61- ليس علي أصحاب الأعذار كالأعمى والأعرج والمريض حرج ، بل ولا عليكم أيها الأصحاء حرج في أن تأكلوا من بيوت أولادكم فهي بيوتكم ، ولا أن تأكلوا من بيوت آبائكم أو أمهاتكم أو إخوانكم أو أخواتكم أو بيوت أعمامكم أو عماتكم أو أخوالكم أو خالاتكم ، أو البيوت التي وكل إليكم التصرف فيها ، أو بيوت أصدقائكم المخالطين إذا لم يكن فيها حرمات ، وذلك كله إذا عُلِم سماح رب البيت بإذن أو قرينة ، وليس عليكم جناح في أن تأكلوا مجتمعين أو منفردين ، فإذا دخلتم بيوتاً فحيوا بالسلام أهلها الذين هم قطعة منكم بسبب اتحاد الدين أو القرابة فهم كأنفسكم ، وهذه التحية تحية مشروعة مباركة بالثواب وفيها تطييب للنفوس وعلي هذا النحو يوضح الله لكم الآيات لتعقلوا ما فيها من العظات والأحكام وتفهموها وتعملوا بها .
{ 61 ْ } { لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ْ }
يخبر تعالى عن منته على عباده ، وأنه لم يجعل عليهم في الدين من حرج بل يسره غاية التيسير ، فقال : { لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ ْ } أي : ليس على هؤلاء جناح ، في ترك الأمور الواجبة ، التي تتوقف على واحد منها ، وذلك كالجهاد ونحوه ، مما يتوقف على بصر الأعمى ، أو سلامة الأعرج ، أو صحة للمريض ، ولهذا المعنى العام الذي ذكرناه ، أطلق الكلام في ذلك ، ولم يقيد ، كما قيد قوله : { وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ ْ } أي : حرج { أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ ْ } أي : بيوت أولادكم ، وهذا موافق للحديث الثابت : " أنت ومالك لأبيك " والحديث الآخر : " إن أطيب ما أكلتم من كسبكم ، وإن أولادكم من كسبكم " وليس المراد من قوله : { مِنْ بُيُوتِكُمْ ْ } بيت الإنسان نفسه ، فإن هذا من باب تحصيل الحاصل ، الذي ينزه عنه كلام الله ، ولأنه نفى الحرج عما يظن أو يتوهم فيه الإثم من هؤلاء المذكورين ، وأما بيت الإنسان نفسه فليس فيه أدنى توهم .
{ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ ْ } وهؤلاء معروفون ، { أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ ْ } أي : البيوت التي أنتم متصرفون فيها بوكالة ، أو ولاية ونحو ذلك ، وأما تفسيرها بالمملوك ، فليس بوجيه ، لوجهين : أحدهما : أن المملوك لا يقال فيه " ملكت مفاتحه " بل يقال : " ما ملكتموه " أو " ما ملكت أيمانكم " لأنهم مالكون له جملة ، لا لمفاتحه فقط .
والثاني : أن بيوت المماليك ، غير خارجة عن بيت الإنسان نفسه ، لأن المملوك وما ملكه لسيده ، فلا وجه لنفي الحرج عنه .
{ أَوْ صَدِيقِكُمْ ْ } وهذا الحرج المنفي عن الأكل{[572]} من هذه البيوت كل ذلك ، إذا كان بدون إذن ، والحكمة فيه معلومة من السياق ، فإن هؤلاء المسمين{[573]} قد جرت العادة والعرف ، بالمسامحة في الأكل منها ، لأجل القرابة القريبة ، أو التصرف التام ، أو الصداقة ، فلو قدر في أحد من هؤلاء عدم المسامحة والشح في الأكل المذكور ، لم يجز الأكل ، ولم يرتفع الحرج ، نظرا للحكمة والمعنى .
وقوله : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا ْ } فكل ذلك جائز ، أكل أهل البيت الواحد جميعا ، أو أكل كل واحد منهم وحده ، وهذا نفي للحرج ، لا نفي للفضيلة وإلا فالأفضل الاجتماع على الطعام .
{ فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا ْ } نكرة في سياق الشرط ، يشمل بيت الإنسان وبيت غيره ، سواء كان في البيت ساكن أم لا ، فإذا دخلها الإنسان { فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ ْ } أي : فليسلم بعضكم على بعض ، لأن المسلمين كأنهم شخص واحد ، من تواددهم ، وتراحمهم ، وتعاطفهم ، فالسلام مشروع لدخول سائر البيوت ، من غير فرق بين بيت وبيت ، والاستئذان تقدم أن فيه تفصيلا في أحكامه ، ثم مدح هذا السلام فقال : { تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً ْ } أي : سلامكم بقولكم : " السلام عليكم ورحمة الله وبركاته " أو " السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين " إذ تدخلون البيوت ، { تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ْ } أي : قد شرعها لكم ، وجعلها تحيتكم ، { مُبَارَكَةً ْ } لاشتمالها على السلامة من النقص ، وحصول الرحمة والبركة والنماء والزيادة ، { طَيِّبَةً ْ } لأنها من الكلم الطيب المحبوب عند الله ، الذي فيه طيبة نفس للمحيا ، ومحبة وجلب مودة .
لما بين لنا هذه الأحكام الجليلة قال :
{ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ الآيَاتِ ْ } الدالات على أحكامه الشرعية وحكمها ، { لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ْ } عنه فتفهمونها ، وتعقلونها بقلوبكم ، ولتكونوا من أهل العقول والألباب الرزينة ، فإن معرفة أحكامه الشرعية على وجهها ، يزيد في العقل ، وينمو به اللب ، لكون معانيها أجل المعاني ، وآدابها أجل الآداب ، ولأن الجزاء من جنس العمل ، فكما استعمل عقله للعقل عن ربه ، وللتفكر في آياته التي دعاه إليها ، زاده من ذلك .
وفي هذه الآيات دليل على قاعدة عامة كلية وهي : أن " العرف والعادة مخصص للألفاظ ، كتخصيص اللفظ للفظ " فإن الأصل ، أن الإنسان ممنوع من تناول طعام غيره ، مع أن الله أباح الأكل من بيوت هؤلاء ، للعرف والعادة ، فكل مسألة تتوقف على الإذن من مالك الشيء ، إذا علم إذنه بالقول أو العرف ، جاز الإقدام عليه .
وفيها دليل على أن الأب يجوز له أن يأخذ ويتملك من مال ولده ما لا يضره ، لأن الله سمى بيته بيتا للإنسان .
وفيها دليل على أن المتصرف في بيت الإنسان ، كزوجته ، وأخته ونحوهما ، يجوز لهما الأكل عادة ، وإطعام السائل المعتاد .
وفيها دليل ، على جواز المشاركة في الطعام ، سواء أكلوا مجتمعين ، أو متفرقين ، ولو أفضى ذلك إلى أن يأكل بعضهم أكثر من بعض .
ثم انتقلت السورة الكريمة بعد ذلك إلى الحديث عن أحكام أخرى فيها ما فيها من حسن للتنظيم فى العلاقات بين الأقارب والأصدقاء ، وفيها ما فيها من اليسر والسماحة ، فقال - تعالى - : { لَّيْسَ عَلَى الأعمى . . } .
ذكر المفسرون فى سبب نزول هذه الآية روايات منها ما روى عن ابن عباس أنه قال : لما أنزل الله - تعالى - : { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطل . . } تحرج المسلمون عن مؤاكلة المرضى والعمى والعرج ، وقالوا : الطعام أفضل الأموال ، وقد نهانا الله عن أكل المال والباطل ، والأعمى لا يبصر موضع الطعام الطيب ، والأعرج لا يتمكن من الجلوس ، ولا يستطيع المزاحمة ، والمريض يضعف عن التناول ولا يستوفى من الطعام حقه ، فأنزل الله هذه الآية .
وقيل نزلت ترخيصا لهؤلاء فى الأكل من بيوت من سمى الله فى هذه الآية ، وذلك أن هؤلاء كانوا يدخلون على الرجل لطلب الطعام ، فإذا لم يكن عنده شىء ذهب بهم إلى بيت أبيه ، أو بيت أمه ، أو بعض من سمى الله فى هذه الآية ، فكان أهل الزمانة يتحرجون من ذلك ، ويقولون ذهب بنا إلى غير بيته ، فأنزل الله هذه الآية .
وقيل نزلت رخصة للأعمى والأعرج والمريض عن التخلف عن الجهاد . . .
ويبدو لنا أن الآية الكريمة نزلت لتعليم المؤمنين ألوانا متعددة من الآداب التى شرعها الله - تعالى - لهم ، ويسرها لهم بفضله وإحسانه ، حتى يعلموا أن شريعته - سبحانه - مبنية على اليسر لا على العسر ، وعلى التخفيف ورفع الحرج ، لا على التشديد والتضييق .
والحرج : الضيق ومنه الحرجة للشجر الملتف المتكاثف بعضه ببعض ، حتى ليصعب على الشخص أن يمشى فيه . والمراد به هنا : الإثم .
والمعنى : ليس على الأعمى والأعرج والمريض حرج أو إثم فى الأكل من بيوت هؤلاء الذين سماهم الله - تعالى - .
كذلك ليس عليكم حرج أو إثم - أيها المؤمنون - فى أن تأكلوا أنتم ومن معكم { مِن بُيُوتِكُمْ } التى هى ملك لكم .
وذكر - سبحانه - بيوتهم هنا مع أنه من المعروف أنه لا حرج فى أن يأكل الإنسان من بيته ، للإشعار بأن أكلهم من بيوت الذين سيذكرهم - سبحانه - بعد ذلك من الآباء والأمهات والأقارب ، يتساوى فى نفى الحرج مع أكلهم من بيوتهم أى أن أكل الناس من بيوتهم لم يذكر هنا لنفى حرج كان متوهما ، وإنما ذكر لإظهار التسوية بين أكلهم من بيوت أقاربهم وأصدقائهم ، وبين أكلهم من بيوتهم .
وبعضهم يرى أن المراد بقوله { أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ } أى : من بيوت زوجاتهم وأولادهم .
ثم ذكر - سبحانه - بيوتا أخرى لا حرج عليهم فى الأكل منها فقال : { أَوْ بُيُوتِ آبَآئِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالاَتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَّفَاتِحهُ } أى : أو البيوت التى تملكون التصرف فيها بإذن أصحابها ، كأن تكونوا وكلاء عنهم فى التصرف فى أموالهم .
ومفاتح : جمع مفتح - بكسر الميم - وهو آلة الفتح وملك هذه المفاتح : كناية عن كون الشىء تحت يد الشخص وتصرفه .
وقوله { أَوْ صَدِيقِكُمْ } معطوف على ما قبله والصديق هو من يصدق فى مودتك ، وتصدق أنت فى مودته ، وهو اسم جنس يطلق على الواحد والجمع ، والمراد هنا : الجمع . أى : ولا حرج عليكم - أيضا - فى الأكل من بيوت اصدقائكم .
فالآية الكريمة قد أجازت الأكل من هذه البيوت المذكورة ، وهى أحد عشر بيتا - وإن لم يكن فيها أصحابها ، ما دام الآكل قد علم رضا صاحب البيت بذلك ، وأن صاحب البيت ، لا يكره هذا ولا يتضرر منه ، استناداً إلى القواعد العامة فى الشريعة ، والتى منها : " لا ضرر ولا ضرار " وأنه " لا يحل مال امرىء مسلم إلا بطيب نفس منه " .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت : فما معنى { أَوْ صَدِيقِكُمْ } قلت : معناه : أو بيوت أصدقائكم ، والصديق يكون واحدا وجمعا ، وكذلك الخليط والقطين والعدو .
ويحكى عن الحسن أنه دخل داره ، وإذا جماعة من أصدقائه قد استلوا سلالا من تحت سريره فيها أطايب الأطعمة . وهم مكبون عليها يأكلون فتهللت أسارير وجهه سرورا وضحك وقال : هكذا وجدناهم ، هكذا وجدناهم . يريد أكابر الصحابة ومن لقيهم من البدريين .
وكان الرجل منهم يدخل دار صديقه وهو غائب فيسأل جاريته كيسه . فيأخذ منه ما شاء ، فإذا حضر مولاها فأخبرته ، أعتقها سرورا بذلك .
وقوله - سبحانه - : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُواْ جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً } بيان لنوع آخر من أنواع السماحة فى شريعة الإسلام .
والأشتات : جمع شَتّ - بفتح الشين - يقال : شت الأمر يشت شتا وشتاتا ، إذا تفرق . ويقال : هذا أمر شت ، أى : متفرق .
أى : ليس عليكم - أيها المؤمنون - حرج أو إثم فى أن تأكلوا مجتمعين أو متفرقين ، وقد كان بعضهم من عاداته أن لا يأكل منفردا ، فإن لم يجد من يأكل معه عاف الطعام ، فرفع الله - تعالى - هذا الحرج المتكلف ، ورد الأمر إلى ما تقتضيه شريعة الإسلام من بساطة ويسر وعدم تكلف ، فأباح لهم أن يأكلوا فرادى ومجتمعين .
فالجملة الكريمة بيان للحالة التى يجوز عليها الأكل ، بعد بيان البيوت التى يجوز الأكل منها والمتأمل فى هذه الآية الكريمة يراها قد اشتملت على أحكم الأداء للترتيب اللفظى والموضوعى ، فقد بدأت ببيت الإنسان نفسه ، ثم بيوت الآباء ، فالأمهات ، فالإخوة ، فالأخوات ، فالأقارب ، فالبيوت التى يملكون التصرف فيها ؛ فبيوت الأصدقاء . . .
ثم لم يكتف بذلك ، وإنما بينت الحالة التى يباح الأكل منها . . .
ثم بعد ذلك علمتنا آداب دخول البيوت التى ندخلها للأكل أو لغيره ، فقال - تعالى - : { فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُواْ على أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ الله مُبَارَكَةً طَيِّبَةً } .
والمراد بأنفسكم هنا : أهل تلك البيوت التى يدخلونها ، لأنهم بمنزلة أنفسهم فى شدة المودة والمحبة والألفة ، و " تحية " منصوب بفعل مقدر أى : فحيوا تحية .
أى : فإذا دخلتم أيها المؤمنون والمؤمنات بيوتا فسلموا على أهلها الذين هم بمنزلة أنفسكم ، وحيوهم تحية ثابتة من عند الله ، مباركة طيبة ، أى مستتبعة لزيادة البركات والخيرات ولزيادة المحبة والمودة .
ووصف - سبحانه - هذه التحية بالبركة والطيب ، لأنها دعوة مؤمن لمؤمن وكلاهما يرجو بها من الله - تعالى - زيادة الخير وطيب الرزق .
وتحية الإسلام أن يقول المسلم لأخيه المسلم : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بقوله : { كَذَلِكَ يُبَيِّنُ الله لَكُمُ الآيات لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } .
أى : مثل هذا البيان القويم ، يبين الله - تعالى - لكم الآيات المحكمة ، والإرشادات النافعة ، لكى تعقلوا ما اشتملت عليه من هدايات ، توصلكم متى انتفعتم بها إلى السعادة والفلاح .
اختلف المفسرون - رحمهم الله - في المعنى الذي رفع من أجله الحرج عن الأعمى والأعرج والمريض هاهنا ، فقال عطاء الخراساني ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم : نزلت في الجهاد .
وجعلوا هذه الآية هاهنا كالتي في سورة الفتح{[21357]} وتلك في الجهاد لا محالة ، أي : أنهم لا إثم عليهم في ترك الجهاد ؛ لضعفهم وعجزهم ، وكما قال تعالى في سورة براءة : { لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ } [ التوبة : 91 ، 92 ] .
وقيل : المراد [ هاهنا ]{[21358]} أنهم كانوا يتحرجون من الأكل مع الأعمى ؛ لأنه لا يرى الطعام وما فيه من الطيبات ، فربما سبقه غيره إلى ذلك . ولا مع الأعرج ؛ لأنه لا يتمكن من الجلوس ، فيفتات عليه جليسُه ، والمريض لا يستوفي من الطعام كغيره ، فكرهوا أن يؤاكلوهم لئلا يظلموهم ، فأنزل الله هذه الآية رخصة في ذلك . وهذا قول سعيد بن جبير ، ومِقْسَم .
وقال الضحاك : كانوا قبل المبعث يتحرجون من الأكل مع هؤلاء تقذرًا وتَقَزُّزًا ، ولئلا يتفضلوا عليهم ، فأنزل الله هذه الآية .
وقال عبد الرزاق : أخبرنا مَعْمَر ، عن ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد في قوله تعالى : { لَيْسَ عَلَى الأعْمَى حَرَجٌ } الآية قال : كان الرجل يذهب بالأعمى أو الأعرج أو المريض إلى بيت أبيه أو بيت أخيه ، أو بيت أخته ، أو بيت عمته ، أو بيت خالته . فكان الزَّمنى يتحرجون{[21359]} من ذلك ، يقولون : إنما يذهبون بنا إلى بيوت غيرهم{[21360]} . فنزلت هذه الآية رخصةً لهم{[21361]} .
وقال السُّدّي : كان الرجل يدخل بيت أبيه ، أو أخيه أو ابنه ، فتُتْحفه المرأة بالشيء من الطعام ، فلا يأكل من أجل أن رَبَّ البيت ليس ثَمّ . فقال الله تعالى : { لَيْسَ عَلَى الأعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ } إلى قوله : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا } .
وقوله تعالى : { وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ } ، إنما ذَكَر هذا - وهو معلوم - ليعطفَ عليه غيره في اللفظ ، وليستأديه{[21362]} ما بعده في الحكم . وتضمن هذا بيوت الأبناء ؛ لأنه لم ينص عليهم . ولهذا استدل بهذا من ذهب إلى أنَّ مال الولد بمنزلة مال أبيه ، وقد جاء في المسند والسنن ، من غير وجه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " أنت ومالك لأبيك " {[21363]} وقوله : { أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ } ، إلى قوله { أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ } ، هذا ظاهر . وقد يستدل به من يوجب نفقة الأقارب بعضهم على بعض ، كما هو مذهب[ الإمام ]{[21364]} أبي حنيفة والإمام أحمد بن حنبل ، في المشهور عنهما .
وأما قوله : { أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ } فقال سعيد بن جُبَير ، والسُّدِّي : هو خادم الرجل من عبد وقَهْرَمان ، فلا بأس أن يأكل مما استودعه من الطعام بالمعروف .
وقال الزهري ، عن عُرْوَة ، عن عائشة ، رضي الله عنها ، قالت : كان المسلمون يرغبون في النفير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيدفعون مفاتحهم إلى ضُمَنائهم ، ويقولون : قد أحللنا لكم أن تأكلوا ما احتجتم إليه . فكانوا يقولون : إنه لا يحل لنا أن نأكل ؛ إنهم أذنوا لنا عن غير طيب أنفسهم ، وإنما نحن أمناء . فأنزل الله : { أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ } .
وقوله : { أَوْ صَدِيقِكُمْ } أي : بيوت أصدقائكم وأصحابكم ، فلا جناح عليكم في الأكل منها ، إذا علمتم أن ذلك لا يَشُقُّ عليهم ولا يكرهون ذلك .
وقال قتادة : إذا دخلت بيت صديقك فلا بأس أن تأكل بغير إذنه .
وقوله : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا } ، قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في هذه الآية : وذلك لما أنزل الله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ } [ النساء : 29 ] قال المسلمون : إن الله قد نهانا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل ، والطعام هو أفضل من الأموال ، فلا يحل لأحد منا أن يأكل عند أحد . فكف الناسُ عن ذلك ، فأنزل الله : { لَيْسَ عَلَى الأعْمَى }{[21365]} إلى قوله : { أَوْ صَدِيقِكُمْ } {[21366]} ، وكانوا أيضًا يأنفون ويتحرجون أن يأكل الرجل الطعام وحده ، حتى يكون معه غيره ، فرخص الله لهم في ذلك ، فقال : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا } .
وقال قتادة : وكان هذا الحي من بني كنانة ، يرى أحدهم أن مخزاة عليه أن يأكل وحده في الجاهلية ، حتى إن كان الرجلُ لَيَسوقُ الذُّودَ الحُفَّل وهو جائع ، حتى يجد من يؤاكله ويشاربه ، فأنزل الله : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا } .
فهذه رخصة من الله تعالى في أن يأكل الرجل وحده ، ومع الجماعة ، وإن كان الأكل مع الجماعة أفضل وأبرك ، كما رواه الإمام أحمد : حدثنا يزيد بن عبد ربه ، حدثنا الوليد بن مسلم ، عن وَحْشيّ بن حَرْب ، عن أبيه ، عن جده ؛ أنّ رجلا قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم : إنا نأكلُ ولا نشبَع . قال : " فلعلكم تأكلون متفرقين ، اجتمعوا على طعامكم ، واذكروا اسم الله يُبَاركْ لكم فيه " .
ورواه أبو داود وابن ماجه ، من حديث الوليد بن مسلم ، به{[21367]} وقد رَوَى ابن ماجه أيضًا ، من حديث عمرو بن دينار القهرماني ، عن سالم ، عن أبيه ، عن عمر ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " كلوا جميعًا ولا تَفَرّقُوا ؛ فإن البركة مع الجماعة " . {[21368]} وقوله : { فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ } قال سعيد بن جبير ، والحسن البصري ، وقتادة ، والزهري : فليسلم بعضكم على بعض .
وقال ابن جُرَيْج : حدثنا أبو الزبير : سمعتُ جابر بن عبد الله يقول : إذا دخلتَ على أهلك ، فسَلِّمْ عليهم تحية من عند الله مباركة طيبة . قال : ما رأيته إلا يوجبه .
قال ابن جريج : وأخبرني زياد ، عن ابن طاوس أنه كان يقول : إذا دخلَ أحدكم بيته ، فليسلم .
قال ابن جُرَيْج : قلت لعطاء : أواجب إذا خرجت ثم دخلت أن أسلِّم عليهم ؟ قال : لا ولا آثر وجوبه عن أحد ، ولكن هو أحبُّ إلي ، وما أدعه إلا نابيًا{[21369]} وقال مجاهد : إذا دخلت المسجد فقل : السلام على رسول الله . وإذا دخلت على أهلك فسلِّمْ عليهم ، وإذا دخلت بيتًا ليس فيه أحد فقل : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين .
وروى الثوري ، عن عبد الكريم الجَزَريّ ، عن مجاهد : إذا دخلت بيتًا ليس فيه أحد فقل : بسم الله ، والحمد لله ، السلام علينا من ربنا ، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين .
وقال قتادة : [ إذا دخلت على أهلك فسلم عليهم ، وإذا دخلت بيتًا ليس فيه أحد ، فقل : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ]{[21370]} فإنه كان يؤمر بذلك ، وحُدّثنا أن الملائكة ترد عليه . وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا محمد بن المثنى ، حدثنا عَوْبَدُ بن أبي عمران الجوني ، عن أبيه ، عن أنس قال : أوصاني النبيّ{[21371]} صلى الله عليه وسلم بخمس خصال ، قال : " يا أنس ، أسبغ الوضوء يُزَد في عمرك ، وسَلّم على من لقيك من أمتي تكْثُر حسناتك ، وإذا دخلت - يعني : بيتك - فسلم على أهل بيتك ، يكثر خير بيتك ، وصل صلاة الضُّحى فإنها صلاة الأوابين قبلك . يا أنس ، ارحم الصغير ، ووقِّر الكبير ، تَكُنْ من رفقائي يوم القيامة " . {[21372]}
وقوله : { تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً } قال محمد بن إسحاق : حدثني داود بن الحصين ، عن عكرمة ، عن ابن عباس أنه كان يقول : ما أخذت التشهدَ إلا من كتاب الله ، سمعت الله يقول : { فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً } ، فالتشهد في الصلاة : التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله ، أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين . ثم يدعو لنفسه ويسلم .
هكذا رواه ابن أبي حاتم ، من حديث ابن إسحاق .
والذي في صحيح مسلم ، عن ابن عباس ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يخالف هذا{[21373]} ، والله أعلم .
{ ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج } نفي لما كانوا يتحرجون من مؤاكلة الأصحاء حذرا من استقذارهم ، أو أكلهم من بيت من يدفع إليهم المفتاح ويبيح لهم التبسط فيه إذا خرج إلى الغزو وخلفهم على المنازل مخافة أن لا يكون ذلك من طيب قلب ، أو من إجابة من يدعوهم إلى بيوت آبائهم وأولادهم وأقاربهم فيطعمونهم كراهة أن يكونوا كلا عليهم ، وهذا إنما يكون إذا علم رضا صاحب البيت بإذن أو قرينة أو كان في أول الإسلام ثم نسخ بنحو قوله { لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام } . وقيل نفي للحرج عنهم في القعود عن الجهاد وهو لا يلائم ما قبله ولا ما بعده . { ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم } من البيوت التي فيها أزواجكم وعيالكم فيدخل فيها بيوت الأولاد لأن بيت الولد كبيته لقوله عليه الصلاة والسلام " أنت ومالك لأبيك " وقوله عليه الصلاة والسلام " إن أطيب ما يأكل المؤمن من كسبه وإن ولده من كسبه " { أو بيوت آبائكم أو بيوت أمهاتكم أو بيوت إخوانكم أو بيوت أخواتكم أو بيوت أعمامكم أو بيوت عماتكم أو بيوت أخوالكم أو بيوت خالاتكم أو ما ملكتم مفاتحه } وهو ما يكون تحت أيديكم وتصرفكم من ضيعة أو ماشية وكالة أو حفظا . وقيل بيوت المماليك والمفاتح جمع مفتح وهو ما يفتح به وقرىء { مفتاحه } . { أو صديقكم } أو بيوت صديقكم فإنهم أرضى بالتبسط في أموالهم وأسر به ، وهو يقع على الواحد والجمع كالخليط ، هذا كله إنما يكون إذا علم رضا صاحب البيت بإذن أو قرينة ولذلك خصص هؤلاء فإنه يعتاد التبسط بينهم ، أو كان ذلك في أول الإسلام فنسخ فلا احتجاج للحنفية به على أن لا قطع بسرقة مال المحرم . { ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا } مجتمعين أو متفرقين نزلت في بني ليث بن عمرو من كنانة كانوا يتحرجون أن يأكل الرجل وحده . أو في قوم من الأنصار إذا نزل بهم ضيف لا يأكلون إلى معه . أو في قوم تحرجوا عن الاجتماع على الطعام لاختلاف الطبائع في القذارة والنهمة . { فإذا دخلتم بيوتا } من هذه البيوت { فسلموا على أنفسكم } على أهلها الذين هم منكم دينا وقرابة . { تحية من عند الله } ثابتة بأمره مشروعة من لدنه ، ويجوز أن تكون من صلة للتحية فإنه طلب الحياة وهي من عنده تعالى وانتصابها بالمصدر لأنها بمعنى التسليم . { مباركة } لأنها يرجى بها زيادة الخير والثواب . { طيبة } تطيب بها نفس المستمع . وعن أنس رضي الله تعالى عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال لي " متى لقيت أحدا من أمتي فسلم عليه يطل عمرك ، وإذا دخلت بيتك فسلم عليهم يكثر خير بيتك ، وصل صلاة الضحى فإنها صلاة الأبرار الأوابين " . { كذلك يبين الله لكم الآيات } كرره ثلاثا لمزيد التأكيد وتفخيم الأحكام المختتمة به وفصل الأولين بما هو المقتضى لذلك وهذا بما هو بما هو المقصود منه فقال : { لعلكم تعقلون } أي الحق والخير في الأمور .