ثم ذكر من هم عمار مساجد اللّه فقال : { إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ ْ } الواجبة والمستحبة ، بالقيام بالظاهر منها والباطن .
{ وَآتَى الزَّكَاةَ ْ } لأهلها { وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ ْ } أي قصر خشيته على ربه ، فكف عما حرم اللّه ، ولم يقصر بحقوق اللّه الواجبة .
فوصفهم بالإيمان النافع ، وبالقيام بالأعمال الصالحة التي أُمُّها الصلاة والزكاة ، وبخشية اللّه التي هي أصل كل خير ، فهؤلاء عمار المساجد على الحقيقة وأهلها ، الذين هم أهلها .
{ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ ْ } و { عسى ْ } من اللّه واجبة . وأما من لم يؤمن باللّه ولا باليوم الآخر ، ولا عنده خشية للّه ، فهذا ليس من عمار مساجد اللّه ، ولا من أهلها الذين هم أهلها ، وإن زعم ذلك وادعاه .
إن العبادة تعبير عن العقيدة ؛ فإذا لم تصح العقيدة لم تصح العبادة ؛ وأداء الشعائر وعمارة المساجد ليست بشيء ما لم تعمر القلوب بالاعتقاد الإيماني الصحيح ، وبالعمل الواقع الصريح ، وبالتجرد لله في العمل والعبادة على السواء :
( إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله ) . .
والنص على خشية الله وحده دون سواه بعد شرطي الإيمان الباطن والعمل الظاهر ، لا يجيء نافلة . فلا بد من التجرد لله ؛ ولابد من التخلص من كل ظل للشرك في الشعور أو السلوك ؛ وخشية أحد غير الله لون من الشرك الخفي ينبه إليه النص قصدا في هذا الموضع ليتمحض الاعتقاد والعمل كله لله . وعندئذ يستحق المؤمنون أن يعمروا مساجد الله ، ويستحقون أن يرجوا الهداية من الله :
( فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين ) .
فإنما يتوجه القلب وتعمل الجوارح ، ثم يكافئ الله على التوجه والعمل بالهداية والوصول والنجاح .
فشهد تعالى بالإيمان لعمار المساجد ، كما قال الإمام أحمد :
حدثنا سريج{[13290]} حدثنا ابن وهب ، عن عمرو بن الحارث ؛ أن دراجا أبا السمح حدثه ، عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد الخدري ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد{[13291]} فاشهدوا له بالإيمان ؛
قال الله تعالى : { إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ }
ورواه الترمذي ، وابن مردويه ، والحاكم في مستدركه من حديث عبد الله بن وهب ، به{[13292]}
وقال{[13293]} عبد بن حميد في مسنده : حدثنا يونس بن محمد ، حدثنا صالح المري ، عن ثابت البناني ، عن ميمون بن سياه ، وجعفر بن زيد ، عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنما عمار المساجد هم أهل الله " {[13294]} ورواه الحافظ أبو بكر البزار ، عن عبد الواحد بن غياث ، عن صالح بن بشير المري ، عن ثابت ، عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنما{[13295]} عمار المساجد هم أهل الله " ثم قال : لا نعلم رواه عن ثابت غير صالح{[13296]}
وقد روى الدارقطني في الأفراد من طريق حكامة بنت عثمان بن دينار ، عن أبيها ، عن أخيه مالك بن دينار ، عن أنس مرفوعا : " إذا أراد الله بقوم عاهة ، نظر إلى أهل المساجد ، فصرف عنهم " . ثم قال : غريب{[13297]}
وروى الحافظ البهاء في المستقصى ، عن أبيه بسنده إلى أبي أمية الطرسوسي : حدثنا منصور بن صقير ، حدثنا صالح المرى ، عن ثابت ، عن أنس مرفوعا : " يقول الله : وعزتي وجلالي ، إني لأهم بأهل الأرض عذابا ، فإذا نظرت إلى عمار بيوتي وإلى المتحابين في ، وإلى المستغفرين بالأسحار ، صرفت ذلك عنهم " . ثم قال ابن عساكر : حديث غريب{[13298]}
وقال الإمام أحمد : حدثنا روح ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، حدثنا العلاء بن زياد ، عن معاذ بن جبل ؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الشيطان ذئب الإنسان ، كذئب الغنم يأخذ الشاة القاصية والناحية ، فإياكم والشعاب ، وعليكم بالجماعة والعامة والمسجد " {[13299]}
وقال عبد الرازق ، عن مَعْمَر ، عن أبي إسحاق ، عن عمرو بن ميمون الأودي قال : أدركت أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهم يقولون : إن المساجد بيوت الله في الأرض ، وإنه حق على الله أن يكرم من زاره فيها{[13300]}
وقال المسعودي ، عن حبيب بن أبي ثابت وعدي بن ثابت ، عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس ، رضي الله عنهما ، قال : من سمع النداء بالصلاة ثم لم يجب ويأتي المسجد ويصلي ، فلا صلاة له ، وقد عصى الله ورسوله ، قال الله تعالى : { إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } الآية رواه ابن مردويه .
وقد روي مرفوعا من وجه آخر ، وله شواهد من وجوه أخر ليس هذا موضع بسطها .
وقوله : { وَأَقَامَ الصَّلاةَ } أي : التي هي أكبر عبادات البدن ، { وَآتَى الزَّكَاةَ } أي : التي هي أفضل الأعمال المتعدية إلى بر الخلائق ، { وَلَمْ يَخْشَ إِلا اللَّهَ } أي : ولم يخف إلا من الله تعالى ، ولم يخش سواه ، { فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ }
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله : { إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } يقول : من وحد الله ، وآمن باليوم الآخر يقول : من آمن بما أنزل الله ، { وَأَقَامَ الصَّلاةَ } يعني : الصلوات الخمس ، { وَلَمْ يَخْشَ إِلا اللَّهَ } يقول : لم يعبد إلا الله - ثم قال : { فَعَسَى أُولَئِكَ [ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ ] } {[13301]} يقول : إن أولئك هم المفلحون ، كقوله لنبيه صلى الله عليه وسلم : { عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا } [ الإسراء : 79 ] يقول : إن ربك سيبعثك مقاما محمودا وهي الشفاعة ، وكل " عسى " في القرآن فهي واجبة .
وقال محمد بن إسحاق بن يسار ، رحمه الله : و " عسى " من الله حق .
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الاَخِرِ وَأَقَامَ الصّلاَةَ وَآتَىَ الزّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاّ اللّهَ فَعَسَىَ أُوْلََئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ } .
يقول تعالى ذكره : إنما يعمر مساجد الله المصدّق بوحدانية الله ، المخلص له العبادة واليوم الاَخر ، يقول : الذي يصدق ببعث الله الموتى أحياء من قبورهم يوم القيامة ، وأقام الصلاة المكتوبة بحدودها ، وأدّى الزكاة الواجبة عليه في ماله إلى من أوجبها الله له . وَلمْ يَخْشَ إلاّ اللّهَ يقول : ولم يرهب عقوبة شيء على معصيته إياه سوى الله . فَعَسَى أُولَئِكَ أنْ يَكُونُوا مِنَ المُهْتَدِينَ يقول : فخليق بأولئك الذين هذه صفتهم أن يكونوا عند الله ممن قد هداه الله للحقّ وإصابة الصواب .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : حدثنا معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : إنّمَا يَعْمُرُ مَساجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ باللّهِ واليَوْمِ الاَخِرِ يقول : من وحد الله . وآمن باليوم الاَخر يقول : أقرّ بما أنزل الله . وأقامَ الصّلاةَ يعني الصلوات الخمس . ولَمْ يَخْشَ إلاّ اللّهَ يقول : ثم لم يعبد إلا الله ، قال : فَعَسَى أُولَئِكَ يقول : إن أولئك هم المفلحون ، كقوله لنبيه : عَسَى أنْ يَبْعَثكَ رَبّكَ مَقاما مَحْمُودا يقول : إن ربك سيبعثك مقاما محمودا ، وهي الشفاعة ، وكل «عسى » في القرآن فهي واجبة .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : ثم ذكر قول قريش : إنا أهل الحرم ، وسقاة الحاجّ ، وعمّار هذا البيت ، ولا أحد أفضل منا فقال : إنّمَا يَعْمُرُ مَساجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ باللّهِ واليَوْمِ الاَخِرِ : أي إن عمارتكم ليست على ذلك ، إنما يعمر مساجد الله : أي من عمرها بحقها ، مَنْ آمَنَ بالله واليَوْمِ الاَخِرِ وأقامَ الصّلاةَ وآتى الزّكاةَ ولَمْ يَخْشَ إلاّ اللّهَ فأولئك عمارها . فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ المُهْتَدِينَ و«عسى » من الله حق .
المعنى في هذه الآية { إنما يعمر مساجد الله } بالحق لهم والواجب ، ولفظ هذه الآية الخبر وفي ضمنها أمر المؤمنين بعمارة المساجد ، وقد قال بعض السلف إذا رأيتم الرجل يعمر المسجد فحسنوا به الظن ، وروى أبو سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا عليه بالإيمان »{[5559]} وقد تم تقدم القول في قراءة مسجد ، وقوله { واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة } يتضمن الإيمان بالرسول إذ لا يتلقى ذلك إلا منه ، وقوله { ولم يخش إلا الله } حذفت الألف من «يخشى » للجزم ، قال سيبويه : واعلم أن الأخير إذا كان يسكن في الرفع حذف في الجزم لئلا يكون الجزم بمنزلة الرفع ، ويريد خشية التعظيم والعبادة والطاعة ، وهذه المرتبة العدل بين الناس ، ولا محالة أن الإنسان يخشى غيره ويخشى المحاذير الدنياوية وينبغي أن يخشى في ذلك كله قضاء الله وتصريفه ، و «عسى » من الله واجبة حيثما وقعت في القرآن ، ولم يرج الله بالاهتداء إلا من حصل في هذه المرتبة العظيمة من العدالة ، ففي هذا حض بليغ على التقوى .
موقع جملة { إنما يعمر مساجد الله } الاستئناف البياني ، لأنّ جملة : { ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله } [ التوبة : 17 ] لمّا اقتضت إقصَاء المشركين عن العبادة في المساجد كانت بحيث تثير سؤالاً في نفوس السامعين أن يتطلّبوا من هم الأحقّاء بأن يعمروا المساجد ، فكانت هذه الجملة مفيدة جواب هذا السائِل .
ومجيء صيغة القصر فيها مؤذن بأنّ المقصود إقصاء فِرق أخرى عن أن يعمروا مساجد الله ، غير المشركين الذين كان إقصاؤهم بالصريح ، فتعيّن أن يكون المراد من الموصول وصلته خصوص المسلمين ، لأنّ مجموع الصفات المذكورة في الصلة لا يثبت لغيرهم ، فاليهود والنصارى آمنوا بالله واليوم الآخر لكنّهم لم يقيموا الصلاة ولم يؤتوا الزكاة ، لأنّ المقصود بالصلاة والزكاة العبادتان المعهودتان بهذين الاسمين والمفروضتان في الإسلام ، ألا ترى إلى قوله تعالى : { قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين } [ المدثر : 43 ، 44 ] كناية عن أن لم يكونوا مسلمين .
واستغني عن ذكر الإيمان برسوله محمد صلى الله عليه وسلم بما يدلّ عليه من آثار شريعته : وهو الإيمان باليوم الآخر ، وإقامُ الصلاة : وإيتاء الزكاة .
وقصر خشيتهم على التعلّق بجانب الله تعالى بصيغة القصر ليس المراد منه أنّهم لا يخافون شيئاً غير الله فإنّهم قد يخافون الأسَد ويخافون العدوّ ، ولكن معناه إذا تردّد الحال بين خشيتهم الله وخشيتهم غيره قدّموا خشية الله على خشية غيره كقوله آنفاً { أتخشونهم فاللَّهُ أحق أن تخشوه } [ التوبة : 13 ] ، فالقصر إضافي باعتبار تعارض خشيتين .
وهذا من خصائص المؤمنين : فأمّا المشركون فهم يخشون شركاءهم وينتهكون حرمات الله لإرضاء شركائهم ، وأمّا أهل الكتاب فيخشون الناس ويعصون الله بتحريف كَلمِه ومجاراة أهواء العامّة ، وقد ذكَّرهم الله بقوله : { فلا تخشوا الناس واخشون } [ المائدة : 44 ] .
وفرّع على وصف المسلمين بتلك الصفات رجاء أن يكونوا من المهتدين ، أي من الفريق الموصوف بالمهتدين وهو الفريق الذي الاهتداء خُلق لهم في هذه الأعمال وفي غيرها . ووجه هذا الرجاء أنّهم لما أتوا بما هو اهتداء لا محالة قوي الأمل في أن يستقرّوا على ذلك ويصير خُلُقا لهم فيكونوا من أهله ، ولذلك قال : { أن يكونوا من المهتدين } ولم يقل أن يكونوا مهتدين .
وفي هذا حثّ على الاستزادة من هذا الاهتداء وتحذير من الغرور والاعتماد على بعض العمل الصالح باعتقاد أنّ بعض الأعمال يغني عن بقيتها .
والتعبير عنهم باسم الإشارة للتنبيه على أنّهم استحقّوا هذا الأمل فيهم بسبب تلك الأعمال التي عُدّت لهم .