97- وأن المسلم عليه أن يهاجر إلى الدولة الإسلامية ولا يعيش في ذل ، فإن الملائكة تسألهم : فيم كنتم حتى ارتضيتم حياة الذل والهوان ؟ فيجيبون : كنا مستضعفين في الأرض يذلنا غيرنا فتقول الملائكة : ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها بدل الذل الذي تقيمون فيه ؟ وأولئك الذين يرضون بالذل مع قدرتهم على الانتقال ، مأواهم عذاب جهنم ، وأنها أسوأ مصير ، فالمسلم لا يصح أن يعيش في ذل ، بل يعيش عزيزاً كريماً .
{ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا * إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا * فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا }
هذا الوعيد الشديد لمن ترك الهجرة مع قدرته عليها حتى مات ، فإن الملائكة الذين يقبضون روحه يوبخونه بهذا التوبيخ العظيم ، ويقولون لهم : { فِيمَ كُنْتُمْ } أي : على أي حال كنتم ؟ وبأي شيء تميزتم عن المشركين ؟ بل كثرتم سوادهم ، وربما ظاهرتموهم على المؤمنين ، وفاتكم الخير الكثير ، والجهاد مع رسوله ، والكون مع المسلمين ، ومعاونتهم على أعدائهم .
{ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْض } أي : ضعفاء مقهورين مظلومين ، ليس لنا قدرة على الهجرة . وهم غير صادقين في ذلك لأن الله وبخهم وتوعدهم ، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها ، واستثنى المستضعفين حقيقة .
ولهذا قالت لهم الملائكة : { أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا } وهذا استفهام تقرير ، أي : قد تقرر عند كل أحد أن أرض الله واسعة ، فحيثما كان العبد في محل لا يتمكن فيه من إظهار دينه ، فإن له متسعًا وفسحة من الأرض يتمكن فيها من عبادة الله ، كما قال تعالى : { يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ } قال الله عن هؤلاء الذين لا عذر لهم : { فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا } وهذا كما تقدم ، فيه ذكر بيان السبب الموجِب ، فقد يترتب عليه مقتضاه ، مع اجتماع شروطه وانتفاء موانعه ، وقد يمنع من ذلك مانع .
وفي الآية دليل على أن الهجرة من أكبر الواجبات ، وتركها من المحرمات ، بل من الكبائر ، وفي الآية دليل على أن كل مَن توفي فقد استكمل واستوفى ما قدر له من الرزق والأجل والعمل ، وذلك مأخوذ من لفظ " التوفي " فإنه يدل على ذلك ، لأنه لو بقي عليه شيء من ذلك لم يكن متوفيًا .
وفيه الإيمان بالملائكة ومدحهم ، لأن الله ساق ذلك الخطاب لهم على وجه التقرير والاستحسان منهم ، وموافقته لمحله .
بعد ذلك يتحدث عن فريق من القاعدين ؛ أولئك الذين يظلون قاعدين في دار الكفر لا يهاجرون ؛ تمسك بهم أموالهم ومصالحهم ، أو يمسك بهم ضعفهم عن مواجهة متاعب الهجرة وآلام الطريق - وهم قادرون لو أرادوا واعتزموا التضحية - أن يهاجروا . . حتى يحين أجلهم ؛ وتأتي الملائكة لتتوفاهم . يتحدث عنهم فيصورهم صورة زرية منكرة ؛ تستنهض كل قاعد منهم للفرار بدينه وعقيدته ، وبمصيره عند ربه ؛ من هذا الموقف الذي يرسمه لهم :
( إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم . . قالوا : فيم كنتم ؟ قالوا : كنا مستضعفين في الأرض . قالوا : ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها ؟ فأولئك مأواهم جهنم ، وساءت مصيرا . إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان ، لا يستطيعون حيلة ، ولا يهتدون سبيلا . فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم ، وكان الله عفوا غفورًا ) . .
لقد كان هذا النص يواجه حالة واقعة في الجزيرة العربية - في مكة وغيرها - بعد هجرة رسول الله [ ص ] وقيام الدولة المسلمة . فقد كان هناك مسلمون لم يهاجروا . حبستهم أموالهم ومصالحهم - حيث لم يكن المشركون يدعون مهاجرا يحمل معه شيئا من ماله - أو حبسهم إشفاقهم وخوفهم من مشاق الهجرة - حيث لم يكن المشركون يدعون مسلما يهاجر حتى يمنعوه ويرصدوا له في الطريق . . وجماعة حبسهم عجزهم الحقيقي ، من الشيوخ والنساء والولدان الذين لا يستطيعون حيلة للهرب ولا يجدون سبيلا للهجرة . .
وقد اشتد أذى المشركين لهؤلاء الباقين من أفراد المسلمين ؛ بعد عجزهم عن إدراك الرسول [ ص ] وصاحبه ، ومنعهما من الهجرة . وبعد قيام الدولة المسلمة . وبعد تعرض الدولة المسلمة لتجارة قريش في بدر ، وانتصار المسلمين ذلك الانتصار الحاسم . فأخذ المشركون يسومون هذه البقية المتخلفة ألوانا من العذاب والنكال ، ويفتنونهم عن دينهم في غيظ شديد .
وقد فتن بعضهم عن دينهم فعلا ؛ واضطر بعضهم إلى إظهار الكفر تقية ، ومشاركة المشركين عبادتهم . . وكانت هذه التقية جائزة لهم يوم أن لم تكن لهم دولة يهاجرون إليها - متى استطاعوا - فأما بعد قيام الدولة ، ووجود دار الإسلام فإن الخضوع للفتنة ، أو الالتجاء للتقية ، وفي الوسع الهجرة والجهر بالإسلام ، والحياة في دار الإسلام . . أمر غير مقبول .
وهكذا نزلت هذه النصوص ؛ تسمي هؤلاء القاعدين محافظة على أموالهم ومصالحهم ، أو إشفاقا من مشاق الهجرة ومتاعب الطريق . . حتى يحين أجلهم . . تسميهم : ( ظالمي أنفسهم ) . . بما أنهم حرموها الحياة في دار الإسلام ، تلك الحياة الرفيعة النظيفة الكريمة الحرة الطليقة . وألزموها الحياة في دار الكفر تلك الحياة الذليلة الخانسة الضعيفة المضطهدة ، وتوعدهم ( جهنم وساءت مصيرًا ) . . مما يدل على أنها تعني الذين فتنواعن دينهم بالفعل هناك !
ولكن التعبير القرآني - على أسلوب القرآن - يعبر في صورة ، ويصور في مشهد حي نابض بالحركة والحوار : ( إن الذين توفاهم الملائكة . . ظالمي أنفسهم . . قالوا : فيم كنتم ؟ قالوا : كنا مستضعفين في الأرض ! قالوا : ألم تكن أرض الله واسعة ، فتهاجروا فيها ؟ ! ) . .
إن القرآن يعالج نفوسا بشرية ؛ ويهدف الى استجاشة عناصر الخير والمروءة والعزة فيها ؛ وإلى مطاردة عوامل الضعف والشح والحرص والثقلة . . لذلك يرسم هذا المشهد . . إنه يصور حقيقة . ولكنه يستخدم هذه الحقيقة في موضعها أحسن استخدام ، في علاج النفس البشرية . .
ومشهد الاحتضار بذاته مشهد ترتجف له النفس البشرية ، وتتحفز لتصور ما فيه . وإظهار الملائكة في المشهد يزيد النفس ارتجافا وتحفزا وحساسية .
وهم - القاعدون - ظلموا أنفسهم . وقد حضرت الملائكة لتتوفاهم وهذا حالهم . . ظالمي أنفسهم . وهذا وحده كفيل بتحريك النفس وارتجافها . إذ يكفي أن يتصور المرء نفسه والملائكة تتوفاه وهو ظالم لنفسه ؛ وليس أمامه من فرصة أخرى لإنصاف نفسه ، فهذه هي اللحظة الأخيرة .
ولكن الملائكة لا يتوفونهم - ظالمي أنفسهم - في صمت . بل يقلبون ماضيهم ، ويستنكرون أمرهم ! ويسألونهم : فيم أضاعوا أيامهم ولياليهم ؟ وماذا كان شغلهم وهمهم في الدنيا :
فإن ما كانوا فيه ضياع في ضياع ؛ كأن لم يكن لهم شغل إلا هذا الضياع !
ويجيب هؤلاء المحتضرون ، في لحظة الاحتضار ، على هذا الاستنكار ، جوابا كله مذلة ، ويحسبونه معذرة على ما فيه من مذلة .
( قالوا : كنا مستضعفين في الأرض ) . .
كنا مستضعفين . يستضعفنا الأقوياء . كنا أذلاء في الأرض لا نملك من أمرنا شيئا .
وعلى كل ما في هذا الرد من مهانة تدعو إلى الزراية ؛ وتنفر كل نفس من أن يكون هذا موقفها في لحظة الاحتضار ، بعد أن يكون هذا موقفها طوال الحياة . . فإن الملائكة لا يتركون هؤلاء المستضعفين الظالمي أنفسهم . بل يجبهونهم بالحقيقة الواقعة ؛ ويؤنبونهم على عدم المحاولة ، والفرصة قائمة : ( قالوا : ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها ؟ ! ) . .
إنه لم يكن العجز الحقيقي هو الذي يحملهم - إذن - على قبول الذل والهوان والاستضعاف ، والفتنة عن الإيمان . . إنما كان هناك شيء آخر . . حرصهم على أموالهم ومصالحهم وأنفسهم يمسكهم في دار الكفر ، وهناك دار الإسلام . ويمسكهم في الضيق وهناك أرض الله الواسعة . والهجرة إليها مستطاعة ؛ مع احتمال الآلام والتضحيات .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{إن الذين توفاهم الملائكة}: ملك الموت وحده.
{ظالمي أنفسهم}، وذلك أنه كان نفر أسلموا بمكة مع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم إنهم أقاموا عن الهجرة، وخرجوا مع المشركين إلى قتال بدر، فلما رأوا قلة المؤمنين شكوا في النبي صلى الله عليه وسلم، وقالوا: غر هؤلاء دينهم، وكان بعضهم نافق بمكة، فلما قتل هؤلاء ببدر، {قالوا}، أي قالت الملائكة لهم، وهو ملك الموت وحده: {فيم كنتم}؟ يقول: في أي شيء كنتم، {قالوا كنا مستضعفين في الأرض}: كنا مقهورين بأرض مكة لا نطيق أن نظهر الإيمان، {قالوا}، أي قالت الملائكة لهم: {ألم تكن أرض الله واسعة} من الضيق، يعني أرض الله المدينة، {فتهاجروا فيها}، يعني إليها، ثم انقطع الكلام، فقال عز وجل: {فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا}، يعني وبئس المصير صاروا...
- ابن عطية: قال مالك بن أنس رضي الله عنه: الآية تعطي أن كل مسلم ينبغي أن يخرج من البلد التي تغير فيها السنن، ويعمل فيها بغير الحق...
ودلت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن فرض الهجرة على من أطاقها إنما هو على من فتن عن دينه بالبلد الذي يسلم بها، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن لقوم بمكة أن يقيموا بها بعد إسلامهم: العباس بن عبد المطلب وغيرهم إذ لم يخافوا الفتنة، وكان يأمر جيوشه أن يقولوا لمن أسلم: « إن هاجرتم فلكم ما للمهاجرين وإن أقمتم فأنتم كأعراب وليس يخيرهم إلا فيما يحل لهم». (الأم: 4/161. ون أحكام الشافعي: 6/15-18.)...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
{إنّ الّذِينَ تَوَفّاهُمُ المَلائِكَةُ}: إن الذين تقبض أرواحهم الملائكة {ظالِمِي أنْفُسِهِمْ}: مكسبي أنفسهم غضب الله وسخطه.
{قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ}: قالت الملائكة لهم: فيم كنتم، في أيّ شيء كنتم من دينكم. {قالُوا كُنّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأرْض}: قال الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم: كنا مستضعفين في الأرض، يستضعفنا أهل الشرك بالله في أرضنا وبلادنا بكثرة عددهم وقوّتهم، فيمنعونا من الإيمان بالله واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم، معذرةٌ ضعيفة وحجةٌ واهية.
{قَالُوا ألَمْ تَكُنْ أرْضُ الله وَاسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها}: فتخرجوا من أرضكم ودوركم، وتفارقوا من يمنعكم بها من الإيمان بالله واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم إلى الأرض التي يمنعكم أهلها من سلطان أهل الشرك بالله، فتوحدوا الله فيها وتعبدوه، وتتبعوا نبيه؟
يقول الله جلّ ثناؤه: {فأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنّمُ}: فهؤلاء الذين وصفت لكم صفتهم، الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم، مأواهم جهنم، يقول: مصيرهم في الآخرة جهنم، وهي مسكنهم.
{وَساءَتْ مَصيرا}: وساءت جهنم لأهلها الذين صاروا إليها مصيرا ومسكنا ومأوى.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قوله تعالى: {قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين} هذا يتوجه وجوها: أحدها: مع من كنتم؟ مع محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه أو أعدائهم؟ والثاني: {فيم كنتم} أي في دين من كنتم؟ في دين محمد صلى الله عليه وسلم أو في دين أعدائه. والثالث: {قالوا} بمعنى يقولون، أي يقول لهم (الملائكة) في الآخرة: {فيم كنتم قالوا} كنا كذا...
ويحتمل وجها آخر؛ وهو أنهم إن منعوكم عن الإسلام ظاهرا، وحالوا بينكم وبين إظهاره، ألستم تقدرون على دين الإسلام سرا فلا يعلموا هم بذلك...
الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي 468 هـ :
{ظالمي أنفسهم} بالمقام في دار الشرك والخروج مع المشركين لقتال المسلمين...
جهود الإمام الغزالي في التفسير 505 هـ :
- نزل قوله تعالى: {إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم} في قوم من المسلمين كانوا يكثرون جماعة المشركين بالمخالطة. [الإحياء: 2/165]...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
بمعنى أن الله يوفى الملائكة أنفسهم فيتوفونها. أي يمكنهم من استيفائها فيستوفونها {ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ} في حال ظلمهم أنفسهم {قَالُواْ} قال الملائكة للمتوفين {فِيمَ كُنتُمْ} في أي شيء كنتم من أمر دينكم؟ وهم ناس من أهل مكة أسلموا ولم يهاجروا حين كانت الهجرة فريضة.
فإن قلت: كيف صح وقوع قوله: {كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأرض} جواباً عن قولهم: {فِيمَ كُنتُمْ}؟ وكان حق الجواب أن يقولوا: كنا في كذا أو لم نكن في شيء؟ قلت: معنى {فِيمَ كُنتُمْ} التوبيخ بأنهم لم يكونوا في شيء من الدين، حيث قدروا على المهاجرة ولم يهاجروا، فقالوا: كنا مستضعفين اعتذاراً مما وبخوا به واعتلالاً بالاستضعاف، وأنهم لم يتمكنوا من الهجرة حتى يكونوا في شيء، فبكتتهم الملائكة بقوله: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله واسعة فتهاجروا فِيهَا} أرادوا أنكم كنتم قادرين على الخروج من مكة إلى بعض البلاد التي لا تمنعون فيها من إظهار دينكم ومن الهجرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كما فعل المهاجرون إلى أرض الحبشة. وهذا دليل على أن الرجل إذا كان في بلد لا يتمكن فيه من إقامة أمر دينه كما يحب، لبعض الأسباب والعوائق عن إقامة الدين لا تنحصر، أو علم أنه في غير بلده أقوم بحق الله وأدوم على العبادة حقت عليه المهاجرة.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
والذي يجري مع الأصول أن من مات من أولئك بعد أن قبل الفتنة وارتد فهو كافر ومأواه جهنم على جهة الخلود، وهذا هو ظاهر أمر تلك الجماعة وإن فرضنا فيهم من مات مؤمناً وأكره على الخروج، أو مات بمكة فإنما هو عاص في ترك الهجرة، مأواه جهنم على جهة العصيان دون خلود،... وهذه المقالة إنما هي بعد توفي الملائكة لأرواح هؤلاء. وهي دالة على أنهم ماتوا مسلمين، وإلا فلو ماتوا كافرين لم يقل لهم شيء من هذا، وإنما أضرب على ذكرهم في الصحابة لشدة ما واقعوه، ولعدم تعين أحد منهم بالإيمان، ولاحتمال ردته، وتوعدهم الله تعالى بأن {مأواهم جهنم}...
أحكام القرآن لابن الفرس 595 هـ :
والسعة سعة البلاد، وقيل: سعة من الضلالة إلى الهدى...
اعلم أنه تعالى لما ذكر ثواب من أقدم على الجهاد أتبعه بعقاب من قعد عنه ورضي بالسكون في دار الكفر، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: قال الفراء: إن شئت جعلت {توفاهم} ماضيا ولم تضم تاء مع التاء، مثل قوله: {إن البقر تشابه علينا} وعلى هذا التقدير تكون هذه الآية إخبارا عن حال أقوام معينين انقرضوا ومضوا، وإن شئت جعلته مستقبلا، والتقدير: إن الذين تتوفاهم الملائكة، وعلى هذا التقدير تكون الآية عامة في حق كل من كان بهذه الصفة.
أما قوله تعالى: {ظالمي أنفسهم} ففيه مسألتان:
المسألة الأولى: قوله {ظالمي أنفسهم} والمعنى تتوفاهم الملائكة في حال ظلمهم أنفسهم، وهو وإن أضيف إلى المعرفة إلا أنه نكرة في الحقيقة، لأن المعنى على الانفصال، كأنه قيل ظالمين أنفسهم، إلا أنهم حذفوا النون طلبا للخفة، واسم الفاعل سواء أريد به الحال أو الاستقبال فقد يكون مفصولا في المعنى وإن كان موصولا في اللفظ، وهو كقوله تعالى: {هذا عارض ممطرنا} {هديا بالغ الكعبة} {ثاني عطفه} فالإضافة في هذه المواضع كلها لفظية لا معنوية.
المسألة الثانية: الظلم قد يراد به الكفر قال تعالى: {إن الشرك لظلم عظيم} وقد يراد به المعصية {فمنهم ظالم لنفسه}، وفي المراد بالظلم في هذه قولان: الأول: أن المراد الذين أسلموا في دار الكفر وبقوا هناك، ولم يهاجروا إلى دار الإسلام. الثاني: أنها نزلت في قوم من المنافقين كانوا يظهرون الإيمان للمؤمنين خوفا، فإذا رجعوا إلى قومهم أظهروا لهم الكفر ولم يهاجروا إلى المدينة، فبين الله تعالى بهذه الآية أنهم ظالمون لأنفسهم بنفاقهم وكفرهم وتركهم الهجرة.
وأما قوله تعالى: {قالوا فيم كنتم} ففيه وجوه: أحدها: فيم كنتم من أمر دينكم. وثانيها: فيم كنتم، في حرب محمد أو في حرب أعدائه. وثالثها: لم تركتم الجهاد ولم رضيتم بالسكون في ديار الكفار؟
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ثم علل ذلك بأبلغ حث على الهجرة فقال} إن الذين توفاهم الملائكة: {أي تقبض أرواحهم كاملة على ما عندهم من نقص بعض المعاني بما تركوا من ركن الهجرة بما أشار إليه حذف التاء، وفي الحذف إرشاد إلى أنه إذا ترك من يسعى في جبره بصدقة أو حج ونحوه من أفعال البر جُبر، لأن الأساس الذي تبنى عليه الأعمال الصالحة موجود وهو الإيمان {ظالمي أنفسهم} أي بالقعود عن الجهاد بترك الهجرة والإقامة في بلاد الحرب حيث لا يتمكنون من إقامة شعائر الدين كلها {قالوا} أي الملائكة موبخين لهم {فيم كنتم} أي في أي شيء من الأعمال والأحوال كانت إقامتكم في بلاد الحرب.
ولما كان المراد من هذا السؤال التوبيخ لأجل ترك الهجرة {قالوا} معتذرين {كنا مستضعفين في الأرض} أي أرض الكفار، لا نتمكن من إقامة الدين، وكأنهم أطلقوها إشارة إلى أنها عندهم لا تساعها لكثرة الكفار هي الأرض كلها، فكأنه قيل: هل قنع منهم بذك؟ فقيل: لا، لأنهم لم يكونوا ضعفاء عن الهجرة، فكأنه قال: فما قيل لهم؟ فقيل: {قالوا} أي الملائكة بياناً لأنهم لم يكونوا ضعفاء عن الهجرة إلى موضع يأمنون فيه على دينهم {ألم تكن أرض الله} أي المحيط بكل شيء، الذي له كل شيء {واسعة فتهاجروا} أي بسبب اتساعها كل من يعاديكم في الدين ضاربين {فيها} أي إلى حيث يزول عنكم المانع، فالآية من الاحتباك: ذكر الجهاد أولاً في {وفضل الله المجاهدين} [النساء: 95] دليل على حذفه ثانياً بعد {ظالمي أنفسهم} [النساء: 97]، وذكر الهجرة ثانياً دليل على حذفها أولاً بالقعود عنها، ولذلك خص الطائفة الأولى بوعد الحسنى.
ولما وبخوا على تركهم الهجرة، سبب عنه جزاؤهم فقيل: {فأولئك} أي البعداء من اجتهادهم لأنفسهم {مأواهم جهنم} أي لتركهم الواجب وتكثيرهم سواد الكفار وانبساطهم في وجوه أهل الناس {وساءت مصيراً} روى البخاري في التفسير والفتن عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن ناساً من المسلمين كانوا مع المشركين يكثرون سواد المشركين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، يأتي السهم يرمي به فيصيب أحدهم فيقتله، أو يضرب فيقتل، فأنزل الله تعالى {إن الذين توفاهم}
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
روى البخاري عن ابن عباس أن ناسا من المسلمين كانوا مع المشركين يكثرون سواد المشركين على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأتي السهم يرمى به فيصيب أحدهم فيقتله أو يضرب فيقتل فأنزل الله {إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم} وأخرجه ابن مردويه وسمى منهم في روايته قيس بن الوليد بن المغيرة، وأبا القيس بن الفاكه بن المغيرة والوليد بن عتبة بن ربيعة وعمرو بن أمية بن سفيان وعلي بن أمية بن خلف. وذكر في شأنهم أنهم خرجوا إلى بدر فلما رأوا قلة المسلمين دخلهم شك وقالوا:"غر هؤلاء دينهم" فقتلوا ببدر.
وأخرجه ابن أبي حاتم وزاد منهم الحارث بن زمعة بن أسود والعاص بن منبه بن الحجاج. وأخرج الطبراني عن ابن عباس قال كان قوم بمكة قد أسلموا فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم كرهوا أن يهاجروا وخافوا فأنزل الله {إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم} ـ إلى قوله ـ {إلا المستضعفين}...
هذه الآيات في الهجرة نزلت في سياق أحكام القتال لأن بلاد العرب كانت في ذلك العهد قسمين دار هجرة المسلمين ومأمنهم ودار الشرك والحرب. وكان غير المسلم في دار الإسلام حرا في دينه لا يفتن عنه وحرا في نفسه لا يمنع أن يسافر حيث شاء. وأما المسلم في دار الشرك فكان مضطهدا في دينه يفتن ويعذب لأجله ويمنع من الهجرة إن كان مستضعفا لا قوة له ولا أولياء يحمونه، وكانت الهجرة لأجل هذا واجبة على كل من يسلم ليكون حرا في دينه آمنا في نفسه، وليكون وليا ونصيرا للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين الذين كان الكفار يهاجمونهم المرة بعد المرة، وليتلقى أحكام الدين عند نزولها. وكان كثير منهم يكتم إيمانه ويخفي إسلامه ليتمكن من الهجرة.
وفي مثل هذه الحال ينقسم الناس بالطبع إلى أقسام منهم من ذكرنا ومنهم القوي الشجاع الذي يظهر إيمانه وهجرته وإن عرض نفسه للمقاومة، ومنهم من يؤثر البقاء في وطنه بين أهله لأنه لضعف إيمانه يؤثر مصلحة الدنيا التي هو فيها على الدين، ومنهم الضعيف المستضعف الذي لا يقدر على التفلت من مراقبة المشركين وظلمهم ولا يدري أية حيلة يعمل ولا أي طريق يسلك. وقد بين الله حكم من يترك الهجرة لضعف دينه وظلمه لنفسه مع قدرته عليها لو أرادها، ومن يتركها لعجزه وقلة حيلته وظلم المشركين له، فقال: {إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم...} توفي الشيء: أخذه وافيا تاما، وتوفي الملائكة للناس عبارة عن قبض أرواحهم عند الموت، ولفظ توفاهم.
والمعنى أن الذين تتوفاهم الملائكة بقبض أرواحهم عند انتهاء آجالهم حالة كونهم ظالمي أنفسهم بعدم إقامة دينهم وعدم نصره وتأييده، وبرضاهم بالإقامة في الذل والظلم حيث لا حرية لهم في أعمالهم الدينية {قالوا فيم كنتم} أي تقول لهم الملائكة بعد توفيها لهم (وفيه الالتفات على الوجه المختار): في أي شيء كنتم من أمر دينكم. قال في الكشاف معنى "فيم كنتم "التوبيخ بأنهم لم يكونوا في شيء من الدين حيث قدروا على المهاجرة ولم يهاجروا. يعني أن الاستفهام يراد به التوبيخ على شيء معلوم، لا حقيقة الاستعلام عن شيء مجهول، ولهذا حسن في جوابه.
{قالوا كنا مستضعفين في الأرض} وهو اعتذار من تقصيرهم الذي وبخوا عليه بالاستضعاف أي إننا لم نستطع أن نكون في شيء يعتد به من أمر ديننا لاستضعاف الكفار لنا، فرد الملائكة هذا العذر عليهم و {قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها} وتحرروا أنفسكم من رق الذل الذي لا يليق بالمؤمن ولا هو من شأنه. أي إن استضعاف القوم لكم لم يكن هو المانع لكم من الإقامة معهم في دارهم بل كنتم قادرين على الخروج منها مهاجرين إلى حيث تكونون في حرية من أمر دينكم ولم تفعلوا {فأولئك مأواهم جهنم} قيل أن هذا هو خبر "إن الذين توفاهم الملائكة" وقيل بل خبره قوله: "قالوا فيم كنتم" وقيل محذوف. ومعنى الجملة سواء كانت هي الخبر أم لا أن أولئك الذين لم يكونوا على شيء يعتد به من أمر دينهم لإقامتهم بين الكفار الذين يصدونهم عن ذلك مأواهم ومسكنهم في الآخرة نار جهنم {وساءت مصيرا} أي وقبحت جهنم مأوى ومصيرا لمن يصير إليها لأن كل ما فيها يسوءه لا يسره منه شيء. قيل إنه توعدهم بجهنم كما يتوعد الكفار لأن الهجرة للقادر كانت شرطا لصحة الإسلام، وقيل بل كانوا من المنافقين الذين أظهروا الإسلام ولم يتبطنوه. وهناك وجه آخر هو الذي يلجأ إليه في مثل هذا جمهور الفقهاء وهو أن جهنم تكون لهم مأوى موقتا على قدر تقصيرهم وما فاتهم من الفرائض في الإقامة مع الكفار تحت سلطانهم وما عساهم اقترفوا ثم من المعاصي.
وهاك ما عندي في الآية عن درس الأستاذ الإمام: ذكر تعالى في الآية السابقة فضل المجاهدين في سبيل الله على القاعدين لغير عجز فعلم أن العاجز معذور، ومعنى سبيل الله الطريق الذي يرضيه ويقيم دينه. ثم ذكر حال قوم أخلدوا إلى السكون وقعدوا عن نصر الدين بل وعن إقامته حيث هو، وعذروا أنفسهم بأنهم في أرض الكفر حيث اضطهدهم الكافرون ومنعوهم من إقامة الحق وهم عاجزون عن مقاومتهم. ولكنهم في الحقيقة غير معذورين لأنه كان يجب عليهم الهجرة إلى المؤمنين الذين يعتزون بهم، فهم بحبهم لبلادهم، وإخلادهم إلى أرضهم، وسكونهم إلى أهليهم ومعارفهم، ضعفاء في الحق لا مستضعفون، وهم بضعفهم هذا قد حرموا أنفسهم بترك الهجرة من خير الدنيا بعزة المؤمنين، ومن خير الآخرة بإقامة الحق، فظلمهم لأنفسهم عبارة عن تركهم العمل بالحق خوفا من الأذى وفقد الكرامة عند عشرائهم المبطلين. وهذا الاعتذار هو نحو مما يعتذر به الذين جاروا أهل البدع على بدعهم في هذا العصر وفي كثير من الأعصار، يعتذرون بأنهم يحبّون الغيبة عن أنفسهم ويدارون المبطلين، وهو عذر باطل، فالواجب عليهم إقامة الحق مع احتمال الأذى في سبيل الله أو الهجرة إلى حيث يتمكنون من إقامة دينهم، وللفقهاء خلاف في الهجرة هل وجوبها مضى أو هو مستمر في كل زمان؟ والمالكية على الوجوب قال: ولا معنى عندي للخلاف في وجوب الهجرة من الأرض التي يمنع فيها المؤمن من العمل بدينه، أو يؤذى فيه إيذاء لا يقدر على احتماله. وأما المقيم في دار الكافرين ولكنه لا يمنع ولا يؤذى إذا هو عمل بدينه بل يمكنه أن يقيم جميع أحكامه بلا نكير فلا يجب عليه أن يهاجر وذلك كالمسلمين في بلاد الإنكليز لهذا العهد بل ربما كانت الإقامة في دار الكفر سببا لظهور محاسن الإسلام وإقبال الناس عليه اه (أي إذا كان المسلمون المقيمون هنالك على حريتهم يعرفون حقيقة الإسلام ويبينونها للناس بالقول والعمل والأخلاق والآداب).
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
وفي الآية دليل على أن كل مَن توفي فقد استكمل واستوفى ما قدر له من الرزق والأجل والعمل، وذلك مأخوذ من لفظ "التوفي "فإنه يدل على ذلك، لأنه لو بقي عليه شيء من ذلك لم يكن متوفيًا. وفيه الإيمان بالملائكة ومدحهم، لأن الله ساق ذلك الخطاب لهم على وجه التقرير والاستحسان منهم، وموافقته لمحله...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
بعد ذلك يتحدث عن فريق من القاعدين؛ أولئك الذين يظلون قاعدين في دار الكفر لا يهاجرون؛ تمسك بهم أموالهم ومصالحهم، أو يمسك بهم ضعفهم عن مواجهة متاعب الهجرة وآلام الطريق -وهم قادرون لو أرادوا واعتزموا التضحية- أن يهاجروا.. حتى يحين أجلهم؛ وتأتي الملائكة لتتوفاهم. يتحدث عنهم فيصورهم صورة زرية منكرة؛ تستنهض كل قاعد منهم للفرار بدينه وعقيدته، وبمصيره عند ربه؛ من هذا الموقف الذي يرسمه لهم: (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم.. قالوا: فيم كنتم؟ قالوا: كنا مستضعفين في الأرض. قالوا: ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها؟ فأولئك مأواهم جهنم، وساءت مصيرا. إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان، لا يستطيعون حيلة، ولا يهتدون سبيلا. فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم، وكان الله عفوا غفورًا)...
. وهكذا نزلت هذه النصوص؛ تسمي هؤلاء القاعدين... (ظالمي أنفسهم).. بما أنهم حرموها الحياة في دار الإسلام، تلك الحياة الرفيعة النظيفة الكريمة الحرة الطليقة. وألزموها الحياة في دار الكفر تلك الحياة الذليلة الخانسة الضعيفة المضطهدة، وتوعدهم (جهنم وساءت مصيرًا)... ولكن التعبير القرآني -على أسلوب القرآن- يعبر في صورة، ويصور في مشهد حي نابض بالحركة والحوار: (إن الذين توفاهم الملائكة.. ظالمي أنفسهم.. قالوا: فيم كنتم؟ قالوا: كنا مستضعفين في الأرض! قالوا: ألم تكن أرض الله واسعة، فتهاجروا فيها؟!).. إن القرآن يعالج نفوسا بشرية؛ ويهدف الى استجاشة عناصر الخير والمروءة والعزة فيها؛ وإلى مطاردة عوامل الضعف والشح والحرص والثقلة.. لذلك يرسم هذا المشهد.. إنه يصور حقيقة. ولكنه يستخدم هذه الحقيقة في موضعها أحسن استخدام، في علاج النفس البشرية.. ومشهد الاحتضار بذاته مشهد ترتجف له النفس البشرية، وتتحفز لتصور ما فيه. وإظهار الملائكة في المشهد يزيد النفس ارتجافا وتحفزا وحساسية. وهم -القاعدون- ظلموا أنفسهم. وقد حضرت الملائكة لتتوفاهم وهذا حالهم.. ظالمي أنفسهم. وهذا وحده كفيل بتحريك النفس وارتجافها. إذ يكفي أن يتصور المرء نفسه والملائكة تتوفاه وهو ظالم لنفسه؛ وليس أمامه من فرصة أخرى لإنصاف نفسه، فهذه هي اللحظة الأخيرة. ولكن الملائكة لا يتوفونهم -ظالمي أنفسهم- في صمت. بل يقلبون ماضيهم، ويستنكرون أمرهم! ويسألونهم: فيم أضاعوا أيامهم ولياليهم؟ وماذا كان شغلهم وهمهم في الدنيا: (قالوا: فيم كنتم؟).. فإن ما كانوا فيه ضياع في ضياع؛ كأن لم يكن لهم شغل إلا هذا الضياع! ويجيب هؤلاء المحتضرون، في لحظة الاحتضار، على هذا الاستنكار، جوابا كله مذلة، ويحسبونه معذرة على ما فيه من مذلة. (قالوا: كنا مستضعفين في الأرض).. كنا مستضعفين. يستضعفنا الأقوياء. كنا أذلاء في الأرض لا نملك من أمرنا شيئا...
الملائكة لا يتركون هؤلاء المستضعفين الظالمي أنفسهم. بل يجبهونهم بالحقيقة الواقعة؛ ويؤنبونهم على عدم المحاولة، والفرصة قائمة: (قالوا: ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها؟!).. إنه لم يكن العجز الحقيقي هو الذي يحملهم -إذن- على قبول الذل والهوان والاستضعاف، والفتنة عن الإيمان.. إنما كان هناك شيء آخر.. حرصهم على أموالهم ومصالحهم وأنفسهم يمسكهم في دار الكفر، وهناك دار الإسلام. ويمسكهم في الضيق وهناك أرض الله الواسعة. والهجرة إليها مستطاعة؛ مع احتمال الآلام والتضحيات...
هكذا نرى أن ظلم النفس هو أن نخالف ما شرع الله للنفس لينفعها نفعا أبديا مستوفيا، ولكن النفس قد تندفع وراء حبها للشهوات وتمنيها للنفع العاجل الذي لا خلود له، وعندما يحقق الإنسان هذا النفع العاجل لنفسه فهو يظلم نفسه. {إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم}... وتكون إجابة الذين ظلموا أنفسهم: {قالوا كنا مستضعفين في الأرض}. وبالله عندما يحكى لنا الله هذه الصورة التي تحدث يوم القيامة فهل سيكون عندنا وقت للاستفادة منها؟. طبعا لا؛ لأنه لن يكون لنا قدرة الاستدراك لنصحح الخطأ. والحق حين يقص علينا هذا المشهد فذلك من لطفه بنا، وتنبيه لكل منا: احذروا أن يأتي موقف ويحدث فيه ما أوضحته لكم ولن يستطيع أحد أن يستدرك الحياة ليصنع العمل الطيب. وعلى كل منكم أن يبحث أمر نفسه الآن...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
الضعف الذاتي ليس مبرراً للاستسلام: هل الضعف الذاتي لدى الإنسان يعتبر مبرراً للاستسلام لمخطّطات المستكبرين في العقيدة وفي السلوك، فينحرفون معهم إذا انحرفوا، وينفذون خطط الظلم للآخرين إذا أرادوا ذلك؛ ويمتد بهم الانحراف والضلال، ثم يقفون بعد ذلك أمام الله ليبرروا أعمالهم، بأنهم كانوا مستضعفين في الأرض، لا يملكون القدرة التي يستطيعون من خلالها الوقوف في وجه المستكبرين؟!. إن هذه الآيات تحدد الاستضعاف الذي يمكن للإنسان أن يجد فيه السبيل للعذر أمام الله، والاستضعاف الذي لا عذر للإنسان معه؛ لأن القضية لا تخضع في ذاتها للحالة الآنية التي يعيشها الإنسان، بل للظروف الموضوعية المحيطة به في حركة الحاضر والمستقبل، والفرص المتنوعة المتاحة له، للخروج من هذا الجو الخانق أو ذاك، والإمكانات المختلفة باختلاف المكان والزمان؛ فإذا كان يملك فرصة مستقبلية لعملية صنع القوة في المستقبل، فعليه أن ينتظر تلك الفرصة، فلا يستسلم تحت ضغط الضعف الحالي إلا بمقدار ما يتمكن من ترتيب عملية القفز نحو المستقبل من مواقعه الحاضرة. وإذا كان هناك مكان جديد يستطيع أن ينمّي قوته فيه، بعيداً عن التحديات الضاغطة؛ فعليه أن يهاجر إليه من أجل التزوّد بالقوة اللازمة للتصدي لمواقع الظلم والطغيان، والعمل على تهديم كيانها، وإضعاف قوتها، بل إزالتها نهائياً، بل إزالة قوتها. وهذا ما عبّرت عنه هذه الآيات في أسلوبٍ يتحدث عن الموضوع من خلال علاقته بالمصير الذي ينتظر الإنسان في الآخرة على أساس سلوكه في الدنيا، وذلك بتقديم أحد النماذج المستسلمة لحالة الاستضعاف مع قدرتها على تجاوزها إلى حالة قوة... ظلم النفس من الكفر والضلال {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الملائكة ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ} فقد جاءتهم الملائكة لتتوفاهم بأمر الله الذي أوكل إليهم أمر الموت، وكانوا في حالة الظلم لأنفسهم لأنهم انحرفوا في العقيدة والعمل. وهذا أعني ظلم النفس وهو تعبير قرآني مميز عن الكفر والضلال الذي يؤدي بالإنسان إلى الهلاك، مما يجعل السير في طريقه ظلماً للنفس وتعريضاً لها للعذاب الأليم… ولم يترك الملائكة هذه الحالة بدون حساب، فقد أوكل الله إليهم أمر التحقيق في أعمال الناس الذين يتوفونهم؛ وبدأت عملية التحقيق {قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ} ما هي الأجواء التي كنتم تتحركون في داخلها؟ وما هي الأسباب التي أدّت بكم إلى هذا السلوك؟ وما هي مبرراتكم التي تقدمونها بين أيديكم لتدافعوا بها عن أنفسكم؟ {قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأرض}، فلم تكن لنا قدرة على مواجهة هؤلاء الناس الذين يفرضون علينا العقيدة الباطلة والسلوك المنحرف، ولا يسمحون لنا بالتعرف على العقيدة الحقة، لأنهم يغلقون عنا سبل المعرفة من جميع الجهات، فلا نجد أمامنا إلا الباطل الذي يحيط بنا من بين أيدينا ومن خلفنا وعن يميننا وعن شمالنا، ولا نملك في الوقت ذاته حرية الحركة، في ما نريد أن نقوم به من عمل في نطاق الحق والهدى، لأنهم يحددون لنا الساحة التي نتحرك فيها ويحيطونها بأسلاك شائكة، تمنع النفاذ منها إلى ساحات أخرى. {قَالْواْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا}؟ ولم يقتنع الملائكة بالجواب، بل حاولوا التوسع في التحقيق، لتحديد الحالة التي تخضع لحساب المسؤولية في واقعهم الفكري والعملي؛ فسألوهم عن إمكانيات الفرص البديلة للواقع الذي عاشوه، وعما إذا كانت هناك أرض أخرى حرة، لا يسيطر عليها المستكبرون؛ بل تنطلق فيها الحرية الفكرية والعملية بأوسع مداها، مما يتيح لها مجال المعرفة الحرة والسلوك الحر، وكان السكوت هو الرد الذي قابلوا به هذا السؤال، لأنهم لا يملكون الإنكار أمام الحقيقة الحاسمة التي كانت تتمثل في حياتهم؛ فقد كانت لهم مجالات للهجرة إلى المواقع الجديدة التي يخرجون بها من حالة الاستضعاف هذه، ولكنهم استسلموا لحالات الاسترخاء والكسل والخشية من المتاعب الجسدية والمالية ونحوها، وعاشوا في خدمة المستكبرين؛ وبذلك حقّت عليهم كلمة الله، وقامت عليهم الحجة {فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَآءَتْ مَصِيراً..}. أما إذا كان هذا الإنسان لا يملك الفرصة للهجرة ليتحرّر من ضغط القوى المستكبرة عليه، كما في الكثير من النماذج البشرية المسحوقة التي لا تملك الوسائل المتحركة لاستعمال الحيلة في الخروج من المأزق، ولا تهتدي السبيل للهجرة، لعجز في الطاقة الجسدية، أو لضعف في الإمكانات المادية والمعنوية؛ فهؤلاء قد يجدون بعض العذر عند الله، وهذا ما عبرت عنه هذه الآية بأسلوب الاستثناء من القاعدة السابقة...