91- فإن ظهرتم على الشرك كانوا معكم ، وإن ظهر المشركون على الإسلام كانوا مع المشركين ، فهم يريدون أن يأمنوا المسلمين ويأمنوا قومهم من المشركين ، وهؤلاء في ضلال مستمر ونفاق ، فإن لم يكفوا عن قتالكم ويعلنوكم بالأمن والسلام فاقتلوهم حيث وجدتموهم ، لأنهم بعدم امتناعهم عن القتال قد مكنوا المؤمنين من قتلهم ، وجعل اللَّه - تعالى - للمؤمنين حجة بيِّنة في قتالهم .
ثم إن الله استثنى من قتال هؤلاء المنافقين ثلاث فِرَق :
فرقتين أمر بتركهم وحتَّم [ على ] ذلك ، إحداهما{[220]} من يصل إلى قوم بينهم وبين المسلمين عهد وميثاق بترك القتال فينضم إليهم ، فيكون له حكمهم في حقن الدم والمال .
والفرقة الثانية قوم { حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ } أي : بقوا ، لا تسمح أنفسهم بقتالكم ، ولا بقتال قومهم ، وأحبوا ترك قتال الفريقين ، فهؤلاء أيضا أمر بتركهم ، وذكر الحكمة في ذلك في قوله : { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ } فإن الأمور الممكنة ثلاثة أقسام :
إما أن يكونوا معكم ويقاتلوا أعداءكم ، وهذا متعذر من هؤلاء ، فدار الأمر بين قتالكم مع قومهم وبين ترك قتال الفريقين ، وهو أهون الأمرين عليكم ، والله قادر على تسليطهم عليكم ، فاقبلوا العافية ، واحمدوا ربكم الذي كف أيديهم عنكم مع التمكن من ذلك .
فهؤلاء { إن اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا }
الفرقة الثالثة : قوم يريدون مصلحة أنفسهم بقطع النظر عن احترامكم ، وهم الذين قال الله فيهم : { سَتَجِدُونَ آخَرِينَ } أي : من هؤلاء المنافقين . { يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ } أي : خوفا منكم { وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّمَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا } أي : لا يزالون مقيمين على كفرهم ونفاقهم ، وكلما عرض لهم عارض من عوارض الفتن أعماهم ونكسهم على رءوسهم ، وازداد كفرهم ونفاقهم ، وهؤلاء في الصورة كالفرقة الثانية ، وفي الحقيقة مخالفة لها .
فإن الفرقة الثانية تركوا قتال المؤمنين احترامًا لهم لا خوفا على أنفسهم ، وأما هذه الفرقة فتركوه خوفا لا احتراما ، بل لو وجدوا فرصة في قتال المؤمنين ، فإنهم مستعدون{[221]} لانتهازها ، فهؤلاء إن لم يتبين منهم ويتضح اتضاحًا عظيمًا اعتزال المؤمنين وترك قتالهم ، فإنهم يقاتلون ، ولهذا قال : { فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ } أي : المسالمة والموادعة { وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا } أي : حجة بينة واضحة ، لكونهم معتدين ظالمين لكم تاركين للمسالمة ، فلا يلوموا إلا أنفسهم .
ولكن هناك طائفة أخرى ، لا يتسامح معها الإسلام هذا التسامح . لأنها طائفة منافقة شريرة كالطائفة الأولى . وليست مرتبطة بميثاق ولا متصلة بقوم لهم ميثاق . فإلاسلام إزاءها إذن طليق . يأخذها بما اخذ به طائفة المنافقين الأولى :
ستجدون آخرين ، يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم . كل ما ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها . فإن لم يعتزلوكم ويلقوا إليكم السلم ، ويكفوا أيديهم ؛ فخذوهم ، واقتلوهم حيث ثقفتموهم ، وأولئكم جعلنا لكم عليهم سلطانا مبينًا . .
حكى ابن جرير عن مجاهد ، أنها نزلت في قوم من أهل مكة ، كانوا يأتون النبي [ ص ] فيسلمون رياء ؛ ثم يرجعون إلى قريش فيرتكسون في الأوثان ، يبتغون بذلك أن يأمنوا ها هنا ، وها هنا . فأمر بقتلهم - إن لم يعتزلوا ويصلحوا - ولهذا قال تعالى : ( فإن لم يعتزلوكم ويلقوا إليكم السلم )[ المهادنة والصلح ] ( ويكفوا أيديهم )[ أي عن القتال ]( فخذوهم )[ أسراء ] ( واقتلوهم حيث ثقفتموهم )[ أي حيث وجدتموهم ] ( وأولئكم جعلنا لكم عليهم سلطانا مبينًا ) .
وهكذا نرى صفحة من حسم الإسلام وجديته ، إلى جانب سماحته وتغاضيه . . هذه في موضعها ، وتلك في موضعها . وطبيعة الموقف ، وحقيقة الواقعة ، هي التي تحدد هذه وتلك . .
ورؤية هاتين الصفحتين - على هذا النحو - كفيلة بأن تنشىء التوازن في شعور المسلم ؛ كما تنشىء التوازن في النظام الإسلامي - السمة الأساسية الأصيلة - فأما حين يجيء المتشددون فيأخذون الأمر كله عنفا وحماسة وشدة واندفاعا فليس هذا هو الإسلام ! وأما حين يجيء المتميعون المترققون المعتذرون عن الجهاد في الإسلام ، كأن الإسلام في قفص الاتهام وهم يترافعون عن المتهم الفاتك الخطير ! فيجعلون الأمر كله سماحة وسلمًا وإغضاء وعفوا ؛ ومجرد دفاع عن الوطن الإسلامي وعن جماعة المسلمين - وليس دفعًا عن حرية الدعوة وإبلاغها لكل زاوية في الأرض بلا عقبة . وليس تأمينًا لأي فرد في كل زاوية من زوايا الأرض يريد أن يختار الإسلام عقيدة . وليس سيادة لنظام فاضل وقانون فاضل يأمن الناس كلهم في ظله ، من اختار عقيدته ومن لم يخترها سواء . . فأما حينئذ فليس هذا هو الإسلام .
وقوله : { سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ [ كُلَّمَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا ]{[7984]} } الآية ، هؤلاء في الصورة الظاهرة كمن تقدمهم ، ولكن نية هؤلاء غير نية أولئك ، فإن هؤلاء منافقون يظهرون للنبي صلى الله عليه وسلم ولأصحابه الإسلام ؛ ليأمنوا بذلك عندهم على دمائهم وأموالهم وذراريهم ويصانعون الكفار في الباطن ، فيعبدون معهم ما يعبدون ، ليأمنوا بذلك عندهم ، وهم في الباطن مع أولئك ، كما قال تعالى : { وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ [ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ ]{[7985]} } [ البقرة : 14 ] وقال هاهنا : { كُلَّمَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا } أي : انهمكوا فيها .
وقال السدّي : الفتنة هاهنا : الشرك . وحكى ابن جرير ، عن مجاهد : أنها نزلت في قوم من أهل مكة ، كانوا يأتون النبي صلى الله عليه وسلم فيسلمون رياء ، ثم يرجعون إلى قريش فيرتكسون في الأوثان ، يبتغون بذلك أن يأمنوا هاهنا وهاهنا ، فأمر بقتالهم إن لم يعتزلوا ويصلحوا ؛ ولهذا قال تعالى : { فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ } أي : عن القتال { فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ } أي : أين لقيتموهم { وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا } أي : بيِّنا واضحا .
{ سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُواْ قَوْمَهُمْ كُلّ مَا رُدّوَاْ إِلَى الْفِتْنِةِ أُرْكِسُواْ فِيِهَا فَإِن لّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوَاْ إِلَيْكُمُ السّلَمَ وَيَكُفّوَاْ أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثِقِفْتُمُوهُمْ وَأُوْلََئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً مّبِيناً } . .
وهؤلاء فريق آخر من المنافقين كانوا يظهرون الإسلام لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ليأمنوا به عندهم من القتل والسباء وأخذ الأموال وهم كفار ، يعلم ذلك منهم قومهم ، إذا لقوهم كانوا معهم وعبدوا ما يبعدونه من دون الله ليأمنوهم على أنفسهم وأموالهم ونسائهم وذراريهم ، يقول الله : { كُلّما رُدّوا إلى الفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا } يعني : كلما دعاهم إلى الشرك بالله ارتدوا فصاروا مشركين مثلهم .
واختلف أهل التأويل في الذين عنوا بهذه الاَية ، فقال بعضهم : هم ناس كانوا من أهل مكة أسلموا على ما وصفهم الله به من التقية وهم كفار ، ليأمنوا على أنفسهم وأموالهم وذراريهم ونسائهم ، يقول الله : { كُلّما رُدّوا إلى الفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا } يعني : كلما دعاهم إلى الشرك بالله ارتدوا ، فصاروا مشركين مثلهم ليأمنوا عند هؤلاء وهؤلاء . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { يُرِيدونَ أنْ يأْمَنُوكُمْ ويَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ } قال ناس كانوا يأتون النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فيسلمون رياء ، ثم يرجوعن إلى قريش فيرتكسون في الأوثان ، يبتغون بذلك أن يأمنوا ههنا وههنا ، فأمر بقتالهم إن لم يعتزلوا ويصلحوا .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : { سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أنْ يَأْمَنُوكُمْ ويَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلّما رُدّوا إلى الفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها } يقول : كلما أرادوا أن يخرجوا من فتنة أركسوا فيها . وذلك أن الرجل كان يوحد قد تكلم بالإسلام ، فيقرّب إلى العود والجحر وإلى العقرب والخنفساء ، فيقول المشركون لذلك المتكلم بالإسلام : قل هذا ربي ، للخنفساء والعقرب .
وقال آخرون : بل هم قوم من أهل الشرك كانوا طلبوا الأمان من رسول الله صلى الله عليه وسلم ليأمنوا عنده وعند أصحابه وعند المشركين . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { سَتَجِدُونَ آخَرينَ يُريدُونَ أنْ يَأْمَنُوكُمْ ويَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ } قال : حيّ كانوا بتهامة ، قالوا : يا نبيّ الله لا نقاتلك ولا نقاتل قومنا ، وأرداوا أن يأمنوا نبيّ الله ويأمنوا قومهم . فأبي الله ذلك عليهم ، فقال : { كُلّما رُدّوا إلى الفِتْنَة أُرْكِسُوا فِيها } يقول : كلما عرض لهم بلاء هلكوا فيه .
وقال آخرون : نزلت هذه الاَية في نعيم بن مسعود الأشجعي . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : ثم ذكر نعيم بن مسعود الأشجعي ، وكان يأمن في المسلمين والمشركين ، ينقل الحديث بين النبيّ صلى الله عليه وسلم . فقال : { سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُريدُونَ أنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلّما رُدّوا إلى الفِتْنَة } يقول : إلى الشرك .
وأما تأويل قوله : { كُلّما رُدّوا إلى الفِتْنَة أُرْكِسُوا فِيهَا } فإنهم كما :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، عن أبي العالية في قوله : { كُلّما رُدّوا إلى الفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا } قال : كلما ابتلوا بها عموا فيها .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : كلما عرض لهم بلاء هلكوا فيه .
والقول في ذلك ما قد بينت قبل ، وذلك أن الفتنة في كلام العرب : الاختبار ، والإركاس : الرجوع .
فتأويل الكلام : كلما ردوا إلى الاختبار ليرجعوا إلى الكفر والشرك رجعوا إليه .
القول في تأويل قوله تعالى : { فإنْ لَمْ يَعْتَزلُوكُمْ وَيُلْقُوا إلَيْكُمْ السّلَمَ ويَكُفّوا أيْديَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وأُولَئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطانا مُبينا } .
يعني بذلك جلّ ثناؤه : فإن لم يعتزلوكم أيها المؤمنون هؤلاء الذين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم ، وهي كلما دعوا إلى الشرك أجابوا إليه ، ويلقوا إليكم السلم ، ولم يستسلموا إليكم فيعطوكم المقاد ويصالحوكم . كما :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : { فإنْ لَمْ يَعْتَزلُوكُمْ وَيُلْقُوا إلَيْكُمُ السّلَمَ } قال : الصلح .
{ وَيَكُفّوا أيْدِيَهُمْ } يقول : ويكفوا أيديهم عن قتالكم ، { فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ } يقول جلّ ثناؤه : فإن لم يفعلوا فخذوهم أين أصبتموهم من الأرض ولقيتموهم فيها فاقتلوهم ، فإن دماءهم لكم حينئذٍ حلال . { وأُولَئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطانا مُبِينا } يقول جلّ ثناؤه : وهؤلاء الذين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم وهم على ما هم عليه من الكفر ، إن لم يعتزلوكم ويلقوا إليكم السلم ويكفوا أيديهم ، جعلنا لكم حجة في قتلهم أينما لقيتموهم ، بمقامهم على كفرهم وتركهم هجرة دار الشرك . { مُبِينا } يعني أنها تبين عن استحقاقهم ذلك منكم وإصابتكم الحقّ في قتلهم ، وذلك قوله : { سُلْطانا مُبِينا } . والسلطان : هو الحجة . كما :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا قبيصة ، قال : حدثنا سفيان ، عن رجل ، عن عكرمة ، قال : ما كان في القرآن من سلطان فهو حجة .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : قوله : { سُلْطانا مُبِينا } أما السلطان المبين : فهو الحجة .
{ ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم } هم أسد وغطفان ، وقيل بنو عبد الدار أتوا المدينة وأظهروا الإسلام ليأمنوا المسلمين فلما رجعوا كفروا . { كل ما ردوا إلى الفتنة } دعوا إلى الكفر وإلى قتال المسلمين .
{ أركسوا فيها } عادوا إليها وقلبوا فيها أقبح قلب . { فإن لم يعتزلوكم ويلقوا إليكم السلم } وينبذوا إليكم العهد . { ويكفوا أيديهم } عن قتالكم . { فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم } حيث تمكنتم منهم فإن مجرد الكف لا يوجب نفي التعرض .
{ وأولئكم جعلنا لكم عليهم سلطانا مبينا } حجة واضحة في التعرض لهم بالقتل والسبي لظهور عداوتهم ووضوح كفرهم وغدرهم ، أو تسلطا ظاهرا حيث أذنا لكم في قتلهم .
هؤلاء فريق آخر لا سَعْيَ لهم إلاّ في خُوَيْصَتِهِم ، ولا يعبأون بغيرهم ، فهم يظهرون المودّة للمسلمين ليأمنوا غزوهم ، ويظهرون الودّ لقومهم ليأمنوا غائلتهم ، وما هم بمخلصين الودّ لأحد الفريقين ، ولذلك وصفوا بإرادة أن يأمنوا من المؤمنين ومن قومهم ، فلا هَمّ لهم إلاّ حظوظ أنفسهم ، يلتحقون بالمسلمين في قضاء لبانات لهم فيظهرون الإيمانَ ، ثم يرجعون إلى قومهم فيرتدّون إلى الكفر ، وهو معنى قوله : { كُلَّما رُدّوا إلى الفتنة أُرْكسُوا فيها } [ النساء : 91 ] . وقد مر بيان معنى ( أركسوا ) قريباً . وهؤلاء هم غَطفان وبنُو أسد ممن كانوا حول المدينة قبل أن يخلص إسلامهم ، وبنو عبد الدار من أهل مكة ، كانوا يأتون المدينة فيظهرون الإسلام ويرجعون إلى مكة فيعبدون الأصنام . وأمْر الله المؤمنين في معامَلة هؤلاء ومُعَامَلَة الفريق المتقدّم في قوله : { إلاّ الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق } [ النساء : 90 ] أمرٌ واحد ، وهو تركهم إذا تركوا المؤمنين وسالموهم ، وقتالُهم إذا ناصبوهم العَداء ، إلاّ أن الله تعالى جعل الشرط المفروض بالنسبة إلى الأوّلين : أنّهم يعتزلون المسلمين ، ويلقون إليهم السلم ، ولا يقاتلونهم ، وجعل الشرط المفروض بالنسبة إلى هؤلاء أنّهم لا يعتزلون المسلمين ، ولا يلقون إليهم السلم ، ولا يكفّون أيديهم عنهم ، نظراً إلى الحالة المترقبّة من كلّ فريق من المذكورين . وهو افتنان بديع لم يبق معه اختلاف في الحكم ولكن صرّح باختلاف الحالين ، وبوصف ما في ضمير الفريقين .
والوجدان في قوله : { ستجدون آخرين } بمعنى العثور والإطّلاع ، أي ستطَّلعون على قوم آخرين ، وهو من استعمال وَجد ، ويتعدّى إلى مفعول واحد ، فقوله : { يريدون } جملة في موضع الحال ، وسيأتي بيان تصاريف استعمال الوجدان في كلامهم عند قوله تعالى : { لتَجدنّ أشدّ الناس عداوة للذين آمنوا } في سورة المائدة ( 82 ) .
وجيء باسم الإشارة في قوله : { وأولئكم جعلنا لكم عليهم سلطاناً مبيناً } لزيادة تمييزهم .
( والسلطان المبين ) هو الحجّة الواضحة الدالّة على نفاقهم ، فلا يُخْشَى أن ينسب المسلمون في قتالهم إلى اعتداء وتفريق الجامعة .