6- ألم يعلموا أننا أهلكنا أُمماً كثيرة قبلهم ، أعطيناهم من أسباب القوة والبقاء في الأرض ما لم نعطكم إياه - أيها الكافرون - ووسعنا عليهم في الرزق والنعيم ، فأنزلنا عليهم الأمطار غزيرة ينتفعون بها في حياتهم ، وجعلنا مياه الأنهار تجري من تحت قصورهم ، فلم يشكروا هذه النعم . فأهلكناهم بسبب شركهم وكثرة ذنوبهم ، وأوجدنا - من بعد - أناساً غيرهم خيراً منهم .
ثم أمرهم أن يعتبروا بالأمم السالفة فقال : { أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ } أي : كم تتابع إهلاكنا للأمم المكذبين ، وأمهلناهم قبل ذلك الإهلاك ، بأن { مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ } لهؤلاء من الأموال والبنين والرفاهية .
{ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ } فينبت لهم بذلك ما شاء الله ، من زروع وثمار ، يتمتعون بها ، ويتناولون منها ما يشتهون ، فلم يشكروا الله على نعمه ، بل أقبلوا على الشهوات ، وألهتهم أنواع اللذات ، فجاءتهم رسلهم بالبينات ، فلم يصدقوها ، بل ردوها وكذبوها فأهلكهم الله بذنوبهم وأنشأ { مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ }
فهذه سنة الله ودأبه ، في الأمم السابقين واللاحقين ، فاعتبروا بمن قص الله عليكم نبأهم .
وفي موقف التهديد يلفت أعناقهم وأنظارهم وقلوبهم وأعصابهم إلى مصارع المكذبين من قبلهم - وقد كانوا يعرفون بعضها في دور عاد بالأحقاف وثمود بالحجر ، وكانت أطلالهم باقية يمر عليها العرب في رحلة الشتاء للجنوب وفي رحلة الصيف للشمال ، كما كانوا يمرون بقرى لوط المخسوفة ويعرفون ما يتناقله المحيطون بها من أحاديث - فالسياق يلفتهم إلى هذه المصارع وبعضها منهم قريب .
( ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم ، وأرسلنا السماء عليهم مدرارا ، وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم . فأهلكناهم بذنوبهم ، وأنشأنا من بعدهم قرنا آخرين ) .
ألم يروا إلى مصارع الأجيال الغابرة . وقد مكنهم الله في الأرض ، وأعطاهم من أسباب القوة والسلطان ما لم يعط مثله للمخاطبين من قريش في الجزيرة ؛ وأرسل المطر عليهم متتابعا ينشىء في حياتهم الخصب والنماء ويفيض عليهم من الأرزاق . . ثم ماذا ؟ ثم عصوا ربهم ، فأخذهم الله بذنوبهم ، وأنشأ من بعدهم جيلا آخر ، ورث الأرض من بعدهم ؛ ومضوا هم لا تحفل بهم الأرض ! فقد ورثها قوم آخرون ! فما أهون المكذبين المعرضين أصحاب القوة والتمكين من البشر َ ! ما أهونهم على الله ؛ وما أهونهم على هذه الأرض أيضا ! لقد أهلكوا وغبروا فما أحست هذه الأرض بالخلاء والخواء ؛ إنما عمرها جيل آخر ؛ ومضت الأرض في دورتها كأن لم يكن هنا سكان ؛ ومضت الحياة في حركتها كأن لم يكن هنا أحياء !
وهي حقيقة ينساها البشر حين يمكن الله لهم في الأرض . ينسون أن هذا التمكين إنما تم بمشيئة الله ، ليبلوهم فيه : أيقومون عليه بعهد الله وشرطه ، من العبودية له وحده ، والتلقي منه وحده - بما أنه هو صاحب الملك وهم مستخلفون فيه - أم يجعلون من أنفسهم طواغيت ، تدعي حقوق الألوهية وخصائصها ؛ ويتصرفون فيما استخلفوا فيه تصرف المالك لا المستخلف .
إنها حقيقة ينساها البشر - إلا من عصم الله - وعندئذ ينحرفون عن عهد الله وعن شرط الاستخلاف ؛ ويمضون على غير سنة الله ؛ ولا يتبين لهم في أول الطريق عواقب هذا الانحراف ، ويقع الفساد رويدا رويدا وهم ينزلقون ولا يشعرون . . حتى يستوفي الكتاب أجله ؛ ويحق وعد الله . . ثم تختلف أشكال النهاية : مرة يأخذهم الله بعذاب الاستئصال - بعذاب من فوقهم أو من تحت أرجلهم كما وقع لكثير من الأقوام - ومرة يأخذهم بالسنين ونقص الأنفس والثمرات كما حدث كذلك لأقوام - ومرة يأخذهم بأن يذيق بعضهم بأس بعض ؛ فيعذب بعضهم بعضا ، ويدمر بعضهم بعضا ، ويؤذي بعضهم بعضا ، ولا يعود بعضهم يأمن بعضا ؛ فتضعف شوكتهم في النهاية ؛ ويسلط الله عليهم عبادا له - طائعين أو عصاة - يخضدون شوكتهم ، ويقتلعونهم مما مكنوا فيه ؛ ثم يستخلف الله العباد الجدد ليبتليهم بما مكنهم . . وهكذا تمضي دورة السنة . . السعيد من وعى أنها السنة ، ومن وعى أنه الابتلاء ؛ فعمل بعهد الله فيما استخلف فيه . والشقي من غفل عن هذه الحقيقة ، وظن أنه أوتيها بعلمه ، أو أوتيها بحيلته ، أو أوتيها جزافا بلا تدبير !
وإنه لما يخدع الناس أن يروا الفاجر الطاغي ، أو المستهتر الفاسد ، أو الملحد الكافر ، ممكنا له في الأرض ، غير مأخوذ من الله . . ولكن الناس إنما يستعجلون . . إنهم يرون أول الطريق أو وسطه ؛ ولا يرون نهاية الطريق . . ونهاية الطريق لا ترى إلا بعد أن تجيء ! لا ترى إلا في مصارع الغابرين بعد أن يصبحوا أحاديث . . والقرآن الكريم يوجه إلى هذه المصارع ليتنبه المخدوعون الذين لا يرون - في حياتهم الفردية القصيرة - نهاية الطريق ؛ فيخدعهم ما يرون في حياتهم القصيرة ويحسبونه نهاية الطريق !
إن هذا النص في القرآن : ( فأهلكناهم بذنوبهم ) . . وما يماثله ، وهو يتكرر كثيرا في القرآن الكريم . . إنما يقرر حقيقة ، ويقرر سنة ، ويقرر طرفا من التفسير الإسلامي لأحداث التاريخ . .
إنه يقرر حقيقة أن الذنوب تهلك أصحابها ، وأن الله هو الذي يهلك المذنبين بذنوبهم ؛ وأن هذه سنة ماضية - ولو لم يرها فرد في عمره القصير ، أو جيل في أجله المحدود - ولكنها سنة تصير إليها الأمم حين تفشو فيها الذنوب ؛ وحين تقوم حياتها على الذنوب . . كذلك هي جانب من التفسير الإسلامي للتاريخ : فإن هلاك الأجيال واستخلاف الأجيال ؛ من عوامله ، فعل الذنوب في جسم الأمم ؛ وتأثيرها في إنشاء حالة تنتهي إلى الدمار ؛ إما بقارعة من الله عاجلة - كما كان يحدث في التاريخ القديم - وإما بالانحلال البطيء الفطري الطبيعي ، الذي يسري في كيان الأمم - مع الزمن - وهي توغل في متاهة الذنوب !
وأمامنا في التاريخ القريب - نسبيا - الشواهد الكافية على فعل الانحلال الأخلاقي ، والدعارة الفاشية ، واتخاذ المرأة فتنة وزينة ، والترف والرخاوة ، والتلهي بالنعيم . . أمامنا الشواهد الكافية من فعل هذا كله في انهيار الإغريق والرومان - وقد أصبحوا أحاديث - وفي الانهيار الذي تتجلى أوائله ، وتلوح نهايته في الأفق في أمم معاصرة ، كفرنسا وانجلترا كذلك - على الرغم من القوة الظاهرة والثراء العريض .
إن التفسير المادي للتاريخ يحذف هذا الجانب حذفا باتا من تفسيره لأطوار الأمم وأحداث التاريخ ، ذلك أن وجهته ابتداء هي استبعاد العنصر الأخلاقي من الحياة ، واستعباد القاعدة الاعتقادية التي يقوم عليها . . ولكن هذا التفسير يضطر إلى مماحكات مضحكة في تفسير أحداث وأطوار في حياة البشرية لا سبيل إلى تفسيرها إلا على أساس القاعدة الاعتقادية .
والتفسير الإسلامي - بشمولة وجديته وصدقه وواقعيته - لا يغفل أثر العناصر المادية - التي يجعلها التفسير . المادي هي كل شيء - ولكنه يعطيها مكانها الذي تستحقه في رقعة الحياة العريضة ؛ ويبرز العناصر الفعالة الأخرى التي لا ينكرها إلا أصحاب العناد الصفيق لواقعيات الوجود . . يبرز قدر الله من وراء كل شيء ؛ ويبرز التغير الداخلي في الضمائر والمشاعر والعقائد والتصورات ؛ ويبرز السلوك الواقعي والعنصر الأخلاقي . .
ولا يغفل عاملا واحدا من العوامل التي تجري بها سنة الله في الحياة . .
{ أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مّن قَرْنٍ مّكّنّاهُمْ فِي الأرْضِ مَا لَمْ نُمَكّن لّكُمْ وَأَرْسَلْنَا السّمَآءَ عَلَيْهِم مّدْرَاراً وَجَعَلْنَا الأنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ } . .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : ألم ير هؤلاء المكذّبون بآياتي الجاحدون نبوّتك ، كثرة من أهلكت من قبلهم من القرون ، وهم الأمم الذين وطأت لهم البلاد والأرض وطأة لم أوطئها لكم ، وأعطيتهم فيها ما لم أعطكم . كما :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : مَكّنّاهُمْ فِي الأرْضِ مَا لَمْ نُمَكّنْ لَكُمْ يقول : أعطيناهم ما لم نعطكم .
قال أبو جعفر : أمطرت فأخرجت لهم الأشجار ثمارها ، وأعطتهم الأرض رَيْع نباتها ، وجابوا صخور جبالها ، ودرّت عليهم السماء بأمطارها ، وتفجرت من تحتهم عيون المياه بينابيعها بإذني ، فغمطوا نعمة ربهم وعصوا رسول خالقهم وخالفوا أمر بارئهم ، وبغوا حتى حُقّ عليهم قولي ، فأخذتهم بما اجترحوا من ذنوبهم وعاقبتهم بما اكتسبت أيديهم ، وأهلكت بعضهم بالرجفة وبعضهم بالصيحة وغير ذلك من أنواع العذاب .
ومعنى قوله : وأرْسَلْنَا السّماءَ عَلَيْهِمْ مِدرَارا المطر ، ويعني بقوله : «مدرارا » : غزيرة دائمة . وأنْشَأْنَا مِنَ بَعْدِهِمْ قَرْنا آخَرِينَ يقول وأحدثنا من بعدهم الذين أهلكناهم قرنا آخرين فابتدأنا سواهم .
فإن قال قائل : فما وجه قوله : مَكنّاهُمْ فَي الأرْضِ ما لَمْ نُمَكّنْ لَكُمْ ومن المخاطب بذلك ؟ فقد ابتدأ الخبر في أوّل الاَية عن قوم غيب بقوله : ألَمْ يَرَوْا كَم أهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ ؟ قيل : إن المخاطب بقوله : ما لَمْ نُمَكّنْ لَكُمْ هو المخبر عنهم بقوله : ألَمْ يَرَوُا كَمْ أهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ ولكن في الخبر معنى القول ، ومعناه : قل يا محمد لهؤلاء القوم الذين كذّبوا بالحقّ لما جاءهم : ألَمْ يَرَوْا كَمْ أهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَنّاهُمْ في الأرْضِ ما لَمْ نُمْكّنْ لَكُمْ . والعرب إذا أخبرت خبرا عن غائب وأدخلت فيه قولاً فعلت ذلك فوجهت الخبر أحيانا إلى الخبر عن الغائب ، وأحيانا إلى الخطاب ، فتقول : قلت لعبد الله : ما أكرمه ، وقلت لعبد الله : ما أكرمك ، وتخبر عنه أحيانا على وجه الخبر عن الغائب ثم تعود إلى الخطاب ، وتخبر على وجه الخطاب له ثم تعود إلى الخبر عن الغائب . وذلك في كلامها وأشعارها كثير فاش وقد ذكرنا بعض ذلك فيما مضى بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع . وقد كان بعض نحوي البصرة يقول في ذلك : كأنه أخبر النبي صلى الله عليه وسلم ثم خاطبه معهم وقال : حتى إذَا كُنْتُمْ فِي الفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيّبَةٍ فجاء بلفظ الغائب وهو يخاطب ، لأنه المخاطب .
{ ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن } أي من أهل زمان ، والقرن مدة أغلب أعمار الناس وهي سبعون سنة . وقيل ثمانون . وقيل القرن أهل عصر فيه نبي أو فائق في العلم . قلت المدة أو كثرت واشتقاقه من قرنت . { مكناهم في الأرض } جعلنا لهم فيها مكانا وقررناهم فيها وأعطيناهم من القوى والآلات ما تمكنوا بها من أنواع التصرف فيها . { ما لم نمكن لكم } ما لم نجعل لكم من السعة وطول المقام يا أهل مكة ما لم نعطكم من القوة والسعة في المال والاستظهار في العدد والأسباب . { وأرسلنا السماء عليهم } أي المطر أو السحاب ، أو المظلة إن مبدأ المطر منها . { مدرارا } أي مغزارا . { وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم } فعاشوا في الخصب والريف بين الأنهار والثمار . { فأهلكناهم بذنوبهم } أي لم يغن ذلك عنهم شيئا . { وأنشأنا } وأحدثنا . { من بعدهم قرنا آخرين } بدلا منهم ، والمعنى أنه سبحانه وتعالى كما قدر على أن يهلك من قبلكم كعاد وثمود وينشئ مكانهم يعمر به بلاده يقدر أن يفعل ذلك بكم .