5- يا أيها الناس إن كنتم في شك من بَعْثِنا لكم بعْد الموت ففي خلقكم الدليل على قدرتنا على البعث ، فقد خلقنا أصلكم من تراب ، ثم جعلنا منه نطفة حوَّلْناها بعد مدة إلى قطعة دم متجمدة ، ثم جعلناها قطعة من اللحم مُصَوَّرة فيها معالم الإنسان ، أو غير مصورة لِنُبيِّن لكم قدرتنا على الإبداع والتدرج في التكوين ، والتغيير من حال إلى حال ، ونسقِط من الأرحام ما نشاء ، ونقر فيها ما نشاء ، حتى تكمل مدة الحمل ، ثم نُخْرِجكم من بطون أمهاتكم أطفالاً ، ثم نرعاكم لتبلغوا تمام العقل والقوة ، ومنكم بعد ذلك من يتوفاه الله ، ومنكم من يمد له عمره حتى يصير إلى الهرم والخوف فيتوقف علمه وإدراكه للأشياء ، ومن بَدَأَ خلقكم بهذه الصورة لا تعجزه إعادتكم . وأمر آخر يدلك على قدرة الله على البعث : أنك ترى الأرض قاحلة يابسة ، فإذا أنزلنا عليها الماء دبَّت فيها الحياة وتحركت وزادت وارتفع سطحها بما تخلله من الماء والهواء ، وأظهرت من أصناف النباتات ما يروق منظره ، ويُبهر حسنه ، ويُبْتَهجُ لمرآه .
{ 5 - 7 } { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ *ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ }
يقول تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ } أي : شك واشتباه ، وعدم علم بوقوعه ، مع أن الواجب عليكم أن تصدقوا ربكم ، وتصدقوا رسله في ذلك ، ولكن إذا أبيتم إلا الريب ، فهاكم دليلين عقليين تشاهدونهما ، كل واحد منهما ، يدل دلالة قطعية على ما شككتم فيه ، ويزيل عن قلوبكم الريب .
أحدهما : الاستدلال بابتداء خلق الإنسان ، وأن الذي ابتدأه سيعيده ، فقال فيه : { فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ } وذلك بخلق أبي البشر آدم عليه السلام ، { ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ } أي : مني ، وهذا ابتداء أول التخليق ، { ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ } أي : تنقلب تلك النطفة ، بإذن الله دما أحمر ، { ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ } أي : ينتقل الدم مضغة ، أي : قطعة لحم ، بقدر ما يمضغ ، وتلك المضغة تارة تكون { مُخَلَّقَةٍ } أي : مصور منها خلق الآدمي ، { وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ } تارة ، بأن تقذفها الأرحام قبل تخليقها ، { لِنُبَيِّنَ لَكُمْ } أصل نشأتكم ، مع قدرته تعالى ، على تكميل خلقه في لحظة واحدة ، ولكن ليبين لنا كمال حكمته ، وعظيم قدرته ، وسعة رحمته .
{ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى } أي : ونقر ، أي : نبقي في الأرحام من الحمل ، الذي لم تقذفه الأرحام ، ما نشاء إبقاءه إلى أجل مسمى ، وهو مدة الحمل . { ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ } من بطون أمهاتكم { طِفْلًا } لا تعلمون شيئا ، وليس لكم قدرة ، وسخرنا لكم الأمهات ، وأجرينا لكم في ثديها الرزق ، ثم تنتقلون طورا بعد طور ، حتى تبلغوا أشدكم ، وهو كمال القوة والعقل .
{ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى } من قبل أن يبلغ سن الأشد ، ومنكم من يتجاوزه فيرد إلى أرذل العمر ، أي : أخسه وأرذله ، وهو سن الهرم والتخريف ، الذي به يزول العقل ، ويضمحل ، كما زالت باقي القوة ، وضعفت .
{ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا } أي : لأجل أن لا يعلم هذا المعمر شيئا مما كان يعلمه قبل ذلك ، وذلك لضعف عقله ، فقوة الآدمي محفوفة بضعفين ، ضعف الطفولية ونقصها ، وضعف الهرم ونقصه ، كما قال تعالى : { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ } والدليل الثاني ، إحياء الأرض بعد موتها ، فقال الله فيه : { وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً } أي : خاشعة مغبرة لا نبات فيها ، ولا خضر ، { فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ } أي : تحركت بالنبات { وَرَبَتْ } أي : ارتفعت بعد خشوعها وذلك لزيادة نباتها ، { وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ } أي : صنف من أصناف النبات { بَهِيجٍ } أي : يبهج الناظرين ، ويسر المتأملين ، فهذان الدليلان القاطعان ، يدلان على هذه المطالب الخمسة ، وهي هذه .
أم إن الناس في ريب من البعث ? وفي شك من زلزلة الساعة ? إن كانوا يشكون في إعادة الحياة فليتدبروا كيف تنشأ الحياة ، ولينظروا في أنفسهم ، وفي الأرض من حولهم ، حيث تنطق لهم الدلائل بأن الأمر مألوف ميسور ؛ ولكنهم هم الذين يمرون على الدلائل في أنفسهم وفي الأرض غافلين :
( يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ، ثم من نطفة ، ثم من علقة ، ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة - لنبين لكم - ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ؛ ثم نخرجكم طفلا ؛ ثم لتبلغوا أشدكم ؛ ومنكم من يتوفى ، ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكي لا يعلم من بعد علم شيئا . وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج . . )
إن البعث إعادة لحياة كانت ، فهو في تقدير البشر - أيسر من إنشاء الحياة . وإن لم يكن - بالقياس إلى قدرة الله - شيء أيسر ولا شيء أصعب . فالبدء كالإعادة أثر لتوجه الإرادة : ( إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له : كن فيكون ) .
ولكن القرآن يأخذ البشر بمقاييسهم ، ومنطقهم ، وإدراكهم ، فيوجه قلوبهم إلى تدبر المشهود المعهود لهم ، وهو يقع لهم كل لحظة ، ويمر بهم في كل برهة ؛ وهو من الخوارق لو تدبروه بالعين البصيرة ، والقلب المفتوح ، والحس المدرك . ولكنهم يمرون به أو يمر بهم دون وعي ولا انتباه .
فما هؤلاء الناس ? ما هم ? من أين جاءوا ? وكيف كانوا ? وفي أي الأطوار مروا ?
( فإنا خلقناكم من تراب ) . . والإنسان ابن هذه الأرض . من ترابها نشأ ، ومن ترابها تكون ، ومن ترابها عاش . وما في جسمه من عنصر إلا له نظيره في عناصر أمه الأرض . اللهم إلا ذلك السر اللطيف الذي أودعه الله إياه ونفخه فيه من روحه ؛ وبه افترق عن عناصر ذلك التراب . ولكنه أصلا من التراب عنصرا وهيكلا وغذاء . وكل عناصره المحسوسة من ذلك التراب .
ولكن أين التراب وأين الإنسان ? أين تلك الذرات الأولية الساذجة من ذلك الخلق السوي المركب ، الفاعل المستجيب ، المؤثر المتأثر ، الذي يضع قدميه على الأرض ويرف بقلبه إلى السماء ؛ ويخلق بفكره فيما وراء المادة كلها ومنها ذلك التراب . .
إنها نقلة ضخمة بعيدة الأغوار والآماد ، تشهد بالقدرة التي لا يعجزها البعث ، وهي أنشأت ذلك الخلق من تراب !
( ثم من نطفة . ثم من علقة . ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة - لنبين لكم - ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ؛ ثم نخرجكم طفلا . . . ) .
والمسافة بين عناصر التراب الأولية الساذجة والنطفة المؤلفة من الخلايا المنوية الحية ، مسافة هائلة ، تضمر في طياتها السر الأعظم . سر الحياة . السر الذي لم يعرف البشر عنه شيئا يذكر ، بعد ملايين الملايين من السنين ، وبعد ما لا يحصى من تحول العناصر الساذجة إلى خلايا حية في كل لحظة من لحظات تلك الملايين . والذي لا سبيل إلى أكثر من ملاحظته وتسجيله ، دون التطلع إلى خلقه وإنشائه ، مهما طمح الإنسان ، وتعلق بأهداب المحال !
ثم يبقى بعد ذلك سر تحول تلك النطفة إلى علقة ، وتحول العلقة إلى مضغة ، وتحول المضغة إلى إنسان ! فما تلك النطفة ? إنها ماء الرجل . والنقطة الواحدة من هذا الماء تحمل ألوف الحيوانات المنوية . وحيوان واحد منها هو الذي يلقح البويضة من ماء المرأة في الرحم ، ويتحد بها فتعلق في جدار الرحم .
وفي هذه البويضة الملقحة بالحيوان المنوي . . في هذه النقطة الصغيرة العالقة بجدار الرحم - بقدرة القادر وبالقوة المودعة بها من لدنه - في هذه النقطة تكمن جميع خصائص الإنسان المقبل : صفاته الجسدية وسماته من طول وقصر ، وضخامة وضآلة ، وقبح ووسامة ، وآفة وصحة . . كما تكمن صفاته العصبية والعقلية والنفسية : من ميول ونزعات ، وطباع واتجاهات ، وانحرافات واستعدادات . .
فمن يتصور أو يصدق أن ذلك كله كامن في تلك النقطة العالقة ? وأن هذه النقطة الصغيرة الضئيلة هي هذا الإنسان المعقد المركب ، الذي يختلف كل فرد من جنسه عن الآخر ، فلا يتماثل اثنان في هذه الأرض في جميع الأزمان ? !
ومن العلقة إلى المضغة ، وهي قطعة من دم غليظ لا تحمل سمة ولا شكلا . ثم تخلق فتتخذ شكلها بتحولها إلى هيكل عظمي يكسى باللحم ؛ أو يلفظها الرحم قبل ذلك إن لم يكن مقدرا لها التمام .
( لنبين لكم ) . . فهنا محطة بين المضغة والطفل ، يقف السياق عندها بهذه الجملة المعترضة : ( لنبين لكم ) . لنبين لكم دلائل القدرة بمناسبة تبين الملامح في المضغة . وذلك على طريقة التناسق الفني في القرآن .
ثم يمضي السياق مع أطوار الجنين : ( ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى )فما شاء الله أن يتم تمامه أقره في الأرحام حتى يحين أجل الوضع . ( ثم نخرجكم طفلا ) . . ويا للمسافة الهائلة بين الطور الأول والطور الأخير !
إنها في الزمان - تعادل في العادة - تسعة أشهر . ولكنها أبعد من ذلك جدا في اختلاف طبيعة النطفة وطبيعة الطفل . النطفة التي لا ترى بالعين المجردة وهذا المخلوق البشري المعقد المركب ، ذو الأعضاء والجوارح ، والسمات والملامح ، والصفات والاستعدادات ، والميول والنزعات . .
إلا أنها المسافة التي لا يعبرها الفكر الواعي إلا وقد وقف خاشعا أمام آثار القدرة القادرة مرات ومرات . .
ثم يمضي السياق مع أطوار ذلك الطفل بعد أن يرى النور ، ويفارق المكمن الذي تمت فيه تلك الخوارق الضخام ، في خفية عن الأنظار !
( ثم لتبلغوا أشدكم ) . . فتستوفوا نموكم العضلي ، ونموكم العقلي ، ونموكم النفسي . . وكم بين الطفل الوليد والإنسان الشديد من مسافات في المميزات أبعد من مسافات الزمان ! ولكنها تتم بيد القدرة المبدعة التي أودعت الطفل الوليد كل خصائص الإنسان الرشيد ، وكل الاستعدادات الكامنة التي تتبدى فيه وتتكشف في أوانها ، كما أودعت النقطة العالقة بالرحم كل خصائص الطفل ، وهي ماء مهين !
ومنكم من يتوفى ، ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكي لا يعلم من بعد علم شيئا . .
فاما من يتوفى فهو صائر إلى نهاية كل حي . وأما من يرد إلى أرذل العمر فهو صفحة مفتوحة للتدبر ما تزال . فبعد العلم ، وبعد الرشد ، وبعد الوعي ، وبعد الاكتمال . . إذا هو يرتد طفلا . طفلا في عواطفه وانفعالاته . طفلا في وعيه ومعلوماته . طفلا في تقديره وتدبيره . طفلا أقل شيء يرضيه وأقل شيء يبكيه . طفلا في حافظته فلا تمسك شيئا ، وفي ذاكرته فلا تستحضر شيئا . طفلا في أخذه الأحداث والتجارب فرادى لا يربط بينها رابط ولا تؤدي في حسه ووعيه إلى نتيجة ، لأنه ينسى أولها قبل أن يأتي على آخرها : لكيلا يعلم من بعد علم شيئا ولكي يفلت من عقله ووعيه ذلك العلم الذي ربما تخايل به وتطاول ، وجادل في الله وصفاته بالباطل !
ثم تستطرد الآية إلى عرض مشاهد الخلق والإحياء في الأرض والنبات ، بعد عرض مشاهد الخلق والإحياء في الإنسان .
( وترى الأرض هامدة ، فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت ، وأنبتت من كل زوج بهيج ) .
والهمود درجة بين الحياة والموت . وهكذا تكون الأرض قبل الماء ، وهو العنصر الأصيل في الحياة والأحياء . فإذا نزل عليها الماء ( اهتزت وربت )وهي حركة عجيبة سجلها القرآن قبل أن تسجلها الملاحظة العلمية بمئات الأعوام ، فالتربة الجافة حين ينزل عليها الماء تتحرك حركة اهتزاز وهي تتشرب الماء وتنتفخ فتربو ثم تتفتح بالحياة عن النبات ( من كل زوج بهيج ) . وهل أبهج من الحياة وهي تتفتح بعد الكمون ، وتنتفض بعد الهمود ?
وهكذا يتحدث القرآن عن القرابة بين أبناء الحياة جميعا ، فيسلكهم في آية واحدة من آياته . وإنها للفتة عجيبة إلى هذه القرابة الوثيقة . وإنها لدليل على وحدة عنصر الحياة ، وعلى وحدة الإرادة الدافعة لها هنا وهناك .
لما ذكر تعالى المخالف للبعث ، المنكر للمعاد ، ذكر تعالى الدليل على قدرته تعالى على المعاد ، بما يشاهد من بدئه للخلق{[20002]} ، فقال : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ } أي : في شك { مِنَ الْبَعْثِ } وهو المعاد وقيام الأرواح والأجساد يوم القيامة { فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ } أي : أصل بَرْئه{[20003]} لكم من تراب ، وهو الذي خلق منه آدم ، عليه السلام { ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ } أي : ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين ، { ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ } ذلك أنه إذا استقرت النطفة في رحم المرأة ، مكثت أربعين يوما كذلك ، يضاف إليه ما يجتمع إليها ، ثم تنقلب علقة حمراء بإذن الله ، فتمكث كذلك أربعين يوما ، ثم تستحيل فتصير مضغة - قطعة من لحم لا شكل فيها ولا تخطيط - ثم يشرع في التشكيل والتخطيط ، فيصور منها رأس ويدان ، وصدر وبطن ، وفخذان ورجلان ، وسائر الأعضاء . فتارة تُسقطها المرأة قبل التشكيل والتخطيط ، وتارة تلقيها وقد صارت ذات شكل وتخطيط ؛ ولهذا قال تعالى : { ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ } أي : كما تشاهدونها ، { لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى } أي : وتارة تستقر في الرحم لا تلقيها المرأة ولا تسقطها ، كما قال مجاهد في قوله تعالى : { مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ } قال : هو السقط مخلوق وغير مخلوق . فإذا مضى عليها أربعون يوما ، وهي مضغة ، أرسل الله تعالى إليها ملكا فنفخ{[20004]} فيها الروح ، وسواها كما يشاء الله عز وجل{[20005]} ، من حسن وقبيح ، وذكر وأنثى ، وكتب رزقها وأجلها ، وشقي أو سعيد ، كما ثبت في الصحيحين ، من حديث الأعمش ، عن زيد بن وهب ، عن ابن مسعود قال : حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهو الصادق المصدوق - : " إن خلق أحدكم يُجمع في بطن أمه أربعين ليلة ، ثم يكون علقة مثل ذلك ، ثم يكون مُضغة مثل ذلك ، ثم يبعث الله إليه الملك فيؤمر بأربع كلمات : بكتب عمله وأجله ورزقه ، وشقي أو سعيد ، ثم ينفخ فيه الروح " {[20006]} .
وروى ابن جرير ، وابن أبي حاتم من حديث داود بن أبي هند ، عن الشعبي ، عن علقمة ، عن عبد الله قال : النطفة إذا استقرت في الرحم ، أخذها{[20007]} ملك بكفه قال{[20008]} : يا رب ، مخلقة أو غير
مخلقة ؟ فإن قيل : " غير مخلقة " لم تكن نسمة ، وقذفتها الأرحام دما . وإن قيل : " مخلقة " ، قال : أي رب ، ذكر أو أنثى ؟ شقي أو سعيد ؟ ما الأجل ؟ وما الأثر ؟ وبأي أرض يموت{[20009]} ؟ قال : فيقال للنطفة : من ربك ؟ فتقول : الله . فيقال : من رازقك ؟ فتقول : الله . فيقال له : اذهب إلى الكتاب ، فإنك ستجد فيه قصة هذه النطفة . قال : فتخلق فتعيش في أجلها ، وتأكل رزقها ، وتطأ أثرها ، حتى إذا جاء أجلها ماتت ، فدفنت في ذلك المكان ، ثم تلا عامر الشعبي : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ } فإذا بلغت مضغة نكست في الخلق الرابع فكانت نسمة ، فإن كانت غير مخلقة قذفتها الأرحام دما ، وإن كانت مخلقة نكست في الخلق .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقرئ ، حدثنا سفيان ، عن عمرو بن دينار ، عن أبي الطفيل ، عن حذيفة بن أسيد - يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم - قال : " يدخل الملك على النطفة بعد ما تستقر في الرحم بأربعين أو خمس وأربعين ، فيقول : أي رب ، أشقي أم سعيد ؟ فيقول الله ، ويكتبان ، فيقول : أذكر أم أنثى ؟ فيقول الله ويكتبان ، ويكتب عمله وأثره ورزقه وأجله ، ثم تطوى الصحف ، فلا يزاد على ما فيها ولا ينتقص{[20010]} .
ورواه مسلم من حديث سفيان بن عيينة ، ومن طرق أخر ، عن أبي الطُّفَيل ، بنحو معناه{[20011]} .
وقوله : { ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلا } أي : ضعيفا في بدنه ، وسمعه وبصره وحواسه ، وبطشه وعقله . ثم يعطيه الله القوة شيئا فشيئا ، ويلطف{[20012]} به ، ويحنن عليه والديه في آناء الليل وأطراف النهار ؛ ولهذا قال : { ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ } أي : يتكامل{[20013]} القوى ويتزايد ، ويصل إلى عنفوان الشباب وحسن المنظر .
{ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى } ، أي : في حال شبابه وقواه ، { وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ } ، وهو الشيخوخة والهَرَم وضعف القوة والعقل والفهم ، وتناقص الأحوال من الخَرَف{[20014]} وضعف الفكر ؛ ولهذا قال : { لِكَيْلا{[20015]} يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا } ، كما قال تعالى : { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ } [ الروم : 54 ] .
وقد قال الحافظ أبو يعلى [ أحمد ] {[20016]} بن علي بن المثنى الموصلي في مسنده : حدثنا منصور بن أبي مزاحم{[20017]} ، حدثنا خالد الزيات ، حدثني داود أبو سليمان ، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن معمر ابن حزم الأنصاري ، عن أنس بن مالك - رفع الحديث - قال : " المولود حتى يبلغ الحنث ، ما عمل من حسنة ، كتبت لوالده أو لوالدته{[20018]} وما عمل من سيئة لم تكتب عليه ولا على والديه ، فإذا بلغ الحنث جرى الله عليه القلم أمر الملكان اللذان معه أن يحفظا وأن يشددا ، فإذا بلغ أربعين سنة في الإسلام أمنه الله من البلايا الثلاث : الجنون ، والجذام ، والبرص . فإذا بلغ الخمسين ، خفف الله حسابه . فإذا بلغ ستين رزقه الله الإنابة إليه بما يحب ، فإذا بلغ السبعين أحبه أهل السماء ، فإذا بلغ الثمانين كتب الله حسناته وتجاوز عن سيئاته ، فإذا بلغ التسعين غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، وشفعه في أهل بيته ، وكان أسير الله في أرضه ، فإذا بلغ أرذل العمر { لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا } كتب الله له مثل ما كان يعمل في صحته من الخير ، فإذا عمل سيئة لم تكتب عليه " {[20019]} .
هذا حديث غريب جدا ، وفيه نكارة شديدة . ومع هذا قد رواه الإمام أحمد بن حنبل في مسنده مرفوعا وموقوفا فقال :
حدثنا أبو النضر ، حدثنا الفرج ، حدثنا محمد بن عامر ، عن محمد بن عبد الله العامري{[20020]} ، عن عمرو بن جعفر ، عن أنس قال : إذا بلغ الرجل المسلم أربعين سنة ، أمنه الله من أنواع البلايا ، من الجنون والجذام والبرص{[20021]} ، فإذا بلغ الخمسين لَيَّن الله حسابه ، وإذا بلغ الستين رزقه الله إنابة يحبه عليها ، وإذا بلغ السبعين أحبه الله ، وأحبه أهل السماء ، وإذا بلغ الثمانين تقبل الله حسناته ، ومحا عنه سيئاته ، وإذا بلغ التسعين غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، وسمي أسير الله في الأرض ، وشفع في أهله{[20022]} .
ثم قال : حدثنا هاشم ، حدثنا الفرج ، حدثني محمد بن عبد الله العامري ، عن محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان ، عن عبد الله بن عمر بن الخطاب ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، مثله{[20023]} .
ورواه الإمام أحمد أيضا : حدثنا أنس بن عياض ، حدثني يوسف بن أبي ذرة{[20024]} الأنصاري ، عن جعفر بن عمرو بن أمية الضَّمْري ، عن أنس بن مالك ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ما من معمر يعمر في الإسلام أربعين سنة ، إلا صرف الله عنه ثلاثة أنواع من البلاء : الجنون والجذام والبرص{[20025]} . . . . . وذكر تمام الحديث ، كما تقدم سواء{[20026]} .
ورواه الحافظ أبو بكر البزار ، عن عبد الله بن شبيب ، عن أبي شيبة ، عن عبد الله بن عبد الملك{[20027]} ، عن أبي قتادة العُذْري ، عن ابن أخي الزهري ، عن عمه ، عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما من عبد يعمر في الإسلام أربعين سنة ، إلا صرف الله عنه أنواعا من البلاء : الجنون والجذام والبرص ، فإذا بلغ خمسين سنة لين الله له الحساب ، فإذا بلغ ستين سنة رزقه الله الإنابة إليه بما يحب ، فإذا بلغ سبعين غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، وسمي أسير الله ، وأحبه أهل السماء{[20028]} ، فإذا بلغ الثمانين تقبل الله منه حسناته وتجاوز عن سيئاته ، فإذا بلغ التسعين غَفَر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، وسُمي أسير الله في أرضه ، وشفع في أهل بيته " {[20029]} .
وقوله : { وَتَرَى الأرْضَ هَامِدَةً } : هذا دليل آخر على قدرته تعالى على إحياء الموتى ، كما يحيي الأرض الميتة الهامدة ، وهي القحلَة التي لا نبت فيها ولا شيء{[20030]} .
وقال قتادة : غبراء متهشمة . وقال السدي : ميتة .
{ فَإِذَا أَنزلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ } أي : فإذا أنزل الله عليها المطر { اهْتَزَّتْ } أي : تحركت وحييت بعد موتها ، { وَرَبَتْ } أي : ارتفعت لما سكن فيها الثرى ، ثم أنبتت ما فيها من الألوان والفنون ، من ثمار وزروع ، وأشتات النباتات في اختلاف ألوانها وطعومها ، وروائحها وأشكالها ومنافعها ؛ ولهذا قال تعالى : { وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ } أي : حسن المنظر طيب الريح .
{ يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث } من إمكانه وكونه مقدورا ، وقرئ { من البعث } بالتحريك كالجلب . { فإنا خلقناكم } أي فانظروا في بدء خلقكم فإنه يزيح ريبكم فإنا خلقناكم . { من تراب } بخلق آدم منه ، أو الأغذية التي يتكون منها المني . { ثم من نطفة } مني من النطف وهو الصب { ثم من علقة } قطعة من الدم جامدة . { ثم من مضغة } قطعة من اللحم وهي في الأصل قدر ما يمضغ . { مخلقة وغير مخلقة } مسواة لا نقص فيها ولا عيب وغير مسواة أو تامة وساقطة أو مصورة وغير مصورة . { لنبين لكم } بهذا التدريج قدرتنا وحكمتنا وأن ما قبل التغير والفساد والتكون مرة قبلها أخرى ، وأن من قدر على تغييره وتصويره أولا قدر على ذلك ثانيا ، وحذف المفعول إيماء إلى أن أفعاله هذه يتبين بها من قدرته وحكمته ما لا يحيط به الذكر . و{ نقر في الأرحام ما نشاء } أن نقره . { إلى أجل مسمى } هو وقت الوضع وأدناه بعد ستة أشهر وأقصاه أربع سنين ، وقرئ " ونقره " بالنصب وكذا قوله : { ثم نخرجكم طفلا } عطفا على " نبين " كأن خلقهم مدرجا لغرضين تبيين القدرة وتقريرهم في الأرحام حتى يولدوا وينشؤوا ويبلغوا حد التكليف ، وقرئا بالياء رفعا ونصبا { ونقر } بالياء ونقر من قررت الماء إذا صببته ، و { طفلا } حال أجريت على تأويل كل واحد أو للدلالة على الجنس أو لأنه في الأصل مصدر . { ثم لتبلغوا أشدكم } كمالكم في القوة والعقل جمع شدة كالأنعم جمع نعمة كأنها شدة في الأمور . { ومنكم من يتوفى } عند بلوغ الأشد أو قبله . وقرئ { يتوفى } أو يتوفاه الله تعالى . { ومنكم من يرد إلى أرذل العمر } وهو الهرم والخوف ، وقرئ بسكون الميم . { لكيلا يعلم من بعد علم شيئا } ليعود كهيئته الأولى في أوان الطفولية من سخافة العقل وقلة الفهم فينسى ما عمله وينكر ما عرفه ، والآية استدلال ثان على إمكان البعث بما يعتري الإنسان في أسنانه من الأمور المختلفة والأحوال المتضادة ، فإن من قدر على ذلك قدر على نظائره . { وترى الأرض هامدة } ميتة يابسة من همدت النار إذا صارت رمادا . { فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت } تحركت بالنبات . { وربت } وانتفخت ، وقرئ " وربأت " أي ارتفعت . { وأنبتت من كل زوج } من كل صنف { بهيج } حسن رائق ، وهذه دلالة ثالثة كررها الله تعالى في كتابه لظهورها وكونها مشاهدة .
وقوله تعالى : { يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث } الآية هذه احتجاج على العالم بالبداءة الأولى وضرب الله تعالى في هذه الآية مثلين إذا اعتبرهما الناظر جوز في العقل البعثة من القبور ، ثم ورد خبر الشرع بوجوب ذلك ووقوعه ، و «الريب » الشك ، وقوله تعالى : { إن كنتم } شرط مضمنه التوفيق ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن «البعَث » بفتح العين وهي لغة في البعث عند البصريين وهي عند الكوفيين تخفيف بعث وقوله تعالى : { فإنا خلقناكم من تراب } يريد آدم ثم سلط الفعل عليهم من حيث هم من ذريته ، وقوله تعالى : { ثم من نطفة } يريد المنى الذي يكون من البشر ، و «النطفة » تقع على قليل الماء وكثيره ، وقال النقاش المراد { نطفة } آدم ، وقوله تعالى : { ثم من علقة } ، يريد من الدم تعود النطفة إليه في الرحم أو المقارن للنطفة ، والعلق ، الدم العبيط وقيل العلق ، الشديد الحمرة فسمي الدم لذلك ، وقوله تعالى : { ثم من مضغة } يريد بضعة لحم على قدر ما يمضغ ، وقوله تعالى : { مخلقة } معناه متممة البنية ، { وغير مخلقة } غير متممة أي التي تسقط قاله مجاهد وقتادة والشعبي وأبو العالية فاللفظة بناء مبالغة من خلق ولما كان الإنسان فيه أعضاء متباينة وكل واحد منها مختص بخلق حسن في جملته تضعيف الفعل لأن فيه خلقاً كثيرة ، وقرأ ابن أبي عبلة «مخلقةً » بالنصب «وغيرَ » بالنصب في الراء ويتصل بهذا الموضوع من الفقه أن العلماء اختلفوا في أم الولد اذا أسقطت مضغة لم تصور هل تكون أم ولد بذلك فقال مالك والأوزاعي وغيرهما : هي أم ولد بالمضغة إذا علم أنها مضغة الولد ، وقال الشافعي وأبو حنيفة : لا حتى يتبين فيه خلق ولو عضو واحد ، وقوله تعالى : { لنبين } قالت فرقة معناه لنبين أمر البعث فهو اعتراض بين الكلامين ، وقرأت هذه الفرقة بالرفع في «نقرُّ » ، المعنى ونحن نقر وهي قراءة الجمهور ، وقالت فرقة { لنبين } معناه بكون المضغة غير مخلقة وطرح النساء إياها كذلك نبين للناس أن المناقل في الرحم هي هكذا ، وقرأت هذه الفرقة «ونقرَّ » بالنصب وكذلك قرأت «ونخرجَكم » بالنصب وهي رواية المفضل عن عاصم ، وحكى أبو عمرو الداني أن رواية المفضل هذه هي بالياء في «يقر » وفي «يخرجكم » والرفع على هذا التأويل سائغ ولا يجوز النصب على التأويل الأول ، وقرأ ابن وثاب «ما نِشاء » بكسر النون ، و «الأجل المسمى » هو مختلف بحسب جنين جنين فثم من يسقط وثم من يكمل أمره ويخرج حياً ، وقوله تعالى : { طفلاً } اسم الجنس أي أطفالاً ، واختلف الناس في «الأشد » من ثمانية عشر إلى ثلاثين ، إلى اثنين وثلاثين ، إلى ستة وثلاثين ، إلى أربعين ، إلى خمسة وأربعين ، واللفظ تقال باشتراك ، فأشد الإنسان على العموم غير أشد اليتيم الذي هو الاحتلام{[8305]} ، و «الأشد » في هذه الآية يحتمل المعنيين ، والرد إلى أرذل العمر هو حصول الإنسان في زمانه{[8306]} واختلال قوة حتى لا يقدر على إقامة الطاعات واختلال عقل حتى لا يقدر على إقامة ما يلزمه من المعتقدات ، وهذا أبداً يلحق مع الكبر وقد يكون { أرذل العمر } في قليل من السن بحسب شخص ما لحقته زمانة وقد ذكر عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه { أرذل العمر } خمسة وسبعون وهذا فيه نظر وإن صح عن علي رضي الله عنه فلا يتوجه إلا أن يريد على الأكثر فقد نرى كثيراً أبناء ثمانين سنة ليسوا في أرذل العمر ، وقرأ الجمهور «العمر » مشبعة وقرأ نافع «العمر » مخففة الميم واختلف عنه ، وقوله تعالى : { لكيلا يعلم } أي لينسى معارفه وعلمه الذي كان معه فلا يعلم من ذلك شيئاً فهذا مثال واحد يقضي للمعتبر به أن القادر على هذه المناقل المتقن لها قادر على إعادة تلك الأجساد التي أوجدها بهذه المناقل إلى حالها الأولى .
{ وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَآءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ ومِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ ذلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ }
هذا هو المثال الثاني الذي يعطي للمعتبر فيه جواز بعد الأجساد وذلك أن إحياء الأرض بعد موتها بين فكذلك الأجساد ، و { هامدة } معناه ساكنة دارسة بالية ومنه قيل همد الثوب إذا بلي ، قال الأعشى : [ الكامل ]
قالت قتيلة ما لجسمك شاحباً . . . وأرى ثيابك باليات همدا{[8307]}
واهتزاز الأرض هو حركتها بالنبات وغير ذلك مما يعتريها بالماء ، { وربت } معناه نشزت وارتفعت ومنه الربوة وهو المكان المرتفع ، وقرأ جعفر بن القعقاع{[8308]} «وربأت » بالهمز ، ورويت عن أبي عمرو وقرأها عبد الله بن جعفر{[8309]} وخالد بن إلياس{[8310]} وهي غير وجيهة ووجهها أن تكون من ربأت القوم إذا علوت شرفاً من الأرض طليعة فكأن الأرض بالماء تتطاول وتعلو{[8311]} ، و «الزوج » النوع ، و «البهيج » فعيل من البهجة وهي الحسن قاله وقتادة وغيره .
{ ياأيها الناس إِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مِّنَ البعث فَإِنَّا خلقناكم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِى الارحام مَا نَشَآءُ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لتبلغوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُمْ مَّن يتوفى وَمِنكُمْ مَّن يُرَدُّ إلى أَرْذَلِ العمر لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً }
أعاد خطاب الناس بعد أن أنذرهم بزلزلة الساعة ، وذكر أن منهم من يجادل في الله بغير علم ، فأعاد خطابهم بالاستدلال على إمكان البعث وتنظيره بما هو أعظم منه . وهو الخلق الأول . قال تعالى : { أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد } [ ق : 15 ] . فالذي خلق الإنسان من عدم وأخرجه من تراب ، ثم كونه من ماء . ثم خلقه أطواراً عجيبة ، إلى أن يتوفاه في أحوال جسمه وفي أحوال عقله وإدراكه ، قادر على إعادة خلقه بعد فنائه .
ودخول المشركين بادىء ذي بدء في هذا الخطاب أظهر من دخولهم في الخطاب السابق لأنهم الذين أنكروا البعث ، فالمقصود الاستدلال عليهم ولذلك قيل إن الخطاب هنا خاص بهم .
وجُعل ريْبهم في البعث مفروضاً ب ( إن ) الشرطية مع أن ريبهم محقق للدلالة على أن المقام لما حف به من الأدلة المبطلة لريبهم ينزل منزلة مقام من لا يتحقق ريبُه كما في قوله تعالى : { أفنضرب عنكم الذكر صفحاً أنّ كنتم قوماً مسرفين } [ الزخرف : 5 ] .
والظرفية المفادة ب ( في ) مجازية . شبهت ملابسة الريب إياهم بإحاطة الظرف بالمظروف .
وجملة { فإنا خلقناكم من تراب } واقعة موقع جواب الشرط ولكنها لا يصلح لفظها لأن يكون جواباً لهذا الشرط بل هي دليل الجواب ، والتقدير : فاعلموا أو فنعلمكم بأنه ممكن كما خلقناكم من تراب مثل الرُّفات الذي تصير إليه الأجساد بعد الموت ، أو التقدير : فانظروا في بدء خلقكم فإنا خلقناكم من تراب .
والذي خُلق من تراب هو أصل النوع ، وهو آدم عليه السلام وحواء ، ثم كونت في آدم وزوجه قوة التناسل ، فصار الخلق من النطفة فلذلك عطفت ب ( ثم ) .
والنطفة : اسم لمنّي الرجل ، وهو بوزن فُعلة بمعنى مفعول ، أي منطوف ، والنَطْف : القطر والصب . والعلقة : القطعة من الدم الجامد اللين .
والمضغة : القطعة من اللحم بقدر ما يُمضغ مثله ، وهي فعلة بمعنى مَفعولة بتأويل : مقدار ممضوغة . و ( ثم ) التي عطف بها { ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة } عاطفة مفردات فهي للتراخي الحقيقي .
و ( مِن ) المكررة أربع مرات هنا ابتدائية وتكريرها توكيد .
وكون الإنسان مخلوقاً من النطفة لأنه قد تقرر في علم الطب أن في رحم المرأة مُدة الحيض جزءاً هو مقر الأجرام التي أعدت لأن يتكون منها الجنين ، وهذا الجُزء من الرحم يسمى في الاصطلاح الطبي ( المَبِيض ) بفتح الميم وكسر الموحدة على وزن اسم المكان لأنه مقر بَيضات دقيقة هي حُبيبات دقيقة جداً وهي من المرأة بمنزلة البيضة من الدجاجة أو بمنزلة حبوب بيض الحوت ، مودعة في كرة دقيقة كالغِلاف لها يقال لها ( الحُويصلة ) بضم الحاء بصيغة تصغير حَوصلة تشتمل على سائل تسبح فيه البيضة فإذا حاضت المرأة ازدادت كمية ذلك السائل الذي تسبح فيه البيضة فأوجب ذلك انفجار غلاف الحُويصلة ، فيأخذ ذلك السائل في الانحدار يَحمل البيضة السابحة فيه إلى قناة دقيقة تسمى ( بوق فلوبيوس ) لشبهه بالبُوق ، وأضيف إلى ( فلوبيوس ) اسم مكتشفه وهو البزرخ بين المَبِيض والرحم ، فإذا نزل فيه ماء الرجل وهو النطفة بعد انتهاء سيلان دم الحيض لقحت فيه البيضة واختلطت أجزاؤها بأجزاء النطفة المشتملة على جرثومات ذات حياة وتمكث مع البيضة متحركة مقدار سبعة أيام تكون البيضة في أثنائها تتطور بالشكل بشِبه تقسيم من أثر ضغط طبيعي .
وفي نهاية تلك المدة تصل البيضة إلى الرحم وهنالك تأخذ في التشكل ، وبعد أربعين يوماً تصير البيضة عَلَقة في حجم نملة كبيرة طولها من 12 إلى 14 مليمتر ، ثم يزداد تشكلها فتصير قطعة صغيرة من لَحم هي المسماة ( مُضغة ) طولها ثلاثة سنتيمتر تلوح فيها تشكلات الوجه والأنف خفيّة جداً كالخطوط ، ثم يزداد التشكل يوماً فيوماً إلى أن يستكمل الجنين مدته فيندفعَ للخروج وهو الولادة .
فقوله تعالى : { مخلقة وغير مخلقة } صفة { مضغة } . وذلك تطور من تطورات المضغة . أشار إلى أطوار تشكل تلك المضغة فإنها في أول أمرها تكون غير مخلّقة ، أي غير ظاهر فيها شَكل الخِلقة ، ثم تكون مخلّقة ، والمراد تشكيل الوجه ثم الأطراف ، ولذلك لم يُذكر مثل هذين الوصفين عند ذكر النطفة والعلقة ، إذ ليس لهما مثل هذين الوصفين بخلاف المضغة . وإذْ قد جعلت المضغة من مبادىء الخلق تعيّن أن كلا الوصفين لازِمان للمضغة ، فلا يستقيم تفسير من فسّر غير المخلقة بأنها التي لم يكمل خلقها فسقطت .
والتخليق : صيغة تدل على تكرير الفعل ، أي خلقاً بعد خلق ، أي شكلاً بعد شكل .
وقُدم ذكر المخلقة على ذكر غير المخلقة على خلاف الترتيب في الوجود لأن المخلقة أدخل في الاستدلال ، وذُكر بعده غير المخلقة لأنه إكمال للدليل وتنبيه على أن تخليقها نشأ عن عدم . فكلا الحالين دليل على القدرة على الإنشاء وهو المقصود من الكلام .
ولذلك عقب بقوله تعالى { لنبين لكم } ، أي لنظهر لكم إذا تأملتم دليلاً واضحاً على إمكان الإحياء بعد الموت .
واللام للتعليل متعلقة بما في تضمينه جواب الشرط المقدرُ من فعل ونحوه تدل عليه جملة { فإنا خلقناكم من تراب } الخ ، وهو فعل : فاعلموا ، أو فنُعلمكم ، أو فانظروا .
وحذف مفعول { لِنُبيّن } لتذهب النفس في تقديره كل مذهب مما يرجع إلى بيان ما في هذه التصرفات من القدرة والحكمة ، أي لنبيّن لكم قدرتنا وحكمتنا .
وجملة { ونقرّ } عطف على جملة { فإنا خلقناكم من تراب } . وعدل عن فعل المضي إلى الفعل المضارع للدلالة على استحضار تلك الحالة لما فيها من مشابهة استقرار الأجساد في الأجداث ثم إخراجها منها بالبعث كما يخرج الطفل من قرارة الرحم ، مع تفاوت القرار . فمن الأجنة ما يبقى ستة أشهر ، ومنها ما يزيد على ذلك ، وهو الذي أفاده إجمال قوله تعالى : { إلى أجل مسمى } . والاستدلال في هذا كله بأنه إيجاد بعد العدم وإعدام بعد الوجود لتبيين إمكان البعث بالنظير وبالضد .
والأجل : الأمد المجعول لإتمام عمل ما ، والمراد هنا مدة الحمل .
والمسمّى : اسم مفعول من سَماه ، إذا جعل له اسماً ، ويستعار المسمّى للمعيّن المضبوط تشبيهاً لضبط الأمور غيرِ المشخصة بعدد معيّن أو وقت محسوب ، بتسمية الشخص بوجه شبه يُميزه عما شابهه . ومنه قول الفقهاء : المهر المسمّى ، أي المعيّن من نقد معدود أو عَرض موصوف ، وقول الموثقين : وسمّى لها من الصداق كذا وكذا .
ولكل مولود مدة معينة عند الله لبقائه في رحم أمه قبلَ وضعه . والأكثر استكمال تسعة أشهر وتسعة أيام ، وقد يكون الوضع أسرع من تلك المدة لعارض ، وكلٌّ معين في علم الله تعالى . وتقدم في قوله تعالى : { إلى أجل مسمى فاكتبوه } في [ سورة البقرة : 282 ] .
وعطف جملة { ثم نخرجكم طفلاً } بحرف ( ثم ) للدلالة على التراخي الرتبي فإن إخراج الجنين هو المقصود . وقوله { طفلاً } حال من ضمير { نخرجكم ، } أي حال كونكم أطفالاً . وإنما أفرد { طفلاً } لأن المقصود به الجنس فهو بمنزلة الجمع .
وجملة { ثم لتبلغوا أشدكم } مرتبطة بجملة { ثم نخرجكم طفلاً } ارتباط العلّة بالمعلول ، واللام للتعليل . والمعلّل فعل { نخرجكم طفلاً } .
وإذ قد كانت بين حال الطفل وحال بلوغ الأشد أطوار كثيرة عُلم أن بلوغ الأشد هو العلّة الكاملة لحكمة إخراج الطفل . وقد أشير إلى ما قبل بلوغ الأشد وما بعده بقوله { ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر } .
وحرف ( ثم ) في قوله : { ثم لتبلغوا أشدكم } تأكيد لمثله في قوله { ثم نخرجكم طفلاً } . هذا ما ظهر لي في اتّصال هذه الجملة بما قبلها وللمفسرين توجيهات غير سالمة من التعقب ذكرها الألوسي .
وإنما جُعل بلوغ الأشد علّة لأنه أقوى أطوار الإنسان وأجلى مظاهر مواهبه في الجسم والعقل وهو الجانب الأهم كما أومأ إلى ذلك قوله بعد هذا { لكيلا يعلم من بعد علم شيئاً } فجعل « الأشد » كأنه الغاية المقصودة من تطويره .
والأشُدّ : سن الفتوة واستجماع القوى . وقد تقدم في [ سورة يوسف : 22 ] { ولما بلغ أشده آتيناه حكماً وعلماً } ووقع في [ سورة المؤمن : 67 ] { ثم لتبلغوا أشدكم ثم لتكونوا شيوخاً } فعطف طور الشيخوخة على طور الأشُد باعتبار أن الشيخوخة مقصد للأحياء لحبهم التعمير ، وتلك الآية وردت مورد الامتنان فذكر فيها الطور الذي يتملى المرء فيه بالحياة ، ولم يذكر في آية سورة الحج لأنها وردت مورد الاستدلال على الإحياء بعد العدم فلم يذكر فيها من الأطوار إلا ما فيه ازدياد القوة ونماء الحياة دون الشيخوخة القريبة من الاضمحلال ، ولأن المخاطبين بها فريق معيّن من المشركين كانوا في طور الأشد ، وقد نبهوا عقب ذلك إلى أن منهم نفراً يُردون إلى أرذل العمر ، وهو طور الشيخوخة بقوله : { ومنكم من يرد إلى أرذل العمر } .
وجيء بقوله { ومنكم من يتوفى } على وجه الاعتراض استقراء لأحوال الأطوار الدالة على عظيم القدرة والحكمة الإلهية مع التنبيه على تخلل الوجود والعدم أطوار الإنسان بدءاً ونهاية كما يقتضيه مقام الاستدلال على البعث . والمعنى : ومنكم من يتوفى قبل بلوغ بعض الأطوار . وأما أصل الوفاة فهي لاحقة لكل إنسان لا لبعضهم ، وقد صرح بهذا في سورة المؤمن ( 67 ) : { ومنكم من يتوفى من قبل } وقوله { ومنكم من يرد إلى أرذل العمر } هو عديل قوله تعالى : { ومنكم من يتوفى } . وسكت عن ذكر الموت بعد أرذل العمر لأنه معلوم بطريقة لحسن الخطاب .
وجُعل انتفاء علم الإنسان عند أرذل العمر علة لردّه إلى أرذل العمر باعتبار أنه علّة غائية لذلك لأنه مما اقتضته حكمة الله في نظام الخلق فكان حصوله مقصوداً عند ردّ الإنسان إلى أرذل العمر ، فإن ضعف القوى الجسمية يستتبع ضعف القوى العقلية . قال تعالى : { ومن نعمره ننكسه في الخلق } [ يس : 68 ] فالخلق يشمل كل ما هو من الخلقة ولا يختص بالجسم .
وقوله { من بعد علم } أي بعدما كان علمه فيما قبل أرذل العمر .
و ( مِن ) الداخلة على ( بعد ) هنا مزيدة للتأكيد على رأي الأخفش وابن مالك من عدم انحصار زيادة ( مِن ) في خصوص جرّ النكرة بعد نفي وشبهه ، أو هي للابتداء عند الجمهور وهو ابتداء صُوري يساوي معنى التأكيد ولذلك لم يؤت ب ( من ) في قوله تعالى : { لكي لا يعلم بعد علم شيئاً } في [ سورة النحل : 70 ] .
والآيتان بمعنى واحد فذكر ( مِن ) هنا تفنّن في سياق العبرتين .
و { شيئاً } واقع في سياق النفي يعم كل معلوم ، أي لا يستفيد معلوماً جديداً . ولذلك مراتب في ضعف العقل بحسب توغله في أرذل العمر تبلغ إلى مرتبة انعدام قبوله لعلم جديد ، وقبلها مراتب من الضعف متفاوتة كمرتبة نسيان الأشياء ومرتبة الاختلاط بين المعلومات وغير ذلك .
{ وَتَرَى الأرض هَامِدَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا المآء اهتزت وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ } .
عطف على جملة { فإنا خلقناكم من تراب } ، والخطاب لغير معيّن فيعم كل من يسمع هذا الكلام .
وهذا ارتقاء في الاستدلال على الإحياء بعد الموت بقياس التمثيل لأنه استدلال بحالةٍ مشاهدَة فلذلك افتتح بفعل الرؤية ، بخلاف الاستدلال بخلق الإنسان فإن مبدأه غيرُ مشاهَد فقيل في شأنه { فإنا خلقناكم من تراب } الآية . ومحل الاستدلال من قوله تعالى : { فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت } ، فهو مناسبُ قولِه في الاستدلال الأول { فإنا خلقناكم من تراب } ، فهمود الأرض بمنزلة موت الإنسان واهتزازُها وإنباتها بعد ذلك يماثل الإحياء بعد الموت .
والهمود : قريب من الخمود ، فهمود الأرض جَفافها وزوال نبتها ، وهمود النار خمودها .
والاهتزاز : التحرك إلى أعلى ، فاهتزاز الأرض تمثيل لحال ارتفاع ترابها بالماء وحال ارتفاع وجهها بما عليه من العشب بحال الذي يهتز ويتحرك إلى أعلى .
وربت : حصل لها رُبوّ بضمّ الراء وضم الموحدة وهو ازدياد الشيء يقال : رَبَا يربو رُبوا ، وفسر هنا بانتفاخ الأرض من تفتق النبت والشجر . وقرأ أبو جعفر { وربأت بهمزة مفتوحة بعد الموحدة ، أي ارتفعت . ومنه قولهم : رَبَأ بنفسه عن كذا ، أي ارتفع مجازاً ، وهو فعل مشتق من اسم الربيئة وهو الذي يعلو رُبوة من الأرض لينظر هل من عدوّ يسير إليهم .
والزوج : الصنف من الأشياء . أطلق عليه اسم الزوج تشبيهاً له بالزوج من الحيوان وهو صنف الذكر وصنف الأنثى ، لأن كل فرد من أحد الصنفين يقترن بالفرد من الصنف الآخر فيصير زوجاً فيسمى كلّ واحد منهما زوجاً بهذا المعنى ، ثم شاع إطلاقه على أحد الصنفين ، ثم أطلق على كلّ نوع وصنف وإن لم يكن ذكراً ولا أنثى ، فأطلق هنا على أنواع النبات .
والبهيج : الحسن المنظر السَارّ للناظر ، وقد سِيق هذا الوصف إدماجاً للامتنان في أثناء الاستدلال امتناناً بجمال صورة الأرض المنبتة ، لأن كونه بهيجاً لا دخل له في الاستدلال ، فهو امتنان محض كقوله تعالى : { ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون } [ النحل : 6 ] وقوله تعالى : { ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح } [ الملك : 5 ] .