يرشد تعالى عباده المؤمنين حين بيَّن لهم أحوال اليهود والنصارى وصفاتهم غير الحسنة ، أن لا يتخذوهم أولياء . فإن بَعْضهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يتناصرون فيما بينهم ويكونون يدا على من سواهم ، فأنتم لا تتخذوهم أولياء ، فإنهم الأعداء على الحقيقة ولا يبالون بضركم ، بل لا يدخرون من مجهودهم شيئا على إضلالكم ، فلا يتولاهم إلا من هو مثلهم ، ولهذا قال : { وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ْ } لأن التولي التام يوجب الانتقال إلى دينهم . والتولي القليل يدعو إلى الكثير ، ثم يتدرج شيئا فشيئا ، حتى يكون العبد منهم .
{ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ْ } أي : الذين وصْفُهم الظلم ، وإليه يَرجعون ، وعليه يعولون . فلو جئتهم بكل آية ما تبعوك ، ولا انقادوا لك .
( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء . بعضهم أولياء بعض . ومن يتولهم منكم فإنه منهم . إن الله لا يهدي القوم الظالمين . فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم ، يقولون : نخشى أن تصيبنا دائرة . فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين : ويقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم ؟ حبطت أعمالهم ، فأصبحوا خاسرين ) . .
ويحسن أن نبين أولا معنى الولاية التي ينهى الله الذين آمنوا أن تكون بينهم وبين اليهود والنصارى . .
إنها تعني التناصر والتحالف معهم . ولا تتعلق بمعنى اتباعهم في دينهم . فبعيد جدا أن يكون بين المسلمين من يميل إلى اتباع اليهود والنصارى في الدين . إنما هو ولاء التحالف والتناصر ، الذي كان يلتبس على المسلمين أمره ، فيحسبون أنه جائز لهم ، بحكم ما كان واقعا من تشابك المصالح والأواصر ، ومن قيام هذا الولاء بينهم وبين جماعات من اليهود قبل الإسلام ، وفي أوائل العهد بقيام الإسلام في المدينة ، حتى نهاهم الله عنه وأمر بإبطاله . بعد ما تبين عدم إمكان قيام الولاء والتحالف والتناصر بين المسلمين واليهود في المدينة . .
وهذا المعنى معروف محدد في التعبيرات القرآنية . وقد جاء في صدد الكلام عن العلاقة بين المسلمين في المدينة والمسلمين الذين لم يهاجروا إلى دار الإسلام : فقال الله سبحانه : ( ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا ) . . وطبيعي أن المقصود هنا ليس الولاية في الدين . فالمسلم ولي المسلم في الدين على كل حال . إنما المقصود هو ولاية التناصر والتعاون . فهي التي لا تقوم بين المسلمين في دار الإسلام والمسلمين الذين لم يهاجروا إليهم . . وهذا اللون من الولاية هو الذي تمنع هذه الآيات أن يقوم بين الذين آمنوا وبين اليهود والنصارى بحال ، بعد ما كان قائما بينهم أول العهد في المدينة .
إن سماحة الإسلام مع أهل الكتاب شيء ، واتخاذهم أولياء شيء آخر ، ولكنهما يختلطان على بعض المسلمين ، الذين لم تتضح في نفوسهم الرؤية الكاملة لحقيقة هذا الدين ووظيفته ، بوصفه حركة منهجية واقعية ، تتجه إلى إنشاء واقع في الأرض ، وفق التصور الإسلامي الذي يختلف في طبيعته عن سائر التصورات التي تعرفها البشرية ؛ وتصطدم - من ثم - بالتصورات والأوضاع المخالفة ، كما تصطدم بشهوات الناس وانحرافهم وفسوقهم عن منهج الله ، وتدخل في معركة لا حيلة فيها ، ولا بد منها ، لإنشاء ذلك الواقع الجديد الذي تريده ، وتتحرك إليه حركة إيجابية فاعلة منشئة . .
وهؤلاء الذين تختلط عليهم تلك الحقيقة ينقصهم الحس النقي بحقيقة العقيدة ، كما ينقصهم الوعي الذكي لطبيعة المعركة وطبيعة موقف أهل الكتاب فيها ؛ ويغفلون عن التوجيهات القرآنية الواضحة الصريحة فيها ، فيخلطون بين دعوة الإسلام إلى السماحة في معاملة أهل الكتاب والبر بهم في المجتمع المسلم الذي يعيشون فيه مكفولي الحقوق ، وبين الولاء الذي لا يكون إلا لله ورسوله وللجماعة المسلمة . ناسين ما يقرره القرآن الكريم من أن أهل الكتاب . . بعضهم أولياء بعض في حرب الجماعة المسلمة . . وأن هذا شأن ثابت لهم ، وأنهم ينقمون من المسلم إسلامه ، وأنهم لن يرضوا عن المسلم إلا أن يترك دينه ويتبع دينهم . وأنهم مصرون على الحرب للإسلام وللجماعة المسلمة . وأنهم قد بدت البغضاء من أفواهم وما تخفي صدورهم أكبر . . إلى آخر هذه التقريرات الحاسمة .
إن المسلم مطالب بالسماحة مع أهل الكتاب ، ولكنه منهي عن الولاء لهم بمعنى التناصر والتحالف معهم . وإن طريقه لتمكين دينه وتحقيق نظامه المتفرد لا يمكن أن يلتقي مع طريق أهل الكتاب ، ومهما أبدى لهم من السماحة والمودة فإن هذا لن يبلغ أن يرضوا له البقاء على دينه وتحقيق نظامه ، ولن يكفهم عن موالاة بعضه لبعض في حربه والكيد له . .
وسذاجة أية سذاجة وغفلة أية غفلة ، أن نظن أن لنا وإياهم طريقا واحدا نسلكه للتمكين للدين ! أمام الكفار والملحدين ! فهم مع الكفار والملحدين ، إذا كانت المعركة مع المسلمين ! ! !
وهذه الحقائق الواعية يغفل عنها السذج منا في هذا الزمان وفي كل زمان ؛ حين يفهمون أننا نستطيع أن نضع أيدينا في أيدي أهل الكتاب في الأرض للوقوف في وجه المادية والإلحاد - بوصفنا جميعا أهل دين ! - ناسين تعليم القرآن كله ؛ وناسين تعليم التاريخ كله . فأهل الكتاب هؤلاء هم الذين كانوا يقولون للذين كفروا من المشركين : ( هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلًا ) . . وأهل الكتاب هؤلاء هم الذين ألبوا المشركين على الجماعة المسلمة في المدينة ، وكانوا لهم درعا وردءا . وأهل الكتاب هم الذين شنوا الحروب الصليبية خلال مائتي عام ، وهم الذين ارتكبوا فظائع الأندلس ، وهم الذي شردوا العرب المسلمين في فلسطين ، وأحلوا اليهود محلهم ، متعاونين في هذا مع الإلحاد والمادية ! وأهل الكتاب هؤلاء هم الذين يشردون المسلمين في كل مكان . . في الحبشة والصومال واريتريا والجزائر ، ويتعاونون في هذا التشريد مع الإلحاد والمادية والوثنية ، في يوغسلافيا والصين والتركستان والهند ، وفي كل مكان !
ثم يظهر بيننا من يظن - في بعد كامل عن تقريرات القرآن الجازمة - أنه يمكن أن يقوم بيننا وبين أهل الكتاب هؤلاء ولاء وتناصر . ندفع به المادية الإلحادية عن الدين !
إن هؤلاء لا يقرأون القرآن . وإذا قرأوه اختلطت عليهم دعوة السماحة التي هي طابع الإسلام ؛ فظنوها دعوة الولاء الذي يحذر منه القرآن .
إن هؤلاء لا يعيش الإسلام في حسهم ، لا بوصفه عقيدة لا يقبل الله من الناس غيرها ، ولا بوصفه حركة إيجابية تستهدف إنشاء واقع جديد في الأرض ؛ تقف في وجه عداوات أهل الكتاب اليوم ، كما وقفت له بالأمس . الموقف الذي لا يمكن تبديله . لأنه الموقف الطبيعي الوحيد !
وندع هؤلاء في إغفالهم أو غفلتهم عن التوجيه القرآني ، لنعي نحن هذا التوجيه القرآني الصريح :
( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء . . بعضهم أولياء بعض . . ومن يتولهم منكم فإنه منهم . إن الله لا يهدي القوم الظالمين ) . .
هذا النداء موجه إلى الجماعة المسلمة في المدينة - ولكنه في الوقت ذاته موجه لكل جماعة مسلمة تقوم في أي ركن من أركان الأرض إلى يوم القيامة . . موجه لكل من ينطبق عليه ذات يوم صفة : الذين آمنوا . .
ولقد كانت المناسبة الحاضرة إذ ذاك لتوجيه هذا النداء للذين آمنوا ، أن المفاصلة لم تكن كاملة ولا حاسمةبين بعض المسلمين في المدينه وبعض أهل الكتاب - وبخاصه اليهود - فقد كانت هناك علاقات ولاء وحلف ، وعلاقات اقتصاد وتعامل ، وعلاقات جيره وصحبه . . وكان هذا كله طبيعياً مع الوضع التاريخي والاقتصادي والاجتماعي في المدينة قبل الإسلام ، بين أهل المدينة من العرب وبين اليهود بصفة خاصة . . وكان هذا الوضع يتيح لليهود أن يقوموا بدورهم في الكيد لهذا الدين وأهله ؛ بكل صنوف الكيد التي عددتها وكشفتها النصوص القرآنية الكثيرة ؛ والتي سبق استعراض بعضها في الأجزاء الخمسة الماضية من هذه الظلال ؛ والتي يتولى هذا الدرس وصف بعضها كذلك في هذه النصوص .
ونزل القرآن ليبث الوعي اللازم للمسلم في المعركة التي يخوضها بعقيدته ، لتحقيق منهجه الجديد في واقع الحياة . ولينشى ء في ضمير المسلم تلك المفاصلة الكاملة بينه وبين كل من لا ينتمي إلى الجماعة المسلمة ولا يقف تحت رايتها الخاصة . المفاصلة التي لا تنهي السماحة الخلقية . فهذه صفة المسلم دائما . ولكنها تنهي الولاء الذي لا يكون في قلب المسلم إلا لله ورسوله والذين آمنوا . . الوعي والمفاصلة اللذان لا بد منهما للمسلم في كل أرض وفي كل جيل .
( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء . . بعضهم أولياء بعض . ومن يتولهم منكم فإنه منهم ، إن الله لا يهدي القوم الظالمين ) .
بعضهم أولياء بعض . . إنها حقيقة لا علاقة لها بالزمن . . لأنها حقيقة نابعة من طبيعة الأشياء . . إنهم لن يكونوا أولياء للجماعة المسلمة في أي أرض ولا في أي تاريخ . . وقد مضت القرون تلو القرون ترسم مصداق هذه القولة الصادقة . . لقد ولي بعضهم بعضا في حرب محمد [ ص ] والجماعة المسلمة في المدينة وولي بعضهم بعضا في كل فجاج الأرض ، على مدار التاريخ . . ولم تختل هذه القاعدة مرة واحدة ؛ ولم يقع في هذه الأرض إلا ما قرره القرآن الكريم ، في صيغة الوصف الدائم ، لا الحادث المفرد . . واختيار الجملة الاسمية على هذا النحو . . بعضهم أولياء بعض . . ليست مجرد تعبير ! إنما هي اختيار مقصود للدلالة على الوصف الدائم الأصيل !
ثم رتب على هذه الحقيقة الأساسية نتائجها . . فإنه إذا كان اليهود والنصارى بعضهم أولياء بعض فإنه لا يتولاهم إلا من هو منهم . والفرد الذي يتولاهم من الصف المسلم ، يخلع نفسه من الصف ويخلع عن نفسه صفة هذا الصف " الإسلام " وينضم إلى الصف الآخر . لأن هذه هي النتيجة الطبيعية الواقعية :
( ومن يتولهم منكم فإنه منهم ) . .
وكان ظالما لنفسه ولدين الله وللجماعة المسلمة . . وبسبب من ظلمه هذا يدخله الله في زمرة اليهود والنصارى الذين أعطاهم ولاءه . ولا يهديه إلى الحق ولا يرده إلى الصف المسلم :
( إن الله لا يهدي القوم الظالمين ) . .
لقد كان هذا تحذيرا عنيفا للجماعة المسلمة في المدينة . ولكنه تحذير ليس مبالعا فيه . فهو عنيف . نعم ؛ ولكنه يمثل الحقيقة الواقعة . فما يمكن أن يمنح المسلم ولاءه لليهود والنصارى - وبعضهم أولياء بعض - ثم يبقى له إسلامه وإيمانه ، وتبقى له عضويته في الصف المسلم ، الذين يتولى الله ورسوله والذين آمنوا . . فهذا مفرق الطريق . .
وما يمكن أن يتميع حسم المسلم في المفاصلة الكاملة بينة وبين كل من ينهج غير منهج الإسلام ؛ وبينه وبين كل من يرفع راية غير راية الإسلام ؛ ثم يكون في وسعه بعد ذلك أن يعمل عملا ذا قيمة في الحركة الإسلامية الضخمة التي تستهدف - أول ما تستهدف - إقامة نظام واقعي في الأرض فريد ؛ يختلف عن كل الأنظمة الأخرى ؛ ويعتمد على تصور متفرد كذلك من كل التصورات الأخرى . .
إن اقتناع المسلم إلى درجة اليقين الجازم ، الذي لا أرجحة فيه ولا تردد ، بأن دينه هو الدين الوحيد الذي يقبله الله من الناس - بعد رسالة محمد [ ص ] وبأن منهجه الذي كلفه الله أن يقيم الحياة عليه ، منهج متفرد ؛ لا نظير له بين سائر المناهج ؛ ولا يمكن الاستغناء عنه بمنهج آخر ؛ ولا يمكن أن يقوم مقامه منهج آخر ؛ ولا تصلح الحياة البشرية ولا تستقيم إلا أن تقوم على هذا المنهج وحده دون سواه ؛ ولا يعفيه الله ولا يغفر له ولا يقبله إلا إذا هو بذل جهد طاقته في إقامة هذا المنهج بكل جوانبه : الاعتقادية والاجتماعية ؛ لم يأل في ذلك جهدا ، ولم يقبل من منهجه بديلا - ولا في جزء منه صغير - ولم يخلط بينه وبين أي منهج آخر في تصور اعتقادي ، ولا في نظام اجتماعي ، ولا في أحكام تشريعية ، إلا ما استبقاه الله في هذا المنهج من شرائع من قبلنا من أهل الكتاب . .
إن اقتناع المسلم إلى درجة اليقين الجازم بهذا كله هو - وحده - الذي يدفعه للاضطلاع بعبء النهوض بتحقيق منهج الله الذي رضيه للناس ؛ في وجه العقبات الشاقة ، والتكاليف المضنية ، والمقاومة العنيدة ، والكيد الناصب ، والألم الذي يكاد يجاوز الطاقة في كثير من الأحيان . . وإلا فما العناء في أمر يغني عنه غيره - مما هو قائم في الأرض من جاهلية . . سواء كانت هذه الجاهلية ممثلة في وثنية الشرك ، أو في انحراف أهل الكتاب ، أو في الإلحاد السافر . . بل ما العناء في إقامة المنهج الإسلامي ، إذا كانت الفوارق بينه وبين مناهج أهل الكتاب أو غيرهم قليلة ؛ يمكن الالتقاء عليها بالمصالحة والمهادنة ؟
إن الذين يحاولون تمييع هذه المفاصلة الحاسمة ، باسم التسامح والتقريب بين أهل الأديان السماوية ، يخطئون فهم معنى الأديان كما يخطئون فهم معنى التسامح . فالدين هو الدين الأخير وحده عند الله . والتسامح يكون في المعاملات الشخصية ، لا في التصور الاعتقادي ولا في النظام الاجتماعي . . إنهم يحاولون تمييع اليقين الجازم في نفس المسلم بأن الله لا يقبل دينا إلا الإسلام ، وبأن عليه أن يحقق منهج الله الممثل في الإسلام ولا يقبل دونه بديلا ؛ ولا يقبل فيه تعديلا - ولو طفيفا - هذا اليقين الذي ينشئه القرآن الكريم وهو يقرر : ( إن الدين عند الله الإسلام ) . . ( ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه ) . . ( واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك ) . . ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء . . بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم ) . . وفي القرآن كلمة الفصل . . ولا على المسلم من تميع المتميعين وتمييعهم لهذا اليقين !
{ يََأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنّصَارَىَ أَوْلِيَآءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلّهُمْ مّنكُمْ فَإِنّهُ مِنْهُمْ إِنّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ } . .
اختلف أهل التأويل في المعنىّ بهذه الاَية وإن كان مأمورا بذلك جميع المؤمنين ، فقال بعضهم : عنى بذلك : عبُادة بن الصامت وعبد الله بن أُبَىّ ابن سَلُول في براءة عبادة من حلف اليهود ، وفي تمسك عبد الله بن أبيّ ابن سلول بحلف اليهود بعد ما ظهرت عداوتهم لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم ، وأخبره الله أنه إذا تولاهم وتمسك بحلفهم أنه منهم في براءته من الله ورسوله كبراءتهم منهما . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن إدريس ، قال : سمعت أبي ، عن عطية بن سعد ، قال : جاء عبادة ابن الصامت من بني الحرث بن الخزرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله ، إن لي موالي من يهود كثير عددهم ، وإني أبرأ إلى الله ورسوله من ولاية يهود وأتولى الله ورسوله فقال عبد الله بن أبيّ : إني رجل أخاف الدوائر ، لا أبرأ من ولاية مواليّ . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الله ابن أبيّ : «يا أبا الحُبابِ مَا بَخِلْتَ بِهِ مِنْ وِلايَةِ يَهُودَ على عُبادَةَ بنِ الصّامِتِ فَهُوَ إلَيكَ دُونَهُ » . قال : قد قبلت . فأنزل الله : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَتّخِذُوا اليَهُودَ والنّصَارَى أوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أوْلِياءُ بَعْضٍ . . . إلى قوله : فَتَرى الّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا يونس بن بكير ، قال : ثني عثمان بن عبد الرحمن ، عن الزهري ، قال : لما انهزم أهل بدر قال المسلمون لأوليائهم من يهود : آمنوا قبل أن يصيبكم الله بيوم مثل يوم بدر فقال مالك ابن صيف : غرّكم أن أصبتم رهطا من قريش لا علم لهم بالقتال ، أما لو أسررنا العزيمة أن نستجمع عليكم لم يكن لكم يد أن تقاتلونا . فقال عبادة : يا رسول الله إن أوليائي من اليهود كانت شديدة أنفسهم كثيرا سلاحهم شديدة شوكتهم ، وإني أبرأ إلى الله وإلى رسوله من ولايتهم ، ولا مولى لي إلا الله ورسوله . فقال عبد الله بن أبيّ : لكني لا أبرأ من ولاء يهود ، إني رجل لا بدّ لي منهم . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يا أبا حُبابِ أرأيْتَ الّذِي نَفَسْتَ بِهِ مِنْ وَلاءِ يَهُودَ على عُبادَةَ ، فَهُوَ لَكَ دونَهُ » . قال : إذن أقبل . فأنزل الله تعالى ذكره : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَتّخِذُوا اليَهُودَ والنّصَارَى أوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أوْلياءُ بَعْضٍ . . . إلى أن بلغ إلى قوله : وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا يونس ، قال : حدثنا ابن إسحاق ، قال : ثني والدي إسحاق بن يسار ، عن عبادة ابن الوليد بن عبادة بن الصامت ، قال : لما حاربت بنو قَينُقاع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، تشبث بأمرهم عبد الله بن أبيّ ، وقام دونهم . ومشى عبادة بن الصامت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان أحد بني عوف بن الخزرج من له حلفهم مثل الذي لهم من عبد الله بن أبيّ ، فخلعهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتبرأ إلى الله وإلى رسوله من حلفهم ، وقال : يا رسول الله أتبرأ إلى الله وإلى رسوله من حلفهم وأتولى الله ورسوله والمؤمنين ، وأبرأ من حلف الكفار وولايتهم ففيه وفي عبد الله بن أبيّ نزلت الاَيات في المائدة : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَتّخِذُوا اليَهُودَ والنّصَارَى أوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أوْلِياءُ بَعْضً . . . الاَية .
وقال آخرون : بل عُنى بذلك قوم من المؤمنين كانوا هموا حين نالهم بأُحد من أعدائهم من المشركين ما نالهم أن يأخذوا من اليهود عِصَما ، فنهاهم الله عن ذلك ، وأعلمهم أن من فعل ذلك منهم فهو منهم . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَتّخِذُوا اليَهُودَ والنّصَارَى أوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَولّهُمْ مِنْكُمْ فإنّهُ مِنْهُمْ قال : لما كانت وقعة أُحد ، اشتدّ على طائفة من الناس وتخوّفوا أن يُدال عليهم الكفار ، فقال رجل لصاحبه : أما أنا فألحقُ بدَهْلَكَ اليهودي فآخذ منه أمانا وأتهوّد معه ، فإني أخاف أن تدال علينا اليهود . وقال الاَخر : أما أنا فألحق بفلان النصرانيّ ببعض أرض الشام فآخذ منه أمانا وأنتصر معه . فأنزل الله تعالى ذكره ينهاهما : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَتّخِذُوا اليَهُودَ والنّصَارَى أوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلّهُمْ مِنْكُمْ فإنّهُ مِنْهُمْ إنّ اللّهَ لا يَهْدِي القَوْمَ الظّالَمِينَ .
وقال آخرون : بل عُني بذلك أبو لبابة بن عبد المنذر في إعلامه بني قريظة إذ رضوا بحكم سعد أنه الذبح . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عكرمة ، قوله : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَتّخِذُوا اليَهُودَ وَالنّصَارَى أوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلّهُمْ مِنْكُمْ فإنّهُ مِنْهُمْ قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا لبابة بن عبد المنذر من الأوس ، وهو من بني عمرو بن عوف ، فبعثه إلى قريظة حين نقضت العهد ، فلما أطاعوا له بالنزول أشار إلى حلقه الذبح الذبح .
والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال : إن الله تعالى ذكره نهى المؤمنين جميعا أن يتخذوا اليهود والنصارى أنصارا وحلفاء على أهل الإيمان بالله ورسوله ، وأخبر أنه من اتخذهم نصيرا وحليفا ووليا من دون الله ورسوله والمؤمنين ، فإنّه منهم في التحزّب على الله وعلى رسوله والمؤمنين ، وأن الله ورسوله منه بريئان . وقد يجوز أن تكون الاَية نزلت في شأن عُبادة بن الصامت وعبد الله بن أبيّ ابن سلول وحلفائهما من اليهود ، ويجوز أن تكون نزلت في أبي لُبابة بسبب فعله في بني قريظة ، ويجوز أن تكون نزلت في شأن الرجلين اللذين ذكر السدّيّ أن أحدهما همّ باللحاق بدهلك اليهودي والاَخر بنصراني بالشأم ، ولم يصحّ من هذه الأقوال الثلاثة خبر يثبت بمثله حجة فيسلم لصحته القول بأنه كما قيل . فإذ كان ذلك كذلك فالصواب أن يُحْكم لظاهر التنزيل بالعموم على ما عمّ ، ويجوز ما قاله أهل التأويل فيه من القول الذي لا علم عندنا بخلافه غير أنه لا شك أن الاَية نزلت في منافق كان يوالي يهودَ أو نصارى ، خوفا على نفسه من دوائر الدهر ، لأن الاَية التي بعد هذه تدل على ذلك ، وذلك قوله : فَتَرى الّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أنْ تُصِيبَنا دَائِرَةٌ . . . الاَية .
وأما قوله : بَعْضُهُمْ أوْلِياءُ بَعْضٍ فإنه عنى بذلك أن بعض اليهود أنصار بعضهم على المؤمنين ، ويد واحدة على جميعهم ، وأن النصارى كذلك بعضهم أنصار بعض على من خالف دينهم وملتهم ، معرّفا بذلك عباده المؤمنين أن من كان لهم أو لبعضهم وليا فإنما هو وليهم على من خالف ملتهم ودينهم من المؤمنين ، كما اليهود والنصارى لهم حرب ، فقال تعالى ذكره للمؤمنين : فكونوا أنتم أيضا بعضُكم أولياءُ بعض ، ولليهودي والنصراني حربا كما هم لكم حرب ، وبعضهم لبعض أولياء لأن من والاهم فقد أظهر لأهل الإيمان الحرب ومنهم البراءة ، وأبان قطع ولايتهم .
القول في تأويل قوله تعالى : وَمَنْ يَتَوَلّهُمْ مِنْكُمْ فإنّهُ مِنْهُمْ .
يعني تعالى ذكره بقوله : وَمَنْ يَتَوَلّهُمْ مِنْكُمْ فإنّهُ مِنْهُمْ ومن يتولّ اليهود والنصارى دون المؤمنين فإنه منهم ، يقول : فإن من تولاهم ونصرهم على المؤمنين ، فهو من أهل دينهم وملتهم ، فإنه لا يتولى متولّ أحدا إلا وهو به وبدينه وما هو عليه راض ، وإذا رضيه ورضي دينه فقد عادى ما خالفه وسخطه ، وصار حكمه حكمه ، ولذلك حكم من حكم من أهل العلم لنصارى بني تَغْلب في ذبائحهم ونكاح نسائهم وغير ذلك من أمورهم بأحكام نصارى بني إسرائيل ، لموالاتهم إياهم ورضاهم بملتهم ونصرتهم لهم عليها ، وإن كانت أنسابهم لأنسابهم مخالفة وأصل دينهم لأصل دينهم مفارقا . وفي ذلك الدلالة الواضحة على صحة ما نقول ، من أن كلّ من كان يدين بدين فله حكم أهل ذلك الدين كانت دينونته به قبل مجيء الإسلام أو بعده ، إلا أن يكون مسلما من أهل ديننا انتقل إلى ملة غيرها ، فإنه لا يقرّ على ما دان به فانتقل إليه ، ولكن يقتل لردّته عن الإسلام ومفارقته دين الحقّ ، إلا أن يرجع قبل القتل إلى الدين الحقّ ، وفساد ما خالفه من قول من زعم أنه لا يحكم بحكم أهل الكتابين لمن دان بدينهم ، إلا أن يكون إسرائيليا أو منتقلاً إلى دينهم من غيرهم قبل نزول الفرقان . فأما من دان بدينهم بعد نزول الفرقان ممن لم يكن منهم ممن خالف نسبه نسبهم وجنسه جنسهم ، فإنه حكمه لحكمهم مخالف . ذكر من قال بما قلنا من التأويل :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا حميد بن عبد الرحمن الرواسي ، عن ابن أبي ليلى ، عن الحكم ، عن سعيد بن جبير ، قال : سئل ابن عباس عن ذبائح نصارى العرب ، فقرأ : وَمَنْ يَتَوَلّهُمْ مِنْكُمْ فإنّهُ مِنْهُمْ .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في هذه الاَية : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَتّخِذُوا اليَهُودَ وَالنّصَارَى أوْلِياءَ بَعْضُهُمْ وْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلّهُمْ مِنْكُمْ فإنّهُ مِنْهُمْ أنها في الذبائح ، من دخل في دين قوم فهو منهم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا حجاج ، قال : حدثنا حماد ، عن عطاء بن السائب ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : كلوا من ذبائح بني تَغْلب ، وتزوّجوا من نسائهم ، فإن الله يقول كتابه : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَتّخِذُوا اليَهُودَ والنّصَارَى أوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلّهُمْ مِنْكُمْ فإنّه مِنْهُمْ ولو لم يكونوا منهم إلا بالولاية لكانوا منهم .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا حسين بن عليّ ، عن زائدة ، عن هشام ، قال : كان الحسن لا يرى بذبائح نصارى العرب ولا نكاح نسائهم بأسا ، وكان يتلو هذه الاَية : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَتّخِذُوا اليَهُودَ وَالنّصارَى أوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلّهُمْ مِنْكُمْ فإنّهُ مِنْهُمْ .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن هارون بن إبراهيم ، قال : سئل ابن سيرين عن رجل يبيع داره من نصارى يتخذونها بيعة ، قال : فتلا هذه الاَية : لا تَتّخِذُوا اليَهُودَ والنّصَارَى أوْلِياءَ .
القول في تأويل قوله تعالى : إنّ اللّهَ لا يَهْدِى القَوْمَ الظّالِمِينَ .
يعني تعالى ذكره بذلك ، أن الله لا يوفق من وضع الولاية في غير موضعها فوالَى اليهود والنصارى مع عداوتهم الله ورسوله والمؤمنين على المؤمنين ، وكان لهم ظهيرا ونصيرا ، لأن من تولاهم فهو لله ولرسوله وللمؤمنين حرب . وقد بينا معنى الظلم في غير هذا الموضع وأنه وضع الشيء في غير موضعه بما أغنى إعادته .
نهى الله تعالى المؤمنين بهذه الآية عن اتخاذ اليهود والنصارى أولياء في النصرة والخلطة المؤدية إلى الامتزاج والمعاضدة . وحكم هذه الآية باق . وكل من اكثر مخالطة هذين الصنفين فله حظه من هذا المقت الذي تضمنه قوله تعالى : { فإنه منهم } ، وأما معاملة اليهودي والنصراني من غير مخالطة ولا ملابسة فلا تدخل في النهي ، وقد عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم يهودياً ورهنه درعه ، واختلف المفسرون في سبب هذه الآية ، فقال عطية بن سعد والزهري وابن إسحاق وغيرهم : سببها «أنه لما انقضت بدر وشجر أمر بني قينقاع أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم قتلهم فقام دونهم عبد الله بن أبي ابن سلول وكان حليفاً لهم ، وكان لعبادة بن الصامت من حلفهم مثل ما لعبد الله ، فلما رأى عبادة منزع رسول الله صلى الله عليه وسلم وما سلكته يهود من المشاقة لله ورسوله جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إني أبرأ إلى الله من حلف يهود وولائهم ولا والي إلا الله ورسوله ، وقال عبد الله بن أبي : أما أنا فلا أبرأ من ولاء يهود ، فإني لا بد لي منهم إني رجل أخاف الدوائر{[4578]} .
وحكى ابن إسحاق في السير أنه قام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأدخل يده في جيب درعه ، وقال : يا محمد أحسن في مواليَّ ، فقال له رسول الله : أرسل الدرع من يدك ، فقال لا والله حتى تهبهم لي لأنهم ثلاثمائة دارع وأربعمائة حاسراً أفأدعك تحصدهم في غداة واحدة ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قد وهبتهم لك » ، ونزلت الآية في ذلك .
وقال السدي : سبب هذه الآية أنه لما نزل بالمسلمين أمر أحد فزع منهم قوم وقال بعضهم لبعض نأخذ من اليهود عصماً ليعاضدونا إن ألمّت بنا قاصمة من قريش وسائر العرب فنزلت الآية في ذلك{[4579]} .
وقال عكرمة : سبب الآية أمر أبي لبابة بن عبد المنذر وإشارته إلى قريظة أنه الذبح حين استفهموه عن رأيه في نزولهم على حكم سعد بن معاذ{[4580]} .
قال القاضي أبو محمد : وكل هذه الأقوال محتمل ، وأوقات هذه النوازل مختلفة ، وقرأ أبي بن كعب وابن عباس «لا تتخذوا اليهود والنصارى أرباباً بعضهم » ، وقوله تعالى : { بعضهم أولياء بعض } جماعة مقطوعة من النهي يتضمن التفرقة بينهم وبين المؤمنين ، وقوله تعالى : { ومن يتولهم منكم فإنه منهم } إنحاء على عبد الله بن أبيّ وكل من اتصف بهذه الصفة من موالاتهم ، ومن تولاهم بمعتقده ودينه فهو منهم في الكفر واستحقاق النقمة والخلود في النار ، ومن تولاهم بأفعاله من العضد ونحوه دون معتقد ولا إخلال بإيمان فهو منهم في المقت والمذمة الواقعة عليهم وعليه ، وبهذه الآية جوز ابن عباس وغيره ذبائح النصارى من العرب وقال : { ومن يتولهم منكم فإنه منهم } فقال من دخل في دين قوم فهو منهم{[4581]} ، وسئل ابن سيرين رحمه الله عن رجل أراد بيع داره من نصارى يتخذونها كنيسة فتلا هذه الآية ، وقوله تعالى : { إن الله لا يهدي القوم الظالمين } عموم فإما أن يراد به الخصوص فيمن سبق في علم الله أن لا يؤمن ولا يهتدي وإما أن يراد به تخصيص مدة الظلم والتلبس بفعله ، فإن الظلم لا هدى فيه ، والظالم من حيث هو ظالم فليس بمهديّ في ظلمه .
تهيّأت نفوس المؤمنين لقبول النّهي عن موالاة أهل الكتاب بعد ما سمعوا من اضطراب اليهود في دينهم ومحاولتهم تضليل المسلمين وتقليبَ الأمور للرسول صلى الله عليه وسلم فأقبل عليهم بالخطاب بقوله : { يأيّها الّذين آمنوا لا تتّخذوا اليهود والنّصارى } الآية ، لأنّ الولاية تنبنِي على الوفاق والوئام والصّلة وليس أولئك بأهل لولاية المسلمين لبُعد ما بين الأخلاق الدّينيّة ، ولإضمارهم الكَيد للمسلمين . وجرّد النّهي هنا عن التّعليل والتّوجيه اكتفاء بما تقدّم .
والجملة مستأنفة استئنافاً ابتدائياً . وسبب النّهي هو ما وقع من اليهود ، ولكن لمّا أريد النّهي لم يُقتصر عليهم لكيلا يحسب المسلمون أنّهم مأذونون في موالاة النّصارى ، فلدفع ذلك عطف النّصارى على اليهود هنا ، لأنّ السبب الدّاعي لعدم الموالاة واحد في الفريقين ، وهو اختلاف الدّين والنفرةُ الناشئة عن تكذيبهم رسالة محمّد صلى الله عليه وسلم فالنّصارى وإن لم تجىء منهم يومئذٍ أذاة مثل اليهود فيوشك أن تجيء منهم إذا وُجد داعيها .
وفي هذا ما ينبّه على وجه الجمع بين النّهي هنا عن موالاة النّصارى وبين قوله فيما سيأتي { وليتجِدنّ أقربهم مودّة للّذين آمنوا الّذين قالوا إنّا نصارى } [ المائدة : 82 ] . ولا شكّ أنّ الآية نزلت بعد غزوة تبوك أو قُربَهَا ، وقد أصبح المسلمون مجاورين تخوم بلاد نصارى العرب . وعن السُدّي أنّ بعض المسلمين بعْد يوم أحُد عزم أن يوالي يهودياً ، وأنّ آخر عزم أن يوالي تصرانياً كما سيأتي ، فيكون ذكر النّصارى غير إدماج .
وعقّبه بقوله : { بعضهم أولياء بعض } أي أنّهم أجدر بولاية بعضهم بعضاً ، أي بولاية كلّ فريق منهم بعض أهلِ فريقِه ، لأنّ كلّ فريق منهم تتقارب أفراده في الأخلاق والأعمال فيسهل الوفاق بينهم ، وليس المعنى أنّ اليهودَ أولياء النّصارى . وتنوين { بعضٍ } تنوين عوض ، أي أولياء بعضهم . وهذا كناية عن نفي موالاتهم المؤمنين وعن نهي المؤمنين عن موالاة فريق منهما .
والولاية هنا ولاية المودّة والنصرة ولا علاقة لها بالميراث ، ولذلك لم يقل مالك بتوريث اليهودي من النّصراني والعكس أخذاً بقول النّبيء صلى الله عليه وسلم { لا يتوارث أهل ملّتين } . وقال الشّافعي وأبو حنيفة بتوريث بعض أهل المل من بعض ورأيا الكفر ملّة واحدة أخذاً بظاهر هذه الآية ، وهو مذهب داوود .
وقوله : { ومن يتَولّهم منكم فإنّه منهم } ، ( مَن ) شرطيّة تقتضي أنّ كلّ من يتولاّهم يصير واحداً منهم . جعل ولايتهم موجّبة كونَ المتولّي منهم ، وهذا بظاهره يقتضي أنّ ولايتهم دخولٌ في ملّتهم ، لأنّ معنى البعضية هنا لا يستقيم إلاّ بالكون في دينهم . ولمّا كان المؤمن إذا اعتقد عقيدة الإيمان واتّبع الرسول ولم ينافق كان مسلماً لا محالة كانت الآية بحاجة إلى التأويل ، وقد تأوّلها المفسّرون بأحد تأويلين : إمّا بحمل الولاية في قوله : { ومن يتولّهُم } على الولاية الكاملة الّتي هي الرّضى بدينهم والطعنُ في دين الإسلام ، ولذلك قال ابن عطيّة : ومن تولاّهم بمعتقده ودينه فهو منهم في الكفر والخلود في النّار .
وأمّا بتأويل قوله : { فإنّه منهم } على التشبيه البليغ ، أي فهو كواحد منهم في استحقاق العذاب . قال ابن عطيّة : من تولاّهم بأفعاله من العَضْد ونحوه دون معتقدهم ولا إخلال بالإيمان فهو منهم في المقت والمذمّة الواقعة عليهم اهـ . وهذا الإجمال في قوله : { فإنّه منهم } مبالغة في التّحذير من موالاتهم في وقت نزول الآية ، فالله لم يرض من المسلمين يومئذٍ بأن يتولّوا اليهود والنّصارى ، لأنّ ذلك يلبسهم بالمنافقين ، وقد كان أمر المسلمين يومئذٍ ي حيرة إذ كان حولهم المنافقُون وضعفاء المسلمين واليهود والمشركون فكان من المتعيّن لحفظ الجامعة التّجرّد عن كلّ ما تتطرّق مِنه الرّبية إليهم .
وقد اتّفق عُلماء السنّة على أنّ ما دون الرّضا بالكفر وممالاتهم عليه من الولاية لا يُوجب الخروج من الربقة الإسلاميّة ولكنّه ضلال عظيم ، وهو مراتب في القُوّة بحسب قوّة الموالاة وباختلاف أحوال المسلمين .
وأعظم هذه المراتب القضية الّتي حدثت في بعض المسلمين من أهل غرناطة الّتي سئل عنها فقهاء غرناطة : محمد الموّاق ، ومحمد بن الأزرق ، وعليّ بن داوود ، ومحمد الجعدالة ، ومحمد الفخار ، وعليّ القلصادي ، وأبو حامد بن الحسن ، ومحمد بن سرحونة ، ومحمد المشذّالي ، وعبد الله الزليجي ، ومحمد الحذام ، وأحمد بن عبد الجليل ، ومحمد بن فتح ، ومحمد بن عبد البرّ ، وأحمد البقني ، عن عصابة من قُواد الأندلس ، وفرسانهم لَجَأُوا إلى صاحب قشتالة ( بلاد النصارى ) بعد كائنة ( اللَّسانة ) كذا واستنصروا به على المسلمين واعتصموا بحبْل جواره وسكنوا أرض النّصارى فهل يحلّ لأحد من المسلمين مساعدتهم ولأهل مدينة أو حصن أن يأوُوهم . فأجابوا بأنّ رُكونهم إلى الكفار واستنصارهم بهم قد دخلوا به في وعيد قوله تعالى : { ومن يتولّهم منكم فإنّه منهم } فمن أعانهم فهو معين على معصية الله ورسوله ، هذا ما داموا مصرّين على فعلهم فإن تابوا ورجعوا عمّا هم عليه من الشقاق والخلاف فالواجب على المسلمين قبولهم .
فاستِدلالهم في جوابهم بهذه الآية يدلّ على أنّهم تأوّلوها على معنى أنّه منهم في استحقاق المقت والمذمة ، وهذا الّذي فعلوه ، وأجاب عنه الفقهاء هو أعظمُ أنواع الموالاة بعد موالاة الكفر . وأدنى درجات الموالاة المخالطة والملابسة في التّجارة ونحوها . ودون ذلك ما ليس بموالاة أصلاً ، وهو المعاملة . وقد عامَل النّبيء صلى الله عليه وسلم يهود خيبر مساقاة على نخل خيبر ، وقد بيّنّا شيئاً من تفصيل هذا عند قوله تعالى : { لا يَتّخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين } في سورة آل عمران ( 28 ) .
وجملة { إنّ الله لا يهدي القوم الظّالمين } تذييل للنّهي ، وعموم القوم الظّالمين شمل اليهود والنّصارى ، وموقع الجملة التذييلية يقتضي أنّ اليهودَ والنّصارى من القوم الظّالمين بطريق الكناية .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلف أهل التأويل في المعني بهذه الآية وإن كان مأمورا بذلك جميع المؤمنين؛ فقال بعضهم: عنى بذلك: عبُادة بن الصامت وعبد الله بن أُبَي ابن سَلُول في براءة عبادة من حلف اليهود، وفي تمسك عبد الله بن أبيّ ابن سلول بحلف اليهود بعد ما ظهرت عداوتهم لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وأخبره الله أنه إذا تولاهم وتمسك بحلفهم أنه منهم في براءته من الله ورسوله كبراءتهم منهما.
حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن إدريس، قال: سمعت أبي، عن عطية بن سعد، قال: جاء عبادة ابن الصامت من بني الحرث بن الخزرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إن لي موالي من يهود كثير عددهم، وإني أبرأ إلى الله ورسوله من ولاية يهود وأتولى الله ورسوله، فقال عبد الله بن أبَيّ: إني رجل أخاف الدوائر، لا أبرأ من ولاية مواليّ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الله ابن أبيّ: «يا أبا الحُبابِ مَا بَخِلْتَ بِهِ مِنْ وِلايَةِ يَهُودَ على عُبادَةَ بنِ الصّامِتِ فَهُوَ إلَيكَ دُونَهُ». قال: قد قبلت. فأنزل الله:"يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَتّخِذُوا اليَهُودَ والنّصَارَى أوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أوْلِياءُ بَعْضٍ"... إلى قوله: "فَتَرى الّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ...".
وقال آخرون: بل عُني بذلك قوم من المؤمنين كانوا هموا حين نالهم بأُحد من أعدائهم من المشركين ما نالهم أن يأخذوا من اليهود عِصَما، فنهاهم الله عن ذلك، وأعلمهم أن من فعل ذلك منهم فهو منهم.
وقال آخرون: بل عُني بذلك أبو لبابة بن عبد المنذر في إعلامه بني قريظة إذ رضوا بحكم سعد أنه الذبح... حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة، قوله: "يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَتّخِذُوا اليَهُودَ وَالنّصَارَى أوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلّهُمْ مِنْكُمْ فإنّهُ مِنْهُمْ "قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا لبابة بن عبد المنذر من الأوس، وهو من بني عمرو بن عوف، فبعثه إلى قريظة حين نقضت العهد، فلما أطاعوا له بالنزول أشار إلى حلقه الذبح الذبح.
والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إن الله تعالى ذكره نهى المؤمنين جميعا أن يتخذوا اليهود والنصارى أنصارا وحلفاء على أهل الإيمان بالله ورسوله، وأخبر أنه من اتخذهم نصيرا وحليفا ووليا من دون الله ورسوله والمؤمنين، فإنّه منهم في التحزّب على الله وعلى رسوله والمؤمنين، وأن الله ورسوله منه بريئان. وقد يجوز أن تكون الآية نزلت في شأن عُبادة بن الصامت وعبد الله بن أبيّ ابن سلول وحلفائهما من اليهود، ويجوز أن تكون نزلت في أبي لُبابة بسبب فعله في بني قريظة، ويجوز أن تكون نزلت في شأن الرجلين اللذين ذكر السدّيّ أن أحدهما همّ باللحاق بدهلك اليهودي والاَخر بنصراني بالشأم، ولم يصحّ من هذه الأقوال الثلاثة خبر يثبت بمثله حجة فيسلم لصحته القول بأنه كما قيل. فإذ كان ذلك كذلك، فالصواب أن يُحْكم لظاهر التنزيل بالعموم على ما عمّ، ويجوز ما قاله أهل التأويل فيه من القول الذي لا علم عندنا بخلافه، غير أنه لا شك أن الآية نزلت في منافق كان يوالي يهودَ أو نصارى، خوفا على نفسه من دوائر الدهر، لأن الآية التي بعد هذه تدل على ذلك، وذلك قوله: "فَتَرى الّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أنْ تُصِيبَنا دَائِرَة...".
"بَعْضُهُمْ أوْلِياءُ بَعْضٍ": عنى بذلك أن بعض اليهود أنصار بعضهم على المؤمنين، ويد واحدة على جميعهم، وأن النصارى كذلك بعضهم أنصار بعض على من خالف دينهم وملتهم، معرّفا بذلك عباده المؤمنين أن من كان لهم أو لبعضهم وليا فإنما هو وليهم على من خالف ملتهم ودينهم من المؤمنين، كما اليهود والنصارى لهم حرب، فقال تعالى ذكره للمؤمنين: فكونوا أنتم أيضا بعضُكم أولياءُ بعض، ولليهودي والنصراني حربا كما هم لكم حرب، وبعضهم لبعض أولياء، لأن من والاهم فقد أظهر لأهل الإيمان الحرب ومنهم البراءة، وأبان قطع ولايتهم.
"وَمَنْ يَتَوَلّهُمْ مِنْكُمْ فإنّهُ مِنْهُمْ": ومن يتولّ اليهود والنصارى دون المؤمنين فإنه منهم، يقول: فإن من تولاهم ونصرهم على المؤمنين، فهو من أهل دينهم وملتهم، فإنه لا يتولى متولّ أحدا إلا وهو به وبدينه وما هو عليه راض، وإذا رضيه ورضي دينه فقد عادى ما خالفه وسخطه، وصار حكمه حكمه، ولذلك حكم من حكم من أهل العلم لنصارى بني تَغْلب في ذبائحهم ونكاح نسائهم وغير ذلك من أمورهم بأحكام نصارى بني إسرائيل، لموالاتهم إياهم ورضاهم بملتهم ونصرتهم لهم عليها، وإن كانت أنسابهم لأنسابهم مخالفة وأصل دينهم لأصل دينهم مفارقا. وفي ذلك الدلالة الواضحة على صحة ما نقول، من أن كلّ من كان يدين بدين فله حكم أهل ذلك الدين كانت دينونته به قبل مجيء الإسلام أو بعده، إلا أن يكون مسلما من أهل ديننا انتقل إلى ملة غيرها، فإنه لا يقرّ على ما دان به فانتقل إليه، ولكن يقتل لردّته عن الإسلام ومفارقته دين الحقّ، إلا أن يرجع قبل القتل إلى الدين الحقّ، وفساد ما خالفه من قول من زعم أنه لا يحكم بحكم أهل الكتابين لمن دان بدينهم، إلا أن يكون إسرائيليا أو منتقلاً إلى دينهم من غيرهم قبل نزول الفرقان. فأما من دان بدينهم بعد نزول الفرقان ممن لم يكن منهم ممن خالف نسبه نسبهم وجنسه جنسهم، فإنه حكمه لحكمهم مخالف. "إنّ اللّهَ لا يَهْدِى القَوْمَ الظّالِمِينَ": يعني تعالى ذكره بذلك، أن الله لا يوفق من وضع الولاية في غير موضعها فوالَى اليهود والنصارى مع عداوتهم الله ورسوله والمؤمنين على المؤمنين، وكان لهم ظهيرا ونصيرا، لأن من تولاهم فهو لله ولرسوله وللمؤمنين حرب. وقد بينا معنى الظلم في غير هذا الموضع وأنه وضع الشيء في غير موضعه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
يحتمل قوله تعالى: {لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء} وجوها:
أحدهما: يحتمل: لا تتخذوهم أولياء في الدين؛ أي لا تدينوا بدينهم فإنكم إذا دنتم بدينهم صرتم أولياءهم في النصر والمعونة. والثاني: يحتمل: لا تتخذوهم أولياء في النصر والمعونة، لأنهم إذا اتخذوهم أولياء في النصر والمعونة صاروا أمثالهم، لأنهم إذا نصروا الكفار على المسلمين، وأعانوهم، فقد كفروا، وهو كقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم} الآية [آل عمران: 118] نهاهم أن يتخذوا أولئك موضع سرهم وخفياتهم. فعلى ذلك الأول، والله أعلم. والثالث: يحتمل: {لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء} في المكسب والدنيا فإنهم إذا فعلوا ذلك لا بد من أن يميلوا إليهم، ويصدروا عن رأيهم في شيء، فذلك مما يفسقهم، ويخرج شهادتهم. فهذا النهي يحتمل هذه الوجوه الثلاثة التي ذكرنا، والله أعلم.
{ومن يتولهم منكم فإنه منهم} الوجوه التي ذكرنا: الولاية في الدين والولاية في النصر والمعونة، فإنهم إذا فعلوا ذلك صاروا منهم في حكم الدنيا والآخرة، والولاية في المكسب والدنيا فإنهم إذا فعلوا ذلك فيصيرون منهم في حكم الدنيا. فإن قيل: أليس يرث المسلم المرتد؟ وقد قال عز وجل: {ومن يتولهم منكم فإنه منهم} أخبر أن من يتولهم من المسلمين فسيصير منهم، ونحن لا نرث اليهود والنصارى، كيف ورث من ضاد المسلمين؟ قيل: معنى قوله: {فإنهم منهم} في الدين والكفر لا في الحكم والحقوق.
الوليُّ هو الناصر، لأنه يَلِي صاحبه بالنصرة، ووليّ الصغير لأنه يتولّى التصرف عليه بالحياطة، ووليّ المرأة عَصَبَتُها لأنهم يتولّون عليها عقد النكاح. وفي هذه الآية دلالةٌ على أن الكافر لا يكون ولياً للمسلم لا في التصرف ولا في النصرة؛ ويدلّ على وجوب البراءة من الكفار والعداوة لهم، لأن الولاية ضد العداوة، فإذا أمرنا بمعاداة اليهود والنصارى لكفرهم فغيرهم من الكفار بمنزلتهم.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
لا تجنحوا إلى الموالاة مع أعدائه -سبحانه- إيثاراً للسكون إلى الحظ، أو احتشاماً من القيام للحق، أو ركوناً إلى قرابة نَسَبٍ، أو استحقاقاً لمودة حميم، أو تهيباً من استيحاش صديق. بل صمموا عقودكم على التبرِّي منهم بكل وجه فهم بعضهم أولياء بعض، والضدية بينكم وبينهم قائمة إلى الدين. {وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنْكُمْ} التحق بهم، وانخرط في سِلكهم، وعُدَّ في جملتهم.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
لا تتخذوهم أولياء تنصرونهم وتستنصرونهم وتؤاخونهم وتصافونهم وتعاشرونهم معاشرة المؤمنين. ثم علل النهي بقوله: {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} أي إنما يوالي بعضهم بعضاً لاتحاد ملتهم واجتماعهم في الكفر، فما لمن دينه خلاف دينهم ولموالاتهم. {وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مّنكُمْ فَإِنَّهُ} من جملتهم وحكمه حكمهم. وهذا تغليظ من الله وتشديد في وجوب مجانبة المخالف في الدين واعتزاله، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا تراءى ناراهما" ومنه قول عمر رضي الله عنه لأبي موسى في كاتبه النصراني: لا تكرموهم إذ أهانهم الله، ولا تأمنوهم إذ خوّنهم الله، ولا تدنوهم إذ أقصاهم الله: وروي: أنه قال له أبو موسى: لا قوام للبصرة إلا به، فقال: مات النصراني والسلام، يعني هب أنه قد مات، فما كنت تكون صانعاً حينئذ فاصنعه الساعة، واستغن عنه بغيره. {إِنَّ الله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين} يعني الذين ظلموا أنفسهم بموالاة الكفر يمنعهم الله ألطافه ويخذلهم مقتاً لهم.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
نهى الله تعالى المؤمنين بهذه الآية عن اتخاذ اليهود والنصارى أولياء في النصرة والخلطة المؤدية إلى الامتزاج والمعاضدة. وحكم هذه الآية باق. وكل من اكثر مخالطة هذين الصنفين فله حظه من هذا المقت الذي تضمنه قوله تعالى: {فإنه منهم}، وأما معاملة اليهودي والنصراني من غير مخالطة ولا ملابسة فلا تدخل في النهي، وقد عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم يهودياً ورهنه درعه..
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
من المعلوم في السيرة النبوية الشريفة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وادع اليهود حين قدم المدينة وأقرهم على دينهم وأموالهم، وأثبت ذلك في الكتاب الذي كتبه في المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار وحقوق القبائل والبطون... قال ابن القيم في الهدي النبوي: (ولما قدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم المدينة صار الكفار معه ثلاثة أقسام: قسم صالحهم ووادعهم على أن لا يحاربوه ويظاهروا عليه ولا يوالوا عليه عدوه. وهم على كفرهم آمنون على دمائهم وأموالهم، وقسم حاربوه ونصبوا له العداوة، وقسم تاركوه فلم يصالحوه ولم يحاربوه، بل انتظروا ما يؤول إليه أمره وأمر أعدائه. ثم من هؤلاء من كان يحب ظهوره وانتصاره في الباطن. ومنه من دخل معهم في الظاهر، وهو مع عدوه في الباطن، ليأمن الفريقين. وهؤلاء هم المنافقون. فعامل كل طائفة من هذه الطوائف بما أمره به ربه تبارك وتعالى. فصالح يهود المدينة وكتب بينهم وبينه كتاب أمن. وكانوا ثلاث طوائف حول المدينة – بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة. فحاربته بنو قينقاع بعد ذلك بعد بدر، وأظهروا البغي والحسد). ثم قال في فصل آخر (ثم نقض العهد بنو النضير. قال البخاري وكان ذلك بعد بدر بستة أشهر) وبين كيف تآمروا على قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتقدم ذكر ذلك في تفسير قوله تعالى من هذه السورة {يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم} [المائدة: 11] إذ ورد أن الآية نزلت في ذلك. ثم بين في فصل آخر أن قريظة كانت أشد عداوة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأنهم نقضوا صلحه لما خرج إلى غزوة الخندق. وبين كيف حارب كل طائفة وأظهره الله عليها. فهذا هو السبب العام في النهي عن موالاة أهل الكتاب في هذه الآيات، وكان نصارى العرب – وكذا الروم بالطبع – حربا له كاليهود. وأما السبب الخاص الذي ذكروه في سبب النزول فهاك ملخصه: اخرج رواة التفسير المأثور والبيهقي في الدلائل وابن عساكر عن عبادة بن الوليد أن عبادة بن الصامت قال: لما حاربت بنو قنيقاع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تشبث بأمرهم عبد الله ابن أبي بن سلول (زعيم المنافقين) وقام دونهم. ومشى عبادة بن الصامت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتبرأ إلى الله وإلى رسوله من حلفهم. وكان أحد بني عوف بن الخزرج وله من حلفهم مثل الذي كان لعبد الله بن أبي، فخلعهم إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال: (أتولى الله ورسوله والمؤمنين، وأبرأ إلى الله ورسوله من حلف هؤلاء الكفار وولايتهم). قال: وفيه وفي عبد الله نزلت الآيات في المائدة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء} – إلى قوله – {فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة: 56]. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير عن عطية بن سعد قال جاء عبادة بن الصامت من بني الحارث بن الخزرج إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال يا رسول الله: إن لي موالي من اليهود كثير عددهم، وإني أبرأ إلى الله ورسوله من ولاية يهود وأتولى الله ورسوله فقال عبد الله بن أبي: إني رجل أخاف الدوائر لا أبرأ من ولاية موالي. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعبد الله بن أبي (يا أبا الحباب! أرأيت الذي نفست به من ولاء يهود على عبادة فهو لك دونه) قال: إذن أقبل. فأنزل الله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى...} – إلا أن بلغ – {والله يعصمك من الناس}. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن عكرمة – في الآية – إنها نزلت في بني قريظة إذ غدروا ونقضوا العهد بينهم وبين الرسول الله صلى الله عليه وسلم في كتابهم إلى أبي سفيان بن حرب يدعونه وقريشا ليدخلوهم حصونهم. فبعث النبي صلى الله عليه وسلم أبا لبابة بن عبد المنذر إليهم يستنزلهم من حصونهم فلما أطاعوا له بالنزول أشار إلى حلقه بالذبح، وفيها أن بعض المسلمين كانوا يكاتبون النصارى بالشام، وإن بعضهم كان يكاتب يهود المدينة بأخبار النبي صلى الله عليه وسلم يمتون إليهم لينتفعوا بمالهم ولو بالقرض فنهوا عن ذلك.
وروى ابن جرير أن بعضهم قال لما خافوا أن يدال للمشركين يوم أحد أن يلحق بفلان اليهودي فيتهود معه، وقال آخر إنه يلحق بفلان النصراني فيتنصر معه. وإن الآية نزلت في ذلك. وكان هؤلاء من المنافقين. أقول: الظاهر أن الآيات نزلت بعد تلك الوقائع وغيرها مما ذكروا إن صحت الروايات. وإن معنى جعلها أسبابا لنزولها أنها نزلت في المعنى الذي ينتظمها، وهو النهي عن موالاة النصر والمظاهرة لهؤلاء الناس إذ كانوا حربا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وللمؤمنين وكانوا هم المعتدين في ذلك، فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يقاتل إلا من نصبوا أنفسهم لقتاله. ومعناها عام في كل حال كالحال التي نزلت فيها. قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء} علم مما سبق أن المراد بالولاية ولاية التناصر والمحالفة وقيده بعضهم بكونها على المؤمنين، وأن النهي لأفراد المسلمين وجماعاتهم دون جملتهم، وأنه يشمل المؤمنين الصادقين وغيرهم، لأنه مقدمة للإنكار على مرضى القلوب الذين يتخذون لهم اليد عندهم لعدم ثقتهم ببقاء الإسلام وثبات أهله. ولولا هذا لجوز أن يكون النهي لجملة المسلمين أيضا، لا لأن من أصول الدين أن لا يحالف أهله من يخالفهم فيه، كيف – وقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم حالف يهود المدينة عقب الهجرة؟ بل لأن القوم كانوا في حنق شديد على الإسلام، وحسد للعرب على ما آتاهم الله من فضله. فلا يوثق بوفائهم، بعد ما كان من خيانتهم وغدرهم، ولكن هذا غير مراد من الآية، بل السياق يدل على الوجه الأول وهو أن يوالي أفراد أو جماعات من المسلمين أولئك اليهود والنصارى المعادين للنبي والمؤمنين ويعاهدونهم على التناصر من دون المؤمنين، رجاء أن يحتاجوا إلى نصرهم، إذا خذل المسلمون وغلبوا على أمرهم. ونكتة التعبير عنهم باليهود والنصارى دون أهل الكتاب هي أن معاداتهم للنبي والمؤمنين إنما كانت بحسب جنسياتهم السياسية لا من حيث إن كتابهم يأمرهم بذلك.
هذا النهي عن ولاية أهل الكتاب مثل النهي عن ولاية المشركين في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة} [الممتحنة: 1] الخ وقد نزلت في حاطب بن أبي بلتعة لما كتب إلى قريش يخبرهم بعزم النبي صلى الله عليه وآله وسلم على حربهم لأن له عندهم مالا وأهلا فأراد أن يتخذ عندهم يدا لأجل حماية أهله. والنهي عن الشيء لسبب من الأسباب لا يتناول من لم يتحقق فيهم، ولا ينافي زوال النهي بزوال سببه. ولذلك قال تعالى بعد هذا النهي في هذه السورة (الممتحنة) {عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة. والله قدير والله غفور رحيم لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم، ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون} [الممتحنة: 7- 9] فهذه الآيات نص صريح في كون النهي عن الولاية لأجل العداوة وكون القوم حربا. لا لأجل الخلاف في الدين لذاته، فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما حالف اليهود كتب في كتابه (لليهود دينهم وللمسلمين دينهم)، كما أمره الله أن يقول لجميع المخالفين {لكم دينكم ولي دين} [الكافرون: 6].
وقد جعل المتأخرون من المفسرين – كالزمخشري والبيضاوي ومن تابعهما – الولاية بمعنى المودة وحسن المعاملة واستخدام المخالفين من أهل الكتاب. واستدلوا بحديث (لا تتراءى ناراهما) 143 ودعموا ذلك بأمر عمر (رض) لأبي موسى الأشعري بعزل كاتبه النصراني. والسياق يأبي ذلك كما تقدم. وقد حاول المتقدمون جعل النهي خاصا بمن نزل فيهم مع جعل الولاية ولاية النصرة. وما أبعد الفرق بين الفريقين.
قال شيخ المفسرين ابن جرير الطبري (والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إن الله تعالى ذكره نهى المؤمنين جميعا أن يتخذوا اليهود والنصارى أنصارا وحلفاء على أهل الإيمان بالله ورسوله. وأخبر أنه من اتخذهم نصيرا وحليفا ووليا من دون الله ورسوله فإنه منهم في التحزب على الله وعلى رسوله والمؤمنين، وإن الله ورسوله منه بريئان. وقد يجوز أن تكون الآية نزلت في شأن عبادة بن الصامت وعبد الله بن أبي بن سلول وحلفائهما من اليهود، ويجوز أن تكون نزلت في أبي لبابة بسبب فعله في بني قريظة، ويجوز أن تكون في شأن الرجلين اللذين ذكر السدي أن أحدهما أراد اللحاق بذلك اليهودي والآخر بنصراني بالشام. ولم يصح بواحد من هذه الأقوال الثلاثة خبر يثبت بمثله حجته فيسلم لصحته القول بأنه كما قيل. فإذا كان ذلك كذلك، فالصواب أن يحكم لظاهر التنزيل بالعموم على ما عم، ويجوز ما قاله أهل التأويل فيه من القول الذي علم عندنا بخلافه، غير أنه لا شك أن الآية نزلت في منافق كان يوالي يهود أو نصارى جزعا على نفسه من دوائر الدهر، لأن الآية التي بعد هذه تدل على ذلك) اه.
وقال البيضاوي في تفسير النهي عن اتخاذهم أولياء: فلا تعتمدوا عليهم ولا تعاشروهم معاشرة الأحباب. (بعضهم أولياء بعض): إيماء إلى علة النهي، أي فإنهم متفقون على خلافكم يوالي بعضهم بعضا لاتحادهم في الدين واجتماعهم على مضادتكم (ومن يتولهم منكم فإن منهم) أي ومن والاهم منكم فإنه من جملتهم. وهذا التشديد في وجوب مجانبتهم كما قال عليه الصلاة والسلام (تتراءى ناراهما) 144 أو لأن الموالين لهم كانوا منافقين، اه.
هكذا خص البيضاوي الولاية بمعاشرة المحبة والاعتماد على الأشخاص في الأمور. وهو خطأ تتبرأ منه لغة الآية في مفرداتها وسياقها كما يتبرأ منه سبب النزول والحالة العامة التي كان عليها المسلمون والكتابيون في عصر التنزيل كما علم مما تقدم. وسبب وقوع البيضاوي في مثل هذا الغلط اعتماده على مثل الكشاف في فهم الآيات دون الرجوع إلى تفاسير السلف. على أن صاحب الكشاف أرسخ منه في اللغة قدما، وأدق فهما وذوقا، ولذلك بدأ تفسير الولاية بقوله (تنصرونهم وتستنصرونهم) وهو المعنى الصحيح، وعطف عليه ولاية الإخوة والمودة، فأخذ البيضاوي المعنى الثاني بعبارة تستحق من النقد ما تستحق عبارة الزمخشري.
واخطأ كل منهما في إيراد حديث (لا تتراءى ناراهما) في هذا المقام، وكل منهما قليل البضاعة في علم الحديث. فالحديث ورد في وجوب الهجرة من أرض المشركين إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم لنصرته، رواه أهل السنن – أما أبو داود فرواه من حديث جرير بن عبد الله وذكر أن جماعة لم يذكروا جريرا أي رووه مرسلا، وهو الذي اقتصر عليه النسائي. وأخرجه الترمذي مرسلا وقال: وهذا أصح. ونقل عن البخاري تصحيح المرسل. ولكنه لم يخرجه في صحيحه ولا هو على شرطه، والاحتجاج بالمرسل فيه الخلاف المشهور في علم الأصول. ولفظ الحديث: بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سرية إلى خثعم، فاعتصم ناس منهم بالسجود فأسرع فيهم القتل فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأمر لهم بنصف العقل (أي الدية) وقال (أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين – قالوا يا رسول الله لم؟ قال -تتراءى ناراهما) فيجعل لهم نصف الدية وهم مسلمون لأنهم أعانوا على أنفسهم وأسقطوا نصف حقهم بإقامتهم بين المشركين المحاربين لله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم وشدد في مثل هذه الإقامة التي يترتب عليها مثل ذلك من القعود عن نصر الله ورسوله.
والله تعالى يقول في أمثال هؤلاء {والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا، وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق} { [الأنفال: 72] فنفى تعالى ولاية المسلمين غير المهاجرين إذا كانت الهجرة واجبة، فلأن ينفي ولاية اليهود والنصارى – وقد كانوا محاربين أيضا – أولى. فذكر هذا الحديث في تفسير هذه الآية لا يصح وضعه في الموضع الذي وضعه فيه الزمخشري والبيضاوي، وإنما يناسبه ما قلنا آنفا. فهو لا يدل – إذا صح الاحتجاج به – على ما ذكر من عدم معاشرة الكتابي والإقامة معه وإن كان ذا ذمة أو عهد. لا خوف من الإقامة معه ولا خطر، وقد كان اليهود يقيمون مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومع الصحابة في المدينة، وكانوا يعاملونهم بالمساواة التامة. حتى أن عليا المرتضى لما تحاكم مع يهودي إلى عمر (رضي الله عنهما) وخاطبه عمر أمام خصمه اليهودي بالكنية (يا أبا الحسن) غضب وعاتب عمر أنه عظمه أمام خصمه. وعمر لم يقصد التمييز على خصمه وإنما جرى لسانه بذلك لتعوده تكريم علي بمخاطبته بالكنية. على أن الحديث ورد في المشركين لا في أهل الكتاب، وقد فرق الشرع فيما بينهما في عدة مسائل. ألم تر أن الله تعالى أباح لنا طعام أهل الكتاب والتزوج بنسائهم دون المشركين، وهو يقول في حكمة الزوجية وسرها {وجعل بينكم مودة ورحمة} [الروم: 21]؟
أما قوله تعالى: {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ} فهو استئناف بياني سيق لتعليل النهي كما قالوا. ومعناه أن اليهود بعضهم أولياء وأنصار بعض، والنصارى بعضهم أولياء وأنصار بعض، لا أن اليهود أولياء وحلفاء النصارى، والنصارى أولياء وحلفاء اليهود، ولم يكن للمؤمنين منهم من ولي ولا نصير، إذ كان اليهود قد نقضوا ما عقده الرسول معهم من العهد كما تقدمت الإشارة إليه، فصار الجميع حربا للرسول ومن معه من المؤمنين، من غير أن يبدأهم بعدوان ولا قتال، كما علمت من عبارة ابن القيم السابقة.
وأما قوله: {وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} الخ فهو وعيد لمن يخالف النهي، أي ومن ينصرهم ويستنصر بهم من دون المؤمنين وهم إبل واحد عليكم، فإنه في الحقيقة منهم لا منكم، لأنه معهم عليكم ولا يعقل أن يقع ذلك من مؤمن صادق. فهو إما موافق لم والاهم في عقيدتهم، أو في عداوتهم لمن والاهم عليهم. وعلى كلتا الحالتين يكون حكمه حكمهم... {إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} هذا تعليل للوعيد وبيان لسببه. وهو أن من يوالي أعداء المؤمنين الذين نصبوا لهم الحرب وينصرهم أو يستنصر بهم فهو ظالم بوضعه الولاية في غير موضعها، ولن يهتدي مثله إلى الحق والنجاة أبدا.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
نصوص هذا الدرس كله تؤيد ما ذهبنا إليه في تقديم السورة، من أن هذه السورة لم تنزل كلها بعد سورة الفتح التي نزلت في الحديبية في العام السادس الهجري؛ وأن مقاطع كثيرة فيها يرجح أن تكون قد نزلت قبل ذلك؛ وقبل إجلاء بني قريظة في العام الرابع -عام الأحزاب- على الأقل، إن لم يكن قبل هذا التاريخ أيضاً.. قبل إجلاء بني النضير بعد أحد، وبني قينقاع بعد بدر.. فهذه النصوص تشير إلى أحداث، وإلى حالات واقعة في الجماعة المسلمة بالمدينة، وإلى ملابسات ومواقف لليهود وللمنافقين، لا تكون أبداً بعد كسر شوكة اليهود؛ وآخرها كان في وقعة بني قريظة. فهذا النص عن إتخاذ اليهود والنصارى أولياء. وهذا التحذير -بل التهديد- بأن من يتولهم فهو منهم. وهذه الإشارة إلى أن الذين في قلوبهم مرض يوالونهم، ويحتجون بأنهم يخشون الدوائر. وتنفير المسلمين من الولاء لمن يتخذون دينهم هزواً ولعباً، والإشارة إلى أن هؤلاء يتخذون صلاة المسلمين -إذا قام المسلمون إلى الصلاة- هزواً ولعباً... كل أولئك لا يكون إلا ولليهود في المدينة من القوة والنفوذ والتمكن، ما يجعل من الممكن أن تقوم هذه الملابسات، وأن تقع هذه الحوادث؛ وأن يحتاج الأمر إلى هذا التحذير المشدد، وإلى هذا التهديد المكرر؛ ثم إلى بيان حقيقة اليهود؛ والتشهير بهم والتنديد؛ وإلى كشف كيدهم ومناوراتهم ومداوراتهم على هذا النحو، المنوع الأساليب. وقد ذكرت بعض الروايات أسباباً لنزول آيات في هذا الدرس؛ يرجع بعضها إلى حادث بني قينقاع بعد غزوة بدر. وموقف عبدالله بن أبى بن سلول. وقوله في ولائه لليهود وولاء اليهود له: إني رجل أخاف الدوائر لا أبرأ من ولاية موالي! وحتى بدون هذه الروايات، فإن الدراسة الموضوعية لطبيعة النصوص وجّوها، ومراجعتها على أحداث السيرة ومراحلها وأطوارها في المدينة، تكفي لترجيح ما ذهبنا إليه في تقديم السورة عن الفترة التي نزلت فيها.. وتشير نصوص هذا الدرس إلى طريقة المنهج القرآني في تربية الجماعة المسلمة وإعدادها لدورها الذي قدره الله لها؛ كما تشير إلى مقّومات هذا المنهج والمبادئ التي يريد تقريرها في النفس المسلمة وفي الجماعة المسلمة في كل حين. وهي مقومات ومبادئ ثابته، ليست خاصة بجيل من هذه الأمة دون جيل. إنما هي أساس النشأة للفرد المسلم وللجماعة المسلمة في كل جيل.. إن هذا القرآن يربي الفرد المسلم على أساس إخلاص ولائه لربه ورسوله وعقيدته وجماعته المسلمة، وعلى ضرورة المفاصلة الكاملة بين الصف الذي يقف فيه وكل صف آخر لا يرفع راية الله، ولا يتبع قيادة رسول الله؛ ولا ينضم إلى الجماعة التي تمثل حزب الله. وإشعاره أنه موضع اختيار الله، ليكون ستاراً لقدرته، وأداة لتحقيق قدره في حياة البشر وفي وقائع التاريخ. وأن هذا الاختيار -بكل تكاليفه- فضل من الله يؤتيه من يشاء. وأن موالاة غير الجماعة المسلمة معناه الارتداد عن دين الله، والنكول عن هذا الاختيار العظيم والتخلي عن هذا التفضل الجميل.. وهذا التوجه واضح في النصوص الكثيرة في هذا الدرس: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء.. بعضهم أولياء بعض.. ومن يتولهم منكم فإنه منهم.. إن الله لا يهدي القوم الظالمين).. (يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه. أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين. يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم.. ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. والله واسع عليم).. (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا، والذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون.. ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون) ثم يربى القرآن وعي المسلم بحقيقة أعدائه، وحقيقة المعركة التي يخوضها معهم ويخوضونها معه. إنها معركة العقيدة.
فالعقيدة هي القضية القائمة بين المسلم وكل أعدائه.. وهم يعادونه لعقيدته ودينه، قبل أي شيء آخر، وهم يعادونه هذا العداء الذي لا يهدأ لأنهم هم فاسقون عن دين الله، ومن ثم يكرهون كل من يستقيم على دين الله: (قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله، وما أنزل إلينا، وما أنزل من قبل. وأن أكثركم فاسقون؟) فهذه هي العقدة؛ وهذه هي الدوافع الأصيلة! وقيمة هذا المنهج، وقيمة هذه التوجيهات الأساسية فيه، عظيمة. فإخلاص الولاء لله ورسوله ودينه وللجماعة المسلمة القائمة على هذا الأساس، ومعرفة طبيعة المعركة وطبيعة الأعداء فيها.. أمران مهمان سواء في تحقيق شرائط الإيمان أو في التربية الشخصية للمسلم، أو في التنظيم الحركي للجماعة المسلمة.. فالذين يحملون راية هذه العقيدة لا يكونون مؤمنين بها أصلا، ولا يكونون في ذواتهم شيئا، ولا يحققون في واقع الأرض أمرا ما لم تتم في نفوسهم المفاصلة الكاملة بينهم وبين سائر المعسكرات التي لا ترفع رايتهم، وما لم يتمحض ولاؤهم لله ورسوله ولقيادتهم الخاصة المؤمنة به، وما لم يعرفوا طبيعة أعدائهم وبواعثهم وطبيعة المعركة التي يخوضونها معهم، وما لم يستيقنوا أنهم جميعا إلب عليهم، وأن بعضهم أولياء بعض في حرب الجماعة المسلمة والعقيدة الإسلامية على السواء. والنصوص في هذا الدرس لا تقف عند كشف بواعث المعركة في نفوس أعداء الجماعة المسلمة. بل تكشف كذلك طبيعة هؤلاء الأعداء ومدى فسقهم وانحرافهم، ليتبين المسلم حقيقة من يحاربه، وليطمئن ضميره إلى المعركة التي يخوضها، وليقتنع وجدانه بضرورة هذه المعركة، وأنه لا مفر منها: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء.. بعضهم أولياء بعض).. (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا -من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار- أولياء. واتقوا الله إن كنتم مؤمنين. وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزوا ولعبا، ذلك بأنهم قوم لا يعقلون).. وإذا جاؤوكم قالوا: آمنا. وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به، والله أعلم بما كانوا يكتمون. وترى كثيرا منهم يسارعون في الإثم والعدوان، وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يعملون!: (وقالت اليهود:يد الله مغلولة، غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا. بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء. وليزيدن كثيرًا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرًا).. ومن هذه صفاتهم، ومواقفهم من الجماعة المسلمة، وتألبهم عليها، واستهزاؤهم بدينها وصلاتها، لا مناص للمسلم من دفعهم وهو مطمئن الضمير.. كذلك تقرر النصوص نهاية المعركة ونتيجتها، وقيمة الإيمان في مصائر الجماعات في هذه الحياة الدنيا قبل الجزاء في الحياة الآخرة: (ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون).. (ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم ولأدخلناهم جنات النعيم. ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل، وما أنزل إليهم من ربهم، لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم).. كما تقرر صفة المسلم الذي يختاره الله لدينه، ويمنحه هذا الفصل العظيم في اختياره لهذا الدور الكبير: (يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه، أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين، يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم.. ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم).. وكل هذه التقريرات خطوات في المنهج، وفي صياغة الفرد المسلم، والجماعة المسلمة على الأساس المتين.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
تهيّأت نفوس المؤمنين لقبول النّهي عن موالاة أهل الكتاب بعد ما سمعوا من اضطراب اليهود في دينهم ومحاولتهم تضليل المسلمين وتقليبَ الأمور للرسول صلى الله عليه وسلم فأقبل عليهم بالخطاب بقوله: {يأيّها الّذين آمنوا لا تتّخذوا اليهود والنّصارى} الآية، لأنّ الولاية تنبنِي على الوفاق والوئام والصّلة وليس أولئك بأهل لولاية المسلمين لبُعد ما بين الأخلاق الدّينيّة، ولإضمارهم الكَيد للمسلمين. وجرّد النّهي هنا عن التّعليل والتّوجيه اكتفاء بما تقدّم.
.. والولاية هنا ولاية المودّة والنصرة ولا علاقة لها بالميراث، ولذلك لم يقل مالك بتوريث اليهودي من النّصراني والعكس أخذاً بقول النّبيء صلى الله عليه وسلم {لا يتوارث أهل ملّتين}. وقال الشّافعي وأبو حنيفة بتوريث بعض أهل الملل من بعض ورأيا الكفر ملّة واحدة أخذاً بظاهر هذه الآية، وهو مذهب داوود.
وقوله: {ومن يتَولّهم منكم فإنّه منهم}، (مَن) شرطيّة تقتضي أنّ كلّ من يتولاّهم يصير واحداً منهم. جعل ولايتهم موجّبة كونَ المتولّي منهم، وهذا بظاهره يقتضي أنّ ولايتهم دخولٌ في ملّتهم، لأنّ معنى البعضية هنا لا يستقيم إلاّ بالكون في دينهم. ولمّا كان المؤمن إذا اعتقد عقيدة الإيمان واتّبع الرسول ولم ينافق كان مسلماً لا محالة كانت الآية بحاجة إلى التأويل، وقد تأوّلها المفسّرون بأحد تأويلين: إمّا بحمل الولاية في قوله: {ومن يتولّهُم} على الولاية الكاملة الّتي هي الرّضى بدينهم والطعنُ في دين الإسلام، ولذلك قال ابن عطيّة: ومن تولاّهم بمعتقده ودينه فهو منهم في الكفر والخلود في النّار.
وأمّا بتأويل قوله: {فإنّه منهم} على التشبيه البليغ، أي فهو كواحد منهم في استحقاق العذاب. قال ابن عطيّة: من تولاّهم بأفعاله من العَضْد ونحوه دون معتقدهم ولا إخلال بالإيمان فهو منهم في المقت والمذمّة الواقعة عليهم اهـ. وهذا الإجمال في قوله: {فإنّه منهم} مبالغة في التّحذير من موالاتهم في وقت نزول الآية، فالله لم يرض من المسلمين يومئذٍ بأن يتولّوا اليهود والنّصارى، لأنّ ذلك يلبسهم بالمنافقين، وقد كان أمر المسلمين يومئذٍ ي حيرة إذ كان حولهم المنافقُون وضعفاء المسلمين واليهود والمشركون فكان من المتعيّن لحفظ الجامعة التّجرّد عن كلّ ما تتطرّق مِنه الرّبية إليهم.
وقد اتّفق عُلماء السنّة على أنّ ما دون الرّضا بالكفر وممالأتهم عليه من الولاية لا يُوجب الخروج من الربقة الإسلاميّة ولكنّه ضلال عظيم، وهو مراتب في القُوّة بحسب قوّة الموالاة وباختلاف أحوال المسلمين.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
لقد حذرت الآيات الثلاث الأخيرة المسلمين بشدّة من الدخول في أحلاف مع اليهود والنصارى، فالآية الأولى منها تمنع المسلمين من التحالف مع اليهود والنصارى أو الاعتماد عليهم (أي أنّ الإِيمان بالله يوجب عدم التحالف مع هؤلاء إن كان ذلك لأغراض ومصالح مادية) حيث تقول الآية: (يا أيّها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء...). وكلمة «أولياء» صيغة جمع من «ولي» وهي مشتقة من مصدر «الولاية» وهي بمعنى التقارب الوثيق بين شيئين، وقد وردت بمعنى «الصداقة» و«التحالف» و«الإِشراف». لكن بالنظر إلى سبب النّزول والقرائن الأُخرى الموجودة، فإنّ المراد ليس منع المسلمين من إقامة أي علاقات تجارية واجتماعية مع اليهود والنصارى، بل المقصود هو منع المسلمين من التحالف مع هؤلاء أو الاعتماد عليهم في مواجهة الأعداء. وكانت قضية التحالف رائجة في ذلك العصر بين العرب، وكان يطلق على ذلك «الولاء». والملفت للنظر في هذه الآية أنّها لم تعتمد تسمية «أهل الكتاب» لدى تحدثها عن اتباع الديانتين السماويتين المعروفتين، بل استخدمت كلمتي «اليهود والنّصارى» وربّما يكون هذا إِشارة إلى أنّ اليهود والنصارى لو كانوا يعملون بكتابيهم السماويين، لكان اتباع هذين الدينين خير حليفين للمسلمين، لكنّهم اتّحدوا معاً لا بأمر من كتابيهم بل لأغراض سياسية وتكتلات عنصرية وأمثال ذلك. بعد ذلك تبيّن الآية سبب هذا النهي في جملة قصيرة، وتقول بأن هاتين الطائفتين إِنّما هما أصدقاء وحلفاء أشباههما من اليهود والنصارى حيث تقول: (بعضهم أولياء بعض) أي أنّهما يهتمان بمصالحهما ومصالح أصدقائهما فقط، ولا يعيران اهتماماً لمصالح المسلمين، ولذلك فإن أي مسلم يقيم صداقة أو حلفاً مع هؤلاء فإِنّه سيصبح من حيث التقسيم الاجتماعي والديني جزءاً منهم، حيث تؤكّد الآية في هذا المجال بقولها: (ومن يتولهم منكم فإِنّه منهم). وبديهي أنّ الله لا يهدي الأفراد الظالمين الذين يرتكبون الخيانة بحق أنفسهم وإخوانهم وأخواتهم المسلمين والمسلمات، ويعتمدون على أعداء الإِسلام تقول الآية: (إِنّ الله لا يهدي القوم الظالمين).