{ وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ } أي : امش متواضعا مستكينا ، لا مَشْيَ البطر والتكبر ، ولا مشي التماوت .
{ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ } أدبا مع الناس ومع اللّه ، { إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ } أي أفظعها وأبشعها { لَصَوْتُ الْحَمِيرِ } فلو كان في رفع الصوت البليغ فائدة ومصلحة ، لما اختص بذلك الحمار ، الذي قد علمت خسته وبلادته .
وهذه الوصايا ، التي وصى بها لقمان لابنه ، تجمع أمهات الحكم ، وتستلزم ما لم يذكر منها ، وكل وصية يقرن بها ما يدعو إلى فعلها ، إن كانت أمرا ، وإلى تركها إن كانت نهيا .
وهذا يدل على ما ذكرنا في تفسير الحكمة ، أنها العلم بالأحكام ، وحِكَمِها ومناسباتها ، فأمره بأصل الدين ، وهو التوحيد ، ونهاه عن الشرك ، وبيَّن له الموجب لتركه ، وأمره ببر الوالدين ، وبين له السبب الموجب لبرهما ، وأمره بشكره وشكرهما ، ثم احترز بأن محل برهما وامتثال أوامرهما ، ما لم يأمرا بمعصية ، ومع ذلك فلا يعقهما ، بل يحسن إليهما ، وإن كان لا يطيعهما إذا جاهداه على الشرك . وأمره بمراقبة اللّه ، وخوَّفه القدوم عليه ، وأنه لا يغادر صغيرة ولا كبيرة من الخير والشر ، إلا أتى بها .
ونهاه عن التكبر ، وأمره بالتواضع ، ونهاه عن البطر والأشر ، والمرح ، وأمره بالسكون في الحركات والأصوات ، ونهاه عن ضد ذلك .
وأمره بالأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، وإقامة الصلاة ، وبالصبر اللذين يسهل بهما كل أمر ، كما قال تعالى : فحقيق بمن أوصى بهذه الوصايا ، أن يكون مخصوصا بالحكمة ، مشهورا بها . ولهذا من منة اللّه عليه وعلى سائر عباده ، أن قص عليهم من حكمته ، ما يكون لهم به أسوة حسنة .
ثم أمر بالقصد والاعتدال فى كل أموره فقال : { واقصد فِي مَشْيِكَ } أى وكن معتدلا فى مشيك ، بحيث لا تطبئ ولا تسرع . من القصد وهو التوسط فى الأمور .
{ واغضض مِن صَوْتِكَ } واخفض من صوتك فلا ترفعه إلا إذا استدعى الأمر رفعه ، فإن غض الصوت عند المحادثة فيه أدب وثقة بالنفس ، واطمئنان إلى صدق الحديث واستقامته .
وكان أهل الجاهلية يتفاخرون بجهارة الصوت وارتفاعه ، فنهى المؤمنون عن ذلك ، ومدح - سبحانه - الذين يخفضون أصواتهم فى مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : { إِنَّ الذين يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ الله أولئك الذين امتحن الله قُلُوبَهُمْ للتقوى لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ } وقوله - تعالى - { إِنَّ أَنكَرَ الأصوات لَصَوْتُ الحمير } تعليل للأمر بخفض الصوت ، وللنهى عن رفعه بدون موجب .
أى : إن أقبح الأصوت وأبشعها لهو صوت الحمير ، فالجملة الكريمة حض على غض الصوت بأبلغ وجه وآكده ، حيث شبه - سبحانه الرافعين لأصواتهم فى غير حاجة إلى ذلك ، بأصوات الحمير التى هى مثار السخرية مع النفور منها .
وهكذا نجد أن لقمان قد أوصى ابنه بجملة من الوصايا السامية النافعة ، فقد أمره - أولا - بإخلاص العبادة لله - تعالى - ثم غرس فى قلبه الخوف من الله - عز وجل - ، ثم حضه على إقامة الصلاة ، وعلى الأمر بالمعروف ، والنهى عن المنكر ، وعلى الصبر على الأذى ، ثم نهاه عن الغرور والتكبر والافتخار ، وعن رفع الصوت بدون مقتض لذلك . وبتفيذ هذه الوصايا ، يسعد الأفراد ، وترقى المجتمعات .
ومع النهي عن مشية المرح ، بيان للمشية المعتدلة القاصدة : واقصد في مشيك . . والقصد هنا من الاقتصاد وعدم الإسراف . وعدم إضاعة الطاقة في التبختر والتثني والاختيال . ومن القصد كذلك . لأن المشية القاصدة إلى هدف ، لا تتلكأ ولا تتخايل ولا تتبختر ، إنما تمضي لقصدها في بساطة وانطلاق .
والغض من الصوت فيه أدب وثقة بالنفس واطمئنان إلى صدق الحديث وقوته . وما يزعق أو يغلظ في الخطاب إلا سيء الأدب ، أو شاك في قيمة قوله ، أو قيمة شخصه ؛ يحاول إخفاء هذا الشك بالحدة والغلظة والزعاق !
والأسلوب القرآني يرذل هذا الفعل ويقبحه في صورة منفرة محتقرة بشعة حين يعقب عليه بقوله : ( إن أنكر الأصوات لصوت الحمير ) . . فيرتسم مشهد مضحك يدعو إلى الهزء والسخرية ، مع النفور والبشاعة . ولا يكاد ذو حس يتصور هذا المشهد المضحك من وراء التعبير المبدع ، ثم يحاول . . شيئا من صوت هذا الحمير . . !
وهكذ تنتهي الجولة الثانية ، بعدما عالجت القضية الأولى ، بهذا التنويع في العرض ، والتجديد في الأسلوب .
بعد أن بيّن له آداب حسن المعاملة مع الناس قفَّاها بحسن الآداب في حالته الخاصة ، وتلك حالتا المشي والتكلم ، وهما أظهر ما يلوح على المرء من آدابه .
والقصد : الوسط العَدل بين طرفين ، فالقصد في المشي هو أن يكون بين طرف التبختر وطرف الدبيب ويقال : قصد في مشيه . فمعنى { اقْصِدْ في مشيك } : ارتكب القصد .
والغَضُّ : نقص قوة استعمال الشيء . يقال : غَضَّ بصره ، إذا خفَّض نظره فلم يحدّق . وتقدم قوله تعالى { قل للمؤمنين يغُضُّوا من أبصارهم } في سورة النور ( 30 ) . فغض الصوت : جعله دون الجهر . وجيء ب { مِن } الدالة على التبعيض لإفادة أنه يغض بعضه ، أي بعضَ جهره ، أي ينقص من جُهُورته ولكنه لا يبلغ به إلى التخافت والسرار .
وجملة { إن أنكر الأصوات لصوتُ الحمير } تعليل علل به الأمر بالغض من صوته باعتبارها متضمنة تشبيهاً بليغاً ، أي لأن صوت الحمير أنكر الأصوات . ورفع الصوت في الكلام يشبه نهيق الحمير فله حظ من النكارة .
و { أنكَر : } اسم تفضيل في كون الصوت منكوراً ، فهو تفضيل مشتق من الفعل المبني للمجهول ومثله سماعي وغيرُ شاذ ، ومنه قولهم في المثل : « أشغل من ذات النِّحْيَيْنِ » أي أشد مشغولية من المرأة التي أُريدت في هذا المثل .
وإنما جمع { الحمير } في نظم القرآن مع أن { صوت } مفرداً ولم يقل الحمار لأن المعرف بلام الجنس يستوي مفرده وجمعُه . ولذلك يقال : إن لام الجنس إذا دخلتْ على جَمع أبطلت منه معنى الجَمْعِيَّة . وإنما أوثر لفظ الجمع لأن كلمة الحمير أسعد بالفواصل لأن من محاسن الفواصل والأسجاع أن تجري على أحكام القوافي ، والقافية المؤسسة بالواو أو الياء لا يجوز أن يرد معها ألف تأسيس فإن الفواصل المتقدمة من قوله { ولقد ءاتينا لقمان الحكمة } [ لقمان : 12 ] هي : حميد ، عظيم ، المصير ، خبير ، الأمور ، فخور ، الحمير . وفواصل القرآن تعتمد كثيراً على الحركات والمُدود والصيغ دون تماثل الحروف وبذلك تخالف قوافي القصائد . وهذا وفاء بما وعدتُ به عند الكلام على قوله تعالى { ولقد ءاتينا لقمان الحكمة } من ذكر ما انتهى إليه تتبعي لما أُثِر من حِكمة لقمان غير ما في هذه السورة وقد ذكر الألوسي في « تفسيره » منها ثمانياً وعشرين حكمة وهي :
قوله لابنه : أي بني ، إن الدنيا بحر عميق ، وقد غرق فيها أناس كثير فاجعل سفينتك فيها تقوى الله تعالى ، وحِشوها الإيمان ، وشراعها التوكل على الله تعالى لعلك أن تنجو ولا أراك ناجياً .
وقوله : من كان له من نفسه واعظ كان له من الله عز وجل حافظ ، ومن أنصف الناس من نفسه زاده الله تعالى بذلك عزاً ، والذل في طاعة الله تعالى أقرب من التعزز بالمعصية .
وقوله : ضَرْبُ الوالد لولده كالسماد للزرع .
وقوله : يا بني إياك والدَّين فإنه ذل النهار وَهَمُّ الليل .
وقوله : يا بني ارجُ الله عز وجل رجاء لا يجرِّئك على معصيته تعالى ، وخَففِ الله سبحانه خوفاً لا يؤيسك من رحمته تعالى شأنه .
وقوله : من كَذب ذهب ماء وجهه ، ومَن ساء خلُقُه كثُر غمُّه ، ونقل الصخور من مواضعها أيسر من إفهام من لا يفهم .
وقوله : يا بني حَملْتُ الجندل والحديد وكلَّ شيء ثقيل فلم أحمل شيئاً هو أثقل من جار السوء ، وذقت المِرار فلم أذق شيئاً هو أمرّ من الفقر .
يا بني لا تُرسِلْ رسولك جاهلاً فإن لم تجد حكيماً فكن رسولَ نفسك .
يا بني ، إياك والكذب ، فإنه شَهي كلحم العصفور عما قليل يغلي صاحبه .
يا بني ، احضر الجنائز ولا تحضر العرس فإن الجنائز تذكرك الآخرة والعرس يشهيك الدنيا .
يا بني ، لا تأكل شِبَعاً على شِبَع فإن إلقاءك إياه للكلب خير من أن تأكله .
يا بني ، لا تكُن حُلواً فتُبلَعَ ولا تكن مُرّاً فتُلْفَظ .
وقوله لابنه : لا يأكل طعامك إلاَّ الأتقياء ، وشاور في أمرك العلماء .
وقوله : لا خير لك في أن تتعلمَ ما لم تَعْلَم ولَمّا تعملْ بما قد علمت فإن مثل ذلك مثل رجل احتطب حطباً فحمل حُزْمَة وذهب يحملها فعجز عنها فضم إليها أخرى .
وقوله : يا بني ، إذا أردت أن تواخي رجلاً فأغضبه قبل ذلك فإن أنصفك عند غضبه وإلا فاحذَره .
وقوله : لتكن كلمتك طيبة ، وليكن وجهك بسطاً تكن أحب إلى الناس ممن يعطيهم العطاء .
وقوله : يا بني ، أنْزِل نفسك من صاحبك منزلة من لا حاجة له بك ولا بدّ لك منه .
يا بنيّ ، كن كمن لا يبتغي محمدَة الناس ولا يكسب ذمهم فنفسه منه في عناء والناس منه في راحة .
وقوله : يا بني ، امتنع بما يخرج من فيك فإنك ما سكتَّ سالم ، وإنما ينبغي لك من القول ما ينفعك .
وأنا أقفّي عليها ما لم يذكره الألوسي . فمن ذلك ما في « الموطأ » فيما جاء في طلب العلم من كتاب « الجامع » : مالك أنه بلغه أن لقمان الحكيم أوصى ابنه فقال : يا بني ، جالس العلماء وزاحمهم بركبتيك فإن الله يحيي القلوب بنور العلم كما يحيي الأرض الميتة بوابل السماء . وفيه فيما جاء في الصدق والكذب من كتاب وفيه فيما جاء في الصدق والكذب من كتاب « الجامع » أنه بلغه أنه قيل للقمان : ما بلغ بك ما نرى يريدون الفضل ؟ فقال : صدقُ الحديث ، وأداء الأمانة ، وترك ما لا يعْنيني .
وفي « جامع المستخرجة » للعتبي قال مالك : بلغني أن لقمان قال لابنه : يا بُني ليكنْ أول ما تفيد من الدنيا بعد خليل صالح امرأةً صالحة . وفي « أحكام القرآن » لابن العربي عن مالك : أن لقمان قال لابنه : يا بني إن الناس قد تطاول عليهم ما يوعدون وهم إلى الآخرة سراعاً يذهبون ، وإنك قد استدبرت الدنيا منذ كنتَ واستقبلتَ الآخرة ، وإن داراً تسير إليها أقرب إليك من دار تخرج عنها .
وقال : ليس غنى كصحة ، ولا نعمة كطِيب نفْس . وقال : يا بني لا تجالس الفجار ولا تماشهم اتق أن ينزل عليهم عذاب من السماء فيصيبَك معهم ، وقال : يا بني ، جالس العلماء ومَاشِهِم عسى أن تنزل عليهم رحمة فتصيبك معهم . وفي « الكشاف » : أنه قال لرجل ينظر إليه : إن كنتَ تراني غليظ الشفتين فإنه يخرج من بينهما كلام رقيق ، وإن كنتَ تراني أسود فقلبي أبيض . وأن مولاه أمره بذبحِ شاة وأن يأتيه بأطيب مضغتين فأتاه باللسان والقلب ، ثم أمره بذبح أخرى وأنْ ألْققِ منها أخبث مضغتين ، فألقى اللسان والقلب ؛ فسأله عن ذلك ، فقال : هما أطيب ما فيها إذا طابا وأخبث ما فيها إذا خبثا .
ودخل على داود وهو يسرد الدروع فأراد أن يسأله عماذا يصنع ، فأدركته الحكمة فسكت ، فلما أتمها داود لَبِسها وقال : نِعم لَبُوس الحرب أنتِ . فقال لقمان : الصمتُ حكمة وقليل فاعله . وفي « تفسير ابن عطية » : قيل للقمان : أيّ الناس شرّ ؟ فقال : الذي لا يبالي أن يراه الناس سيِّئاً أو مسيئاً .
وفي « تفسير القرطبي » : كان لقمان يفتي قبل مبعث داود فلما بعث داود قطع الفتوى . فقيل له ، فقال : ألا أكتفِي إذا كُفِيتُ . وفيه : إن الحاكم بأشدّ المنازل وكدرها يغشاه المظلوم من كل مكان إنْ يصبْ فبالحريِّ أن ينجو وإن أخطأ أخطأ طريق الجنة . ومن يكن في الدنيا ذليلاً خير من أن يكون شريفاً . ومن يختر الدنيا على الآخرة تفتْه الدنيا ولا يُصب الآخرة . وفي « تفسير البيضاوي » : أن داود سأل لقمان : كيف أصبحتَ ؟ فقال : أصبحت في يَديْ غيري . وفي « درة التنزيل » المنسوب لفخر الدين الرازي : قال لقمان لابنه : إن الله رَضيني لك فلم يُوصني بكَ ولم يرضَك لي فأوصاك بي . وفي « الشفاء » لعياض : قال لقمان لابنه : إذا امتلأتْ المَعِدة نامت الفِكْرة وخرست الحكمة وقعدت الأعضاء عن العبادة .
وفي كتاب « آداب النكاح » لقاسم بن يأمون التليدي الأخماسي{[324]} : أن من وصية لقمان : يا بني إنما مَثَل المرأة الصالحة كمثَل الدهن في الرأس يُليِّن العروق ويحسن الشعر ، ومَثَلها كمثل التاج على رأس الملك ، ومثلها كمثَل اللؤلؤ والجوهر لا يدري أحد ما قيمته . ومثَل المرأة السوء كمثل السَّيْل لا ينتهي حتى يبلغ منتهاه : إذا تكلمتْ أسمعت ، وإذا مشت أسرعت ، وإذا قعدت رفعت ، وإذا غضبت أسمعت . وكل داء يبرأ إلاَّ داء امرأة السوء .
يا بني ، لأن تساكن الأسد والأسْوَد{[325]} خير من أن تساكنها : تبكي وهي الظالمة ، وتحكم وهي الجائرة ، وتنطق وهي الجاهلة وهي أفعى بلدغها .
وفي « مجمع البيان » للطبرسي : يا بني ، سافر بسيفك وخُفّك وعمامتك وخبائك وسِقائك وخيوطك ومخرزك ، وتزود معك من الأدوية ما تنتفع به أنت ومن معك ، وكن لأصحابك موافقاً إلا في معصية الله عز وجل .
يا بني ، إذا سافرت مع قوم فأكثر استشارتهم في أمرك وأمورهم ، وأكثر التبسم في وجوههم ، وكن كريماً على زادك بينهم ، فإذا دعوك فأجبهم ، وإذا استعانوا بك فأعِنْهم ، واستعمِل طول الصمت وكثرة الصلاة ، وسَخاء النفس بما معك من دابّة أو ماء أو زاد ، وإذا استشهدوك على الحق فاشهَد لهم ، واجهد رأيك لهم إذا استشاروك ، ثم لا تعزم حتى تثبت وتنظر ، ولا تُجب في مشورة حتى تقوم فيها وتقعد وتنام وتأكل وتصلي وأنت مستعمل فكرتك وحكمتك في مشورته ، فإن من لم يمحض النصيحة من استشارة سلبه الله رأيه ، وإذا رأيت أصحابك يمشون فامش معهم ، فإذا رأيتهم يعملون فاعمل معهم ، واسمع لمن هو أكبر منك سنّاً . وإذا أمروك بأمر وسألوك شيئاً فقل نعم ولا تقل ( لا ) فإن ( لا ) عِيٌّ ولؤم ، وإذا تحيرتم في الطريق فأنزلوا ، وإذا شككتم في القصد فقفوا وتآمروا ، وإذا رأيتم شخصاً واحداً فلا تسألوه عن طريقكم ولا تسترشدوه فإن الشخص الواحد في الفلاة مُريب لعله يكون عين اللصوص أو يكون هو الشيطان الذي حيّركم . واحذروا الشخصين أيضاً إلا أن تروا ما لا أرى لأن العاقِل إذا أبصر بعينه شيئاً عرف الحق منه والشاهد يرى ما لا يرى الغائب .
يا بني إذا جاء وقت الصلاة فلا تؤخرها لشيء ، صلِّها واسترح منها فإنها دَين ، وصلِّ في جماعة ولو على رأس زَجّ . وإذا أردتم النزول فعليكم من بقاع الأرض بأحسنها لوناً وألينها تربة وأكثرها عشباً . وإذا نزلت فصلّ ركعتين قبل أن تجلس ، وإذا أردت قضاء حاجتك فأبْعِد المذهب في الأرض . وإذا ارتحلت فصلّ ركعتين ثم ودّع الأرض التي حللتَ بها وسلّم على أهلها فإن لكل بقعة أهلا من الملائكة ، وإن استطعت أن لا تأكل طعاماً حتى تبتدىء فتتصدق منه فافعل . وعليك بقراءة كتاب الله لعله يعني الزبور ما دمت راكباً ، وعليك بالتسبيح ما دمت عاملاً عملاً ، وعليك بالدعاء ما دمت خالياً . وإياك والسير في أول الليل إلى آخره . وإياك ورفع الصوت في مسيرك . فقد استقصينا ما وجدنا من حكمة لقمان مما يقارب سبعين حكمة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{واقصد في مشيك} لا تختل في مشيك، ولا تبطر حيث لا يحل.
{واغضض} يعني واخفض {من صوتك} يعني من كلامك يأمر لقمان ابنه بالاقتصاد في المشي، والمنطق.
ثم ضرب للصوت الرفيع مثلا فقال عز وجل: {إن أنكر الأصوات لصوت الحمير} أقبح الأصوات لصوت الحمير، لشدة صوتهن.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول: وتواضع في مشيك إذا مشيت، ولا تستكبر، ولا تستعجل، ولكن اتئد. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل، غير أن منهم من قال: أمره بالتواضع في مشيه، ومنهم من قال: أمره بترك السرعة فيه...
قوله:"وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ" يقول: واخفض من صوتك، فاجعله قصدا إذا تكلمت...
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: "إنّ أنْكَرَ الأصْوَاتِ لَصَوْتُ الحَمِيرِ"؛
فقال بعضهم: معناه: إن أقبح الأصوات... عن قتادة "إنّ أنْكَرَ الأصْوَاتِ لَصَوْتُ الحَمِيرِ "أي أقبح الأصوات لصوت الحمير؛ أوّله زفير، وآخره شهيق...
وقال آخرون: بل معنى ذلك: إن أشرّ الأصوات... قال جابر: وقال الحسن بن مسلم: أشدّ الأصوات... قال ابن زيد، في قوله "إنّ أنْكَرَ الأصْوَاتِ لَصَوْتُ الحَمِيرِ" قال: لو كان رفع الصوت هو خيرا ما جعله للحمير.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: معناه: إن أقبح أو أشرّ الأصوات، وذلك نظير قولهم، إذا رأوا وجها قبيحا، أو منظرا شنيعا: ما أنكر وجه فلان، وما أنكر منظره.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{واقصد في مشيك واغضض من صوتك} على الوجهين اللذين ذكرناهما:
أحدهما: على الأمر بقصد المشي وخفض الصوت حقيقة المشي وحقيقة الصوت. والثاني: على الكناية عن كيفية المعاملة وماهيتها في ما بين الناس.
{واغضض من صوتك} أي لا ترفع صوتك فوق أصواتهم فتؤذيهم بالصوت. ولكن لينهم بالقول. وقال بعضهم: امش هينا لينا ناكس الرأس ناظرا حيث تمشي غير ناظر على ما لا يحل ولا يسع.
وإن كان على الكناية عن الأحوال في المعاملة في ما بين الناس في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أي مُروا بالمعروف وانهوا عن المنكر، ولا تطلبوا لأنفسكم في ذلك العلو والرفعة ونفاذ القول وقبوله.
"إنّ أنْكَرَ الأصْوَاتِ لَصَوْتُ الحَمِيرِ"... لأن الحمار إنما يصيح لحاجة نفسه وشهوته، وسائر أصحاب الأشياء إذ صاحوا إنما يصيحون لحاجة أهلها. فيقول: إنكم أذا أمرتم بالمعروف، ونهيتم عن المنكر، فلا تفعلوا لمنفعة أنفسكم أو لحاجتكم، ولكن قوموا لله في ذلك.
والثاني: ما ذكرنا إذ خص صوت الحمير، لأنه ليس من صوت وفيه لذة ومنفعة غير صوت الحمير، فإنه ليس فيه لذة ولا منفعة.
وقوله تعالى: {وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الحَمِيرِ} فيه أمر بخفض الصوت لأنه أقرب إلى التواضع، كقوله تعالى: {إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله} [الحجرات: 3]، ورَفْعُ الصوت على وجه ابتهار الناس وإظهارِ الاستخفاف بهم مذمومٌ، فأبان عن قبح هذا الفعل وأنه لا فضيلة فيه لأن الحمير ترفع أصواتها وهو أنكر الأصوات...
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ} فيه خمسة أوجه:
الثالث: اسرْع في مشيك، قاله يزيد بن أبي حبيب...
{وَاغْضُضْ مِن صَوتِكَ} أي اخفض من صوتك والصوت هو أرفع من كلام المخاطبة.
{إِنَّ أَنْكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ}... وفيه أربعة أوجه:
والسبب في أن ضرب الله صوت الحمار مثلا ما روى سليمان بن أرقم عن الحسن أن المشركين كانوا في الجاهلية يتجاهرون ويتفاخرون برفع الأصوات فمن كان منهم أشد صوتاً كان أعز، ومن كان أخفض صوتاً كان أذل، فقال الله تعالى: {إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} أي لو أن شيئاً يُهَابُ لصوته لكان الحمار فجعلهم في المثل بمنزلته.
جهود الإمام الغزالي في التفسير 505 هـ :
يدل مفهومه على مدح الصوت الحسن. (الإحياء: 2/295)...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{أَنكَرَ الأصوات} أوحشها، من قولك: شيء نكر، إذا أنكرته النفوس واستوحشت منه ونفرت، والحمار مثل في الذم البليغ والشتيمة، وكذلك نهاقه، ومن استفحاشهم لذكره مجرداً وتفاديهم من اسمه: أنهم يكنون عنه ويرغبون عن التصريح به، فيقولون: الطويل الأذنين، كما يكنى عن الأشياء المستقذرة: وقد عدّ في مساوئ الآداب: أن يجري ذكر الحمار في مجلس قوم من أولى المروءة، ومن العرب من لا يركب الحمار استنكافاً وإن بلغت منه الرجلة، فتشبيه الرافعين أصواتهم بالحمير، وتمثيل أصواتهم بالنهاق، ثم إخلاء الكلام من لفظ التشبيه وإخراجه مخرج الاستعار -وإن جعلوا حميراً وصوتهم نهاقاً- مبالغة شديدة في الذم والتهجين وإفراط في التثبيط عن رفع الصوت والترغيب عنه، وتنبيه على أنه من كراهة الله بمكان. فإن قلت: لم وحد صوت الحمير ولم يجمع؟ قلت: ليس المراد أن يذكر صوت كل واحد من آحاد هذا الجنس حتى يجمع، وإنما المراد أن كل جنس من الحيوان الناطق له صوت، وأنكر أصوات هذه الأجناس صوت هذا الجنس، فوجب توحيده...
لما قال: {ولا تمش في الأرض مرحا} وعدم ذلك قد يكون بضده وهو الذي يخالف غاية الاختلاف، وهو مشي المتماوت الذي يرى من نفسه الضعف تزهدا فقال: {واقصد في مشيك} أي كن وسطا بين الطرفين المذمومين، وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: هل للأمر بالغض من الصوت مناسبة مع الأمر بالقصد في المشي؟ فنقول: نعم سواء علمناها نحن أو لم نعلمها وفي كلام الله من الفوائد ما لا يحصره حد ولا يصيبه عد، ولا يعلمه أحد والذي يظهر وجوه:
الأول: هو أن الإنسان لما كان شريفا تكون مطالبه شريفة فيكون فواتها خطرا فأقدر الله الإنسان على تحصيلها بالمشي، فإن عجز عن إدراك مقصوده ينادي مطلوبه فيقف له أو يأتيه مشيا إليه فإن عجز عن إبلاغ كلامه إليه، وبعض الحيوانات يشارك الإنسان في تحصيل المطلوب بالصوت كما أن الغنم تطلب السخلة والبقرة العجل والناقة...ولكن لا تتعدى إلى غيرها، والإنسان يميز البعض عن البعض فإذا كان المشي والصوت مفضيين إلى مقصود واحد لما أرشده إلى أحدهما أرشده إلى الآخر.
الثاني: هو أن الإنسان له ثلاثة أشياء عمل بالجوارح يشاركه فيه الحيوانات فإنه حركة وسكون، وقول باللسان ولا يشاركه فيه غيره وعزم بالقلب وهو لا إطلاع عليه إلا لله، وقد أشار إليه بقوله: {إنها إن تك مثقال حبة من خردل} أي أصلح ضميرك فإن الله خبير، بقي الأمران فقال: {واقصد في مشيك واغضض من صوتك} إشارة إلى التوسط في الأفعال والأقوال.
{إن أنكر الأصوات لصوت الحمير}...
أنكر هو أفعل التفضيل فمن أي باب هو؟ نقول يحتمل أن يكون من باب أطوع له من بنانه، بمعنى أشدها طاعة، وعلى هذا فهو في باب أفعل كأشغل في باب مفعول فيكون للتفضيل على المنكر، أو نقول هو من باب أشغل مأخوذا من نكر الشيء فهو منكر، وهذا أنكر منه، وعلى هذا فله معنى لطيف، وهو أن كل حيوان قد يفهم من صوته بأنه يصيح من ثقل أو تعب كالبعير أو غير ذلك، والحمار لو مات تحت الحمل لا يصيح ولو قتل لا يصيح، وفي بعض أوقات عدم الحاجة يصيح وينهق فصوته منكور، ويمكن أن يقال هو من نكير كأجدر من جدير.
التسهيل لعلوم التنزيل، لابن جزي 741 هـ :
{واقصد في مشيك} أي: اعتدل فيه ولا تسرع إسراعا يدل على البطش والخفة، ولا تبطئ إبطاء يدل على الفخر والكبر...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{واقصد في مشيك} لا إفراط ولا تفريط مجانباً لوثب الشطار ودبيب المتماوتين، وعن ابن مسعود: كانوا ينهون عن خبب اليهود ودبيب النصارى، والقصد في الأفعال كالقسط في الأوزان -قال الرازي في اللوامع، وهو المشي الهون الذب ليس فيه تصنع للخلق لا بتواضع ولا بتكبر.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ومع النهي عن مشية المرح، بيان للمشية المعتدلة القاصدة: واقصد في مشيك.. والقصد هنا من الاقتصاد وعدم الإسراف. وعدم إضاعة الطاقة في التبختر والتثني والاختيال. ومن القصد كذلك. لأن المشية القاصدة إلى هدف، لا تتلكأ ولا تتخايل ولا تتبختر، إنما تمضي لقصدها في بساطة وانطلاق.
والغض من الصوت فيه أدب وثقة بالنفس واطمئنان إلى صدق الحديث وقوته. وما يزعق أو يغلظ في الخطاب إلا سيء الأدب، أو شاك في قيمة قوله، أو قيمة شخصه؛ يحاول إخفاء هذا الشك بالحدة والغلظة والزعاق! والأسلوب القرآني يرذل هذا الفعل ويقبحه في صورة منفرة محتقرة بشعة حين يعقب عليه بقوله: (إن أنكر الأصوات لصوت الحمير).. فيرتسم مشهد مضحك يدعو إلى الهزء والسخرية، مع النفور والبشاعة. ولا يكاد ذو حس يتصور هذا المشهد المضحك من وراء التعبير المبدع، ثم يحاول.. شيئا من صوت هذا الحمير..!...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
بعد أن بيّن له آداب حسن المعاملة مع الناس قفَّاها بحسن الآداب في حالته الخاصة، وتلك حالتا المشي والتكلم، وهما أظهر ما يلوح على المرء من آدابه.
القصد: الوسط العَدل بين طرفين،و {اقْصِدْ في مشيك}: ارتكب القصد.
الغَضُّ: نقص قوة استعمال الشيء. يقال: غَضَّ بصره، إذا خفَّض نظره فلم يحدّق، فغض الصوت: جعله دون الجهر. وجيء ب {مِن} الدالة على التبعيض لإفادة أنه يغض بعضه، أي بعضَ جهره، أي ينقص من جُهُورته ولكنه لا يبلغ به إلى التخافت والسرار.
القصد: هو الإقبال على الحدث، إقبالا لا نقيض فيه لطرفين، يعني: توسطا واعتدالا، هذا في المشي، {وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ... أي: اخفضه وحسبك من الأداء ما بلغ الأذن.
{إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ... والبعض يفهم هذه الآية فهما يظلم فيه الحمير، وعادة ما يتهم البشر الحمير بالغباء وبالذلة،... نهيق الحمار ليس منكرا من الحمار، إنما المنكر أن يشبه صوت الإنسان صوت الحمار، فكأن نهيق الحمار كمال فيه، وصوتك الذي يشبهه منكر مذموم فيك، وإلا فما ذنب الحمار؟ فالاعتدال في الصوت أمر ينبغي أن يتحلى به المؤمن حتى في الصلاة وفي التعبد يعلمنا الحق سبحانه: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا (110)} [الإسراء].
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
إنّ هاتين الآيتين في الحقيقة أمرتا بصفتين، ونهتا عن صفتين: فالنهي عن «التكبّر» و «العجب»، فإنّ أحدهما يؤدّي إلى أن يتكبّر الإنسان على عباد الله، والآخر يؤدّي إلى أن يظنّ الإنسان أنّه في مرتبة الكمال وأسمى من الآخرين، وبالتالي سيغلق أبواب التكامل بوجهه.
أمّا الأمر بصفتين، فهما رعاية الاعتدال في العمل والكلام، لأنّ التأكيد على الاعتدال في المشي أو إطلاق الصوت هو من باب المثال في الحقيقة. والحقّ أنّ الإنسان الذي يتّبع هذه النصائح الأربع موفّق وسعيد وناجح في الحياة، ومحبوب بين الناس، وعزيز عند الله.