100- واتخذ الكافرون - مع هذه الدلائل - الملائكة والشياطين شركاء لله ، وقد خلقهم فلا يصح مع علمهم ذلك أن يعبدوا غيره ، وهو الذي خلق الملائكة والشياطين ، فلا ينبغي أن يعبدوهم وهم مخلوقون مثلهم ! . . واختلق هؤلاء الكفار لله بنين : فزعم النصارى أن المسيح ابن الله ، وزعم مشركو بعض العرب أن الملائكة بنات الله ، وذلك جهل منهم . تنزّه الله تعالى عما يفترون في أوصافه سبحانه !
{ 100 - 104 } { وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ * بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ *
ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ * لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ * قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ }
يخبر تعالى : أنه مع إحسانه لعباده وتعرفه إليهم ، بآياته البينات ، وحججه الواضحات -أن المشركين به ، من قريش وغيرهم ، جعلوا له شركاء ، يدعونهم ، ويعبدونهم ، من الجن والملائكة ، الذين هم خلق من خلق الله ، ليس فيهم من خصائص الربوبية والألوهية شيء ، فجعلوها شركاء لمن له الخلق والأمر ، وهو المنعم بسائر أصناف النعم ، الدافع لجميع النقم ، وكذلك " خرق المشركون " أي : ائتفكوا ، وافتروا من تلقاء أنفسهم لله ، بنين وبنات بغير علم منهم ، ومن أظلم ممن قال على الله بلا علم ، وافترى عليه أشنع النقص ، الذي يجب تنزيه الله عنه ؟ ! ! .
ولهذا نزه نفسه عما افتراه عليه المشركون فقال : { سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ } فإنه تعالى ، الموصوف بكل كمال ، المنزه عن كل نقص ، وآفة وعيب .
وعندما يبلغ السياق إلى هذا المقطع ؛ وقد عرض على القلب البشري صفحة الوجود الحافلة بدلائل وجود الله ، ووحدانيته ، وقدرته ، وقد غمر الوجدان بتلك الظلال الكونية الموحية ، وقد وصل الضمير بقلب الوجود النابض في كل حي ، الناطق ببديع صنع الخلاق . . عندما يبلغ إلى هذا المقطع يعرض شرك المشركين ، فإذا هو غريب غريب في هذا الجو المؤمن الموصول بمبدع الوجود . ويعرض أوهام المشركين فإذا هي سخف تشمئز منه القلوب والعقول . وسرعات ما يعقب عليها بالاستنكار . والجو كله مهيأ للاستنكار :
( وجعلوا لله شركاء الجن - وخلقهم - وخرقوا له بنين وبنات بغير علم . سبحانه وتعالى عما يصفون ! بديع السماوات والأرض ، أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة ؟ وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم ) . .
وقد كان بعض مشركي العرب يعبدون الجن . . وهم لا يعرفون من هم الجن ! ولكنها أوهام الوثنية ! والنفس متى انحرفت عن التوحيد المطلق قيد شبر انساقت في انحرافها إلى أي مدى ؛ وانفرجت المسافة بينها وبين نقطة الانحراف التي بدأت صغيرة لا تكاد تلحظ ! وهؤلاء المشركون كانوا على دين إسماعيل . . دين التوحيد الذي جاء به إبراهيم عليه السلام في هذه المنطقة . . ولكنهم انحرفوا عن هذا التوحيد . . ولا بد أن يكون الانحراف قد بدأ يسيرا . . ثم انتهى إلى مثل هذا الانحراف الشنيع . . الذي يبلغ أن يجعل الجن شركاء لله . . وهم من خلقه سبحانه :
( وجعلوا لله شركاء الجن - وخلقهم - ) !
ولقد عرفت الوثنيات المتعددة في الجاهليات المتنوعة أن هناك كائنات شريرة - تشبه فكرة الشياطين - وخافوا هذه الكائنات - سواء كانت أرواحا شريرة أو ذوات شريرة - وقدموا لها القرابين اتقاء لشرها ؛ ثم عبدوها !
والوثنية العربية واحدة من هذه الوثنيات التي وجدت فيها هذه التصورات الفاسدة ، في صورة عبادة للجن ، واتخاذهم شركاء لله . . سبحانه . .
والسياق القرآني يواجههم بسخف هذا الاعتقاد . . يواجههم بكلمة واحدة :
وهي لفظة واحدة ، ولكنها تكفي للسخرية من هذا التصور ! فإذا كان الله سبحانه هو الذي ( خلقهم ) فكيف يكونون شركاء له في الألوهية والربوبية ؟ !
ولم تكن تلك وحدها دعواهم . فأوهام الوثنية متى انطلقت لا تقف عند حد من الانحراف . بل كانوا يزعمون له سبحانه بنين وبنات :
( وخرقوا له بنين وبنات بغير علم ) .
و " خرقوًا أي : اختلقوا . . وفي لفظها جرس خاص وظل خاص ؛ يرسم مشهد الطلوع بالفرية التي تخرق وتشق !
خرقوا له بنين : عند اليهود : عزير . وعند النصارى : المسيح : وخرقوا له بنات . عند المشركين : الملائكة . وقد زعموا أنهم إناث . . ولا يدري أحد طبعا لماذا هم إناث ! فالادعاءات كلها لا تقوم على أساس من علم . . فكلها ( بغير علم ) . .
هذا رد على المشركين الذين عبدوا مع الله غيره ، وأشركوا{[10994]} في عبادة الله أن عبدوا الجن ، فجعلوهم شركاء الله في العبادة ، تعالى الله عن شركهم وكفرهم .
فإن قيل : فكيف عُبدت الجن وإنما كانوا يعبدون الأصنام ؟ فالجواب : أنهم إنما عبدوا الأصنام عن طاعة الجن وأمرهم إياهم بذلك ، كما قال تعالى : { إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلا شَيْطَانًا مَرِيدًا لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لأتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا وَلأضِلَّنَّهُمْ وَلأمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا * يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُورًا } [ النساء : 117 - 120 ] ، وقال تعالى : { أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي [ وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلا ]{[10995]} } [ الكهف : 50 ] ، وقال إبراهيم لأبيه : { يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا } [ مريم : 44 ] ، وقال تعالى : { أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ } [ يس : 60 ، 61 ] ، وتقول{[10996]} الملائكة يوم القيامة : { سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ } [ سبأ : 41 ] ، ولهذا قال تعالى : { وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ } أي : وقد خلقهم ، فهو الخالق وحده لا شريك له ، فكيف يعبد معه غيره ، كما قال إبراهيم [ عليه السلام ]{[10997]} { أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ } [ الصافات : 95 ، 96 ] .
ومعنى الآية : أنه سبحانه وتعالى هو المستقل بالخلق وحده ؛ فلهذا يجب أن يُفْرَد بالعبادة وحده لا شريك له .
وقوله تعالى : { وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ } ينبه به تعالى على ضلال من ضل في وصفه تعالى بأن له ولدا ، كما يزعم من قاله من اليهود في العزير ، ومن قال من النصارى في المسيح وكما قال{[10998]} المشركون من العرب في الملائكة : إنها بنات الله ، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا .
ومعنى قوله [ تعالى ]{[10999]} { وَخَرَقُوا } أي : واختلقوا وائتفكوا ، وتخرّصوا وكذبوا ، كما قاله علماء السلف . قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : { وَخَرَقُوا } يعني : أنهم تخرصوا .
وقال العوفي عنه : { وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ } قال : جعلوا له بنين وبنات . وقال مجاهد : { وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ } قال : كذبوا . وكذا قال الحسن . وقال الضحاك : وضعوا ، وقال السُّدِّي : قطعوا .
قال ابن جرير : فتأويل الكلام إذًا : وجعلوا لله الجن شركاء{[11000]} في عبادتهم إياه ، وهو المنفرد بخلقهم بغير شريك ولا ظهير { وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ } يقول : وتخرصوا لله كذبا ، فافتعلوا له بنين وبنات بغير علم بحقيقة ما يقولون ، ولكن جهلا بالله وبعظمته ، وأنه لا ينبغي إن كان إلها أن يكون له بنون وبنات ولا صاحبة ، ولا أن يشركه في خلقه شريك .
ولهذا قال تعالى : { سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ } أي : تقدس وتنزه وتعاظم عما يصفه هؤلاء الجهلة الضالون من الأولاد والأنداد ، والنظراء والشركاء .
عقبه بتوبيخ من أشرك به والرد عليه فقال : { وجعلوا لله شركاء الجن } أي الملائكة بأن عبدوهم وقالوا : الملائكة بنات الله . وسماهم جنا لاجتنانهم تحقيرا لشأنهم ، أو الشياطين لأنهم أطاعوهم كما يطاع الله تعالى ، أو عبدوا الأوثان بتسويلهم وتحريضهم ، أو قالوا الله خالق الخير وكل نافع ، والشيطان خالق الشر وكل ضار كما هو رأي الثنوية . ومفعول { جعلوا } { لله شركاء } والجن بدل من { شركاء } أو { شركاء } الجن و{ لله } متعلق ب{ شركاء } ، أو حال منه وقرئ { الجن } بالرفع كأنه قيل : من هم فقيل الجن ، و{ الجن } بالجر على الإضافة للتبيين . { وخلقهم } حال بتقدير قد ، والمعنى وقد علموا أن الله خالقهم دون الجن وليس من يخلق كمن لا يخلق . وقرئ { وخلقهم } عطفا على { الجن } أي وما يخلقونه من الأصنام ، أو على شركاء أي وجعلوا له اختلافهم للإفك حيث نسبوه إليه . { وخرقوا له } افتعلوا وافتروا له . وقرأ نافع بتشديد الراء للتكثير . وقرئ " وحرفوا " أي وزوروا . { بنين وبنات } فقالت اليهود عزير ابن الله ، وقالت النصارى المسيح ابن الله ، وقالت العرب الملائكة بنات الله . { بغير علم } من غير أن يعلموا حقيقة ما قالوه ويروا عليه دليلا ، وهو في موضع الحال من الواو ، أو المصدر أي خرقا بغير علم . { سبحانه وتعالى عما يصفون } وهو أن له شريكا أو ولدا .