ولما أمرهم بذلك ، زجرهم عن أكل أموال اليتامى ، وتوعد على ذلك أشد العذاب فقال : { إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا } أي : بغير حق . وهذا القيد يخرج به ما تقدم ، من جواز الأكل للفقير بالمعروف ، ومن جواز خلط طعامهم بطعام اليتامى .
فمَنْ أكلها ظلمًا ف { إنما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا } أي : فإن الذي أكلوه نار تتأجج في أجوافهم وهم الذين أدخلوها في بطونهم . { وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا } أي : نارًا محرقة متوقدة . وهذا أعظم وعيد ورد في الذنوب ، يدل على شناعة أكل أموال اليتامى وقبحها ، وأنها موجبة لدخول النار ، فدل ذلك أنها من أكبر الكبائر . نسأل الله العافية .
( إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً )
أما اللمسة الثانية ، فهي صورة مفزعة : صورة النار في البطون . . وصورة السعير في نهاية المطاف . . إن هذا المال . . نار . . وإنهم ليأكلون هذه النار . وإن مصيرهم لإلى النار فهي النار تشوي البطون وتشوي الجلود . هي النار من باطن وظاهر . هي النار مجسمة حتى لتكاد تحسها البطون والجلود ، وحتى لتكاد تراها العيون ، وهي تشوي البطون والجلود !
ولقد فعلت هذه النصوص القرآنية ، بإيحاءاتها العنيفة العميقة فعلها في نفوس المسلمين . خلصتها من رواسب الجاهلية . هزتها هزة عنيفة ألقت عنها هذه الرواسب . وأشاعت فيها الخوف والتحرج والتقوى والحذر من المساس - أي مساس - بأموال اليتامى . . كانوا يرون فيها النار التي حدثهم الله عنها في هذه النصوص القوية العميقة الإيحاء . فعادوا يجفلون أن يمسوها ويبالغون في هذا الإجفال !
من طريق عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : لما نزلت : ( إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما ) . . الآية . . انطلق من كان عنده يتيم ، فعزل طعامه من طعامه ، وشرابه من شرابه ، فجعل يفضل الشيء ، فيحبس له ، حتى يأكله أو يفسد . فاشتد ذلك عليهم . فذكروا ذلك لرسول الله [ ص ] فأنزل الله : ( ويسألونك عن اليتامى . قل : إصلاح لهم خير ، وإن تخالطوهم فإخوانكم . والله يعلم المفسد من المصلح ، ولو شاء الله لأعنتكم . . )الآية فخلطوا طعامهم بطعامهم ، وشرابهم بشرابهم . .
وكذلك رفع المنهج القرآني هذه الضمائر ، إلى ذلك الأفق الوضيء ؛ وطهرها من غبش الجاهلية ذلك التطهير العجيب . .
ثم أعلمهم أن من أكل مال يتيم ظلما فإنما يأكل في بطنه نارًا ؛ ولهذا قال : { إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا } أي : إذا أكلوا أموال اليتامى بلا سبب ، فإنما يأكلون نارًا تَأجَّج{[6669]} في بطونهم يوم القيامة . وثبت في الصحيحين من حديث سليمان ابن بلال ، عن ثَوْر بن زيد{[6670]} عن سالم أبي الغَيْث ، عن أبي هريرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " اجْتَنبوا السَّبْعَ الموبقات " قيل : يا رسول الله ، وما هن ؟ قال : " الشِّرْكُ بالله ، والسِّحْر ، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، والتولِّي يوم الزَّحْفِ ، وقَذْفُ المحصنات المؤمنات الغافلات " .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عبيدة{[6671]} أخبرنا أبو عبد الصمد عبد العزيز بن عبد الصمد العمِّى ، حدثنا أبو هاروي{[6672]} العَبْدي عن أبي سعيد الخدري قال : قلنا : يا رسول الله ، ما رأيت
ليلة أسري بك ؟ قال : " انطَلَق بي إلى خَلْقٍ من خَلْقِ الله كثير ، رِجَال ، كل رجل له مِشْفَران كمشفري البعير ، وهو موَكَّل بهم رجال يفكون{[6673]} لحاء{[6674]} أحدهم ، ثم يُجَاءُ بِصَخْرَةٍ من نار فَتُقْذَف في فِي أحدهم حتى يخرج من أسفله ولهم{[6675]} خُوار وصُرَاخ . قلت{[6676]} يا جبريل ، من هؤلاء ؟ قال : هؤلاء الذين يأكلون أموال اليتامى ظُلْمًا إنما يأكلون في بطونهم نارا وسَيَصْلَوْن سَعِيرًا " {[6677]} .
وقال السدي : يبعث آكل مال اليتيم يوم القيامة ولهب النار يخرج{[6678]} من فِيهِ ومن مسامعه وأنفه وعينيه ، يعرفه من رآه بأكل مال اليتيم .
وقال أبو بكر ابن مردويه : حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن زيد ، حدثنا أحمد بن عمرو ، حدثنا عقبة بن مكرم ، حدثنا يونس بن بُكَير ، حدثنا زياد بن المنذر ، عن نافع بن الحارث عن أبي برزة ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يبعث يوم القيامة القوم{[6679]} من قبورهم تَأَجَّج أفواههم نارا " قيل : يا رسول الله ، من هم ؟ قال : " ألم تر أن الله قال : { إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا [ إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا ]{[6680]} } الآية .
رواه{[6681]} ابن أبي حاتم ، عن أبي زُرْعة ، عن عُقْبة بن مكرم وأخرجه أبو حاتم بن حبّان في صحيحه ، عن أحمد بن علي بن المثنى ، عن عقبة بن مكرم{[6682]} .
وقال ابن مَردويه : حدثنا عبد الله بن جعفر ، أحمد بن عصام{[6683]} حدثنا أبو عامر العبدي ، حدثنا عبد الله{[6684]} بن جعفر الزهري ، عن عثمان بن محمد ، عن المقبرِيّ ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أُحَرِّجُ مال الضَّعِيفيْن : المرأة واليتيم " {[6685]} أي{[6686]} أوصيكم باجتناب مالهما .
وتقدم في سورة البقرة من طريق عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : لما أنزل الله : { إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا [ إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا ]{[6687]} } انطلق من كان عنده يتيم ، فَعَزَل طعامه من طعامه ، وشرابه من شرابه ، فجعل يفضل الشيء فَيُحْبَس له حتى يأكله أو يفسد{[6688]} فاشتد ذلك عليهم ، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ [ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ ]{[6689]} } [ البقرة : 220 ] .
قال ابن زيد : نزلت في الكفار الذين كانوا لا يورثون النساء والصغار ، ويأكلون أموالهم ، وقال أكثر الناس : نزلت في الأوصياء الذي يأكلون ما لم يبح لهم من مال اليتيم ، وهي تتناول كل آكل وإن لم يكن وصياً ، وسمي آخذ المال على كل وجوهه آكلاً لما كان المقصود هو الأكل وبه أكثر الإتلاف للأشياء ، وفي نصه على البطون من الفصاحة تبيين نقصهم ، والتشنيع عليهم بضد مكارم الأخرق ، من التهافت بسبب البطن ، وهو أنقص الأسباب وألأمها حتى يدخلوا تحت الوعيد بالنار ، و { ظلماً } معناه : ما جاوز المعروف مع فقر الوصي ، وقال بعض الناس : المعنى أنه لما يؤول أكلهم للأموال إلى دخولهم النار قيل : { يأكلون } النار ، وقالت طائفة : بل هي حقيقة أنهم يطعمون النار ، وفي ذلك أحاديث ، منها حديث أبي سعيد الخدري قال : حدثنا النبي صلى الله عليه وسلم عن ليلة أسري به ، قال ، رأيت أقواماً لهم مشافر كمشافر الإبل ، وقد وكل بهم من يأخذ بمشافرهم ثم يجعل في أفواههم صخراً من نار ، تخرج من أسافلهم ، قلت : يا جبريل من هؤلاء ؟ قال هم الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً{[3865]} ، وقرأ جمهور الناس «وسيَصلون » على إسناد الفعل إليهم ، وقرأ ابن عامر بضم الياء واختلف عن عاصم ، وقرأ أبو حيوة ، و «سيُصلُون » بضم الياء واللام ، وهي ضعيفة ، والأول أصوب ، لأنه كذلك جاء في القرآن في قوله : { لا يصلاها إلا الأشقى }{[3866]} وفي قوله : { صال الجحيم }{[3867]} والصلي هو التسخن بقرب النار أو بمباشرتها ، ومنه قول الحارث بن عباد{[3868]} :
لم أكن من جناتها ، علم الله . . . وإني بحرِّها اليوم صال
والمحترق الذي يذهبه الحرق ليس بصال إلا في بدء أمره ، وأهل جهنم لا تذهبهم فهم فيها صالون ، «والسعير » : الجمر المشتعل ، وهذه آية من آيات الوعيد ، والذي يعتقده أهل السنة أن ذلك نافذ على بعض العصاة ، لئلا يقع الخبر بخلاف مخبره ، ساقط بالمشيئة عن بعضهم ، وتلخيص الكلام في المسألة : أن الوعد في الخير ، والوعيد في الشر ، هذا عرفهما إذا أطلقا ، وقد يستعمل الوعد في الشر مقيداً به ، كما قال تعالى : { النار وعدها الله ، الذين كفروا }{[3869]} فقالت المعتزلة : آيات الوعد كلها في التائبين والطائعين ، وآيات الوعيد في المشركين والعصاة بالكبائر ، وقال بعضهم : وبالصغائر ، وقالت المرجئة : آيات الوعد كلها فيمن اتصف بالإيمان الذي هو التصديق ، كان من كان من عاص أو طائع ، وقلنا أهل السنة والجماعة : آيات الوعد في المؤمنين الطائعين ومن حازته المشيئة من العصاة ، وآيات الوعيد في المشركين ومن حازه الإنفاذ من العصاة ، والآية الحاكمة بما قلناه قوله تعالى : { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر مادون ذلك لما يشاء }{[3870]} فإن قالت المعتزلة لمن يشاء يعني التائبين ، رد عليهم بأن الفائدة في التفضيل كانت تنفسد ، إذ الشرك أيضاً يغفر للتائب ، وهذا قاطع بحكم قوله { لمن يشاء } بأن ثم مغفوراً له وغير مغفور ، واستقام المذهب السني .