عندئذ ، وفي هذا الموقف المكشوف ، تختبر كل نفس ما أسلفت من عمل ، وتدرك عاقبته إدراك الخبرة والتجربة :
هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت . .
وهنالك يتكشف الموقف عن رب واحد حق يرجع إليه الجميع ، وما عداه باطل :
( وردوا إلى الله مولاهم الحق ) . .
وهنالك لا يجد المشركون شيئا من دعاويهم ومزاعمهم وآلهتهم ، فكله شرد عنهم ولم يعد له وجود :
( وضل عنهم ما كانوا يفترون ) . .
وهكذا يتجلى المشهد الحي ، في ساحة الحشر ، بكل حقائقه ، وبكل وقائعه ، وبكل مؤثراته واستجاباته . تعرضه تلك الكلمات القلائل ، فتبلغ من النفس ما لا يبلغه الإخبار المجرد ، ولا براهين الجدل الطويل !
القول في تأويل قوله تعالى : { هُنَالِكَ تَبْلُواْ كُلّ نَفْسٍ مّآ أَسْلَفَتْ وَرُدّوَاْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقّ وَضَلّ عَنْهُمْ مّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } .
اختلفت القرّاء في قراءة قوله : هُنالِكَ تَبْلُو كُلّ نَفْس بالباء ، بمعنى : عند ذلك تختبر كلّ نفس بما قدّمت من خير أو شرّ . وكان ممن يقرؤه ويتأوّله كذلك مجاهد .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : هُنالكَ تَبْلُو كُلّ نَفْسٍ ما أسْلَفَتْ قال : تختبر .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
وقرأ ذلك جماعة من أهل الكوفة وبعض أهل الحجاز : «تَتْلُو كُلّ نَفْسٍ ما أسْلَفَتْ » بالتاء .
واختلف قارئو ذلك كذلك في تأويله ، فقال بعضهم : معناه وتأويله : هنالك تتبع كلّ نفس ما قدمت في الدنيا لذلك اليوم . ورُوي بنحو ذلك خبر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم من وجه وسند غير مرتضى أنه قال : «يُمَثّلُ لِكُلّ قَوْمٍ ما كانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ يَوْمَ القِيامَةِ ، فَيَتّبِعُونَهُمْ حتى يُورِدُوهُمُ النّارَ » قال : ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية : «هُنالكَ تَبْلُو كُلّ نَفْسٍ ما أسْلَفَتْ » . وقال بعضهم : بل معناه : تتلو كتاب حسناته وسيئاته ، يعني تقرأ ، كما قال جلّ ثناؤه : ونُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ القِيامَةِ كِتابا يَلْقاهُ مَنْشُورا .
وقال آخرون : تبلو : تعاين . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : هُنالكَ تَبْلُو كُلّ نَفْسٍ ما أسْلَفَتْ قال : ما عملت . تبلو : تعاينه .
والصواب من القول في ذلك أن يقال : إنهما قراءتان مشهورتان قد قرأ بكلّ واحدة منهما أئمة من القرّاء ، وهما متقاربتا المعنى وذلك أن من تبع في الاَخرة ما أسلف من العمل في الدنيا ، هجم به على مورده ، فيخبر هنالك ما أسلف من صالح أو سيىء في الدنيا ، وإن من خير من أسلف في الدنيا من أعماله في الاَخرة ، فإنما يخبر بعد مصيره إلى حيث أحله ما قدم في الدنيا من علمه ، فهو في كلتا الحالتين متبع ما أسلف من عمله مختبر له ، فبأيتهما قرأ القارىء كما وصفنا فمصيب الصواب في ذلك .
أما قوله : وَرُدّوا إلى اللّهِ مَوْلاهُمُ الحَقّ فإنه يقول : ورجع هؤلاء المشركون يومئذ إلى الله الذي هو ربهم ومالكهم الحقّ لا شكّ فيه دون ما كانوا يزعمون أنهم لهم أرباب من الاَلهة والأنداد . وَضَلّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ يقول : وبطل عنهم ما كانوا يتخرّصون من الفرية والكذب على الله بدعواهم أوثانهم أنها لله شركاء ، وأنها تقرّبهم منه زلفى . كما :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَرُدّوا إلى اللّهِ مَوْلاهُمُ الحَقّ وَضَلّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ قال : ما كانوا يدعون معه من الأنداد والاَلهة ، ما كانوا يفترون الاَلهة ، وذلك أنهم جعلوها أندادا وآلهة مع الله افتراء وكذبا .
و { هنالك } نصب على الظرف . وقرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وعاصم ، وابن عامر :[ تبلو ]بالباء بواحدة بمعنى : تختبر ، وقرأ حمزة ، والكسائي :[ تتلو ]بالتاء بنقطتين من فوق بمعنى : تتبع ، أي :تطلب وتتبع ما أسلفت من أعمالها ، ويصح أن يكون بمعنى : تقرأ كتبها التي ترفع إليها . وقرأ يحيى بن وثاب «وردوا » بكسر الراء والجمهور «وردوا إلى الله » ، أي ردوا إلى عقاب مالكهم وشديد بأسه ، فهو مولاهم في الملك والإحاطة لا في الرحمة والنصر ونحوه .
{ هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت }
تذييل وفذلكة للجمل السابقة من قوله : { والله يدعو إلى دار السلام } [ يونس : 25 ] إلى هنا . وهو اعتراض بين الجمل المتعاطفة .
والإشارة إلى المكان الذي أنبأ عنه قوله : { نَحْشرهم } [ يونس : 28 ] أي في ذلك المكان الذي نحشرهم فيه . واسم الإشارة في محل نصب على الظرفية . وعامله { تبلو } ، وقدم هذا الظرف للاهتمام به لأن الغرض الأهم من الكلام لعظم ما يقع فيه .
و { تبلو } تختبر ، وهو هنا كناية عن التحقق وعلم اليقين . و { أسلفت } قدّمتْ ، أي عملاً أسلفته . والمعنى أنها تختبر حالته وثمرته فتعرف ما هو حسن ونافع وما هو قبيح وضار إذ قد وضح لهم ما يفضي إلى النعيم بصاحبه ، وضدُه .
وقرأ الجمهور { تبلو } بموحدة بعد المثناة الفوقية . وقرأه حمزة والكسائي وخلف بمثناة فوقية بعد المثناة الأولى على أنه من التلو وهو المتابعة ، أي تتبع كل نفس ما قدمته من عمل فيسوقها إلى الجنة أو إلى النار .
{ وردوا إلى الله مولاهم الحق }
يجوز أن تكون معطوفة على جملة : { هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت } فتكون من تمام التذييل ، ويكون ضمير ( ردوا ) عائداً إلى ( كل نفس ) . ويجوز أن تكون معطوفة على قوله و { يوم نحشرهم جميعاً } [ يونس : 28 ] الآية فلا تتصل بالتذييل ، أي ونردهم إلينا ، ويكون ضمير ( ردوا ) عائداً إلى الذين أشركوا خاصة . والمعنى تحقق عندهم الحشر الذي كانوا ينكرونه . ويناسب هذا المعنى قوله : { مولاهم الحق } فإن فيه إشعاراً بالتورك عليهم بإبطال مواليهم الباطلة .
والرد : الإرجاع . والإرجاع إلى الله الإرجاع إلى تصرفه بالجزاء على ما يرضيه وما لا يرضيه وقد كانوا من قبل حين كانوا في الحياة الدنيا ممهلين غير مجازين .
والمولى : السيد ، لأن بينه وبين عبده ولاء عهد الملك . ويطلق على متولي أمور غيره وموفر شؤونه .
والحقّ : الموافق للواقع والصدق ، أي ردوا إلى الإله الحق دون الباطل . والوصف بالحق هو وصف المصدر في معنى الحاق ، أي الحاق المولوية ، أي دون الأولياء الذين زعموهم باطلاً .
هذه الجملة مختصه بالمشركين كما هو واضح .
و { ما كانوا يفترون } ما كانوا يكذبون من نسبتهم الإلهية إلى الأصنام ، فيجوز أن يكون ماصْدق ( ما ) الموصولة الأصنام ، فيكون قد حذف العائد مع حرف الجر بدون أن يجر الموصول بمثل ما جر به العائد والحق جوازه ، فالتقدير : ما كانوا يكذبون عليه أو له . وضلاله : عدم وجوده على الوصف المزعوم له .
ويجوز أن يكون ماصدق ( ما ) نفس الافتراء ، أي الافتراء الذي كانوا يفترونه . وضلاله : ظهور نَفْيِه وكذبه .