{ 87 - 89 } { قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ * فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ * أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا }
أي : قالوا له : ما فعلنا الذي فعلنا عن تعمد منا ، وملك منا لأنفسنا ، ولكن السبب الداعي لذلك ، أننا تأثمنا من زينة القوم التي عندنا ، وكانوا فيما يذكرون استعاروا حليا كثيرا من القبط ، فخرجوا وهو معهم وألقوه ، وجمعوه حين ذهب موسى ليراجعوه فيه إذا رجع .
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالُواْ مَآ أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلََكِنّا حُمّلْنَآ أَوْزَاراً مّن زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السّامِرِيّ * فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لّهُ خُوَارٌ فَقَالُواْ هََذَآ إِلََهُكُمْ وَإِلََهُ مُوسَىَ فَنَسِيَ } .
يقول تعالى ذكره : قال قوم موسى لموسى : ما أخلفنا موعدك ، يعنون بموعده : عهده الذي كان عهده إليهم ، كما :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى «ح » وحدثنا الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : مَوْعِدِي قال : عهدي ، وذلك العهد والموعد هو ما بيّناه قبل .
وقوله : بِمِلْكِنا يخبر جلّ ذكره عنهم أنهم أقروا على أنفسهم بالخطأ ، وقالوا : إنا لم نطق حمل أنفسنا على الصواب ، ولم نملك أمرنا حتى وقعنا في الذي وقعنا فيه من الفتنة .
وقد اختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء المدينة : «بِمَلْكِنا » بفتح الميم ، وقرأته عامة قرّاء الكوفة : «بِمُلْكِنا » بضم الميم ، وقرأه بعض أهل البصرة بِمِلْكِنا بالكسر . فأما الفتح والضمّ فهما بمعنى واحد ، وهما بقدرتنا وطاقتنا ، غير أن أحدهما مصدر ، والاَخر اسم . وأما الكسر فهو بمعنى ملك الشيء وكونه للمالك .
واختلف أيضا أهل التأويل في تأويله ، فقال بعضهم : معناه : ما أخلفنا موعدك بأمرنا . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ عن ابن عباس ، قوله : " ما أخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا " يقول : بأمرنا .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : بِمَلْكِنا قال : بأمرنا .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
وقال آخرون : معناه : بطاقتنا . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قالُوا " ما أخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا " : أي بطاقتنا .
حدثنا موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : قالُوا " ما أخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا " يقول : بطاقتنا .
وقال آخرون : معناه : ما أخلفنا موعدك بهوانا ، ولكنا لم نملك أنفسنا . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : " ما أخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا " قال : يقول بهوانا ، قال : ولكنه جاءت ثلاثة ، قال ومعهم حليّ استعاروه من آل فرعون ، وثياب .
وقال أبو جعفر : وكلّ هذه الأقوال الثلاثة في ذلك متقاربات المعنى ، لأن من لم يهلك نفسه ، لغلبة هواه على ما أمر ، فإنه لا يمتنع في اللغة أن يقول : فعل فلان هذا الأمر ، وهو لا يملك نفسه وفعله ، وهو لا يضبطها وفعله وهو لا يطيق تركه . فإذا كان ذلك كذلك ، فسواء بأيّ القراءات الثلاث قرأ ذلك القارىء ، وذلك أن من كسر الميم من الملك ، فإنما يوجه معنى الكلام إلى ما أخلفنا موعدك ، ونحن نملك الوفاء به لغلبة أنفسنا إيانا على خلافه ، وجعله من قول القائل : هذا ملك فلان لما يملكه من المملوكات ، وأن من فتحها ، فإنه يوجه معنى الكلام إلى نحو ذلك ، غير أنه يجعله مصدرا من قول القائل : ملكت الشيء أملكه ملكا وملكة ، كما يقال : غلبت فلانا أغلبه غَلبا وغَلَبة ، وأن من ضمها فإنه وجّه معناه إلى ما أخلفنا موعدك بسلطاننا وقدرتنا ، أي ونحن نقدر أن نمتنع منه ، لأن كل من قهر شيئا فقد صار له السلطان عليه . وقد أنكر بعض الناس قراءة من قرأه بالضمّ ، فقال : أيّ ملك كان يومئذٍ لبني إسرائيل ، وإنما كانوا بمصر مستضعفين ، فأغفل معنى القوم وذهب غير مرادهم ذهابا بعيدا وقارئو ذلك بالضم لم يقصدوا المعنى الذي ظنه هذا المنكر عليهم ذلك ، وإنما قصدوا إلى أن معناه : ما أخلفنا موعدك بسلطان كانت لنا على أنفسنا نقدر أن نردّها عما أتت ، لأن هواها غلبنا على إخلافك الموعد .
وقوله : " وَلَكِنّا حُمّلْنا أوْزَارا مِنْ زِينَةِ القَوْمِ " يقول : ولكنا حملنا أثقالاً وأحمالاً من زينة القوم ، يعنون من حليّ آل فرعون وذلك أن بني إسرائيل لما أراد موسى أن يسير بهم ليلاً من مصر بأمر الله إياه بذلك ، أمرهم أن يستعيروا من أمتعة آل فرعون وحليهم ، وقال : إن الله مغنمكم ذلك ، ففعلوا ، واستعاروا من حلىّ نسائهم وأمتعتهم ، فذلك قولهم لموسى حين قال لهم " أفَطَالَ عَلَيْكُمُ العَهْدُ أمْ أرَدْتُمْ أنْ يَحِلّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبّكُمْ فَأخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي قَالُوا ما أخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا ، وَلَكِنّا حُمّلْنا أوْزارا مِنْ زِينَةٍ القَوْمِ " . وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : " وَلَكِنّا حُمّلْنا أوْزارا مِنْ زِينَةِ القَوْمِ " فهو ما كان مع بني إسرائيل من حليّ آل فرعون ، يقول : خطئونا بما أصبنا من حليّ عدوّنا .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : أوْزَارا قال : أثقالاً . وقوله : مِنْ زِينَةِ القَوْمِ قال : هي الحليّ التي استعاروا من آل فرعون ، فهي الأثقال .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد " وَلَكِنّا حُمّلْنا أوْزَارا " قال : أثقالاً مِنْ زِينَةِ القَوْمِ قال : حليهم .
حدثنا موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ " وَلَكِنّا حُمّلْنا أوْزَارا مِنْ زِينةِ القَوْمِ " يقول : من حليّ القبط .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : " وَلَكِنّا حُمّلْنا أوْزَارا مِنْ زِينَةِ القَوْمِ " قال : الحليّ الذي استعاروه . والثياب ليست من الذنوب في شيء ، لو كانت الذنوب كانت حملناها نحملها ، فليست من الذنوب في شيء .
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأ عامة قرّاء المدينة وبعض المكيين : حُمّلْنا بضم الحاء وتشديد الميم بمعنى أن موسى يحملهم ذلك . وقرأته عامة قرّاء الكوفة والبصرة وبعض المكيين : «حَمَلْنا » بتخفيف الحاء والميم وفتحهما ، بمعنى أنهم حملوا ذلك من غير أن يكلفهم حمله أحد .
قال أبو جعفر : والقول عندي في تأويل ذلك أنهما قراءتان مشهورتان متقاربتا المعنى ، لأن القوم حملوا ، وأن موسى قد أمرهم بحمله ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب الصواب .
وقوله : فَقَذَفْناها يقول : فألقينا تلك الأوزار من زينة القوم في الحفرة فَكَذَلكَ ألْقَى السّامِرِيّ يقول : فكما قذفنا نحن تلك الأثقال ، فكذلك ألقى السامريّ ما كان معه من تربة حافر فرس جبريل . وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : فَقَذَفْناها قال : فألقيناها فَكَذَلكَ ألْقَى السّامِريّ : كذلك صنع .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد فَقَذَفْناها قال : فألقيناها فَكَذَلِكَ ألْقَى السّامِرِيّ فكذلك صنع .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة فَقَذَفْناها : أي فنبذناها .
وقرأ نافع وعاصم «بمَلكنا » بفتح الميم ، وقرأ حمزة والكسائي «بمُلكنا » بضمة ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر «بمِلكنا » بكسرة ، قال أبو علي هذه لغات ع ظاهر هذا الكلام أنها بمعنى واحد ولكن إن أبا علي وغيره قد فرق بين معانيها فأما ضم الميم فمعناه على قول أبي علي لم يكن لنا ملك فنخلف موعدك بقوته وسلطانه وإنما أخلفناه بنظر أدى إليه ما فعل السامري وليس المعنى أن لهم ملكاً وإنما هذا كقول ذي الرمة : [ البسيط ]
لا يشتكي سقط منها وقد رقصت . . . بها المفاوز حتى ظهرها حدب{[1]}
إذ لا تكون منها سقطة فتشتكي ، قال وهذا كقوله تعالى : { لا يسألون الناس إلحافاً }{[2]} [ البقرة : 273 ] أي ليس منهم سؤال فيكون منهم إلحاف ع وهذا كله في هذه الأمثلة غير متيقن من قول أبي علي وإنما مشى في ذلك على أثر الزجاج دون تعقب وقد شرحت هذا المعنى في سورة البقرة في تفسير { لا يسألون الناس إلحافاً } [ البقرة : 273 ] وبين أن هذه ليست كهذه الأمثلة لأنهم لم يرفعوا الإخلاف فيها والأمثلة فيها رفع الوجهين{[3]} ، وأما فتح الميم فهو مصدر من ملك والمعنى ما فعلنا ذلك بأنا ملكنا الصواب ولا وفقنا له بل غلبتنا أنفسنا ، وأما كسر الميم فقط كثر استعماله فيما تحوزه اليد ولكنه يستعمل في الأمور التي يبرمها الإنسان ومعناها كمعنى التي قبلها والمصدر مضاف في الوجهين إلى الفاعل والمفعول مقدر أي «بملكنا الصواب » ، وهذا كما قد يضاف أحياناً إلى المفعول والفاعل مقدر كقوله تعالى : { بسؤال نعجتك }{[4]} [ ص : 24 ] ومن دعاء الخير{[5]} ، وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر وحفص عن عاصم «حُمّلنا » بضم الحاء وشد الميم ، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي «حَمَلنا » بفتح الحاء والميم{[6]} . و «الأوزار » الأثقال ، وتحتمل هذه التسمية أن تكون من حيث هي ثقيلة الأجرام ، ويحتمل أن يكون من حيث آمنوا في قذفها وظهر لهم أن ذلك هو الحق فكانت آثاماً لمن حملها . وقوله { فكذلك ألقى } أي فكما قذفنا نحن { فكذلك } أيضاً { ألقى السامري } ما كان بيده ع وهذه الألفاظ تقتضي أن العجل لم يصغه السامري .