144- ولقد رأينا كيف كنت تتطلع إلى السماء عسى أن ينزل الوحي بتغيير قبلة بيت المقدس إلى الكعبة التي تحبها لأنها قبلة إبراهيم أبى الأنبياء ، وأبى اليهود والعرب ، وبها مقام إبراهيم ، فهي - لهذا - القبلة الجامعة وإن كانت تخالف قبلة اليهود ، فها نحن أولاء نؤتيك سؤلك فاستقبل في صلاتك المسجد الحرام ، واستقبلوه كذلك أيها المؤمنون في أي مكان تكونون ، وإن أهل الكتاب الذين ينكرون عليكم التحول عن قبلة بيت المقدس قد عرفوا في كتبهم أنكم أهل الكعبة ، وعلموا أن أمر الله جار على تخصيص كل شريعة بقبلة ، وأن هذا هو الحق من ربهم ، ولكنهم يريدون فتنتكم وتشكيككم في دينكم ، والله ليس غافلا عنهم وهو يجزيهم بما يعملون .
{ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ }
يقول الله لنبيه : { قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ } أي : كثرة تردده في جميع جهاته ، شوقا وانتظارا لنزول الوحي باستقبال الكعبة ، وقال : { وَجْهِكَ } ولم يقل : " بصرك " لزيادة اهتمامه ، ولأن تقليب الوجه مستلزم لتقليب البصر .
{ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ } أي : نوجهك لولايتنا إياك ، { قِبْلَةً تَرْضَاهَا } أي : تحبها ، وهي الكعبة ، وفي هذا بيان لفضله وشرفه صلى الله عليه وسلم ، حيث إن الله تعالى يسارع في رضاه ، ثم صرح له باستقبالها فقال : { فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } والوجه : ما أقبل من بدن الإنسان ، { وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ } أي : من بر وبحر ، وشرق وغرب ، جنوب وشمال . { فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ } أي : جهته .
ففيها اشتراط استقبال الكعبة ، للصلوات كلها ، فرضها ، ونفلها ، وأنه إن أمكن استقبال عينها ، وإلا فيكفي شطرها وجهتها ، وأن الالتفات بالبدن ، مبطل للصلاة ، لأن الأمر بالشيء نهي عن ضده ، ولما ذكر تعالى فيما تقدم ، المعترضين على ذلك من أهل الكتاب وغيرهم ، وذكر جوابهم ، ذكر هنا ، أن أهل الكتاب والعلم منهم ، يعلمون أنك في ذلك على حق وأمر ، لما يجدونه في كتبهم ، فيعترضون عنادا وبغيا ، فإذا كانوا يعلمون بخطئهم فلا تبالوا بذلك ، فإن الإنسان إنما يغمه اعتراض من اعترض عليه ، إذا كان الأمر مشتبها ، وكان ممكنا أن يكون معه صواب .
فأما إذا تيقن أن الصواب والحق مع المعترض عليه ، وأن المعترض معاند ، عارف ببطلان قوله ، فإنه لا محل للمبالاة ، بل ينتظر بالمعترض العقوبة الدنيوية والأخروية ، فلهذا قال تعالى : { وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ } بل يحفظ عليهم أعمالهم ، ويجازيهم عليها ، وفيها وعيد للمعترضين ، وتسلية للمؤمنين .
بعد ذلك يعلن استجابة الله لرسوله [ ص ] في أمر القبلة ؛ ويعلن عن هذه القبلة مع تحذير المسلمين من فتنة يهود ، وكشف العوامل الحقيقية الكامنة وراء حملاتهم ودسائسهم . . في صورة تكشف عن مدى الجهد الذي كان يبذل لإعداد تلك الجماعة المسلمة ، ووقايتها من البلبلة والفتنة :
قد نرى تقلب وجهك في السماء ، فلنولينك قبلة ترضاها ، فول وجهك شطر المسجد الحرام ، وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره . وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم ، وما الله بغافل عما يعملون . ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك ، وما أنت بتابع قبلتهم ، وما بعضهم بتابع قبلة بعض . ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذا لمن الظالمين . الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ، وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون . الحق من ربك فلا تكونن من الممترين . ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات ، أين ما تكونوا يأت بكم الله جميعا ، إن الله على كل شيء قدير . ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام . وإنه للحق من ربك وما الله بغافل عما تعملون . ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام ، وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره ، لئلا يكون للناس عليكم حجة . إلا الذين ظلموا منهم فلا تخشوهم واخشوني ، ولأتم نعمتي عليكم ولعلكم تهتدون . .
وفي مطلع هذه الآيات نجد تعبيرا مصورا لحالة النبي [ ص ] :
( قد نرى تقلب وجهك في السماء ) . .
وهو يشي بتلك الرغبة القوية في أن يوجهه ربه إلى قبلة غير القبلة التي كان عليها . بعدما كثر لجاج اليهود وحجاجهم ؛ ووجدوا في اتجاه الجماعة المسلمة لقبلتهم وسيلة للتمويه والتضليل والبلبلة والتلبيس . . فكان [ ص ] يقلب وجهه في السماء ، ولا يصرح بدعاء ، تأدبا مع ربه ، وتحرجا أن يقترح عليه شيئا ، أو أن يقدم بين يديه شيئا .
ولقد إجابه ربه إلى ما يرضيه . والتعبير عن هذه الاستجابة يشي بتلك الصلة الرحيمة الحانية الودود :
ثم يعين له هذه القبلة التي علم - سبحانه - أنه يرضاها :
( فول وجهك شطر المسجد الحرام ) . .
قبلة له ولأمته . من معه منها ومن يأتي من بعده إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها :
( وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره ) . .
من كل اتجاه ، في أنحاء الأرض جميعا . . قبلة واحدة تجمع هذه الأمة وتوحد بينها على اختلاف مواطنها ، واختلاف مواقعها من هذه القبلة ، واختلاف أجناسها وألسنتها وألوانها . . قبلة واحدة ، تتجه إليها الأمة الواحدة في مشارق الأرض ومغاربها . فتحس أنها جسم واحد ، وكيان واحد ، تتجه إلى هدف واحد ، وتسعى لتحقيق منهج واحد . منهج ينبثق من كونها جميعا تعبد إلها واحدا ، وتؤمن برسول واحد ، وتتجه إلى قبلة واحدة .
وهكذا وحد الله هذه الأمة . وحدها في إلهها ورسولها ودينها وقبلتها . وحدها على اختلاف المواطن والأجناس والألوان واللغات . ولم يجعل وحدتها تقوم على قاعدة من هذه القواعد كلها ؛ ولكن تقوم على عقيدتها وقبلتها ؛ ولو تفرقت في مواطنها وأجناسها وألوانها ولغاتها . . إنها الوحدة التي تليق ببني الإنسان ؛ فالإنسان يجتمع على عقيدة القلب ، وقبلة العبادة ، إذا تجمع الحيوان على المرعى والكلأ والسياج والحظيرة !
ثم . . ما شأن أهل الكتاب وهذه القبلة الجديدة ؟
( وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم ) . .
إنهم ليعلمون أن المسجد الحرام هو بيت الله الأول الذي رفع قواعده إبراهيم . جد هذه الأمة الوارثة وجد المسلمين أجمعين . وإنهم ليعلمون أن الأمر بالتوجه إليه حق من عند الله لا مرية فيه . .
ولكنهم مع هذا سيفعلون غير ما يوحيه هذا العلم الذي يعلمونه . فلا على المسلمين منهم ؛ فالله هو الوكيل الكفيل برد مكرهم وكيدهم :
( وما الله بغافل عما يعملون ) . .
إنهم لن يقتنعوا بدليل ، لأن الذي ينقصهم ليس هو الدليل ؛ إنما هو الإخلاص والتجرد من الهوى ، والاستعداد للتسليم بالحق حين يعلمونه :
القول في تأويل قوله تعالى : { قَدْ نَرَىَ تَقَلّبَ وَجْهِكَ فِي السّمَاءِ فَلَنُوَلّيَنّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنّ الّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنّهُ الْحَقّ مِن رّبّهِمْ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمّا يَعْمَلُونَ }
يعني بذلك جل ثناؤه : قد نرى يا محمد نحن تقلب وجهك في السماء . ويعني بالتقلب : التحوّل والتصرّف . ويعني بقوله : في السّماء نحو السماء وقِبَلها .
وإنما قيل له ذلك صلى الله عليه وسلم فيما بلغنا ، لأنه كان قبل تحويل قبلته من بيت المقدس إلى الكعبة يرفع بصره إلى السماء ينتظر من الله جل ثناؤه أمره بالتحويل نحو الكعبة . كما :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : قَدْ نَرَىَ تَقَلّبَ وَجْهِكَ فِي السّماءِ قال : كان صلى الله عليه وسلم يقلب وجهه في السماء يحبّ أن يصرفه الله عزّ وجلّ إلى الكعبة حتى صرفه الله إليها .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : قَدْ نَرَىَ تَقَلّبَ وَجْهِكَ فِي السّماءِ فكان نبيّ الله صلى الله عليه وسلم يصلي نحو بيت المقدس ، يَهْوَى ويشتهي القبلة نحو البيت الحرام ، فوجهه الله جل ثناؤه لقبلة كان يهواها ويشتهيها .
حدثنا المثنى ، قال : حدثني إسحاق ، قال : حدثني ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : قَدْ نَرَىَ تَقَلّبَ وَجْهِكَ فِي السّماءِ يقول : نظرك في السماء . وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم يقلب وجهه في الصلاة وهو يصلي نحو بيت المقدس ، وكان يَهْوَى قبلة البيت الحرام ، فولاه الله قبلة كان يهواها .
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، قال : كان الناس يصلون قِبَل بيت المقدس ، فلما قدم النبيّ صلى الله عليه وسلم المدينة على رأس ثمانية عشر شهرا من مهاجره ، كان إذا صلى رفع رأسه إلى السماء ينظر ما يؤمر ، وكان يصلي قبل بيت المقدس . فنسختها الكعبة ، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يحبّ أن يصلي قِبَل الكعبة ، فأنزل الله جل ثناؤه : قَدْ نَرَىَ تَقَلّبَ وَجْهِكَ فِي السّماءِ الآية .
ثم اختلف في السبب الذي من أجله كان صلى الله عليه وسلم يهوى قبلة الكعبة .
قال بعضهم : كره قبلة بيت المقدس ، من أجل أن اليهود قالوا : يتبع قبلتنا ويخالفنا في ديننا . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قال : قالت اليهود : يخالفنا محمد ، ويتبع قبلتنا فكان يدعو الله جل ثناؤه ، ويستفرض للقبلة ، فنزلت : قَدْ نَرَىَ تَقَلّبَ وَجْهِكَ فِي السّمَاءِ فَلَنُوَلّيَنّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرَامِ وانقطع قول يهود : يخالفنا ويتبع قبلتنا في صلاة الظهر ، فجعل الرجال مكان النساء ، والنساء مكان الرجال .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : سمعته ، يعني ابن زيد يقول : قال الله تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : فأيْنَمَا تُوَلّوا فَثَمّ وَجْهُ الله قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «هَؤُلاَءِ قَوْمُ يَهُودَ يَسْتَقْبِلُونَ بَيْتا مِنْ بُيُوتِ اللّهِ » لبيت المقدس «لو أنا اسْتَقْبَلْنَاهُ » ، فاستقبله النبيّ صلى الله عليه وسلم ستة عشر شهرا ، فبلغه أن يهود تقول : والله ما درى محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه أين قبلتهم حتى هديناهم . فكره ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ، ورفع وجهه إلى السماء ، فقال الله جل ثناؤه : قَدْ نَرَىَ تَقَلّبَ وَجْهِكَ فِي السّمَاءِ فَلَنُوَلّيَنّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرَامِ الآية .
وقال آخرون : بل كان يَهْوَى ذلك من أجل أنه كان قبلة أبيه إبراهيم عليه السلام . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : حدثنا معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة وكان أكثر أهلها اليهود أمره الله عزّ وجل أن يستقبل بيت المقدس ، ففرحت اليهود ، فاستقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم ستة عشر شهرا . فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبّ قبلة إبراهيم ، فكان يدعو وينظر إلى السماء ، فأنزل الله عزّ وجل : قَدْ نَرَىَ تَقَلّبَ وَجْهِكَ فِي السّمَاءِ . . . الآية .
فأما قوله : فَلَنُوَلّيَنّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فإنه يعني : فلنصرفنك عن بيت المقدس إلى قبلة ترضاها ، تهواها وتحبها .
وأما قوله : فَوَلّ وَجْهَكَ يعني اصرف وجهك وحوّله . وقوله : شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرَامِ يعني بالشطر : النحو والقصد والتلقاء ، كما قال الهذلي :
إنّ العَسِير بِهَا دَاءٌ مُخامِرُها فَشَطْرَها نَظَرُ العَيْنَيْن مَحْسُورُ
يعني بقوله شطرها : نحوها . وكما قال ابن أحمر :
تَعْدُو بِنا شَطْرَ جَمْعٍ وهْيَ عاقِدَةٌ قَدْ كارَبَ العَقْدُ مِنْ إيفَادِها الحَقَبا
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني سفيان بن وكيع ، قال : حدثنا أبيّ ، عن سفيان ، عن داود بن أبي هند ، عن ابن أبي العالية : شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرَام يعني تلقاءه .
وحدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرَامِ نحوه .
حدثنا محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرَامِ نحوه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، عن سعيد ، عن قتادة : فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرَامِ أي تلقاء المسجد الحرام .
حدثنا الحسين بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرَامِ قال : نحو المسجد الحرام .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرَامِ أي تلقاءه .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، قال : قال ابن جريج : أخبرني عمرو بن دينار ، عن ابن عباس أنه قال : شطره : نحوه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحماني ، قال : حدثنا شريك ، عن أبي إسحاق ، عن البراء : فَوَلّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ قال : قِبَله .
حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : شَطْرَهُ ناحيته جانبه ، قال : وجوانبه : شطوره .
ثم اختلفوا في المكان الذي أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يولي وجهه إليه من المسجد الحرام .
فقال بعضهم : القبلة التي حوّل إليها النبي صلى الله عليه وسلم وعناها الله تعالى ذكره بقوله : فَلَنُوَلّيَنّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا حيال ميزاب الكعبة . ذكر من قال ذلك :
حدثني عبد الله بن أبي زياد ، قال : حدثنا عثمان ، قال : أنا شعبة ، عن يعلى بن عطاء ، عن يحيى بن قمطة ، عن عبد الله بن عمرو : فَلَنُوَلّيَنّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا حيال ميزاب الكعبة .
وحدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : حدثنا هشيم ، عن يعلى بن عطاء ، عن يحيى بن قمطة ، قال : رأيت عبد الله بن عمرو جالسا في المسجد الحرام بإزاء الميزاب ، وتلا هذه الآية : فَلَنُوَلّيَنّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا قال : هذه القبلة هي هذه القبلة .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا هشيم بإسناده عن عبد الله بن عمرو نحوه ، إلا أنه قال : استقبل الميزاب فقال : هذا القبلة التي قال الله لنبيه : فَلَنُوَلّيَنّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا .
وقال آخرون : بل ذلك البيت كله قبلة ، وقبلة البيت الباب . ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : البيت كله قبلة ، وهذه قبلة البيت ، يعني التي فيها الباب .
والصواب من القول في ذلك عندي ما قال الله جل ثناؤه : فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الْحَرَامِ فالمولّي وجهه شطر المسجد الحرام هو المصيب القبلة . وإنما على من توجه إليه النية بقلبه أنه إليه متوجه ، كما أن على من ائتمّ بإمام فإنما عليه الائتمام به وإن لم يكن محاذيا بدنه بدنه ، وإن كان في طرف الصف والإمام في طرف آخر عن يمينه أو عن يساره ، بعد أن يكون من خلفه مؤتما به مصليا إلى الوجه الذي يصلي إليه الإمام . فكذلك حكم القبلة ، وإن لم يكن يحاذيها كل مصلّ ومتوجه إليها ببدنه غير أنه متوجه إليها ، فإن كان عن يمينها أو عن يسارها مقابلها فهو مستقبلها بعد ما بينه وبينها ، أو قرب من عن يمينها أو عن يسارها بعد أن يكون غير مستدبرها ولا منحرف عنها ببدنه ووجهه . كما :
حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي ، قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري ، قال : أخبرنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن عميرة بن زياد الكندي ، عن عليّ : فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرَامِ قال : شطره قِبَله .
قال أبو جعفر : وقبلة البيت : بابه . كما :
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، والفضل بن الصباح ، قالا : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا عبد الملك ، عن عطاء قال : قال أسامة بن زيد : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرج من البيت أقبل بوجهه إلى الباب فقال : «هَذِهِ القِبْلَةُ ، هَذِهِ القِبْلَةُ » .
حدثنا ابن حميد وسفيان بن وكيع قالا : حدثنا جرير ، عن عبد الملك بن أبي سليمان ، عن عطاء ، قال : حدثني أسامة بن زيد ، قال : خرج النبيّ صلى الله عليه وسلم من البيت ، فصلى ركعتين مستقبلاً بوجهه الكعبة ، فقال : «هذه القِبْلَةُ » مرّتين .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عبد الرحيم بن سليمان ، عن عبد الملك ، عن عطاء ، عن أسامة بن زيد ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحوه .
حدثنا سعيد بن يحيى الأموي ، قال : حدثنا أبيّ ، قال : حدثنا ابن جريج ، قال : قلت لعطاء : سمعت ابن عباس يقول : إنما أمرتم بالطواف ، ولم تؤمروا بدخوله . قال : لم يكن ينهى عن دخوله ، ولكني سمعته يقول : أخبرني أسامة بن زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دخل البيت دعا في نواحيه كلها ، ولم يصلّ حتى خرج ، فلما خرج ركع في قبل القبلة ركعتين وقال : «هذه القِبْلَةُ » .
قال أبو جعفر : فأخبر صلى الله عليه وسلم أن البيت هو القبلة ، وأن قبلة البيت بابه .
القول في تأويل قوله تعالى : وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ .
يعني جل ثناؤه بذلك : فأينما كنتم من الأرض أيها المؤمنون فحوّلوا وجوهكم في صلاتكم نحو المسجد الحرام وتلقاءه . والهاء التي في «شطره » عائدة إلى المسجد الحرام .
فأوجب جلّ ثناؤه بهذه الآية على المؤمنين فرض التوجه نحو المسجد الحرام في صلاتهم حيث كانوا من أرض الله تبارك وتعالى . وأدخلت الفاء في قوله : فَوَلّوا جوابا للجزاء ، وذلك أن قوله : حَيْثُمَا كُنْتُمْ جزاء ، ومعناه : حيثما تكونوا فولّوا وجوهكم شطره .
القول في تأويل قوله تعالى : وَإنّ الّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أنّهُ الحَقّ مِنْ رَبّهِمْ .
يعني بقوله جل ثناؤه : وإن الذين أوتوا الكتاب أحبار اليهود وعلماء النصارى . وقد قيل إنما عنى بذلك اليهود خاصة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : وَإنّ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ أنزل ذلك في اليهود . وقوله : لَيَعْلَمُونَ أنّهُ الحَقّ مِنْ رَبّهِمْ يعني هؤلاء الأحبار والعلماء من أهل الكتاب ، يعلمون أن التوجه نحو المسجد الحقّ الذي فرضه الله عزّ وجلّ على إبراهيم وذرّيته وسائر عباده بعده .
ويعني بقوله : مِنْ رَبّهِمْ أنه الفرض الواجب على عباد الله تعالى ذكره ، وهو الحقّ من عند ربهم فرضه عليهم .
القول في تأويل قوله تعالى : وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ .
يعني بذلك تبارك وتعالى : وليس الله بغافل عما تعملون أيها المؤمنون في اتباعكم أمره وانتهائكم إلى طاعته فيما ألزمكم من فرائضه وإيمانكم به في صلاتكم نحو بيت المقدس ثم صلاتكم من بعد ذلك شطر المسجد الحرام ، ولا هو ساهٍ عنه ، ولكنه جل ثناؤه يحصيه لكم ويدّخره لكم عنده حتى يجازيكم به أحسن جزاء ، ويثيبكم عليه أفضل ثواب .
{ قد نرى } ربما نرى { تقلب وجهك في السماء } تردد وجهك في جهة السماء تطلعا للوحي ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقع في روعه ويتوقع من ربه أن يحوله إلى الكعبة ، لأنها قبلة أبيه إبراهيم ، وأقدم القبلتين وأدعى للعرب إلى الإيمان ، ولمخالفة اليهود ، وذلك يدل على كمال أدبه حيث انتظر ولم يسأل { فلنولينك قبلة } فلنمكننك من استقبالها من قولك : وليته كذا ، إذا صيرته واليا له ، أو فلنجعلنك تلي جهتها { ترضاها } تحبها وتتشوق إليها ، لمقاصد دينية وافقت مشيئة الله وحكمته . { فول وجهك } اصرف وجهك . { شطر المسجد الحرام } نحوه . وقيل : الشطر في الأصل لما انفصل عن الشيء إذا انفصل ، ودار شطور : أي منفصلة عن الدور ، ثم استعمل لجانبه ، وإن لم ينفصل كالقطر ، والحرام المحرم أي محرم فيه القتال ، أو ممنوع من الظلمة أن يتعرضوه ، وإنما ذكر المسجد دون الكعبة لأن عليه الصلاة والسلام كان في المدينة ، والبعيد يكفيه مراعاة الجهة ، فإن استقبال عينها حرج عليه بخلا القريب . روي : أنه عليه الصلاة والسلام قدم المدينة ، فصلى نحو بيت المقدس ستة عشر شهرا ، ثم وجه إلى الكعبة في رجب بعد الزوال قبل قتال بدر بشهرين . وقد صلى بأصحابه في مسجد بني سلمة ركعتين من الظهر ، فتحول في الصلاة واستقبل الميزاب ، وتبادل الرجال والنساء صفوفهم ، فسمي المسجد مسجد القبلتين . { وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره } خص الرسول بالخطاب تعظيما له وإيجابا لرغبته ، ثم عمم تصريحا بعموم الحكم وتأكيدا لأمر القبلة وتضيضا للأمة على المتابعة . { وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم } جملة لعلمهم بأن عادته تعالى تخصيص كل شريعة بقبلة ، وتفصيلا لتضمن كتبهم أنه صلى الله عليه وسلم يصلي إلى القبلتين ، والضمير للتحويل أو التوجه { وما الله بغافل عما تعملون } وعد ووعيد للفريقين . وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي بالياء .