المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ جَآءُو بِٱلۡإِفۡكِ عُصۡبَةٞ مِّنكُمۡۚ لَا تَحۡسَبُوهُ شَرّٗا لَّكُمۖ بَلۡ هُوَ خَيۡرٞ لَّكُمۡۚ لِكُلِّ ٱمۡرِيٕٖ مِّنۡهُم مَّا ٱكۡتَسَبَ مِنَ ٱلۡإِثۡمِۚ وَٱلَّذِي تَوَلَّىٰ كِبۡرَهُۥ مِنۡهُمۡ لَهُۥ عَذَابٌ عَظِيمٞ} (11)

11- إن الذين اخترعوا الكذب الصارف عن كل هداية بالنسبة لعائشة زوج النبي - صلي الله عليه وسلم - إذ أشاعوا حولها الإفك والكذب - هم جماعة ممن يعيشون معكم ، لا تظنوا هذه الحادثة شراً لكم بل هي خير لكم ، لأنها ميَّزت المنافقين من المؤمنين الخالصين ، وأظهرت كرامة المبرئين منها ، والمتألمين ، ولكل شخص من هذه الجماعة المتهمة جزاؤه علي مقدار اشتراكه في هذا الاتهام ، ورأس هذه الجماعة له عذاب عظيم لعظم جرمه .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ جَآءُو بِٱلۡإِفۡكِ عُصۡبَةٞ مِّنكُمۡۚ لَا تَحۡسَبُوهُ شَرّٗا لَّكُمۖ بَلۡ هُوَ خَيۡرٞ لَّكُمۡۚ لِكُلِّ ٱمۡرِيٕٖ مِّنۡهُم مَّا ٱكۡتَسَبَ مِنَ ٱلۡإِثۡمِۚ وَٱلَّذِي تَوَلَّىٰ كِبۡرَهُۥ مِنۡهُمۡ لَهُۥ عَذَابٌ عَظِيمٞ} (11)

{ 11 - 26 } { إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُم } إلى آخر الآيات

وهو قوله : { لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } لما ذكر فيما تقدم ، تعظيم الرمي بالزنا عموما ، صار ذلك كأنه مقدمة لهذه القصة ، التي وقعت على أشرف النساء ، أم المؤمنين رضي الله عنها ، وهذه الآيات ، نزلت في قصة الإفك المشهورة ، الثابتة في الصحاح والسنن والمسانيد .

وحاصلها أن النبي صلى الله عليه وسلم ، في بعض غزواته ، ومعه زوجته عائشة الصديقة بنت الصديق ، فانقطع عقدها فانحبست في طلبه ورحلوا جملها وهودجها ، فلم يفقدوها ، ثم استقل الجيش راحلا ، وجاءت مكانهم ، وعلمت أنهم إذا فقدوها ، رجعوا إليها فاستمروا في مسيرهم ، وكان صفوان بن المعطل السلمي ، من أفاضل الصحابة رضي الله عنه ، قد عرس في أخريات القوم ونام ، فرأى عائشة رضي الله عنها فعرفها ، فأناخ راحلته ، فركبتها من دون أن يكلمها أو تكلمه ، ثم جاء يقود بها بعد ما نزل الجيش في الظهيرة ، فلما رأى بعض المنافقين الذين في صحبة النبي صلى الله عليه وسلم ، في ذلك السفر مجيء صفوان بها في هذه الحال ، أشاع ما أشاع ، ووشى الحديث ، وتلقفته الألسن ، حتى اغتر بذلك بعض المؤمنين ، وصاروا يتناقلون هذا الكلام ، وانحبس الوحي مدة طويلة عن الرسول صلى الله عليه وسلم . وبلغ الخبر عائشة بعد ذلك بمدة ، فحزنت حزنا شديدا ، فأنزل الله تعالى براءتها في هذه الآيات ، ووعظ الله المؤمنين ، وأعظم ذلك ، ووصاهم بالوصايا النافعة . فقوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ } أي : الكذب الشنيع ، وهو رمي أم المؤمنين { عُصْبَةٌ مِنْكُمْ } أي : جماعة منتسبون إليكم يا معشر المؤمنين ، منهم المؤمن الصادق [ في إيمانه ولكنه اغتر بترويج المنافقين ]{[559]}  ومنهم المنافق .

{ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ } لما تضمن ذلك تبرئة أم المؤمنين ونزاهتها ، والتنويه بذكرها ، حتى تناول عموم المدح سائر زوجات النبي صلى الله عليه وسلم ، ولما تضمن من بيان الآيات المضطر إليها العباد ، التي ما زال العمل بها إلى يوم القيامة ، فكل هذا خير عظيم ، لولا مقالة أهل الإفك لم يحصل ذلك ، وإذا أراد الله أمرا جعل له سببا ، ولذلك جعل الخطاب عاما مع المؤمنين كلهم ، وأخبر أن قدح بعضهم ببعض كقدح في أنفسهم ، ففيه أن المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم ، واجتماعهم على مصالحهم ، كالجسد الواحد ، والمؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا ، فكما أنه يكره أن يقدح أحد في عرضه ، فليكره من كل أحد ، أن يقدح في أخيه المؤمن ، الذي بمنزلة نفسه ، وما لم يصل العبد إلى هذه الحالة ، فإنه من نقص إيمانه وعدم نصحه .

{ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ } وهذا وعيد للذين جاءوا بالإفك ، وأنهم سيعاقبون على ما قالوا من ذلك ، وقد حد النبي صلى الله عليه وسلم منهم جماعة ، { وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ } أي : معظم الإفك ، وهو المنافق الخبيث ، عبد الله بن أبي بن سلول -لعنه الله- { لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ } ألا وهو الخلود في الدرك الأسفل من النار .


[559]:- زيادة من هامش: ب.
 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ جَآءُو بِٱلۡإِفۡكِ عُصۡبَةٞ مِّنكُمۡۚ لَا تَحۡسَبُوهُ شَرّٗا لَّكُمۖ بَلۡ هُوَ خَيۡرٞ لَّكُمۡۚ لِكُلِّ ٱمۡرِيٕٖ مِّنۡهُم مَّا ٱكۡتَسَبَ مِنَ ٱلۡإِثۡمِۚ وَٱلَّذِي تَوَلَّىٰ كِبۡرَهُۥ مِنۡهُمۡ لَهُۥ عَذَابٌ عَظِيمٞ} (11)

وبعد أن بين - سبحانه - حكم القذف بالنسبة للمحصنات . وبالنسبة للزوجات ، أتبع - عز وجل - ذلك بإيراد مثل لما قاله المنافقون فى شأن السيدة عائشة - رضى الله عنها - . ولما كان يجب على المؤمنين أن يفعلوه فى مثل هذه الأحوال ، فقال - تعالى - : { إِنَّ الذين . . . } .

قال الإمام ابن كثير ما ملخصه : " هذه الآيات نزلت فى شأن السيدة عائشة - رضى الله عنها - حين رماها أهل الإفك والبهتان من المنافقين ، بما قالوه من الكذب البحت ، والفرية التى غار الله - تعالى - لها ولنبيه صلى الله عليه وسلم فأنزل براءتها صيانة لعرض الرسول صلى الله عليه وسلم .

جاء فى الصحيحين وغيرهما من حديث عائشة أنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه ، فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه . فأقرع بيننا فى غزوة غزاها فخرج سهمى - وكان ذلك فى غزوة بنى المصطلق على الأرجح - ، فخرجت مع النبى صلى الله عليه وسلم ، وذلك بعدما أُنزل الحجاب ، وأنا أُحمل فى هودج وأنزل فيه .

فسرنا حتى إذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوته تلك ، وقفل ودنونا من المدينة ، آذن ليلة بالرحيل ، فقمت حين آذنوا بالرحيل ، حتى جاوزت الجيش .

فلما قضيت من شأنى أقبلت إلى الراحلة ، فلمست صدرى ، فإذا عقد لى قد انقطع ، فرجعت فالتمست عقدى فاحتبسنى ابتغاؤه ، وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلون بى ، فاحتملوا هودجى ، فرحلوه على بعيرى . وهم يحسبون أنى فيه . وكان النساء إذ ذاك خفافا ، لم يثقلهن اللحم ، فلم يستنكر القوم حين رفعوه خفة الهودج ، فاحتملوه ، وكنت جارية حديثة السن ، فبعثوا الجمل وساروا ، فوجدت عقدى بعد ما سار الجيش . فجئت منزلهم ، وليس فيه أحد منهم فيممت منزلى الذى كنت فيه . وظننت أن القوم سيفقدوننى فيرجعون إلى .

فبينا أنا جالسة فى منزلى غلبتنى عيناى فنمت وكان صفوان بن المعطل السلمى ، قد عرَّس - أى تأخر - من وراء الجيش ، فأصبح عند منزلى فرأى سواد إنسان نائم ، فأتانى فعرفنى حين رآنى . وقد كان يرانى قبل أن يُضْرَب علينا الحجاب .

فاستيقظت باسترجاعه حتى عرفنى . فخمرت وجهى بجلبابى ، والله ما كلمنى كلمة ، ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه ، حين أناخ راحلته ، فوطىء على يديها فركبتها ، فانطلق يقود بى الراحلة . حتى أتينا الجيش ، بعدما نزلوا فى نحو الظهيرة . فهلك من هلك فى شأنى ، وكان الذى تولى كبره عبد الله بن أبى بن سلول . . . " .

وقد افتتحت هذه الآيات الكريمة بقوله - تعالى - : { إِنَّ الذين جَآءُوا بالإفك عُصْبَةٌ مِّنْكُمْ } .

والإفك : أشنع الكذب وأفحشه ، يقال أفِكَ فلان - كضرب وعلم - أَفْكاً ، أى : كذب كذبا قبيحا .

والعصبة : الجماعة من العشرة إلى الأربعين ، من العصب وهو الشد ، لأن كل وأحد منها يشد الآخر ويؤازره .

أى : إن الذين قالوا ما قالوا من كذب قبيح ، وبهتان شنيع ، على السيدة عائشة - رضى الله عنها - هم جماعة ينتسبون إليكم - أيها المسلمون - بعضهم قد استزلهم الشيطان .

- كمسطح بن أثاثة - وبعضهم يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر والنفاق - كعبد الله بن أبى بن سلول - وأتباعه .

وفى التعبير بقوله - تعالى - { عُصْبَةٌ } : إشعار بأنهم جماعة لها أهدافها الخبيثة ، التى تواطئوا عل نشرها ، وتكاتفوا على إشاعتها ، بمكر وسوء نية .

وقوله - سبحانه - : { لاَ تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ . . } تسلية للنبى صلى الله عليه وسلم ولأصحابه المؤمنين الصادقين ، عما أصابهم من هم وغم بسبب هذا الحديث البالغ نهاية دركات الكذب والقبح .

أى : لا تظنوا - أيها المؤمنون - أن حديث الإفك هذا هو شر لكم ، بل هو خير لكم ، لأنه كشف عن قوى الإيمان من ضعيفة . كما فضح حقيقة المنافقين وأظهر ما يضمرونه من سوء للنبى صلى الله عليه وسلم ولأهل بيته ، وللمؤمنين ، كما أنكم قد نلتم بصبركم عليه وتكذيبكم له أرفع الدرجات عند الله تعالى .

ثم بين - سبحانه - ما أعده لهؤلاء الخائضين فى حديث الإفك من عقاب فقال : { لِكُلِّ امرىء مِّنْهُمْ مَّا اكتسب مِنَ الإثم } .

أى لكل واحد من هؤلاء الذين اشتركوا فى إشاعة حديث الإفك العقاب الذى يستحقه بسبب ما وقع فيه من آثام ، وما اقترفه من سيئات .

وقوله - تعالى - : { والذي تولى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ } بيان لسوء عاقبة من تولى معظم إشاعة هذا الحديث الكاذب .

والكبر - بكسر الكاف وضمها - مصدر لمعظم الشىء وأكثره .

أى : والذى تولى معظم الخوض فى هذا الحديث الكاذب ، وحرض على إشاعته ، له عذاب عظيم لا يقادر قدره من الله - تعالى - .

والمقصود بهذا الذى تولى كبره . عبد الله بن أبى بن سلول ، رأس المنافقين وزعيمهم ، فهو الذى قاد حملته ، واضطلع بالنصيب الأكبر لإشاعته .

روى أنه لما جاء صفوان بن المعطل يقود راحلته وعليها عائشة - رضى الله عنها - قال عبد الله بن أبى لمن حوله : من هذه ؟ قالوا عائشة فقال - لعنه الله - : امرأة نبيكم باتت مع رجل حتى أصبحت ثم جاء يقودها ، والله ما نجت منه وما نجا منها .

وقال ابن جرير : " والأولى بالصواب قول من قال ، الذى تولى كبره عبد الله بن أبى بن سلول ، وذلك أنه لا خلاف بين أهل العلم بالسير ، وأن الذى بدأ بذكر الإفك . وكان يجمع أهله ويحدثهم به ، هو عبد الله بن ابى بن سلول " .

وقال الآلوسى : " والذى تولى كبره . . . كما فى صحيح البخارى عن الزهرى عن عروة عن عائشة : هو عبد الله بن أبى - عليه اللعنة - وقد سار على ذلك أكثر المحدثين .

أخرج الطبرانى وابن مردويه عن ابن عمر ، أنه بعد نزول هذه الآيات فى براءة السيدة عائشة دعا الرسول صلى الله عليه وسلم أبا عبيدة بن الجراح فجمع الناس ، ثم تلاها عليهم .

ثم بعث إلى عبد الله بن أبى . فجىء به فضربه حدين ، ثم بعث إلى حسان بن ثابت ، ومسطح . وحمنة بنت جحش فضربوا ضربا وجيعا . . . وقيل إن ابن أبى لم يحد أصلا ، لأنه لم يقر ، ولم يلتزم إقامة البينة عليه تأخيرا لجزائه إلى يوم القيامة " .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ جَآءُو بِٱلۡإِفۡكِ عُصۡبَةٞ مِّنكُمۡۚ لَا تَحۡسَبُوهُ شَرّٗا لَّكُمۖ بَلۡ هُوَ خَيۡرٞ لَّكُمۡۚ لِكُلِّ ٱمۡرِيٕٖ مِّنۡهُم مَّا ٱكۡتَسَبَ مِنَ ٱلۡإِثۡمِۚ وَٱلَّذِي تَوَلَّىٰ كِبۡرَهُۥ مِنۡهُمۡ لَهُۥ عَذَابٌ عَظِيمٞ} (11)

هذه العشر الآيات كلها نزلت في شأن عائشة أم المؤمنين ، رضي الله عنها ، حين رماها أهل الإفك والبهتان من المنافقين بما قالوه من الكذب البحت والفرية التي غار الله تعالى{[20833]} لها ولنبيه ، صلوات الله وسلامه عليه ، فأنزل [ الله عز وجل ]{[20834]} براءتها صيانة لعرض الرسول ، عليه أفضل الصلاة والسلام{[20835]} فقال : { إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإفْكِ عُصْبَةٌ } أي : جماعة منكم ، يعني : ما هو واحد ولا اثنان بل جماعة ، فكان المقدَّم في هذه اللعنة{[20836]} عبد الله بن أبي بن سلول رأس المنافقين ، فإنه كان يجمعه ويستوشيه ، حتى دخل ذلك في أذهان بعض المسلمين ، فتكلموا به ، وَجوّزه آخرون منهم ، وبقي الأمر كذلك قريبًا من شهر ، حتى نزل القرآن ، وسياق ذلك في الأحاديث الصحيحة .

وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا مَعْمَر ، عن الزهري قال : أخبرني سعيد بن المسَيَّب ، وعُرْوَة بن الزبير ، وعلقمة بن وقاص ، وعُبَيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ، عن حديث عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ، حين قال لها أهل الإفك ما قالوا ، فبرأها الله ، وكلّهم قد حدثني بطائفة من حديثها ، وبعضهم كان أوعى لحديثها من بعض وأثبت اقتصاصًا ، وقد وعيت عن كل واحد منهم الحديث الذي حدثني ، وبعض حديثهم يصدق بعضًا : ذكروا أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج سَفَرًا أقرع بين نسائه ، فأيتهن خرج سهمها خرج بها رسول الله صلى الله عليه وسلم معه ، قالت عائشة : فأقرع بيننا في غزوة غزاها ، فخرج فيها سهمي ، وخرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذلك بعدما أنزل الحجابُ ، فأنا أحْمَل في هَودَجي وأنزل فيه مسيرنا ، حتى إذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غَزْوه وقفل ودنونا من المدينة ، آذن ليلة بالرحيل ، فقمت حين آذنوا بالرحيل ، فمشيت حتى جاوزت الجيش ، فلما قضيت شأني أقبلت إلى الرحل فلمست صدري ، فإذا عقْد من جَزْع ظَفار قد انقطع ، فرجعت فالتمست عقدي ، فحَبَسني ابتغاؤه . وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلون بي فحملوا هودجي فرحلوه على بعيري الذي كنت أركب - وهم يحسبون أني فيه - قالت : وكان النساء إذ ذاك خفافا لم يُهَلَبْهُنَّ ولم يغشهن اللحمُ ، إنما يأكلن العُلقْة من الطعام . فلم يستنكر القوم ثقل الهودج حين رحلوه ورفعوه ، وكنت جارية حديثة السن ، فبعثوا الجمل وساروا ، ووجدت عقدي بعدما استمر الجيش ، فجئت منازلهم وليس بها داع ولا مجيب ، فتيممت منزلي الذي كنت فيه ، وظننت أن القوم سيفقدوني فيرجعون إليّ . فبينا أنا جالسة في منزلي ، غلبتني عيني فنمت - وكان صفوان بن المعطل السلمي ثم الذّكْوَانَي قد عَرَس من وراء الجيش - فادّلج فأصبح عند منزلي ، فرأى سواد إنسان نائم ، فأتاني فعرفني حين رآني . وقد كان يراني قبل أن يُضْرَب عليّ الحجاب ، فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني ، فخَمَّرت وجهي بجلبابي ، والله ما كلمني كلمة ، ولا سمعت منه كلمة غيرَ استرجاعه ، حتى أناخ راحلته ، فَوْطئ على يَدها فركبتُها ، فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش بعدما نزلوا مُوغرين في نحر الظهيرة . فهلك من هلك في شأني ، وكان الذي تولى كِبْره عبد الله بن أبي بن سلول . فَقَدمتُ المدينة فاشتكيت حين قدمنا شهرا ، والناس يُفيضُون في قول أهل الإفك ، ولا أشعر بشيء من ذلك ، وهو يَريبني في وجعي أني لا أعرف من رسول الله صلى الله عليه وسلم اللُّطْف الذي كنت أرى منه حين أشتكي ، إنما يدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسلم ، ثم يقول : " كيف تِيكُم ؟ " فذلك يَرِيبني ولا أشعر بالشر ، حتى خرجت بعدما نَقِهْت وخَرَجَت معي أم مِسطْح قبل المناصع - وهو مُتَبَرَّزُنا - ولا نخرج إلا ليلا إلى ليل ، وذلك قبل أن نَتَّخذَ الكُنُف قريبا من بيوتنا ، وأمرنا أمر العرب الأول في التنزه ، وكنا نتأذى بالكُنُف أن نتخذها في بيوتنا . فانطلقت أنا وأم مسْطَح - وهي ابنة أبي رُهْم بن المطلب بن عبد مناف ، وأمها ابنة صخر بن عامر ، خالة أبي بكر الصديق ، وابنها مسْطَح بن أثاثة بن عَبَّاد بن المطلب - فأقبلت أنا وابنة أبي رهم قِبَلَ بيتي حين فرغنا من شأننا ، فعثرت أم مسْطح في مِرْطها فقالت : " تَعس مسْطح " . فقلت لها : بئسما قلت ، تسبين رجلا [ قد{[20837]} ] شهد{[20838]} بدرا ؟ قالت : أي هَنْتاه ، ألم{[20839]} تسمعي ما قال ؟ قلت : وماذا قال ؟ فأخبرتني{[20840]} بقول أهل الإفك ، فازددتُ مرضًا إلى{[20841]} مرضي . فلما رجعتُ إلى بيتي دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلم ، ثم قال : " كيف تِيكُم ؟ " قلت : أتأذن لي أن آتي أبويّ ؟ - قالت : وأنا حينئذ أريد أن أتيقن الخبر من قبَلهما - فأذنَ لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجئت أبوي فقلت لأمي : يا أمَّتاه ، ما يتحدث الناس ؟ فقالت : أيْ بُنَية{[20842]} هَوِّني عليك ، فوالله لقلما كانت{[20843]} امرأة قَطّ وضيئة ، عند رجل يحبها ، ولها ضرائر إلا أكثرن عليها . قالت : فقلتُ : سبحان الله أوقد تحدث الناس بهذا ؟ قالت : فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت ، لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم ، ثم أصبحت أبكي . فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عَلِيّا{[20844]} وأسامة بن زيد حين استلبث الوحيُ ، يستشيرهما في فراق أهله ، قالت : فأما أسامة بن زيد فأشار على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذي يعلم من براءة أهله ، وبالذي يعلم في نفسه له من الود ، فقال : يا رسول الله ، هم أهلك ، ولا نعلم إلا خيرا . وأما علي بن أبي طالب فقال : لم يُضيق الله عليك ، والنساء سواها كثير ، وإن تسأل الجارية تصدُقك الخبر . قالت{[20845]} : فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بَريرة ، فقال : " أيْ بَرِيرة ، هل رأيت من شيء يَريبك من عائشة ؟ " فقالت له بريرة : والذي بعثك بالحق إنْ رأيت عليها أمرا قَطّ أغمصُه عليها ، أكثر من أنها جارية حديثة السن ، تنام عن عجين أهلها ، فتأتي الداجن فتأكله ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستعذر من عبد الله بن أبي بن سَلُول . قالت : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر : " يا معشر المسلمين مَنْ يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهل بيتي ، فوالله ما علمت على أهلي إلا خيرًا ، ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرًا ، وما كان يدخل على أهلي إلا معي " . فقام سعد بن معاذ الأنصاري فقال : أنا أعذرك منه يا رسول الله ، إن كان من الأوس ضربنا عنقه ، وإن كان من إخواننا من الخزرج ، أمرتنا ففعلنا أمرك . قالت : فقام سعد بن عبادة - وهو سيد الخزرج ، وكان رجلا صالحا ، ولكن احتملته الحمية - فقال لسعد ابن معاذ : لعمر الله لا تقتله{[20846]} ولا تقدر على قتله . فقام أُسَيد بن حُضير _ وهو ابن عم سعد بن معاذ - فقال لسعد بن عبادة : كذبت ! لعمر الله{[20847]} لنقتلنه ، فإنك منافق تجادل عن المنافقين . فتثاور الحيان الأوس والخزرج حتى هَمّوا أن يقتتلوا ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم [ قائم على المنبر . فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم ]{[20848]} يُخَفّضهم حتى سكتوا وسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قالت : وبكيت يومي ذلك ، لا يرقأ لي دمع ، ولا أكتحل بنوم ، وأبواي يظنان أن البكاء فالق كبدي . قالت : فبينما هما جالسان عندي وأنا أبكي ، استأذَنَت عليَّ امرأة من الأنصار ، فأذنتُ لها ، فجلست تبكي معي ، فبينا نحن على ذلك{[20849]} إذ دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلم ثم جلس - قالت : ولم يجلس عندي منذ قيل [ لي ]{[20850]} ما قيل ، وقد لبث شهرًا لا يُوحَى إليه في شأني شيء - قالت : فتشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جلس ، ثم قال : أما بعد يا عائشة ، فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا ، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله ، وإن كنت ألْمَمْت بذنب فاستغفري الله ثم توبي إليه ، فإن العبد إذا اعترف بذنب ثم تاب ، تاب الله عليه . قالت : فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالته قَلَص دمعي حتى ما أحس منه قطرة ، فقلت{[20851]} لأبي : أجب عني رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال : والله ما أدري ما أقول للرسول . فقلت لأمي : أجيبي عني رسول الله . فقالت : والله ما أدري ما أقول لرسول الله . قالت : فقلت - وأنا جارية حديثة السن ، لا أحفظ{[20852]} كثيرا من القرآن - : [ إني ]{[20853]} والله لقد عرفت أنكم قد سمعتم بهذا ، حتى استقر{[20854]} في أنفسكم وصدقتم به ، ولَئَن{[20855]} قلت لكم إني بريئة - والله يعلم إني بريئة - لا تصدقوني [ بذلك . ولئن اعترفت لكم بأمر والله عز وجل يعلم أني بريئة تصدقوني ]{[20856]} ، وإني والله ما أجد لي{[20857]} ولكم مثلا إلا كما قال أبو يوسف : { فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ } [ يوسف : 18 ] . قالت : ثم تحولت فاضطجعت على فراشي ، قالت : وأنا والله حينئذ أعلم أني بريئة ، وأن الله مُبَرِّئي ببراءتي ، ولكن والله ما كنت أظن أن ينزل في شأني وحي يتلى ، ولشأني كان أحقرَ في نفسي من أن يتكلم الله فِيَّ بأمر يُتلى . ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم رؤْيا يبرّئني الله بها . قالت : فوالله ما رام رسول الله صلى الله عليه وسلم من مجلسه ، ولا خرج من أهل البيت أحد ، حتى أنزل الله على نبيه ، فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء عند الوحي ، حتى إنه لينحدر منه مثل الجُمَان من العرق في اليوم الشاتي ، من ثِقَل القول الذي أنزل عليه . قالت{[20858]} : فلما سُرّيَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يضحك ، كان أول كلمة تكلم بها أن قال : " أبشري يا عائشة ، أما الله{[20859]} فقد بَرّأك{[20860]} . فقالت لي أمي : قومي إليه . فقلت : والله لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله عز وجل ، هو الذي أنزل براءتي{[20861]} وأنزل الله عز وجل : { إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ } عشر آيات . فأنزل الله هذه الآيات في براءتي قالت : فقال أبو بكر ، رضي الله عنه - وكان ينفق على مسطح لقرابته منه وفقره - : والله لا أنفق عليه شيئًا أبدا بعد الذي قال لعائشة . فأنزل الله عز وجل : { وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ } إلى قوله { أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ } [ النور : 22 ] فقال أبو بكر{[20862]} : والله إني لأحب أن يغفر الله لي ، فَرجّع إلى مِسْطَح النفقة التي كان ينفق عليه . وقال : لا أنزعها منه أبدًا .

قالت عائشة : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل زينبَ بنت جحش - زوجَ النبي صلى الله عليه وسلم - ، عن أمري : يا زينب ، ما علمت ، أوما رأيت [ أو ما بلغك ]{[20863]} ؟ فقالت يا رسول الله ، أحمي سمعي وبصري ، والله ما علمتُ إلا خيرًا . قالت عائشة : وهي التي كانت تُسَاميني من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم{[20864]} ، فعصمها الله تعالى بالورع . وطَفِقَت أختها حَمنة بنت جحش تحارب لها ، فهلكت فيمن هلك .

قال ابن شهاب : فهذا ما انتهى إلينا من أمر هؤلاء الرهط .

أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما ، من حديث الزهري{[20865]} . وهكذا رواه ابن إسحاق ، عن الزهري كذلك ، قال : وحدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير ، عن أبيه ، عن عائشة . وحدثني عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري ، عن عمرة ، عن عائشة{[20866]} بنحو{[20867]} ما تقدم ، والله أعلم{[20868]} .

ثم قال البخاري : وقال أبو أسامة ، عن هشام بن عُرْوة قال : أخبَرَني أبي ، عن عائشة رضي الله عنها ، قالت : لما ذُكرَ من شأني الذي ذُكر وما عَلمتُ به ، قام رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فيَّ خطيبا ، فتشهد فَحَمِدَ الله وأثنى عليه بما هو أهله ، ثم قال : " أما بعد ، أشيروا عَلَيّ في أناس أبَنُوا أهلي ، وَايمُ الله ما علمت على أهلي من سوء{[20869]} ، وأبَنُوهم بمَن والله ما علمتُ عليه من سوء قطّ ، ولا يدخل بيتي قط إلا وأنا حاضر ، ولا غبت في سفر إلا غاب معي " . فقام سعد بن معاذ الأنصاري فقال : ائذن يا رسول الله أن نضرب أعناقهم ، فقام رجل من الخزرج - وكانت أمّ حسان [ بن ثابت ]{[20870]} من رهط ذلك الرجل - فقال : كذبت ، أما والله لو كانوا من الأوس ما أحببتَ أن تُضرب أعناقهم . حتى كاد أن يكون بين الأوس والخزرج شَرٌّ في المسجد ، وما عَلمتُ . فلما كان مساء ذلك اليوم ، خرجت لبعض حاجتي ومعي أم مسطح ، فعَثَرتْ فقالت : تَعس مسطح ، فقلت : أيْ أمّ ، أتسبين ابنك ؟ وسكتت ، ثم عَثَرت الثانية فقالت : تَعس مسطح . فقلت لها : أيْ أمّ ، تسبين ابنك ؟ ثم عَثَرت الثالثة فقالت : تَعس مسْطح . فانتهرتها فقالت : والله ما أسبه إلا فيك ، فقلت : في أيّ شأني ؟ قالت : فَبَقَرت لي الحديث . فقلت : وقد كان هذا ؟ قالت : نعم والله . فرجعتُ إلى بيتي كأن الذي خرجت له لا أجد منه قليلا ولا كثيرًا ، ووُعكت ، وقلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أرسلني إلى بيت أبي . فأرسل معي الغلام ، فدخلتُ الدار ، فوجدت أم رومان في السّفل ، وأبا بكر فوق البيت يقرأ ، فقالت [ لي ]{[20871]} أمي : ما جاء بك يا بنية ؟ فأخبرتها ، وذكرتُ لها الحديث ، وإذا هو لم يبلغ منها مثل ما بلغ مني ، [ فقالت : يا بنية ، خَفِّضي عليك الشأن ؛ فإنه - والله - لَقَلَّما كانت امرأة حسناء ، عند رجل يحبها ، لها ضرائر إلا حَسَدنها ، وقيل فيها وإذا هو لم يبلغ منها ما بلغ مني ، فقلت : وقد عَلِم به أبي ؟ قالت : نعم . قلت : ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالت : نعم ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ]{[20872]} . فاستَعْبَرْتُ وبكيت ، فسمعَ أبو بكر صوتي ، وهو فوق البيت يقرأ ، فنزل فقال لأمي : ما شأنها ؟ قالت : بلغها الذي ذُكر من شأنها . ففاضت عيناه وقال{[20873]} : أقسمت عليك - أيْ بُنَيّة - إلا رجعت إلى بيتك فَرَجعتُ ، ولقد جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بيتي ، فسأل عني خادمي{[20874]} فقالت : لا والله ما علمت عليها عيبا ، إلا أنها كانت ترقد حتى تدخل الشاة فتأكل خَميرها - أو : عجينها - وانتهرها بعض أصحابه فقال : اصدُقي رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم حتى أسقطوا لها به ، فقالت : سبحان الله . والله ما علمت عليها إلا ما يعلم الصائغ على تبْر الذهب الأحمر . وبلغ الأمر ذلك الرجلَ الذي قيل له ، فقال : سبحان الله . والله ما كَشَفت كَنَف أنثى قط - قالت عائشة : فقتل شهيدا في سبيل الله - قالت : وأصبح أبواي عندي ، فلم يزالا حتى دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد صَلّى العصر ، ثم دخل وقد اكتنفَني أبواي ، عن يميني وعن شمالي ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : " أما بعد يا عائشة ، إن كنت قارفت سُوءًا أو ظَلَمت فتوبي إلى الله ، فإن الله يقبل التوبة عن عباده " . قالت : وقد جاءت امرأة من الأنصار ، فهي{[20875]} جالسة بالباب ، فقلت : ألا تستحي من هذه المرأة أن تذكر شيئًا ؟ فوعظ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فالتفت إلى أبي ، فقلت له : أجبْه . قال : فماذا أقول ؟ فالتفتُ إلى أمي فقلت : أجيبيه . قالت : أقول ماذا ؟ فلما لم يجيباه ، تَشَّهدتُ فحمدتُ الله وأثنيت عليه بما هو أهله ، ثم قلت : أما بعد ، فَوَالله لَئن قلت لكم إني لم أفعل - والله عز وجل يشهد إني لصادقة - ما ذاك بنافعي عندكم ، لقد تكلمتم به ، وأشْربته قلوبكم ، وإن قلت : إني قد فعلت - والله يعلم أني لم أفعل - لتقولُنَ : قد باءت به على نفسها ، وإني - والله - ما أجد لي ولكم مثلا - والتمستُ اسم يعقوب فلم أقدر عليه - إلا أبا يوسف حين قال : { فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ } [ يوسف : 18 ] ، وأنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم من ساعته ، فسكتنا ، فَرُفع عنه وإني لأتبين السرور في وجهه ، وهو يمسح جبينه ويقول : " أبشري يا عائشة ، فقد أنزل الله براءتك " قالت : وكنت{[20876]} أشد ما كنتُ غضبًا ، فقال لي أبواي : قومي [ إليه ]{[20877]} فقلت : لا والله لا أقوم إليه ولا أحمده ولا أحمدكما ، ولكن أحمد الله الذي أنزل براءتي ، لقد سمعتموه فما أنكرتموه ولا غَيَّرتموه ، وكانت عائشة تقول : أما زينب بنت جحش فقد عصمها الله بدينها ، فلم تقل إلا خيرًا . وأما أختها حَمنة بنت جحش ، فهلكت فيمن هلك . وكان الذي يتكلم به{[20878]} مسطح وحسان بن ثابت . وأما المنافق عبد الله بن أبي بن سلول فهو الذي [ كان ]{[20879]} يستوشيه ويجمعه ، وهو الذي تولى كِبْرَه منهم هو وحمنة . قالت : وحلف أبو بكر ألا ينفع مسطحًا بنافعة أبدًا ، فأنزل الله : { وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ } إلى آخر الآية ، يعني : أبا بكر ، { وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ } يعني : مسطحا ، إلى قوله : { أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [ النور : 22 ] . فقال أبو بكر : بلى والله يا رَبّنا ، إنا لنُحِبّ أن تغفر لنا وعاد له بما كان يصنع .

هكذا رواه البخاري من هذا الوجه مُعَلَّقا بصيغة الجزم{[20880]} عن أبي أسامة حماد بن أسامة [ أحد الأئمة الثقات . وقد رواه ابن جرير في تفسيره ، عن سفيان بن وَكيع ، عن أبي أسامة ]{[20881]} به مطولا مثله أو نحوه . {[20882]} ورواه ابن أبي حاتم عن أبي سعيد الأشج ، عن أبي أسامة ، ببعضه .

وقال الإمام أحمد : حَدَثنا هُشَيْم ، أخبرنا عمر{[20883]} بن أبي سلمة ، عن أبيه ، عن عائشة ، رضي الله عنها ، قالت : لما نزل عُذْري من السماء ، جاءني النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرني بذلك ، فقلت : نَحمدُ الله لا نَحمدك{[20884]} .

وقال الإمام أحمد : حدثني ابن أبي عَدِيّ ، عن محمد بن إسحاق ، عن عبد الله بن أبي بكر ، عن عَمْرَةَ ، عن عائشة قالت : لما نزل عُذْري قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك ، وتلا القرآن ، فلما نزل أَمَر برجلين وامرأة فَضُربوا حدهم{[20885]} .

وأخرجه أهل السنن الأربعة ، وقال الترمذي : هذا حديث حسن . ووقع عند أبي داود تسميتهم : حسان بن ثابت ، ومِسْطح بن أثاثة ، وحَمْنة بنت جحش .

فهذه طرق متعددة ، عن أم المؤمنين عائشة ، رضي الله عنها ، في المسانيد والصحاح والسنن وغيرها{[20886]} .

وقد رُوي من حديث أمها أمّ رومان ، رضي الله عنها ، فقال الإمام أحمد :

حدثنا علي بن عاصم ، أخبرنا حُصَين ، عن أبي وائل ، عن مسروق ، عن أم رومان قالت : بينا أنا عند عائشة ، إذ دخلت عليها{[20887]} امرأة من الأنصار فقالت : فعل الله - بابنها - وفعل . فقالت عائشة : ولم ؟ قالت : إنه كان فيمن حَدَّث الحديث . قالت عائشة : وأي حديث ؟ قالت : كذا وكذا . قالت : وقد بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالت : نعم ، وبلغ أبا بكر ؟ قالت : نعم ، فخرت عائشة ، رضي الله عنها ، مغشيا عليها ، فما أفاقت إلا وعليها حمى بنافض . قالت : فقمت فدثرتها ، قالت : وجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " ما شأن هذه ؟ " قلت : يا رسول الله ، أخذتها حمى بنافض . قال : فلعله في حديث تُحُدِّث به " . قالت : فاستوت له عائشة قاعدة فقالت : والله لئن حلفت لكم لا تصدقوني ، ولئن اعتذرت إليكم لا تُعذرُوني ، فمثلي ومثلكم كمثل يعقوب وبنيه { وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ } [ يوسف : 18 ] قالت : وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله عذرها ، فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم معه أبو بكر ، [ فدخل فقال : " يا عائشة ، إن الله تعالى قد أنزل عذرك " . فقالت : بحمد الله لا بحمدك . فقال لها أبو بكر : تقولين هذا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالت : نعم . قالت : فكان فيمن حدث هذا الحديث رجل كان يعوله أبو بكر ]{[20888]} فحلف أبو بكر ألا يصله ، فأنزل الله : { وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ } إلى آخر الآية[ النور : 22 ] ، قال أبو بكر : بلى ، فوصله .

تفرد به البخاري دون مسلم ، من طريق حُصَين{[20889]} وقد رواه البخاري ، عن موسى بن إسماعيل ، عن أبي عَوَانة - وعن محمد بن سلام - ، عن محمد بن فضيل ، كلاهما عن حصين ، به{[20890]} وفي لفظ أبي عوانة : حدثتني أم رومان . وهذا صريح في سماع مسروق منها ، وقد أنكر ذلك جماعة من الحفاظ ، منهم الخطيب البغدادي ، وذلك لما ذكره أهل التاريخ أنها ماتت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال الخطيب : وقد كان مسروق يرسله فيقول : " سئلت أم رومان " ، ويسوقه ، فلعل بعضهم كتب " سُئلت " بألف ، فاعتقد الراوي أنها " سَألت " ، فظنه متصلا . قال الخطيب : " وقد رواه البخاري كذلك ، ولم تظهر{[20891]} له علته " . كذا قال ، والله أعلم .

فقوله : { إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإفْكِ } أي : بالكذب والبهت والافتراء ، { عُصْبَةٌ } أي : جماعة منكم ، { لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ } أي : يا آل أبي بكر { بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ } أي : في الدنيا والآخرة ، لسان صدق في الدنيا ورفعة منازل في الآخرة ، وإظهار شرف لهم باعتناء الله بعائشة أم المؤمنين ، حيث أنزل الله تعالى براءتها في القرآن العظيم الذي { لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } [ فصلت : 42 ] ولهذا لما دخل عليها ابن عباس ، رضي الله عنه{[20892]} وهي في سياق الموت ، قال لها : أبشري فإنك زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان يحبك ، ولم يتزوج بكرًا غيرك ، وأنزل{[20893]} براءتك من السماء{[20894]} .

وقال ابن جرير في تفسيره : حدثني محمد بن عثمان الواسطي ، حدثنا جعفر بن عون ، عن المعلى بن عرفان ، عن محمد بن عبد الله بن جَحْش قال : تفاخَرَت عائشةُ وزينبُ ، رضي الله عنهما ، فقالت زينب : أنا التي نزل تزوُّجي [ من السماء ]{[20895]} قال : وقالت عائشة : أنا التي نزل عُذري في كتابه ، حين حملني ابن المعطل على الراحلة . فقالت لها زينب : يا عائشة ، ما قلت حين ركبتيها ؟ قالت : قلت : حسبي الله ونعم الوكيل . قالت : قلت كلمة المؤمنين{[20896]} .

وقوله : { لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإثْمِ } أي : لكل من تكلم في هذه القضية ورَمَى أم المؤمنين عائشة ، رضي الله عنها ، بشيء من الفاحشة ، نصيب عظيم من العذاب .

{ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ } {[20897]} قيل : ابتدأ به . وقيل : الذي كان يجمعه ويستوشيه ويذيعه ويشيعه ، { لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ } أي : على ذلك .

ثم الأكثرون على أن المراد بذلك إنما هو عبد الله بن أبي بن سَلُول - قبحه الله ولعنه - وهو الذي تقدم النص عليه في الحديث ، وقال ذلك مجاهد وغير واحد .

وقيل : بل المراد به حسان بن ثابت ، وهو قول غريب ، ولولا أنه وقع في صحيح البخاري ما قد يدل على ذلك لما كان لإيراده كبير فائدة ، فإنه من الصحابة الذين كان لهم فضائل ومناقب ومآثر ، وأحسن محاسنه أنه كان يَذُب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم [ بشعره ]{[20898]} ، وهو الذي قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هاجهم وجبريل معك "

وقال الأعمش ، عن أبي الضُّحَى ، عن مسروق قال : كنتُ عندَ عائشة ، رضي الله عنها ، فدخل حسان بن ثابت ، فأمرت فألقي له وسادة ، فلما خرج قلت لعائشة : ما تصنعين بهذا ؟ يعني : يدخل عليك - وفي رواية قيل لها : أتأذنين لهذا يدخل عليك ، وقد قال الله : { وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ } ؟ قالت : وأيُّ عذاب أشدّ من العمى - وكان قد ذهب بصره - لعل الله أن يجعل ذلك هو العذاب العظيم . ثم قالت : إنه كان يُنافحُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وفي رواية أنه أنشدها عندما دخل عليها [ شعرا ]{[20899]} يمتدحها به ، فقال :

حَصَان رَزَانٌ ما تُزَنّ{[20900]} بريبة *** وتُصْبح غَرْثَى من لُحوم الغَوَافل

فقالت : أما أنت فلست كذلك . وفي رواية : لكنك لست كذلك{[20901]} .

وقال ابن جرير : حدثنا الحسن بن قَزْعَة ، حدثنا سلمة بن علقمة ، حدثنا داود ، عن عامر ، عن عائشة أنها قالت : ما سمعت بشيء أحسن من شعر حسان ، ولا تمثلت به إلا رجوت له الجنة ، قوله لأبي سفيان - يعني ابن [ الحارث ]{[20902]} بن عبد المطلب - :

هَجَوتَ مُحَمَّدا فَأجبتُ{[20903]} عنه *** وَعندَ الله في ذاك الجزاءُ

فَإنَ أبي وَوَالده وعِرْضي *** لعرْضِ مُحَمَّد منكم وقاءُ

أَتَشْتُمُه ، ولستَ لَه بكُفءٍ? *** فَشَرُّكُمَا لخَيْركُمَا الفدَاءُ

لِسَانِي صَارمٌ لا عَيْبَ فِيه *** وَبَحْرِي لا تُكَدِّرُه الدِّلاءُ

فقيل : يا أم المؤمنين ، أليس هذا لغوا ؟ قالت : لا إنما اللغو ما قيل عند النساء . قيل : أليس الله يقول { وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ } ، قالت : أليس قد أصابه [ عذاب ]{[20904]} عظيم ؟ [ أليس ]{[20905]} قد ذهب بصره وكُنِّع بالسيف ؟ تعني : الضربة التي ضربه إياها{[20906]} صفوان بن المعطل [ السلمي ]{[20907]} ، حين بلغه عنه أنه يتكلم في ذلك ، فعلاه بالسيف ، وكاد أن يقتله{[20908]} .


[20833]:- في أ : "جل شأنه".
[20834]:- زيادة من ف ، أ.
[20835]:- في أ : "صلى الله عليه وسلم"
[20836]:- في أ : "العصبة".
[20837]:- زيادة من ف ، أ : والمسند.
[20838]:- في أ : "شاهد".
[20839]:- في ف : "أولم".
[20840]:- في ف ، أ : "وماذا قال ؟ قالت : فأخبرتني".
[20841]:- في أ : "على".
[20842]:- في ف ، أ : "يا بنية".
[20843]:- في ف : "ما كانت".
[20844]:- في المسند : "علي بن أبي طالب"
[20845]:- في ف : "قال".
[20846]:- في ف : "لعمر والله لنقتلنه".
[20847]:- في ف : "والله".
[20848]:- زيادة من ف ، أ ، والمسند.
[20849]:- في ف ، أ : "كذلك".
[20850]:- زيادة من ف ، أ ، والمسند.
[20851]:- في ف ، أ : "قلت".
[20852]:- في ف ، أ : "لا أقرأ".
[20853]:- زيادة من ف ، أ ، والمسند.
[20854]:- في ف ، أ : "استقرت".
[20855]:- في ف : "وإن".
[20856]:- زيادة من ف ، أ ، والمسند.
[20857]:- في ف : "والله إني لا أجد لي".
[20858]:- في ف : "ذلك".
[20859]:- في ف ، أ : "والله".
[20860]:- في ف ، أ : "فقد برأك الله".
[20861]:- في أ : "هو الذي برأني.
[20862]:- في ف ، أ : "فقال أبو بكر : أي والله".
[20863]:- زيادة من ف ، أ ، والمسند.
[20864]:- في ف ، أ : "رسول الله".
[20865]:- المسند (6/194) وصحيح البخاري برقم (4750) وصحيح مسلم برقم (2770).
[20866]:- في ف ، أ : "عمرة ، أخبرني أبي ، عن عائشة".
[20867]:- في ف : "نحو".
[20868]:- رواه ابن هشام في السيرة (2/297) من طريق ابن إسحاق ، ورواه الحافظ ابن ديزيل في جزئه برقم (2) من طريق أبي أويس ، عن عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم الأنصاري ، عن عمرة ، عن عائشة.
[20869]:- في ف ، أ : "ما علمت على أهلي إلا خيرا ، أو ما علمت على أهلي من سوء".
[20870]:- زيادة من ف ، أ ، والبخاري.
[20871]:- في ف ، أ : "فقالت لي أمي".
[20872]:- زيادة من ف ، أ ، والبخاري.
[20873]:- في ف : "فقال".
[20874]:- في ف ، أ : "خادمتي".
[20875]:- في ف : "وهي".
[20876]:- في ف : "فكنت".
[20877]:- زيادة من ف ، أ ، والبخاري.
[20878]:- في ف : "فيه".
[20879]:- زيادة من ف ، أ ، والبخاري.
[20880]:- صحيح البخاري برقم (4757).
[20881]:- زيادة من ف ، أ.
[20882]:- تفسير الطبري (18/74) ورواه الحافظ ابن ديزيل في جزئه برقم (1) من طريق إسماعيل بن أبي أويس ، عن أبيه ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة مثله.
[20883]:- في أ : "عمرو".
[20884]:- المسند (6/30).
[20885]:- المسند (6/35) وسنن أبي داود برقم (4474) وسنن الترمذي برقم (3181) والنسائي في السنن الكبرى برقم (7351) وسنن ابن ماجه برقم (2567).
[20886]:- في ف : "وغيرهم".
[20887]:- في ف : "علينا".
[20888]:- زيادة من ف ، أ ، والمسند.
[20889]:- المسند (6/367) وصحيح البخاري برقم (4751).
[20890]:- صحيح البخاري برقم (4143) من رواية موسى بن إسماعيل ، وبرقم (3388) من رواية محمد بن سلام.
[20891]:- في ف : "يظهر".
[20892]:- في ف : "عنها".
[20893]:- في ف : "ونزلت".
[20894]:- رواه البخاري في صحيحه برقم (4753).
[20895]:- زيادة من ف ، أ.
[20896]:- تفسير الطبري (18/70).
[20897]:- في ف ، أ : "كبره منهم".
[20898]:- زيادة من ف ، أ.
[20899]:- زيادة من ف ، أ.
[20900]:- في ف : "ما ترن".
[20901]:- صحيح البخاري برقم (4146) حدثني بشر بن خالد ، عن محمد بن جعفر، عن شعبة ، عن الأعمش ، به.
[20902]:- زيادة من ف ، أ.
[20903]:- في ف : "وأجبت".
[20904]:- زيادة من ف ، أ ، والطبري.
[20905]:- زيادة من ف ، أ ، والطبري.
[20906]:- في ف : "ضربها إياه".
[20907]:- زيادة من ف ، أ.
[20908]:- تفسير الطبري (18/69).
 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ جَآءُو بِٱلۡإِفۡكِ عُصۡبَةٞ مِّنكُمۡۚ لَا تَحۡسَبُوهُ شَرّٗا لَّكُمۖ بَلۡ هُوَ خَيۡرٞ لَّكُمۡۚ لِكُلِّ ٱمۡرِيٕٖ مِّنۡهُم مَّا ٱكۡتَسَبَ مِنَ ٱلۡإِثۡمِۚ وَٱلَّذِي تَوَلَّىٰ كِبۡرَهُۥ مِنۡهُمۡ لَهُۥ عَذَابٌ عَظِيمٞ} (11)

{ إن الذين جاءوا بالإفك } بأبلغ ما يكون من الكذب من الإفك ، وهو الصرف لأنه قول مأفوك عن وجهه ، والمراد ما أفك به على عائشة رضي الله تعالى عنها . وذلك أنه عليه الصلاة والسلام استصحبها في بعض الغزوات فأذن ليلة في القفول بالرحيل ، فمشت لقضاء حاجة ثم عادت إلى الرحل فلمست صدرها فإذا عقد من جزع ظفار قد انقطع ، فرجعت لتلتمسه فظن الذي كان يرحلها أنها دخلت الهودج فرحله على مطيتها وسار ، فلما عادت إلى منزلها لم تجد ثمة أحدا فجلست كي يرجع إليها منشد ، وكان صفوان بن المعطل السلمي رضي الله عنه قد عرس وراء الجيش فأدلج فأصبح عند منزلها فعرفها فأناخ راحلته فركبتها فقادها حتى أتيا الجيش فاتهمت به . { عصبة منكم } جماعة منكم وهي من العشرة إلى الأربعين وكذلك العصابة ، يريد عبد اله بن أبي ، وزيد بن رفاعة ، وحسان بن ثابت ، ومسطح بن أثاثة ، وحمنة بنت جحش ومن ساعدهم ، وهي خبر إن وقوله : { لا تحسبوه شرا لكم } مستأنف والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعائشة وصفوان رضي اله تعالى عنهم والهاء للإفك . { بل هو خير لكم } لاكتسابكم به الثواب العظيم وظهور كرامتكم على الله بإنزال ثماني عشرة آية في براءتكم ، وتعظيم شأنكم وتهويل الوعيد لمن تكلم فيكم والثناء على من ظن بكم خيرا . { لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم } لكل جزاء ما اكتسب بقدر ما خاض فيه مختصا به . { والذي تولى كبره } معظمه وقرأ يعقوب بالضم وهو لغة فيه . { منهم } من الخائضين وهو ابن أبي فإنه بدأ به وأذاعه عداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو هو وحسان ومسطح فإنهما شايعاه بالتصريح به { والذي } بمعنى الذين . { له عذاب عظيم } في الآخرة أو في الدنيا بأن جلدوا وصار ابن أبي مطرودا مشهورا بالنفاق ، وحسان أعمى أشل اليدين ، ومسطح مكفوف البصر .