المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{سَيَقُولُ ٱلَّذِينَ أَشۡرَكُواْ لَوۡ شَآءَ ٱللَّهُ مَآ أَشۡرَكۡنَا وَلَآ ءَابَآؤُنَا وَلَا حَرَّمۡنَا مِن شَيۡءٖۚ كَذَٰلِكَ كَذَّبَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡ حَتَّىٰ ذَاقُواْ بَأۡسَنَاۗ قُلۡ هَلۡ عِندَكُم مِّنۡ عِلۡمٖ فَتُخۡرِجُوهُ لَنَآۖ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا ٱلظَّنَّ وَإِنۡ أَنتُمۡ إِلَّا تَخۡرُصُونَ} (148)

148- سيقول المشركون اعتذاراً عن شركهم ، وتحريم ما أحل الله من المطاعم ، وتكذيباً لما أبلغتهم من مقت الله لما هم عليه : إن الإشراك منا وتحريم الحلال كانا بمشيئة الله ورضاه ، ولو شاء عدم ذلك وكره منا ما نحن عليه ، ما أشركنا نحن ولا أسلافنا ، ولا حرمنا شيئاً مما أحله لنا . وقد كذَّب الذين من قبلهم رسلهم ، كما كذَّبك هؤلاء واستمروا في تكذيبهم حتى نزل بهم عذابنا ! قل لهؤلاء المكذبين ، هل عندكم من مستند صحيح على أن الله رضي لكم الشرك والتحليل ، فتظهروه لنا ؟ ما تتبعون فيما تقولون إلا الظن الذي لا يغنى من الحق شيئاً ، وما أنتم إلا كاذبون فيما تزعمون .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{سَيَقُولُ ٱلَّذِينَ أَشۡرَكُواْ لَوۡ شَآءَ ٱللَّهُ مَآ أَشۡرَكۡنَا وَلَآ ءَابَآؤُنَا وَلَا حَرَّمۡنَا مِن شَيۡءٖۚ كَذَٰلِكَ كَذَّبَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡ حَتَّىٰ ذَاقُواْ بَأۡسَنَاۗ قُلۡ هَلۡ عِندَكُم مِّنۡ عِلۡمٖ فَتُخۡرِجُوهُ لَنَآۖ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا ٱلظَّنَّ وَإِنۡ أَنتُمۡ إِلَّا تَخۡرُصُونَ} (148)

{ 148 ، 149 } { سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ * قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ }

هذا إخبار من الله أن المشركين سيحتجون على شركهم وتحريمهم ما أحل الله ، بالقضاء والقدر ، ويجعلون مشيئة الله الشاملة لكل شيء من الخير والشر حجة لهم في دفع اللوم عنهم .

وقد قالوا ما أخبر الله أنهم سيقولونه ، كما قال في الآية الأخرى : { وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ } الآية .

فأخبر تعالى أن هذة الحجة ، لم تزل الأمم المكذبة تدفع بها عنهم دعوة الرسل ، ويحتجون بها ، فلم تجد فيهم شيئا ولم تنفعهم ، فلم يزل هذا دأبهم حتى أهكلهم الله ، وأذاقهم بأسه .

فلو كانت حجة صحيحة ، لدفعت عنهم العقاب ، ولما أحل الله بهم العذاب ، لأنه لا يحل بأسه إلا بمن استحقه ، فعلم أنها حجة فاسدة ، وشبهة كاسدة ، من عدة أوجه :

منها : ما ذكر الله من أنها لو كانت صحيحة ، لم تحل بهم العقوبة .

ومنها : أن الحجة ، لا بد أن تكون حجة مستندة إلى العلم والبرهان ، فأما إذا كانت مستندة إلى مجرد الظن والخرص ، الذي لا يغني من الحق شيئا ، فإنها باطلة ، ولهذا قال : { قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا } فلو كان لهم علم - وهم خصوم ألداء- لأخرجوه ، فلما لم يخرجوه علم أنه لا علم عندهم . { إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ } ومَنْ بنى حججه على الخرص والظن ، فهو مبطل خاسر ، فكيف إذا بناها على البغي والعناد والشر والفساد ؟

ومنها : أن الحجة لله البالغة ، التي لم تبق لأحد عذرا ، التي اتفقت عليها الأنبياء والمرسلون ، والكتب الإلهية ، والآثار النبوية ، والعقول الصحيحة ، والفطر المستقيمة ، والأخلاق القويمة ، فعلم بذلك أن كل ما خالف هذه الأدلة  القاطعة{[304]} باطل ، لأن نقيض الحق ، لا يكون إلا باطلا .

ومنها : أن الله تعالى أعطى كل مخلوق ، قدرة ، وإرادة ، يتمكن بها من فعل ما كلف به ، فلا أوجب الله على أحد ما لا يقدر على فعله ، ولا حرم على أحد ما لا يتمكن من تركه ، فالاحتجاج بعد هذا بالقضاء والقدر ، ظلم محض وعناد صرف .

ومنها : أن الله تعالى لم يجبر العباد على أفعالهم ، بل جعل أفعالهم تبعا لاختيارهم ، فإن شاءوا فعلوا ، وإن شاءوا كفوا . وهذا أمر مشاهد لا ينكره إلا من كابر ، وأنكر المحسوسات ، فإن كل أحد يفرق بين الحركة الاختيارية والحركة القسرية ، وإن كان الجميع داخلا في مشيئة الله ، ومندرجا تحت إرادته .

ومنها : أن المحتجين على المعاصي بالقضاء والقدر يتناقضون في ذلك . فإنهم لا يمكنهم أن يطردوا ذلك ، بل لو أساء إليهم مسيء بضرب أو أخذ مال أو نحو ذلك ، واحتج بالقضاء والقدر لما قبلوا منه هذا الاحتجاج ، ولغضبوا من ذلك أشد الغضب .

فيا عجبا كيف يحتجون به على معاصي الله ومساخطه . ولا يرضون من أحد أن يحتج به في مقابلة مساخطهم ؟ "

ومنها : أن احتجاجهم بالقضاء والقدر ليس مقصودا ، ويعلمون أنه ليس بحجة ، وإنما المقصود منه دفع الحق ، ويرون أن الحق بمنزلة الصائل ، فهم يدفعونه بكل ما يخطر ببالهم من الكلام وإن كانوا يعتقدونه خطأ{[305]} .


[304]:- في ب: الآية.
[305]:- في ب: من الكلام المصيب عندهم والمخطئ
 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{سَيَقُولُ ٱلَّذِينَ أَشۡرَكُواْ لَوۡ شَآءَ ٱللَّهُ مَآ أَشۡرَكۡنَا وَلَآ ءَابَآؤُنَا وَلَا حَرَّمۡنَا مِن شَيۡءٖۚ كَذَٰلِكَ كَذَّبَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡ حَتَّىٰ ذَاقُواْ بَأۡسَنَاۗ قُلۡ هَلۡ عِندَكُم مِّنۡ عِلۡمٖ فَتُخۡرِجُوهُ لَنَآۖ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا ٱلظَّنَّ وَإِنۡ أَنتُمۡ إِلَّا تَخۡرُصُونَ} (148)

ثم حكى القرآن بعد ذلك شبهة من الشبهات الباطلة التى تمسك بها المشركون فى شركهم وجهالاتهم ورد عليها بما يبطلها ويخرس ألسنة قائليها أو المتذرعين بها فقال : { سَيَقُولُ الذين أَشْرَكُواْ . . . } .

إن هذه الآيات الكريمة تعرض لشبهة قديمة جديدة : قديمة لأن كثيرا من مجادلى الرسل موهوابها ، وحديثة لأنها دائما تراود كثيرا من المتمسكين بالأوهام فى سبيل إرضاء نزواتهم من المتع الباطلة والشهوات المحرمة .

إنهم يقولون عندما يرتكبون القبائح والمنكرات : هذا أمر الله ، وهذا قضاؤه ، وتلك مشيئته وإرادته ، ولو شاء الله عدم فعلنا لهذه الأشياء لما فعلناها وإذا كان الله قد قضى علينا بها فما ذنبنا ؟ ولماذا يعاقبنا عليها ؟ إلى غير ذلك من اللغو الباطل ، والكلام العابث الذى يريدون من ورائه التحلل من أوامر الله ونواهيه .

ولنتدبر سوياً أيها القارىء الكريم - هذه الآيات ، وهى تحكي تلك الشبهات الباطلة ، ثم تقذفها بالحق الواضح ، والبرهان القاطع ، فإذا هى زاهقة

يقول - سبحانه - { سَيَقُولُ الذين أَشْرَكُواْ لَوْ شَآءَ الله مَآ أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ } .

أى : سيقو هؤلاء المشركون لو شاء الله - تعالى - ألا نشرك به وألا يشرك به آباؤنا من قبلنا ، لنفذت مشيئته ، ولما أشركنا نحن ولا آباؤنا .

ولو شاء كذلك ألا نحرم شيئاً مما حرمناه من الحرث والأنعام وغيرها لتمت مشيئته ولما حرمنا شيئاً مما حرمنا .

ولكنه - سبحانه - لم يشأ ذلك ، بل شاء لنا أن نشرك معه فى العبادة هذه الأصنام ، وأن نحرم ما نحرم من الحرث والأنعام وقد رضى لنا ذلك فلماذا تطالبنا يا محمد بتغيير مشيئة الله ، وتدعونا إلى الدخول فى دينك الذى لم يشأ الله دخولنا فيه ؟

قال الآلوسى ما ملخصه : " وهم لم يريدوا بهذا الكلام الاعتذار عن ارتكاب القبيح ، لأنهم لم يعتقدوا قبح أفعالهم وإنما مرادهم من هذا القول الاحتجاج على أن ما ارتكبوه - من الشرك والتحريم - حق ومشروع ومرضى عند الله ، بناء على أن المشيئة والإرادة تسابق الأمر وتستلزم الرضا ، فيكون حاصل كلامهم :

إن ما نرتكبه من الشرك والتحريم وغيرهما تعلقت به مشيئة الله وإرادته ، وكل ما تعلقت به مشيئة الله وإرادته فهو مشروع ومرضى عنده . فينتج أن ما نرتكبه من الشرك والتحريم مشروع ومرضى عند الله " .

وقد حكى القرآن فى كثير من آياته ما يشبه قولهم هذا ، ومن ذلك قوله - تعالى - { وَقَالَ الذين أَشْرَكُواْ لَوْ شَآءَ الله مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ ولا آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ كذلك فَعَلَ الذين مِن قَبْلِهِمْ } وقوله - تعالى - { وَقَالُواْ لَوْ شَآءَ الرحمن مَا عَبَدْنَاهُمْ مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ } وقد رد القرآن على قولهم بما يبطله فقال : { كذلك كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِم حتى ذَاقُواْ بَأْسَنَا } .

أى : مثل هذا التكذيب من مشركى مكة للرسول صلى الله عليه وسلم فيما جاء به من إبطال الشرك ، قد كذب الذين من قبلهم لرسلهم ، واستمروا فى تكذيبهم لهم حتى أنزلنا على هؤلاء المكذبين عذابنا ونقمتنا .

ومن مظاهر تكذيب هؤلاء المشركين لرسلهم ، أنهم عندما قال لهم الرسل عليهم السلام - اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا . كذبوهم واحتجوا عليهم بأن ما هم عليه من شرك واقع بمشيئة الله ، وزعموا أنه ما دام كذلك فهو مرضى عنده - سبحانه - فكان الرد عليهم بأنه لو كان هذا الشرك وغيره من قبائحهم مرضيا عنده - سبحانه - : لما أذاق أسلافهم المكذبين - الذين قالوا لرسلهم مثل قولهم - عذابه ونقمته . ولما أخذهم أخذ عزيز مقتدر .

قال الآلوسى ما ملخصه : وحاصل هذا الرد أن كلام المشركين يتضمن تكذيب الرسل وقد دلت المعجزة على صدقهم ، ولا يخفى أن المقدمة الأولى وهى أن كل شىء بمشيئة الله : لا تكذيب فيها ، بل هى متضمنة لتصديق ما تطابق فيه العقل والشرع من كون كل شىء بمشيئة الله ، وامتناع أن يجرى فى ملكه خلاف ما يشاء . فمنشأ التكذيب هو المقدمة الثانية ، وهى أن كل ما تعلقت به مشيئة الله وإرادته فهو مشروع ومرضى عنه ، لأن الرسل عليهم السلام : يدعونهم إلى التوحيد ويقولون لهم : إن الله لا يرضى لعباده الكفر دينا ولا يأمر بالفحشاء ، فيكون قوله : إن ما نرتكبه مشروع ومرضى عنده سبحانه : تكذيب لقول الرسل . وحيث كان فساد هذه الحجة باعتبار المقدمة الثانية تعين أنها ليست بصادقة ، وحينئذ يصدق نقيضها وهى أنه ليس كل ما تعلقت به المشيئة والإرادة بمشروع ومرضى عنده - سبحانه - بناء على أن الإرادة لا تساوق الأمر .

ثم بعد هذا الرد المفحم للمشركين أمر الله : تعالى : رسوله أن يطالبهم بدليل على مزاعمهم فقال : { قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَآ } .

أى : قل لهم يا محمد على سبيل التوبيخ والتعجيز : هل عندكم من علم ثابت تعتمدون عليه فى قولكم { لَوْ شَآءَ الله مَآ أَشْرَكْنَا } ! إن كان عندكم هذا العلم فاخرجوه لنا لنتباحث معكم فيه ، ونعرضه على ما جئتكم به من آيات بينة ودلائل ساطعة . فإن العاقل هو الذى لا يتكلم بدون علم ، ولا يحيل على مشيئة الله التى لا ندرى عنها شيئاً .

و { مِّنْ } فى قوله { مِّنْ عِلْمٍ } زائدة ، وعلم مبتدأ ، وعندكم خبر مقدم .

وقوله : { فَتُخْرِجُوهُ } منصوب بأن المضمرة بعد فاء السببية الواقعة بعد الاستفهام الإنكارى .

ثم بين حقيقة حالهم فقال : { إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ } .

أى : أنتم لستم على شىء ما من العلم ، بل ما تتبعون فى أقوالهم وأعمالكم وعقائدكم إلا الظن الباطل الذى لا يغنى من الحق شيئا . وما أنتم إلا تخرصون أى تكذبون على الله فيما ادعيتموه .

واصل الخرص : القول بالظن . يقال : خرصت النخل خرصا - من باب قتل - حزرت ثمره وقدرته بالظن والتخمين ، واستعمل فى الكذب لما يداخله من الظنون الكاذبة ، فيقال : خرص فى قوله - كنصر - أى كذب .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{سَيَقُولُ ٱلَّذِينَ أَشۡرَكُواْ لَوۡ شَآءَ ٱللَّهُ مَآ أَشۡرَكۡنَا وَلَآ ءَابَآؤُنَا وَلَا حَرَّمۡنَا مِن شَيۡءٖۚ كَذَٰلِكَ كَذَّبَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡ حَتَّىٰ ذَاقُواْ بَأۡسَنَاۗ قُلۡ هَلۡ عِندَكُم مِّنۡ عِلۡمٖ فَتُخۡرِجُوهُ لَنَآۖ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا ٱلظَّنَّ وَإِنۡ أَنتُمۡ إِلَّا تَخۡرُصُونَ} (148)

استئناف رجع به الكلام إلى مجادلة المشركين بعد أن اعترض بينها بقوله : { قل لا أجد في مآ أوحي إليّ محرماً على طاعم يطعمه إلى قوله { فإنّ ربّك غفور رحيم } [ الأنعام : 145 ] ، فلمّا قطع الله حجّتهم في شأن تحريم ما حرّموه ، وقسمة ما قسموه ، استقصى ما بقي لهم من حجّة وهي حجّة المحجوج المغلوب الذي أعيته المجادلة ولم تبق له حجّة ، إذ يتشبّث بالمعاذير الواهية لترويج ضلاله ، بأن يقول : هذا أمر قضي وقدّر .

فإن كان ضمير الرّفع في قوله : { فإن كذبوك } [ الأنعام : 147 ] عائداً إلى المشركين كان قوله تعالى هنا : { سيقول الذين أشركوا } إظهاراً في مقام الإضمار لزيادة تفظيع أقوالهم ، فإخبار الله عنهم بأنَّهم سيقولون ذلك إن كان نزول هذه الآية قبلَ نزول آية سورة النّحل ( 35 ) : { وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء } وهو الأرجح ، فإنّ سورة النَّحل معدودة في النّزول بعد سورة الأنعام ، كان الإخبار بأنَّهم سيقولونه اطلاعاً على ما تُكنّه نفوسهم من تزوير هذه الحجّة ، فهو معجزة من معجزات القرآن من نوع الإخبار بالغيب كقوله تعالى : { فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا } [ البقرة : 24 ] . وإن كان نزول هذه الآية بعد نزول آية سورة النّحل فالإخبار بأنَّهم سيقولونه معناه أنَّهم سيعيدون معذرتهم المألوفة .

وحاصل هذه الحجّة : أنَّهم يحتجّون على النّبيء صلى الله عليه وسلم بأنّ ما هم عليه لو لم يكن برضى الله تعالى لصَرَفَهم عنه ولَمَا يسَّره لهم ، يقولون ذلك في معرض إفحام الرّسول عليه الصّلاة والسّلام وإبطال حُكمه عليهم بالضّلالة ، وهذه شبهة أهل العقول الأفِنة الذين لا يُفرّقون بين تصرّف الله تعالى بالخَلْق والتّقدير وحفظِ قوانين الوجود ، وهو التصرّف الذي نسمّيه نحن بالمشيئة وبالإرادة ، وبين تصرّفه بالأمر والنّهي ، وهو الذي نسمّيه بالرّضى وبالمحبّة ، فالأوّل تصرّف التّكوين والثّاني تصرف التّكليف ، فهم يحسبون أنّ تمكّنهم من وضع قواعد الشّرك ومن التّحريم والتّحليل ما هو إلاَّ بأن خلق الله فيهم التمكّن من ذلك ، فيحسبون أنَّه حين لم يمسك عِنان أفعالهم كان قد رضي بما فعلوه ، وأنَّه لو كان لا يرضى به لما عجز عن سلب تمكّنهم ، يحسبون أنّ الله يُهمّه سوءُ تصرّفهم فيما فطرهم عليه ، ولو كان كما يتوهَّمون لكان الباطل والحقّ شيئاً واحداً ، وهذا ما لا يفهمه عقل حَصيف ، فإنّ أهل العقول السّخيفة حين يتوهَّمون ذلك كانوا غير ملتفتين إلاّ إلى جانب نحلتهم ومعرضين عن جانب مخالفهم ، فإنَّهم حين يقولون : { لو شاء الله ما أشركنا } غافلون عن أن يقال لهم . من جانب الرّسول : لو شاء الله ما قلتُ لكم أنّ فعلكم ضلال ، فيكون الله على حسب شبهتهم قد شاء الّشيء ونقيضه إذ شاء أنَّهم يشركون وشاء أن يقول لهم الرّسول لا تشركوا .

وسبب هذه الضّلالة العارضة لأهل الضّلال من الأمم ، التي تلوح في عقول بعض عوام المسلمين في معاذيرهم للمعاصي والجرائم أن يقولوا : أمْرُ الله أو مَكْتُوبُ عند الله أو نحو ذلك ، هو الجهل بأنّ حكمة الله تعالى في وضع نظام هذا العالم اقتضت أن يجعل حجاباً بين تصرّفه تعالى في أحوال المخلوقات ، وبين تصرّفهم في أحوالهم بمقتضى إرادتهم ، وذلك الحجاب هو ناموس ارتباط المسبّبات بأسبابها ، وارتباطِ أحوال الموجودات في هذا العالم بعضِها ببعض ، ومنه ما يسمّى بالكَسب والاستطاعة عند جمهور الأشاعرة ، ويسمّى بالقدرة عند المعتزلة وبعضضِ الأشاعرة ، وذلك هو مورد التّكليف الدالّ على ما يرضاه الله وما لا يرضى به ، وأنّ الله وضع نظام هذا العالم بحكمة فجعل قِوامه هو تدبير الأشياء أمورَها من ذواتها بحسب قوى أودعها في الموجودات لتسعى لما خُلقت لأجله ، وزاد الإنسانَ مزيَّةً بأن وضع له عقلاً يمكّنه من تغيير أحواله على حسب احتياجه ، ووضّع له في عقله وسائل الاهتداء إلى الخير والشرّ ، كما قيّض له دعاة إلى الخير تنبّهه إليه إن عرته غفلة ، أو حجبته شهوة ، فإن هو لم يرعوِ غيِّهْ ، فقد خَانَ بساطَ عقله بطَيِّهْ .

وبهذا ظهر تخليط أهل الضّلالة بين مشيئة العباد ومشيئة الله ، فلذلك ردّ الله عليهم هنا قولهم : { لو شاء الله مآ أشركنا ولا أباؤنا } لأنَّهم جعلوا ما هو مشيئة لهم مشيئة لله تعالى ، ومع ذلك فهو قد أثبت مشيئته في قوله : { ولو شاء الله ما أشركوا } [ الأنعام : 107 ] فهي مشيئة تكوين العقول وتكوين نظام الجماعة .

فهذه المشيئة التي اعتلّوا بها مشيئة خفيّة لا تتوصّل إلى الاطّلاع على كنهها عقول البشر ، فلذلك نعى الله عليهم استنادهم إليها على جهلهم بكنهها ، فقال : كذلك كذب الذين من قبلهم فَشَبَّه بتكذيبِهم تكذيبَ المكذّبين الذين من قبلهم ، فكنّى بذلك عن كون مقصد المشركين من هذه الحجّة تكذيب النّبيء صلى الله عليه وسلم وقد سبق لنا بيان في هذا المعنى في هذه السّورة ( 107 ) عند قوله تعالى : { ولو شاء الله ما أشركوا . } وليس في هذه الآية ما ينهض حجّة لنا على المعتزلة ، ولا للمعتزلة علينا ، وإن حاول كلا الفريقين ذلك لأنّ الفريقين متّفقان على بطلان حجّة المشركين . وفي الآية حجّة على الجبرية .

وقوله تعالى : { كذلك كذب الذين من قبلهم } أي كذّب الذين من قبلهم أنبياءهم مثل ما كذّبك هؤلاء . وهذا يدلّ على أنّ الذين أشركوا قصدوا بقولهم : { لو شاء الله ما أشركنا } تكذيب النّبيء صلى الله عليه وسلم إذ دعاهم إلى الإقلاع عمّا يعتقدون بحجّة أنّ الله رضيه لهم وشاءه منهم مشيئة رضى ، فكذلك الأمم قبلهم كذّبوا رسلهم مستندين إلى هذه الشبهة فسمّى الله استدلالهم هذا تكذيباً ، لأنَّهم ساقوه مساق التّكذيب والإفحام ، لا لأنّ مقتضاه لا يقول به الرّسول صلى الله عليه وسلم والمسلمون ، فإنَّا نقول ذلك كما قال تعالى : { ولو شاء الله ما أشركوا } [ الأنعام : 107 ] نريد به معنى صحيحاً فكلامهم من باب كلام الحقّ الذي أريد به باطل ، ووقع في « الكشاف » أنّه قرىء : { كذلك كذب الذين من قبلهم } بتخفيف ذال كذب وقال الطيّبي : هي قراءة موضوعة أو شاذّة يعني شاذّة شذوذاً شديداً ولم يروها أحد عن أحد من أهل القراءات الشاذّة ، ولعلّها من وضع بعض المعتزلة في المناظرة كما يؤخذ من كلام الفخر .

وقوله : { حتى ذاقوا بأسنا } غاية للتكذيب مقصود منها دوامهم عليه إلى آخر أوقات وجودهم . فلمّا ذاقوا بأس الله هلكوا واضمحلّوا ، وليست الغاية هنا للتّنهية : والرّجوع عن الفعل لظهور أنَّه لا يتصوّر الرّجوع بعد استئصالهم .

والذّوق مجاز في الإحساس والشّعور ، فهو من استعمال المقيّد في المطلق ، وقد تقدّم الكلام عليه عند قوله تعالى : { ليذوقَ وبال أمره } في سورة العقود ( 95 ) .

والبأس تقدّم الكلام عليه في سورة البقرة وإضافته إلى ضمير الله تعالى لتعظيمه وتهويله .

وأمَرَ الله رسولَه بالجواب عن مقالهم الواقع أو المتوقّع بقوله : { قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا } ، ففصل جملة : { قل } لأنَّها جارية مجرى المقاولة والمجاوبة كما تقرّر غير مرّة ، وجاء بالاستفهام المقصود منه الإفحَام والتهكّم بما عُرف من تشبّثُهم بمثل هذا الاستدلال .

وجُعل الاستفهام ب { هَلْ } لأنَّها تدلّ على طلب تحقيق الإسناد المسؤول عنه ، لأنّ أصل { هل } أنَّها حرف بمعنى « قد » لاختصاصها بالأفعال ، وكثرَ وقوعها بعد همزة الاستفهام ، فغلب عليها معنى الاستفهام ، فكثر حذف الهمزة معها حتّى تنوسيت الهمزة في مشهور الكلام ولم تظهر معها إلا في النّادر ، وقد تقدّم شيء من هذا عند قوله تعالى : { فهل أنتم منتهون } في سورة العقود ( 91 ) . فدلّ هل } على أنَّه سائل عن أمر يريد أن يكون محقّقا كأنَّه يرغب في حصوله فيغريهم بإظهاره حتّى إذا عجزوا كان قطعاً لدعواهم .

والمقصود من هذا الاستفهام التهكّم بهم في قولهم : { لو شاء الله ما أشركنا } ألى { ولا حرمنا } ، فأظهر لهم من القول من يظهره المعجَب بكلامهم . وقرينة التّهكّم بادية لأنَّه لا يظنّ بالرّسول عليه الصلاة والسلام والمؤمنين أن يطلبوا العلم من المشركين ، كيف وهو يصارحهم بالتّجهيل والتّضليل صباحَ مساءَ .

والعِلم : ما قابل الجهل ، وإخراجه الإعلام به ، شبهت إفادة المعلوم لمن يجهله بإخراج الشّيء المخبوء ، وذلك مثل التّشبيه في قول النّبي صلى الله عليه وسلم « وعلم بثّه في صدور الرّجال » ولذلك كان للإتيان : ب { عندكم } موقع حسن ، لأنّ ( عند ) في الأصل تدلّ على المكان المختصّ بالذي أضيف إليه لفظُها ، فهي ممّا يناسب الخفاء ، ولولا شيوع استعمالها في المعنى المجازي حتّى صارت كالحقيقة لقلْتُ : إنّ ذكر ( عند ) هنا ترشيح لاستعارة الإخراج للإعلام .

وجعل إخراج العلم مرتَّباً بفاء السَّببيّة على العندية للدّلالة على أنّ السّؤال مقصود به ما يتسبّب عليه .

واللاّم في : { فتخرجوه لنا } للأجْل والاختصاص ، فتؤذن بحاجة مجرورها لمتعلّقها ، أي فتخرجوه لأجلنا : أي لنفعنا ، والمعنى : لقد أبدعتم في هذا العلم الذي أبديتموه في استفادتكم أنّ الله أمركم بالشّرك وتحريم ما حرّمتموه بدلالة مشيئة على ذلك إذ لو شاء لما فعلتم ذلك فزيدونا من هذا العلم .

وهذا الجواب يشبه المنع في اصطلاح أهل الجدل ، ولمّا كان هذا الاستفهام صورياً وكان المتكلّم جازماً بانتفاء ما استَفْهَم عنه أعقبه بالجواب بقوله : { إن تتبعون إلا الظن } .

وجملة : { إن تتبعون إلا الظن } مستأنفة لأنَّها ابتداء كلام بإضراب عن الكلام الذي قبله ، فبعد أن تهكّم بهم جدّ في جوابهم ، فقال : { إن تتبعون إلا الظن } أي : لا علم عندكم . وقصارى ما عندكم هو الظنّ الباطل والخَرْص . وهذا يشبه سند المنع في عرف أهل الجدل . والمراد بالظنّ الظنّ الكاذب وهو إطلاق له شائع كما تقدّم عند قوله تعالى : { إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون } في هذه السّورة ( 116 ) .