المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{وَمَا كَانَ لِمُؤۡمِنٍ أَن يَقۡتُلَ مُؤۡمِنًا إِلَّا خَطَـٔٗاۚ وَمَن قَتَلَ مُؤۡمِنًا خَطَـٔٗا فَتَحۡرِيرُ رَقَبَةٖ مُّؤۡمِنَةٖ وَدِيَةٞ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰٓ أَهۡلِهِۦٓ إِلَّآ أَن يَصَّدَّقُواْۚ فَإِن كَانَ مِن قَوۡمٍ عَدُوّٖ لَّكُمۡ وَهُوَ مُؤۡمِنٞ فَتَحۡرِيرُ رَقَبَةٖ مُّؤۡمِنَةٖۖ وَإِن كَانَ مِن قَوۡمِۭ بَيۡنَكُمۡ وَبَيۡنَهُم مِّيثَٰقٞ فَدِيَةٞ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰٓ أَهۡلِهِۦ وَتَحۡرِيرُ رَقَبَةٖ مُّؤۡمِنَةٖۖ فَمَن لَّمۡ يَجِدۡ فَصِيَامُ شَهۡرَيۡنِ مُتَتَابِعَيۡنِ تَوۡبَةٗ مِّنَ ٱللَّهِۗ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمٗا} (92)

92- إن تقسيم المنافقين ذلك التقسيم للاحتياط ، حتى لا يُقْتَل مؤمن على ظن أنه منافق ، لأن قتل المؤمن لا يجوز إلا أن يقع ذلك خطأ غير مقصود ، وفي حال قتل المؤمن خطأ إن كان يعيش في ولاية الدولة الإسلامية تدفع الدية لأهله تعويضاً عما فقدوه ، وتعتق رقبة مؤمنة ليعوض جماعة المؤمنين عما فقدت ، لأن عتق الرقبة المؤمنة إحياء لها بالحرية ، فكأنه يكتفي بتحرير رقبة مؤمنة ليعوض المؤمنين عن فقده{[43]} وإن كان ينتمي لقوم بينهم وبين المسلمين معاهدة سلم ، فإنه يجب تحرير رقبة مؤمنة ، وتسليم الدية لأهل المقتول ، لأنهم لعهدهم لا يتخذونها لإيذاء المسلمين ، وإذا كان القاتل خطأ لا يجد رقبة مؤمنة يعتقها ، فإنه يصوم شهرين متتابعين لا يفطر يوما فيهما ، لأن ذلك يكون تهذيباً لنفسه وتربية لها على الاحتراس ، واللَّه - سبحانه وتعالى - عليم بالنفوس والنيات ، حكيم يضع العقوبات في مواضعها .


[43]:لم يسو الشارع بين عقوبة القتل الخطأ والقتل العمد ذلك، لأن الجاني في القتل العمد تعمد العصيان بالفعل والقلب، وعلى ذلك فجريمته مغلظة مما يناسبها شدة العقوبة. أما في القتل الخطأ فإن الجاني لم يتعمد العصيان بقلبه بل تعلق العصيان بفعله، وهذا من الشريعة الإسلامية تنويع للمسئولية الجنائية بحسب نوع العصيان. والآية الكريمة بينت ما يوقع على القاتل خطأ فذكرت الكفارة وهي تحرير رقبة مؤمنة والصيام عند عدم وجود الرقبة المؤمنة، والكفارة تدور بين العقوبة والعبادة، والذي يتحمل هذه الكفارة هو الجاني، وهذا فيه إيلام له وتهذيب وتقرب إلى الله حتى يتوب عليه مما فعل. وهذا كله لا يمنع ولي الأمر من تعزير الجاني بالعقوبة التي يراها إذا وجد في ذلك مصلحة، إذ الجرم في القتل الخطأ ثابت حتى من الآية الكريمة، فقد جاء في نهايتها عقوبة من الله. بقي أن الجزاءات الواردة من كفارة ودية مشروعة من العلي القدير لقبول التوبة من الله ـ تعالى ـ وفي هذا إشارة إلى ما وقع فيه القاتل خطأ من تقصير بترك الاحتياط ولذلك يقول الفقهاء: إن القتل الخطأ لا يأثم إثم القتل وإنما يأثم إثم ترك التحرز والمبالغة في التثبت، لأن الأفعال المباحة لا تجوز مباشرتها إلا بشرط أن لا تؤذي أحدا، فإذا أذى أحدا فقد تحقق ترك التحرز فيكون فعله آثما يستوجب العقوبة (الزيلعي ج6 ص101). وهذه الأجزية جميعا تتفق مع ما يتمثل في القتل الخطأ من ضرر جسيم يدعو الشارع لوضع الزواجر عليه، وبمقارنة ذلك بالتشريعات الوضعية تجد البون شاسعا حتى أن الناس لم يعودوا يخافون العقاب مما أدى لكثرة هذا النوع من الجرائم، ولحصول حوادث صارخة دفعت الكثير إلى أن ينادوا بتشديد عقاب القتل الخطأ، ولو اتبع الناس تشريع القرآن لأدى ذلك إلى تعويض أهل القتيل بما يخفف عليهم الآلام النفسية والخسارة المادية، وإلى زجر الجاني بما يبذل من كفارة فضلا عن الدية التي عليه وعلى العاقلة وإلى دفع الناس إلى منع بعضهم بعضا من ارتكاب الخطأ الذي قد يسبب القتل.
 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَمَا كَانَ لِمُؤۡمِنٍ أَن يَقۡتُلَ مُؤۡمِنًا إِلَّا خَطَـٔٗاۚ وَمَن قَتَلَ مُؤۡمِنًا خَطَـٔٗا فَتَحۡرِيرُ رَقَبَةٖ مُّؤۡمِنَةٖ وَدِيَةٞ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰٓ أَهۡلِهِۦٓ إِلَّآ أَن يَصَّدَّقُواْۚ فَإِن كَانَ مِن قَوۡمٍ عَدُوّٖ لَّكُمۡ وَهُوَ مُؤۡمِنٞ فَتَحۡرِيرُ رَقَبَةٖ مُّؤۡمِنَةٖۖ وَإِن كَانَ مِن قَوۡمِۭ بَيۡنَكُمۡ وَبَيۡنَهُم مِّيثَٰقٞ فَدِيَةٞ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰٓ أَهۡلِهِۦ وَتَحۡرِيرُ رَقَبَةٖ مُّؤۡمِنَةٖۖ فَمَن لَّمۡ يَجِدۡ فَصِيَامُ شَهۡرَيۡنِ مُتَتَابِعَيۡنِ تَوۡبَةٗ مِّنَ ٱللَّهِۗ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمٗا} (92)

{ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا }

هذه الصيغة من صيغ الامتناع ، أي : يمتنع ويستحيل أن يصدر من مؤمن قتل مؤمن ، أي : متعمدا ، وفي هذا الإخبارُ بشدة تحريمه وأنه مناف للإيمان أشد منافاة ، وإنما يصدر ذلك إما من كافر ، أو من فاسق قد نقص إيمانه نقصا عظيما ، ويخشى عليه ما هو أكبر من ذلك ، فإن الإيمان الصحيح يمنع المؤمن من قتل أخيه الذي قد عقد الله بينه وبينه الأخوة الإيمانية التي من مقتضاها محبته وموالاته ، وإزالة ما يعرض لأخيه من الأذى ، وأي أذى أشد من القتل ؟ وهذا يصدقه قوله صلى الله عليه وسلم : " لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض "

فعلم أن القتل من الكفر العملي وأكبر الكبائر بعد الشرك بالله .

ولما كان قوله : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا } لفظا عاما لجميع الأحوال ، وأنه لا يصدر منه قتل أخيه بوجه من الوجوه ، استثنى تعالى قتل الخطأ فقال : { إِلَّا خَطَأً } فإن المخطئ الذي لا يقصد القتل غير آثم ، ولا مجترئ على محارم الله ، ولكنه لما كان قد فعل فعلاً شنيعًا وصورته كافية في قبحه وإن لم يقصده أمر تعالى بالكفارة والدية فقال :

{ وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً } سواء كان القاتل ذكرًا أو أنثى حرًّا أو عبدًا ، صغيرًا أو كبيرًا ، عاقلاً أو مجنونًا ، مسلمًا أو كافرًا ، كما يفيده لفظ " مَنْ " الدالة على العموم وهذا من أسرار الإتيان ب " مَنْ " في هذا الموضع ، فإن سياق الكلام يقتضي أن يقول : فإن قتله ، ولكن هذا لفظ لا يشمل ما تشمله " مَنْ " وسواء كان المقتول ذكرًا أو أنثى ، صغيرًا أو كبيرًا ، كما يفيده التنكير في سياق الشرط ، فإن على القاتل { تحرير رقبة مؤمنة } كفارة لذلك ، تكون في ماله ، ويشمل ذلك الصغير والكبير ، والذكر والأنثى ، والصحيح والمعيب ، في قول بعض العلماء .

ولكن الحكمة تقتضي أن لا يجزئ عتق المعيب في الكفارة ؛ لأن المقصود بالعتق نفع العتيق ، وتمليكه منافع نفسه ، فإذا كان يضيع بعتقه ، وبقاؤه في الرق أنفع له فإنه لا يجزئ عتقه ، مع أن في قوله : { تحرير رقبة } ما يدل على ذلك ؛ فإن التحرير : تخليص من استحقت منافعه لغيره أن تكون له ، فإذا لم يكن فيه منافع لم يتصور وجود التحرير . فتأمل ذلك فإنه واضح .

وأما الدية فإنها تجب على عاقلة القاتل في الخطأ وشبه العمد . { مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ } جبرًا لقلوبهم ، والمراد بأهله هنا هم ورثته ، فإن الورثة يرثون ما ترك ، الميت ، فالدية داخلة فيما ترك وللدية تفاصيل كثيرة مذكورة في كتب الفقه .

وقوله : { إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا } أي : يتصدق ورثة القتيل بالعفو عن الدية ، فإنها تسقط ، وفي ذلك حث لهم على العفو لأن الله سماها صدقة ، والصدقة مطلوبة في كل وقت . { فَإِنْ كَانَ } المقتول { مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ } أي : من كفار حربيين { وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ } أي : وليس عليكم لأهله دية ، لعدم احترامهم في دمائهم وأموالهم .

{ وَإِنْ كَانَ } المقتول { مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ } وذلك لاحترام أهله بما لهم من العهد والميثاق .

{ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ } الرقبة ولا ثمنها ، بأن كان معسرا بذلك ، ليس عنده ما يفضل عن مؤنته وحوائجه الأصلية شيء يفي بالرقبة ، { فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ } أي : لا يفطر بينهما من غير عذر ، فإن أفطر لعذر فإن العذر لا يقطع التتابع ، كالمرض والحيض ونحوهما . وإن كان لغير عذر انقطع التتابع ووجب عليه استئناف الصوم .

{ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ } أي : هذه الكفارات التي أوجبها الله على القاتل توبة من الله على عباده ورحمة بهم ، وتكفير لما عساه أن يحصل منهم من تقصير وعدم احتراز ، كما هو واقع كثيرًا للقاتل خطأ .

{ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا } أي : كامل العلم كامل الحكمة ، لا يخفى عليه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر ، في أي وقت كان وأي محل كان .

ولا يخرج عن حكمته من المخلوقات والشرائع شيء ، بل كل ما خلقه وشرعه فهو متضمن لغاية الحكمة ، ومن علمه وحكمته أن أوجب على القاتل كفارة مناسبة لما صدر منه ، فإنه تسبب لإعدام نفس محترمة ، وأخرجها من الوجود إلى العدم ، فناسب أن يعتق رقبة ويخرجها من رق العبودية للخلق إلى الحرية التامة ، فإن لم يجد هذه الرقبة صام شهرين متتابعين ، فأخرج نفسه من رق الشهوات واللذات الحسية القاطعة للعبد عن سعادته الأبدية إلى التعبد لله تعالى بتركها تقربا إلى الله .

ومدها تعالى بهذه المدة الكثيرة الشاقة في عددها ووجوب التتابع فيها ، ولم يشرع الإطعام في هذا الموضع لعدم المناسبة . بخلاف الظهار ، كما سيأتي إن شاء الله تعالى .

ومن حكمته أن أوجب في القتل الدية ولو كان خطأ ، لتكون رادعة وكافة عن كثير من القتل باستعمال الأسباب العاصمة عن ذلك .

ومن حكمته أن وجبت على العاقلة في قتل الخطأ ، بإجماع العلماء ، لكون القاتل لم يذنب فيشق عليه أن يحمل هذه الدية الباهظة ، فناسب أن يقوم بذلك من بينه وبينهم المعاونة والمناصرة والمساعدة على تحصيل المصالح وكف المفاسد [ ولعل ذلك من أسباب منعهم لمن يعقلون عنه من القتل حذرًا من تحميلهم ]{[222]}  ويخف عنهم{[223]}  بسبب توزيعه عليهم بقدر أحوالهم وطاقتهم ، وخففت أيضا بتأجيلها عليهم ثلاث سنين .

ومن حكمته وعلمه أن جبر أهل القتيل عن مصيبتهم ، بالدية التي أوجبها على أولياء القاتل .


[222]:- زيادة من هامش ب.
[223]:- في ب: عليهم.
 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَمَا كَانَ لِمُؤۡمِنٍ أَن يَقۡتُلَ مُؤۡمِنًا إِلَّا خَطَـٔٗاۚ وَمَن قَتَلَ مُؤۡمِنًا خَطَـٔٗا فَتَحۡرِيرُ رَقَبَةٖ مُّؤۡمِنَةٖ وَدِيَةٞ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰٓ أَهۡلِهِۦٓ إِلَّآ أَن يَصَّدَّقُواْۚ فَإِن كَانَ مِن قَوۡمٍ عَدُوّٖ لَّكُمۡ وَهُوَ مُؤۡمِنٞ فَتَحۡرِيرُ رَقَبَةٖ مُّؤۡمِنَةٖۖ وَإِن كَانَ مِن قَوۡمِۭ بَيۡنَكُمۡ وَبَيۡنَهُم مِّيثَٰقٞ فَدِيَةٞ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰٓ أَهۡلِهِۦ وَتَحۡرِيرُ رَقَبَةٖ مُّؤۡمِنَةٖۖ فَمَن لَّمۡ يَجِدۡ فَصِيَامُ شَهۡرَيۡنِ مُتَتَابِعَيۡنِ تَوۡبَةٗ مِّنَ ٱللَّهِۗ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمٗا} (92)

88

ذلك في علاقات المسلمين مع المعسكرات الأخرى . فأما في علاقات المسلمين بعضهم ببعض ، مهما اختلفت الديار - وفي ذلك الوقت كما في كل وقت كان هناك مسلمون في شتى الديار - فلا قتل ولا قتال . . لا قتل إلا في حد أو قصاص . . فإنه لا يوجد سبب يبلغ من ضخامته أن يفوق ما بين المسلم والمسلم من وشيجة العقيدة . ومن ثم لا يقتل المسلم المسلم أبدا . وقد ربطت بينهما هذه الرابطة الوثيقة . اللهم إلا أن يكون ذلك خطأ . . وللقتل الخطأ توضع التشريعات والأحكام . فأما القتل العمد فلا كفارة له . لأنه وراء الحسبان ! ووراء حدود الإسلام !

وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ . ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله - إلا أن يصدقوا - فإن كان من قوم عدو لكم - وهو مؤمن - فتحرير رقبة مؤمنة . وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة . فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين . توبة من الله . وكان الله عليما حكيمًا .

( ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها ، وغضب الله عليه ولعنه ، وأعد له عذابا عظيمًا ) . .

وهذه الأحكام تتناول أربع حالات : ثلاث منها من حالات القتل الخطأ - وهو الأمر المحتمل وقوعه بين المسلمين في دار واحدة - دار الإسلام - أو في ديار مختلفة بين شتى الأقوام - والحالة الرابعة حالة القتل العمد . وهي التي يستبعد السياق القرآني وقوعها ابتداء . فليس من شأنها أن تقع . إذ ليس في هذه الحياة الدنيا كلها ما يساوي دم مسلم يريقه مسلم عمدا . وليس في ملابسات هذه الحياة الدنيا كلها ما من شأنه أن يوهن من علاقة المسلم بالمسلم إلى حد أن يقتله عمدا . وهذه العلاقة التي أنشأها الإسلام بين المسلم والمسلم من المتانة والعمق والضخامة والغلاوة والإعزاز بحيث لا يفترض الإسلام أن تخدش هذا الخدش الخطير أبدا . . ومن ثم يبدأ حديثه عن أحكام القتل الخطأ :

( وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ ) . .

فهذا هو الاحتمال الوحيد في الحس الإسلامي . . وهو الاحتمال الحقيقي في الواقع . . فإن وجود مسلم إلى جوار مسلم مسألة كبيرة . كبيرة جدا . ونعمة عظيمة . عظيمة جدا . ومن العسير تصور أن يقدم مسلم على إزالة هذه النعمة عن نفسه ؛ والإقدام على هذه الكبيرة عن عمد وقصد . . إن هذا العنصر . . المسلم . . عنصر عزيز في هذه الأرض . . وأشد الناس شعورا بإعزاز هذا العنصر هو المسلم مثله . . فمن العسير أن يقدم على إعدامه بقتله . . وهذا أمر يعرفه أصحابه . يعرفونه في نفوسهم ومشاعرهم . وقد علمهم الله إياه بهذه العقيدة . وبهذه الوشيجة . وبهذه القرابة التي تجمعهم في رسول الله [ ص ] ثم ترتقي فتجمعهم في الله سبحانه الذي ألف بين قلوبهم . ذلك التأليف الرباني العجيب .

فأما إذا وقع القتل خطأ فهناك تلك الحالات الثلاث ، التي يبين السياق أحكامها هنا :

الحالة الأولى : أن يقع القتل على مؤمن أهله مؤمنون في دار الإسلام . ويجب في هذه الحالة تحرير رقبة مؤمنة ، ودية تسلم إلى أهله . . فأما تحرير الرقبة المؤمنة ، فهو تعويض للمجتمع المسلم عن قتل نفس مؤمنة باستحياء نفس مؤمنة . وكذلك هو تحرير الرقاب في حس الإسلام . وأما الدية فتسكين لثائرة النفوس ، وشراء لخواطر المفجوعين ، وتعويض لهم عن بعض ما فقدوا من نفع المقتول . . ومع هذا يلوح الإسلام لأهل القتيل بالعفو -إذا اطمأنت نفوسهم إليه - لأنه أقرب إلى جو التعاطف والتسامح في المجتمع المسلم .

ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ، ودية مسلمة إلى أهله - إلا أن يصدقوا . .

والحالة الثانية : أن يقع القتل على مؤمن وأهله محاربون للإسلام في دار الحرب . . وفي هذه الحالة يجب تحرير رقبة مؤمنة لتعويض النفس المؤمنة التي قتلت ، وفقدها الإسلام . ولكن لا يجوز أداء دية لقومه المحاربين ، يستعينون بها على قتال المسلمين ! ولا مكان هنا لاسترضاء أهل القتيل وكسب مودتهم ، فهم محاربون ، وهم عدو للمسلمين .

والحالة الثانية : أن يقع القتل على مؤمن قومه معاهدون - عهد هدنة أو عهد ذمة - ولم ينص على كون المقتول مؤمنا في هذه الحالة . مما جعل بعض المفسرين والفقهاء يرى النص على إطلاقه . ويرى الحكم بتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله - المعاهدين - ولو لم يكن مؤمنا . لأن عهدهم مع المؤمنين يجعل دماءهم مصونة كدماء المسلمين .

ولكن الذي يظهر لنا أن الكلام ابتداء منصب على قتل المؤمن . ( وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ ) . . ثم بيان للحالات المتنوعة التي يكون فيها القتيل مؤمنا . وإذا كان قد نص في الحالة الثانية فقال : إن كان من قوم عدو لكم - وهو مؤمن فقد كان هذا الاحتراز مرة أخرى بسبب ملابسة أنه من قوم عدو . ويؤيد هذا الفهم النص على تحرير رقبة مؤمنة في هذه الحالة الثالثة . مما يوحي بأن القتيل مؤمن فأعتقت رقبة مؤمنة تعويضا عنه . وإلا لكفى عتق رقبة إطلاقا دون شرط الإيمان . .

وقد ورد أن النبى [ ص ] ودى بعض القتلى من المعاهدين : ولكن لم يرد عتق رقاب مؤمنة بعددهم . مما يدل على أن الواجب في هذه الحالة هو الدية . وأن هذا ثبت بعمل رسول الله [ ص ] لا بهذه الآية . وأن الحالات التي تتناولها هذه الآية كلها هي حالات وقوع القتل على مؤمن . سواء كان من قوم مؤمنين في دار الإسلام ، أو من قوم محاربين عدو للمسلمين في دار الحرب ، أو من قوم بينهم وبين المسلمين ميثاق . . ميثاق هدنة أو ذمة . . وهذا هو الأظهر في السياق .