؤلاء لرحمته، وخلق هؤلاء لعذابه...
وقال آخرون: بل معنى ذلك: ولا يزالون مختلفين في الرزق، فهذا فقير وهذا غنّى...
وقال بعضهم: مختلفين في المغفرة والرحمة...
وأولى الأقوال في تأويل ذلك بالصواب قول من قال: معنى ذلك: ولا يزال الناس مختلفين في أديانهم وأهوائهم على أديان وملل وأهواء شتّى، {إلاّ مَنْ رَحِمَ رَبّكَ}، فآمن بالله وصدّق رسله، فإنهم لا يختلفون في توحيد الله وتصديق رسله وما جاءهم من عند الله.
وإنما قلت ذلك أولى بالصواب في تأويل ذلك، لأن الله جلّ ثناؤه أتبع ذلك قوله: {وَتَمّتْ كِلمَةُ رَبّكَ لأَمْلأَنّ جَهَنّمَ مِنَ الجِنّةِ والنّاسِ أجمَعِينَ}، ففي ذلك دليل واضح أن الذي قبله من ذكر خبره عن اختلاف الناس، إنما هو خبر عن اختلاف مذموم يوجب لهم النار، ولو كان خبرا عن اختلافهم في الرزق لم يعقب ذلك بالخبر عن عقابهم وعذابهم.
وأما قوله: {وَلذلكَ خَلَقَهُمْ}، فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله؛ فقال بعضهم: معناه: وللاختلاف خلقهم... عن ابن عباس، قوله: {وَلذلكَ خَلَقَهُمْ}، قال: خلقهم فريقين: فريقا يرحم فلا يختلف، وفريقا لا يَرْحم يختلف، وذلك قوله: {فَمِنْهُمْ شَقيّ وَسَعِيدٌ}...
وقال آخرون: بل معنى ذلك: وللرحمة خلقهم...
وأولى القولين في ذلك بالصواب، قول من قال: وللاختلاف بالشقاء والسعادة خلقهم؛ لأن الله جلّ ذكره ذكر صنفين من خلقه: أحدهما: أهل اختلاف وباطل، والآخر: أهل حقّ، ثم عقب ذلك بقوله: {وَلذلكَ خَلَقَهُمْ}، فعمّ بقوله: {وَلذلكَ خَلَقَهُمْ}، صفة الصنفين، فأخبر عن كلّ فريق منهما أنه ميسر لما خلق له.
فإن قال قائل: فإن كان تأويل ذلك كما ذكرت، فقد ينبغي أن يكون المختلفون غير ملومين على اختلافهم، إن كان لذلك خلقهم ربهم، وأن يكون المتمتعون هم الملومين؟ قيل: إن معنى ذلك بخلاف ما إليه ذهبت، وإنما معنى الكلام: ولا يزال الناس مختلفين بالباطل من أديانهم ومللهم {إلاّ مَنْ رَحِمَ رَبّكَ}، فهداه للحقّ ولعلمه، وعلى علمه النافذ فيهم قبل أن يخلقهم أنه يكون فيهم المؤمن والكافر، والشقّي والسعيد، خلقهم، فمعنى اللام في قوله: {وَلذلكَ خَلَقَهُمْ}، بمعنى: «على»، كقولك للرجل: أكرمتك على برّك بي، وأكرمتك لبرّك بي.
وأما قوله: {وَتمّتْ كَلِمَةُ رَبّكَ لأَمْلأَنّ جَهَنّمَ مِنَ الجِنّةِ والنّاسِ أجمَعِينَ}، لعلمه السابق فيهم أنهم يستوجبون صِلِيّها بكفرهم بالله، وخلافهم أمره. وقوله: {وَتمّتْ كَلِمَةُ رَبّكَ}، قسم كقول القائل: حلفي لأزورنك، وبدا لي لآتينك، ولذلك تُلُقِّيت بلام اليمين.
وقوله: {مِنَ الجِنّةِ}، وهي: ما اجتنّ عن أبصار بني آدم "والناس"، يعني: وبني آدم...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وقوله: {ولذلك خلقهم} اختلف فيه المتأولون، فقالت فرقة: ولشهود اليوم المشهود -المتقدم ذكره- خلقهم، وقالت فرقة: ذلك إشارة إلى قوله- قبل -{فمنهم شقي وسعيد} [هود: 105] أي لهذا خلقهم...
وهذان المعنيان وإن صحا فهذا العود المتباعد ليس بجيد؛ وروى أشهب عن مالك أنه قال: ذلك إشارة إلى أن يكون فريق في الجنة وفريق في السعير...
فجاءت الإشارة بذلك إلى الأمرين: الاختلاف والرحمة وقد قاله ابن عباس واختاره الطبري، ويجيء- عليه -الضمير في {خلقهم} للصنفين، وقال مجاهد وقتادة ذلك عائد على الرحمة التي تضمنها قوله: {إلا من رحم}، أي وللرحمة خلق المرحومين، قال الحسن، وذلك إشارة إلى الاختلاف الذي في قوله: {ولا يزالون مختلفين}.
ويعترض هذا بأن يقال: كيف خلقهم للاختلاف؟ وهل معنى الاختلاف هو المقصود بخلقهم؟ فالوجه في الانفصال أن نقول: إن قاعدة الشرع أن الله عز وجل خلق خلقاً للسعادة وخلقاً للشقاوة، ثم يسر كلاًّ لما خلق له، وهذا نص في الحديث الصحيح وجعل بعد ذلك الاختلاف في الدين على الحق هو أمارة الشقاوة وبه علق العقاب، فيصح أن يحمل قوله هنا وللاختلاف خلقهم: أي لثمرة الاختلاف وما يكون عنه من الشقاوة. ويصح أن يجعل اللام في قوله: {ولذلك} لام الصيرورة أي وخلقهم ليصير أمرهم إلى ذلك، وإن لم يقصد بهم الاختلاف.
ومعنى قوله {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} أي لآمرهم بالعبادة، وأوجبها عليهم، فعبر عن ذلك بثمرة الأمر ومقتضاه.
وقوله، {وتمت كلمة ربك} أي نفذ قضاؤه وحق أمره، واللام في {لأملأن} لام قسم إذ «الكلمة» تتضمن القسم. و «الجن» جمع لا واحد له من لفظه وهو من أجن إذا ستر و «الهاء» في {بالجنة} للمبالغة. وإن كان الجن يقع على الواحد فالجنة جمعه.
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ خَلَقَهُمْ لِيَخْتَلِفُوا، فَيَرْحَمُ مَنْ يَرْحَمُ، وَيُعَذِّبُ مَنْ يُعَذِّبُ، كَمَا قَالَ: {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ}. وَقَالَ: {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ}. وَاعْجَبُوا مِمَّنْ يَسْمَعُ الْمَلَائِكَةَ تَقُولُ: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا}، وَيَتَوَقَّفُ فِي مَعْرِفَةِ مَا يَكُونُ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ لِلْفَسَادِ، وَهَلْ يَكُونُ الْفَسَادُ وَسَفْكُ الدِّمَاءِ إلَّا بِالِاخْتِلَافِ...
{ولذلك خلقهم} وفيه ثلاثة أقوال:
القول الأول: قال ابن عباس: وللرحمة خلقهم،
والقول الثاني: أن المراد وللاختلاف خلقهم.
والقول الثالث: وهو المختار أنه خلق أهل الرحمة للرحمة وأهل الاختلاف للاختلاف. روى أبو صالح عن ابن عباس أنه قال: خلق الله أهل الرحمة لئلا يختلفوا، وأهل العذاب لأن يختلفوا، وخلق الجنة وخلق لها أهلا، وخلق النار وخلق لها أهلا...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{إلا من رحم ربك} أي المحسن إليك بالتأليف بينهم في جعلهم من أهل طاعتك فإنهم لا يختلفون في أصول الحق. ولما كان ما تقدم ربما أوجب أن يقال: لمَ لم يُقبل بقلوبهم إلى الهدى ويصرفهم عن موجبات الردى إذا كان قادراً؟ قال تعالى مجيباً عن ذلك: {ولذلك} أي الاختلاف {خلقهم} أي اخترعهم وأوجدهم من العدم وقدرهم، وذلك أنه لما طبعهم سبحانه على خلائق من الخير والشر تقتضي الاختلاف لتفاوتهم فيها، جعلوا كأنهم خُلقوا له فجروا مع القضاء والقدر، ولم يمكنهم الجري على ما تدعو إليه العقول في أن الاتفاق رحمة والاختلاف نقمة، فاستحق فريق منهم النار وفريق الجنة...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{إلا من رحم ربك} منهم فاتفقوا على حكم كتاب الله فيهم، وهو القطعي الدلالة منه الذي لا مجال للاختلاف فيه، وعليه مدار جمع الكلمة ووحدة الأمة، إذ الظني لا يكلفون الاتفاق على معناه؛ لأنه موكول إلى الاجتهاد الذي لا يجب العمل به إلا على من ثبت عنده رجحانه، وتقدم تفصيل وحدة البشر، فاختلافهم، فبعثة النبيين، وإنزال الكتاب معهم للحكم بين الناس في الآية [البقرة: 213]، وتفسيرها في الجزء الثاني من هذا التفسير.
{ولذلك خلقهم} أي ولذلك الذي دل عليه الكلام من مشيئته تعالى فيهم خلقهم مستعدين للاختلاف، والتفرق في علومهم ومعارفهم وآرائهم وشعورهم، وما تبع ذلك من إرادتهم واختيارهم في أعمالهم، ومن ذلك الدين والإيمان والطاعة والعصيان، وحكمته أن يكونوا مظهرا لأسرار خلقه المادية والمعنوية في الأجسام والأرواح وسننه في الأحياء، وتعلق قدرته ومشيئته بخلق جميع الممكنات، وبهذا كانوا خلفاء الأرض {وعلم آدم الأسماء كلها} [البقرة: 31]. وقال الحسن وعطاء: خلقهم للاختلاف، وقال مجاهد وعكرمة: خلقهم للرحمة، وقال ابن عباس: خلقهم فريقين: فريقا يرحم فلا يختلف، وفريقا لا يرحم فيختلف، فذلك قوله: {فمنهم شقي وسعيد} [هود: 105]، وهذا أصح مما قبله لأنه جامع للقولين.
وفي معناه قول مالك بن أنس وقد سأله أشهب عن الآية فقال: خلقهم ليكون فريق في الجنة وفريق في السعير اه. أي كان الاختلاف سبب دخول كل من الدارين، وفي الرواية عن ابن عباس تقديم المعلول على العلة، والمعقول المشروع عكسه، فالترتيب في الجزاء أن يقال: فريق اتفقوا في الدين، فجعلوا كتاب الله حكما بينهم فيما اختلفوا فيه، فاجتمعت كلمتهم، وكانوا أمة واحدة، فرحمهم الله بوقايتهم من شر الاختلاف وغوائله في الدنيا ومن عذاب الآخرة، وفريق اختلفوا فيه كما اختلفوا في مصالح الدنيا ومنافعها وسلطانها، فكان بأسهم بينهم شديدا، فذاقوا عقاب الاختلاف والشقاق في الدنيا وأعقبهم جزاءه في الآخرة، فكانوا محرومين من رحمته بظلمهم لأنفسهم لا بظلم منه لهم.
{وتمت كلمة ربك} التي قالها في غير المهتدين {لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين} أي من عالمي الإنس والجن الذين لا يهتدون بما أرسل به رسله وأنزل معهم كتبه لهداية المكلفين والحكم بين المختلفين، ففي سورة ألم السجدة {ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني لأملأن جهنم} [السجدة: 13]، فهذا فريق السعير، ومنه يعلم جزاء الفريق الآخر، والمقام يقتضي الإنذار.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
شاء الله ألا يكون الناس أمة واحدة. فكان من مقتضى هذا أن يكونوا مختلفين. وأن يبلغ هذا الاختلاف أن يكون في أصول العقيدة -إلا الذين أدركتهم رحمة الله- الذين اهتدوا إلى الحق -والحق لا يتعدد- فاتفقوا عليه. وهذا لا ينفي أنهم مختلفون مع أهل الضلال. ومن المقابل الذي ذكره النص: (وتمت كلمة ربك: لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين).. يفهم أن الذين التقوا على الحق وأدركتهم رحمة الله لهم مصير آخر هو الجنة تمتلئ بهم كما تمتلئ جهنم بالضالين المختلفين مع أهل الحق، والمختلفين فيما بينهم على صنوف الباطل ومناهجه الكثيرة!...