87- ولتذكروا كذلك - معشر اليهود - مواقفكم الضالة الآثمة حيال موسى ومن بعثناه من بعده إليكم من المرسلين . فلقد أرسلنا إليكم موسى وآتيناه التوراة وبعثنا إليكم على آثاره عدة رسل ، منهم عيسى ابن مريم الذي أمددناه بالمعجزات وأيدناه بروح القدس ، وهو جبريل رسول الوحي الأمين ، فكنتم كلما جاءكم رسول من هؤلاء بما لا تهوى أنفسكم تستكبرون عن اتباعه ، ففريق كذبتموه وفريق آخر قتلتموه .
{ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ }
يمتن تعالى على بني إسرائيل أن أرسل لهم كليمه موسى ، وآتاه التوراة ، ثم تابع من بعده بالرسل الذين يحكمون بالتوراة ، إلى أن ختم أنبياءهم بعيسى ابن مريم عليه السلام ، وآتاه من الآيات البينات ما يؤمن على مثله البشر ، { وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ } أي : قواه الله بروح القدس .
قال أكثر المفسرين : إنه جبريل عليه السلام ، وقيل : إنه الإيمان الذي يؤيد الله به عباده .
ثم مع هذه النعم التي لا يقدر قدرها ، لما أتوكم { بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ } عن الإيمان بهم ، { فَفَرِيقًا } منهم { كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ } فقدمتم الهوى على الهدى ، وآثرتم الدنيا على الآخرة ، وفيها من التوبيخ والتشديد ما لا يخفى .
ثم ذكرهم - سبحانه - بعد ذلك بلون آخر من ألوان جناياتهم ، فقال تعالى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى الكتاب وَقَفَّيْنَا . . . }
في هاتين الآيتين تذكير لبني إسرائيل بضرب من النعم التي أمدهم الله بها ثم قابلوها بالكفر والإِجرام .
والمراد بالكتاب الذي أعطاه الله لموسى التوراة ، فقد أنزلها عليه لهدايتهم ولكنهم حرفوها وبدلوها وخالفوا أوارمه وأولوها تأويلا سقيما .
ومعنى { وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بالرسل } أردفنا وأرسلنا من عبد موسى رسلا كثيرين متتابعين ، لإِرشاد بني إسرائيل ، وإخراجهم من الظلمات إلى النور .
يقال : قفا أثره يقفوه قفواً وقفواً ، إذا تبعه . وقفى على أثره بفلان إذا أتبعه إياه . وقفيته زيداً به : أتبعته إياه . واشتقاقه من : قفوته إذا أتبعت قفاه ، والقفا مؤخر العنق ، ثم أطلق على كل تابع ولو بعد الزمن بينه وبين متبوعه .
والرسل : جمع رسول بمعنى مرسل ، وقد أرسل الله - تعالى - رسلا بعد موسى - عليه السلام - : منهم : داود ، وسليمان ، وإلياس ، واليسع ، ويونس ، وزكريا ، ويحيى - عليهم الصلاة والسلام - .
فمن مظاهر نعم الله على بني إسرائيل ، أنه لم يكتف بإنزال الكتب لهدايتهم ، وإنما أرسل فيهم بجانب ذلك رسلا متعددين ، لكي يبشروهم وينذروهم ، ولكن بني إسرائيل قابلوا نعم الله بالجحود والكفران ، فقد حرفوا كتب الله ، وقتلوا بعض أنبيائه .
والمراد بالبينات في قوله : { وَآتَيْنَا عِيسَى ابن مَرْيَمَ البينات } الحجج والبراهين والآيات الدالة على صدقه وصحة نبوته ، فتشمل كل معجزة أعطاها الله لعيسى كإبراء الأكمة والأبرص ، وإحاء الموتى ، والإِخبار ببعض المغيبات ، وغير ذلك من المعجزات التي أيد الله بها عيسى - عليه السلام - .
وخص القرآن عيسى بالذكر لكونه صاحب كتاب هو الإِنجيل ، ولأن شرعه نسخ أحكاما من شريعة موسى - عليه السلام - .
وفي إضافة عيسى إلى أمه إبطال لما يزعمه اليهود من أن له أباً من البشر .
وقوله : { وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ القدس } أي : قويناه مأخوذ من الأَيْدِ وهو القوة .
وروح القدس هو جبريل - عليه السلام - ، قال - تعالى - :
{ قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ القدس مِن رَّبِّكَ بالحق . . . } والإِضافة فيه من إضافة الموصوف إلى الصفة ، أي : الروح المقدس . ووصف بالقدس لطهارته وبركته . وسمى روحاً لمشابهته الروح الحقيقي في أن كلا منهما مادة لحياة البشر . فجبريل من حيث ما يحمل من الرسالة الإِلهية تحيا به القلوب . والروح تحيا به الأجسام .
أي : أننا أعطينا عيسى بن مريم الحجج الدالة على صدقه في نبوته وقويناه على ذلك كله بوحينا الذي أوحيناه إليه عن طريق جبريل - عليه السلام - .
ثم وبخ الله اليهود على أفعالهم القبيحة فقال : { أَفَكُلَّمَا جَآءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تهوى أَنْفُسُكُمْ استكبرتم فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ } .
أي : أفكلما جاءكم يا بني إسرائيل رسول بما لا تحبه أنفسكم الشريرة استكبرتم عن اتباعه والإِيمان به وأقبلتم على هؤلاء الرسل ففريقاً منهم كذبتم ، وفريقاً آخر منهم تقتلونه غير مكتفين بالتكذيب :
وتهوى : من هوى إذا أحب " والهوى يكون في الحق ويكون في الباطل كما في هذه الآية .
واستكبرتم : تكبرتم ، والتكبر ينشأ عن الأعجاب بالنفس الذي هو أثر الجهل بها . وهو من الصفات التي متى تمكنت في النفس أوردتها المهالك ، وساقتها إلى سوء المصير .
وقدم تكذيبهم للرسل على قتلهم إياهم ، لأن التكذيب أول ما يصدر عنهم من الشر .
وعبر في جانب القتل بالفعل المضارع فقال : { تَقْتُلُونَ } ولم يقل قتلتم كما قال كذبتم ، لأن الفعل المضارع كما هو المألوف في أساليب البلاغة . يستعمل في الأفعال الماضية التي بلغت من الفظاعة مبلغاً عظيماً . ووجهه أن المتكلم يعمد بذلك الفعل القبيح كقتل الأنبياء ، ويعبر عنه بالفعل المضارع الذي يدل بحسب وضه على الفعل الواقع في الحال . فكأنه أحضر صورة قتل الأنبياء أمام السامع ، وجعله ينظر إليها بعينه ، فيكون إنكاره لها أبلغ ، واستفظاعه لها أعظم .
ينعت ، تبارك وتعالى ، بني إسرائيل بالعتو والعناد والمخالفة ، والاستكبار على الأنبياء ، وأنهم إنما يتبعون أهواءهم ، فذكر تعالى أنه آتى موسى الكتاب - وهو التوراة - فحرفوها وبدلوها ، وخالفوا أوامرها وأولوها . وأرسل الرسل والنبيين من بعده الذين يحكمون بشريعته ، كما قال تعالى : { إِنَّا أَنزلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ } الآية [ المائدة : 44 ] ، ولهذا قال : { وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ } قال السدي ، عن أبي مالك : أتبعنا . وقال غيره : أردفنا . والكل قريب ، كما قال تعالى : { ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا } [ المؤمنون : 44 ] حتى ختم أنبياء بني إسرائيل بعيسى ابن مريم ، فجاء بمخالفة التوراة في بعض الأحكام ، ولهذا أعطاه الله من البينات ، وهي : المعجزات . قال ابن عباس : من إحياء الموتى ، وخلقه من الطين كهيئة الطير فينفخ فيها فتكون طيرًا بإذن الله ، وإبرائه الأسقام ، وإخباره بالغيوب ، وتأييده بروح القدس ، وهو جبريل عليه السلام - ما يدلهم{[2124]} على صدقه فيما جاءهم به . فاشتد تكذيب بني إسرائيل له وحَسَدهم وعنادهم لمخالفة التوراة في البعض ، كما قال تعالى إخبارًا عن عيسى : { وَلأحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ } الآية [ آل عمران : 50 ] . فكانت بنو إسرائيل تعامل الأنبياء عليهم السلام{[2125]} أسوأ المعاملة ، ففريقًا يكذبونه . وفريقًا يقتلونه ، وما ذاك إلا لأنهم كانوا يأتونهم بالأمور المخالفة لأهوائهم وآرائهم وبإلزامهم بأحكام التوراة التي قد تصرفوا في مخالفتها ، فلهذا كان يشق ذلك عليهم ، فيكذبونهم ، وربما قتلوا بعضهم ؛ ولهذا قال تعالى : { أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ }
والدليل على أن روح القدس هو جبريل ، كما نص عليه ابن مسعود في تفسير هذه الآية ، وتابعه على ذلك [ ابن عباس و ] {[2126]} محمد بن كعب القرظي ، وإسماعيل بن أبي خالد ، والسدي ، والربيع بن أنس ، وعطية العوفي ، وقتادة مع قوله تعالى : { نزلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ [ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ ]{[2127]} } [ الشعراء : 193 - 195 ] ما قال البخاري : وقال ابن أبي الزناد ، عن أبيه ، عن عروة ، عن عائشة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وضع لحسان بن ثابت منْبرًا في المسجد ، فكان ينافح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اللهم أيد حسان بروح القدس كما نافح عن نبيك " {[2128]} . وهذا من البخاري تعليق{[2129]}
وقد رواه أبو داود في سننه ، عن لُوَين ، والترمذي ، عن علي بن حجر ، وإسماعيل بن موسى الفزاري ، ثلاثتهم عن عبد الرحمن بن أبي الزناد ، عن أبيه وهشام بن عروة ، كلاهما عن عروة ، عن عائشة به{[2130]} . وقال الترمذي : حسن صحيح ، وهو حديث أبي الزناد{[2131]} .
وفي الصحيحين من حديث سفيان بن عيينة ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة : أن عمر مر بحسان ، وهو ينشد الشعر في المسجد{[2132]} فلحظ إليه ، فقال : قد كنت أنشد فيه ، وفيه من هو خير منك . ثم التفت إلى أبي هريرة ، فقال : أنشدك الله أسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " أجب عني ، اللهم أيده بروح القدس " ؟ . فقال : اللَّهُمَّ نعم{[2133]} .
وفي بعض الروايات : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لحسان : " أهجهم - أو : هاجهم - وجبريل معك " .
وجبريل رسول الله ينادي *** وروح القدس ليس به خفاء ]{[2134]}
وقال محمد بن إسحاق : حدثني عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين المكي ، عن شهر بن حوشب الأشعري : أن نفرًا من اليهود سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : أخبرنا عن الروح . فقال : " أنشدكم بالله وبأيامه{[2135]} عند بني إسرائيل ، هل تعلمون أنه جبريل ؟ وهو الذي يأتيني ؟ " قالوا : نعم{[2136]} .
[ وفي صحيح ابن حبان أظنه عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن روح القدس نفخ{[2137]} في روعي : إن نفسًا لن تموت حتى تستكمل رزقها وأجلها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب " {[2138]} ]{[2139]} .
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زُرْعَة ، حدثنا منْجاب بن الحارث ، حدثنا بشر ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس : { بِرُوحِ الْقُدُسِ } قال : هو الاسم الأعظم الذي كان عيسى يُحيي به
الموتى . وقال ابن جرير : حُدثت عن المنجاب . فذكره . قال ابن أبي حاتم : وروي عن سعيد بن جبير نحو ذلك . [ ونقله القرطبي عن عبيد بن عمير - أيضا - قال : وهو الاسم الأعظم ]{[2140]} .
وقال ابن أبي نَجِيح : الروح هو حفظة على الملائكة .
وقال أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس : القدس هو الرب تبارك وتعالى . وهو قول كعب . وقال السدي : القدس : البركة . وقال العوفي ، عن ابن عباس : القدس : الطهر .
[ وحكى القرطبي عن مجاهد والحسن البصري أنهما قالا القدس : هو الله تعالى ، وروحه : جبريل ، فعلى هذا يكون القول الأول ]{[2141]} .
وقال ابن جرير : حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، أنبأنا ابن وهب قال : قال ابن زيد{[2142]} في قوله تعالى : { وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ } قال : أيد الله عيسى بالإنجيل روحًا كما جعل القرآن روحًا ، كلاهما روح من الله ، كما قال تعالى : { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا } [ الشورى : 52 ] .
ثم قال ابن جرير : وأولى التأويلات في ذلك بالصواب قولُ من قال : الروح في هذا الموضع جبريل ، لأن الله ، عز وجل ، أخبر أنه أيد عيسى به ، كما أخبر في قوله : { إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ } الآية [ المائدة : 110 ] . فذكر أنه أيده به ، فلو كان الروح الذي أيده به هو الإنجيل ، لكان قوله :
{ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ } { وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ } تكرير قول لا معنى له ، والله أعز أن يخاطب عباده بما لا يفيدهم به .
قلت : ومن الدليل على أنه جبريل ما تقدم في أول السياق ؛ ولله الحمد{[2143]} .
وقال الزمخشري { بِرُوحِ الْقُدُسِ } بالروح المقدسة ، كما يقول : حاتم الجود ورجل صدق ووصفها بالقدس كما قال : { وَرُوحٌ مِنْهُ } فوصفه بالاختصاص والتقريب تكرمة ، وقيل : لأنه لم تضمه الأصلاب والأرحام الطوامث ، وقيل : بجبريل ، وقيل : بالإنجيل ، كما قال في القرآن : { رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا } [ الشورى : 52 ] وقيل باسم الله الأعظم الذي كان يحيي الموتى بذكره ، وتضمن كلامه قولا آخر وهو أن المراد روح عيسى نفسه المقدسة المطهرة .
وقال الزمخشري في قوله : { فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ } إنما لم يقل : وفريقًا قتلتم ؛ لأنه أراد بذلك وصفهم في المستقبل - أيضًا - لأنهم حاولوا قتل النبي صلى الله عليه وسلم بالسم والسحر ، وقد قال ، عليه السلام ، في مرض موته : " ما زالت أكلة خيبر تعاودني فهذا أوان انقطاع أبهري " ، وهذا الحديث في صحيح البخاري وغيره{[2144]} .
{ ولقد آتينا موسى الكتاب } أي التوراة { وقفينا من بعده بالرسل } أي أرسلنا على أثره الرسل ، كقوله سبحانه وتعالى : { ثم أرسلنا رسلنا تترى } . يقال قفاه إذا تبعه ، وقفاه به إذا أتبعه إياه من القفا ، نحو ذنبه من الذنب { وآتينا عيسى ابن مريم البينات } المعجزات الواضحات كإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص ، والإخبار بالمغيبات . أو الإنجيل ، وعيسى بالعبرية أبشوع . ومريم بمعنى الخادم ، وهو بالعربية من النساء كالزير من الرجال ، قال رؤبة : قلت لزير لم تصله مريمه . ووزنه مفعل إذ لم يثبت فعيل { وأيدناه } وقويناه ، وقرئ " آيدناه " بالمد { بروح القدس } بالروح المقدسة كقولك : حاتم الجود ، ورجل صدق وأراد به جبريل . وقيل : روح عيسى عليه الصلاة والسلام ، ووصفها به لطهارته عن مس الشيطان ، أو لكرامته على الله سبحانه وتعالى ولذلك أضافه إلى نفسه تعالى ، أو لأنه لم تضمه الأصلاب والأرحام الطوامث ، أو الإنجيل ، أو اسم الله الأعظم الذي كان يحيي به الموتى ، وقرأ ابن كثير { القدس } بالإسكان في جميع القرآن { أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم } بما لا تحبه . يقال هوي بالكسر هوى إذا أحب هويا بالفتح هوى بالضم إذا سقط . ووسطت الهمزة بين الفاء وما تعلقت به توبيخا لهم على تعقيبهم ذاك بهذا وتعجيبا من شأنهم ، ويحتمل أن يكون استئنافا والفاء للعطف على مقدر ، { استكبرتم } عن الإيمان واتباع الرسل . { ففريقا كذبتم } كموسى وعيسى عليهما السلام ، والفاء للسببية أو للتفصيل { وفريقا تقتلون } كزكريا ويحيى عليهما السلام ، وإنما ذكر بلفظ المضارع على حكاية الحال الماضية استحضارا لها في النفوس ، فإن الأمر فظيع . أو مراعاة للفواصل ، أو للدلالة على أنكم بعد فيه فإنكم تحومون حول قتل محمد صلى الله عليه وسلم ، لولا أني أعصمه منكم ، ولذلك سحرتموه وسممتم له الشاة .
{ وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآَتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ }( 87 )
و { الكتاب } التوراة ، ونصبه على المفعول الثاني ل { آتينا } ، { وقفينا } مأخوذ من القفا ، تقول قفيت فلاناً بفلان إذا جئت به من قبل قفاه ، ومنه قفا يقفو إذا اتبع . وهذه الأية مثل قوله تعالى : { ثم أرسلنا رسلنا تترا }( {[909]} ) [ المؤمنون : 144 ] ، وكل رسول جاء بعد موسى عليه السلام فإنما جاء بإثبات التوراة والأمر بلزومها إلى عيسى عليه السلام( {[910]} ) ، وقرأ الحسن ويحيى بن يعمر «بالرسْل » ساكنة السين( {[911]} ) ، ووافقهما أبو عمرو إذا انضاف ذلك إلى ضمير نحو رسلنا ورسلهم ، و { البينات } الحجج التي أعطاها الله عيسى ، وقيل هي آياته من إحياء وإبراء وخلق طير ، وقيل هي الإنجيل ، والآية تعم جميع ذلك ، و { أيدناه } معناه قويناه ، والأيد القوة ، وقرأ ابن محيصن والأعرج وحميد «آيدناه »( {[912]} ) . وقرأ ابن كثير ومجاهد «روح القدْس » بسكون الدال . وقرأ الجمهور بضم القاف والدال ، وفيه لغة فتحهما( {[913]} ) ، وقرأ أبو حيوة «بروح القدوس » بواو ، وقال ابن عباس رضي الله عنه «روح القدس هو الاسم الذي به كان يحيي الموتى » ، وقال ابن زيد : «هو الإنجيل كما سمى الله تعالى القرآن روحاً » وقال السدي والضحاك والربيع وقتادة : «روح القدس جبريل صلى الله عليه وسلم » ، وهذا أصح الأقوال( {[914]} ) . وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لحسان بن ثابت : «اهج قريشاً وروح القدس معك »( {[915]} ) ومرة قال له «وجبريل معك » ، وقال الربيع ومجاهد : { القدس } اسم من أسماء الله تعالى كالقدُّوس( {[916]} ) ، والإضافة على هذا إضافة الملك إلى المالك ، وتوجهت لما كان جبريل عليه السلام من عباد الله تعالى ، وقيل { القدس } الطهارة ، وقيل { القدس } البركة .
وكلما ظرف ، والعامل فيه { استكبرتم } ، وظاهر الكلام الاستفهام ، ومعناه التوبيخ والتقرير( {[917]} ) ، ويتضمن أيضاً الخبر عنهم ، والمراد بهذه الآية بنو إسرائيل .
ويروى أن بني إسرائيل كانوا يقتلون في اليوم ثلاثمائة نبي ثم تقوم سوقهم آخر النهار( {[918]} ) ، وروي سبعين نبياً ثم تقوم سوق بقلهم آخر النهار( {[919]} ) ، وفي { تهوى } ضمير من صلة ما لطول اللفظ ، والهوى أكثر ما يستعمل فيما ليس بحق ، وهذه الآية من ذلك ، لأنهم إنما كانوا يهوون الشهوات ، وقد يستعمل في الحق ، ومنه قول عمر رضي الله عنه في قصة أسرى بدر : «فهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر ولم يهو ما قلت »( {[920]} ) ، و { استكبرتم } من الكبر ، { وفريقاً } مفعول مقدم .