43- نفروا استكباراً في الأرض وأنفة من الخضوع للرسول والدين الذي جاء به ، ومكروا مكر السيئ - وهو الشيطان الذي قادهم إلى الانصراف عن الدين ومحاربة الرسول - ولا يحيط ضرر المكر السيئ إلا بمن دبروه ، فهل ينتظرون إلا ما جرت به سنة الله في الذين سبقوهم ؟ فلن تجد لطريقة الله في معاملة الأمم تغييراً يُطمِّع هؤلاء الماكرين في وضع لم يكن لمن سبقوهم ، ولن تجد لسنة الله تحويلا عن اتجاهها .
وليس إقسامهم المذكور ، لقصد حسن ، وطلب للحق ، وإلا لوفقوا له ، ولكنه صادر عن استكبار في الأرض على الخلق ، وعلى الحق ، وبهرجة في كلامهم هذا ، يريدون به المكر والخداع ، وأنهم أهل الحق ، الحريصون على طلبه ، فيغتر به المغترون ، ويمشي خلفهم المقتدون .
{ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ } الذي مقصوده مقصود سيئ ، ومآله وما يرمي إليه سيئ باطل { إِلَّا بِأَهْلِهِ } فمكرهم إنما يعود عليهم ، وقد أبان اللّه لعباده في هذه المقالات وتلك الإقسامات ، أنهم كذبة في ذلك مزورون ، فاستبان خزيهم ، وظهرت فضيحتهم ، وتبين قصدهم السيئ ، فعاد مكرهم في نحورهم ، ورد اللّه كيدهم في صدورهم .
فلم يبق لهم إلا انتظار ما يحل بهم من العذاب ، الذي هو سنة اللّه في الأولين ، التي لا تبدل ولا تغير ، أن كل من سار في الظلم والعناد والاستكبار على العباد ، أن يحل به نقمته ، وتسلب عنه نعمته ، فَلْيَتَرَّقب هؤلاء ، ما فعل بأولئك .
وقوله - تعالى - : { استكبارا فِي الأرض } بدل من { نُفُوراً } أو مفعول لأجله { وَمَكْرَ السيىء } معطوف على استكبارا .
والمراد بمكرهم السيئ : تصميمهم على الشرك ، تكذيبهم للرسول صلى الله عليه وسلم ، من أجل المعاندة للحق ، والاستكبار عنه ، ومن أجل المكر السيئ الذى استولى على نفوسهم ، والحق الدفين الذى فى قلوبهم .
وقوله { السيىء } صفة لموصوف مذحوف . وأصل التركيب : وأن مكروا المكر السيئ ، فأيم المصدر مقام أن والفعل ، وأضيف إلى ما كان صفة له .
وقوله - تعالى - : { وَلاَ يَحِيقُ المكر السيىء إِلاَّ بِأَهْلِهِ } بيان لسوء عاقبة مكرهم ، وأن شره ما نزل إلا بهم .
وقوله : { يَحِيقُ } بمعنى يحيط وينزل . يقول : حاق بفلان الشئ ، إذا أحاط ونزل به . أى : ولا ينزل ولا يحيط شر لك المكر السيئ إلا بأهله الماكرين .
قال صاحب الكشاف : لقد حاق بهم يوم بدر . وعن النبى صلى الله عليه وسلم : " لا تمركوا ولا تعينوا ماكرا ، فإن الله - تعالى - يقول : { وَلاَ يَحِيقُ المكر السيىء إِلاَّ بِأَهْلِهِ } ولا تبغوا ولا تعينوا باغياً ، فإن الله - تعالى - يقول : { ياأيها الناس إِنَّمَا بَغْيُكُمْ على أَنفُسِكُمْ } " .
وقال الآلوسى - رحمه الله - : والاية عامة على الصحيح ، والأمور بعواقبها ، والله - تعالى - بمهل ولا يهمل ، وراء الدنيا الآخرة ، وسيعلم الذين ظلموا أى منقلب ينقلبون .
وبالجملة : من مكر به غيره ، ونفذ فيه المكر عاجلاً فى الظاهر ، ففى الحقيقة هو الفائز ، والماكر هو الهالك .
وقوله - تعالى - : { فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ آلأَوَّلِينَ } حض لهم على الاستجابة للحق ، وترك المكر والمخادعة والعناد . والسنة : الطريقة . .
أى : إذا كان الأمر كما ذكرنا ، فهل ينتظر هؤلاء الماكرون ، إلا طريقتنا فى الماكرين من قبلهم . وهى إهلاكهم ونزول العذاب والخسران بهم ؟ إنهم ما ينتظرون إلا ذلك .
وقوله - سبحانه - : { فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ الله تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ الله تَحْوِيلاً } تأكيد لثبات سنته - تعالى - فى خلقه ، وتعليل لما يفيده الحكم بانتظارهم العذاب .
أى : هذه سنتنا وطريقتنا فى الماكرين لرسلهم ، أننا نمهلهم ولا نهملهم ، ونجعل العاقبة السيئة لهم . ولن تجد لسنة الله - تعالى - فى خلقه تبديلا بأن يضع غيرها مكانها ، ولن تجد لها تحويلا عما سارت عليه وجرت به .
قال الجمل ما ملخصه : قوله : { فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ آلأَوَّلِينَ } مصدر مضاف لمفعوله تارة كما هنا ، ولفاعله أخرى كقوله { فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ الله تَبْدِيلاً } لأنه - تعالى - سنها بهم ، فصحت إضافتها للفاعل وللمفعول ، والفاء فى قوله { فَلَن تَجِدَ } لتعليل ما يفيده الحكم بانتظارهم العذاب . ونفى وجدان التبديل والتحويل ، عبارة عن نفى وجودهما بالطريق البرهانى ، وتخصيص كل منهما بنفى مستقل لتأكيد انتفائهما .
والمراد : بعدم التبديل . أن العذاب لا يبدل بغيره . وبعدم التحويل : أنه لا يحول عن مستحقه إلى غيره . وجمع بينهما هنا : تعميما لتهديد المسئ لقبح مكره .
{ استكبارا في الأرض ومكر السيئ ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله }
و{ استكبارا } بدل اشتمال من { نفوراً } أو مفعول لأجله ، لأن النفور في معنى الفعل فصحّ إعماله في المفعول له . والتقدير : نفروا لأجل الاستكبار في الأرض .
والاستكبار : شدة التكبر ، فالسين والتاء فيه للمبالغة مثل استجاب .
والأرض : موطن القوم كما في قوله تعالى : { لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا } [ الأعراف : 88 ] أي بلدنا ، فالتعريف في { الأرض } للعهد . والمعنى : أنهم استكبروا في قومهم أن يتبعوا واحداً منهم .
{ ومكر السيىء } عطف على { استكباراً } بالوجوه الثلاثة ، وإضافة { مكر } إلى { السيىء } من إضافة الموصوف إلى الصفة مثل : عِشَاء الآخرة . وأصله : أن يمكروا المكر السيّىء بقرينة قوله : { ولا يحيق المكر السيىء إلا بأهله } .
والمكر : إخفاء الأذى وهو سيِّىء لأنه من الغدر وهو مناف للخلق الكريم ، فوصفه بالسيّىء وصف كاشف ، ولَعل التنبيهَ إلى أنه وصف كاشف هو مقتضى إضافة الموصوف إلى الوصف لإِظهار ملازمة الوَصف للموصوف فلم يقل : ومكراً سيئاً ( ولم يرخص في المكر إلا في الحرب لأنها مدخول فيها على مثله ) أي مكراً بالنذير وأتباعه وهو مكر ذميم لأنه مقابلة المتسبب في صلاحهم بإضمار ضره .
وقد تبين كذبهم في قسمهم إذ قالوا : « لئن جاءنا نذير لنكونن أهدى منهم » وأنهم ما أرادوا به إلا التفصّي من اللوم .
وجملة { ولا يحيق المكر السيىء إلا بأهله } تذييل أو موعظة . و { يحيق } : ينزل به شيء مكروه حاق به ، أي نزل وأَحاط إحاطة سوء ، أي لا يقع أثره إلا على أهله . وفيه حذف مضاف تقديره : ضر المكر السيّىء أو سوء المكر السيىء كما دل عليه فعل { يحيق } ؛ فإن كان التعريف في { المكر } للجنس كان المراد ب « أهله » كل ماكر . وهذا هو الأنسب بموقع الجملة ومحملِها على التذييل ليعم كل مكر وكل ماكر ، فيدخل فيه الماكرون بالمسلمين من المشركين ، فيكون القصر الذي في الجملة قصراً ادعائياً مبنيّاً على عدم الاعتداد بالضر القليل الذي يحيق بالممكور به بالنسبة لما أعده الله للماكر في قدره من ملاقاة جزائه على مَكره فيكون ذلك من النواميس التي قدَّرها القدر لنظام هذا العالم لأن أمثال هذه المعاملات الضارة تؤول إلى ارتفاع ثقة الناس بعضهم ببعض والله بنى نظام هذا العالم على تعاون الناس بعضهم مع بعض لأن الإِنسان مدني بالطبع ، فإذا لم يأمن أفراد الإنسان بعضهم بعضاً تنكَّر بعضهم لبعض وتبادروا الإِضرار والإِهلاك ليفوز كل واحد بكيد الآخر قبل أن يَقع فيه فيفضي ذلك إلى فساد كبير في العالم والله لا يحب الفساد ، ولا ضر عبيده إلا حيث تأذن شرائعه بشيء ، ولهذا قيل في المثل : « وما ظالم إلا سيُبلى بظالم » .
لكل شيء آفة من جنسه *** حتى الحديدُ سطا عليه المِبْرَد
وكم في هذا العالم من نواميس مغفول عنها ، وقد قال الله تعالى : { والله لا يحب الفساد } [ البقرة : 205 ] . وفي كتاب ابن المبارك في الزهد بسنده عن الزهري بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا تمكر ولا تُعِن ماكراً فإن الله يقول { ولا يحيق المكر السيىء إلا بأهله } " ومن كلام العرب « من حفر لأخيه جباً وقع فيه منكباً » ، ومن كلام عامة أهل تونس ( يا حافرْ حُفرة السَّوْء ما تحفر إلا قِيَاسكَ » .
وإذا كان تعريف { المكر } تعريف العهد كان المعنى : ولا يحيق هذا المكر إلا بأهله ، أي الذين جاءهم النذير فازدادوا نفوراً ، فيكون موقع قوله : { ولا يحيق المكر السيىء إلا بأهله } موقع الوعيد بأن الله يدفع عن رسوله صلى الله عليه وسلم مكرهم ويحيق ضر مكرهم بهم بأن يسلط عليهم رسوله على غفلة منهم كما كان يوم بدر ويوم الفتح ، فيكون على نحو قوله تعالى : { ومكروا ومكر اللَّه واللَّه خير الماكرين } [ آل عمران : 54 ] فالقصر حقيقي .
فكم انهالت من خلال هذه الآية من آداب عمرانية ومعجزات قرآنية ومعجزات نبوية خفية .
واعلم أن قوله تعالى : { ولا يحيق المكر السيىء إلا بأهله } قد جُعل في علم المعاني مثالاً للكلام الجاري على أسلوب المساواة دون إيجاز ولا إطناب . وأول من رأيْته مثَّل بهذه الآية للمساواة هو الخطيب القزويني في « الإِيضاح » وفي « تلخيص المفتاح » ، وهو مما زاده على ما في « المفتاح » ولم يمثل صاحب « المفتاح » للمساواة بشيء ولم أدر من أين أخذه القزويني فإن الشيخ عبد القاهر لم يذكر الإِيجاز والإِطناب في كتابه .
وإذ قد صرح صاحب « المفتاح » « أن المساواة هي متعارف الأوساط وأنه لا يحمد في باب البلاغة ولا يذم » فقد وجب القطع بأن المساواة لا تقع في الكلام البليغ بَلْه المعجز . ومن العجيب إقرار العلامة التفتزاني كلام صاحب « تلخيص المفتاح » وكيف يكون هذا من المساواة وفيه جملة ذات قصر والقصر من الإِيجاز لأنه قائم مقام جملتين : جملة إثبات للمقصود ، وجملة نفيه عما سواه ، فالمساواة أن يقال : يحيق المكر السيّىء بالماكرين دون غيرهم ، فما عدل عن ذلك إلى صيغة القصر فقد سلك طريقة الإِيجاز .
وفيه أيضاً حذف مضاف إذ التقدير : ولا يحيق ضر المكر السيّىء إلا بأهله على أن في قوله : { بأهله } إيجازاً لأنه عوض عن أن يقال : بالذين تقلدوه . والوجه أن المساواة لم تقع في القرآن وإنما مواقعها في محادثات الناس التي لا يعبأ فيها بمراعاة آداب اللغة .
وقرأ حمزة وحده { ومكر السيىء } بسكون الهمزة في حالة الوصل إجراء للوصل مجرى الوقف .
{ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّةَ آلاَْوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تحويلا } .
تفريع على جملة { فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفوراً } الآية .
ويجوز أن يكون تفريعاً على جملة { ولا يحيق المكر السيىء إلا بأهله } على الوجه الثاني في تعريف { المكر } وفي المراد ب { بأهله } ، أي كما مكر الذين من قبلهم فحاق بهم مكرُهم كذلك هؤلاء .
و { ينظرون } هنا من النظر بمعنى الانتظار . كقول ذي الرُّمة :
وشُعثٍ ينظُرون إلى بِلال *** كما نَظَر العِطاش حَيَا الغمام
فقوله : « إلى » مفرد مضاف ، وهو النعمة وجمعه آلاء .
ومعنى الانتظار هنا : أنهم يستقبلون ما حلّ بالمكذبين قَبلهم ، فشبه لزوم حلول العذاب بهم بالشيء المعلوم لهم المنتظر منهم على وجه الاستعارة .
والسُّنَّة : العادة : والأوّلون : هم السابقون من الأمم الذين كذبوا رسلهم ، بقرينة سياق الكلام . و { سنة } مفعول { ينظرون } وهو على حذف مضاف . تقديره : مِثلَ أو قِياسَ ، وهذا كقوله تعالى : { فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم } [ يونس : 102 ] .
والفاء في قوله : { فلن تجد لسنت اللَّه تبديلاً } فاء فصيحة لأن ما قبلها لمّا ذكّر الناس بسنة الله في المكذبين أفصح عن اطّراد سنن الله تعالى في خلقه . والتقدير : إذا علموا ذلك فلن تجد لسنة الله تبديلاً .
والخطاب في { تجد } لغير معيّن فيعم كل مخاطب ، وبذلك يتسنّى أن يسير هذا الخبر مسير الأمثال . وفي هذا تسلية للنبيء صلى الله عليه وسلم وتهديد للمشركين .
والتبديل : تغيير شيء وتقدم عند قوله تعالى : { ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب } في سورة [ النساء : 2 ] .
والتحويل : نقل الشيء من مكان إلى غيره ، وكأنه مشتق من الحَوْل وهو الجانب .
والمعنى : أنه لا تقع الكرامة في موقع العقاب ، ولا يترك عقاب الجاني . وفي هذا المعنى قول الحكماء : ما بالطبع لا يتخلف ولا يختلف .