71- ولو كان الحق تابعاً لأهوائهم لشاع الفساد في الأرض ولتنازعت الأهواء ، ولكنا أرسلنا إليهم القرآن الذي يُذَكِّرهم بالحق الذي يجب أن يجتمع عليه الجميع ، ومع ذلك هم معرضون عنه{[144]} .
ثم بين - سبحانه - بعد ذلك ما كان سينزل بالعالم من فساد . فيما لو اتبع الحق - على سبيل الفرض - أهواء هؤلاء المشركين ، فقال - تعالى - : { وَلَوِ اتبع الحق أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ السماوات والأرض وَمَن فِيهِنَّ . . . } .
والمراد بالحق هنا - عند كثير من المفسرين - هو الله - عز وجل - إذ أن هذا اللفظ من أسمائه - تعالى - .
والمعنى : ولو أجاب الله - تعالى - هؤلاء المشركين إلى ما يهوونه ويشتهونه من باطل وقبيح . لفسدت السموات والأرض ومن فيهن ؛ لأن أهواءهم الفاسدة من شرك . وظلم ، وحقد ، وعناد . . . ، لا يمكن أن يقوم عليها نظام هذا الكون البديع ، الذى أقمناه على الحق والعدل .
ويرى بعض المفسرين أن المراد بالحق هنا ما يقابل الباطل ويدل على ذلك قوله - تعالى - : { بَلْ جَآءَهُمْ بالحق وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ } .
فيكون المعنى : ولو اتبع الحق الذى جاءهم به الرسول صلى الله عليه وسلم أهواء المشركين ، لفسدت السموات والأرض ومن فيهن ، وذلك لأن الرسول صلى الله عليه وسلم جاءهم بالتوحيد وهم يريدون الشرك ، وجاءهم بمكارم الأخلاق ، وهم يريدون ما ألفوه من شهوات ، وجاءهم بالتشريعات العادلة الحكيمة ، وهم يريدون التشريعات التى ترضى غرورهم وأوضاعهم الفاسدة ، والتى منها تفضيل الناس بحسب أحسابهم وغناهم ، لا بحسب إيمانهم وتقواهم . . . ومع وجاهة الرأيين ، إلا أننا نميل إلى الرأى الثانى ، لأنه أقرب إلى سياق الآيات ، كما يشير إلى ذلك قوله - تعالى - : { بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِمْ مُّعْرِضُونَ } انتقال من توبيخهم على كراهيتهم للحق ، إلى توبيخهم على نفورهم مما فيه عزهم وفخرهم .
والمراد بذكرهم : القرآن الذى هو شرف لهم ، كما قال - تعالى - : { وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ } أى : كيف يكرهون الحق الذى جاءهم به رسولهم صلى الله عليه وسلم مع أنه قد أتاهم بالقرآن الكريم الذى فيه شرفهم ومجدهم ؟ إن إعراضهم عن هذا القرآن ليدل دلالة قاطعة ، على غبائهم ، وجهلهم ، لأن العاقل لا يعرض عن شىء يرفع منزلته ، ويكرم ذاته .
والحق لا يمكن أن يدور مع الهوى ؛ وبالحق تقوم السماوات والأرض ، وبالحق يستقيم الناموس ، وتجري السنن في هذا الكون وما فيه ومن فيه :
( ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن ) . .
فالحق واحد ثابت ، والأهواء كثيرة متقلبة . وبالحق الواحد يدبر الكون كله ، فلا ينحرف ناموسه لهوى عارض ، ولا تتخلف سنته لرغبة طارئة . ولو خضع الكون للأهواء العارضة ، والرغبات الطارئة لفسد كله ، ولفسد الناس معه ، ولفسدت القيم والأوضاع ، واختلت الموازين والمقاييس ؛ وتأرجحت كلها بين الغضب والرضى ، والكره والبغض ، والرغبة والرهبة ، والنشاط والخمول . . وسائر ما يعرض من الأهواء والمواجد والانفعالات والتأثرات . . وبناء الكون المادي واتجاهه إلى غايته كلاهما في حاجة إلى الثبات والاستقرار والاطراد ، على قاعدة ثابتة ، ونهج مرسوم ، لا يتخلف ولا يتأرجح ولا يحيد .
ومن هذه القاعدة الكبرى في بناء الكون وتدبيره ، جعل الإسلام التشريع للحياة البشرية جزءا من الناموس الكوني ، تتولاه اليد التي تدبر الكون كله وتنسق أجزاءه جميعا . والبشر جزء من هذا الكون خاضع لناموسه الكبير ؛ فأولى أن يشرع لهذا الجزء من يشرع للكون كله ، ويدبره في تناسق عجيب . بذلك لا يخضع نظام البشر للأهواء فيفسد ويختل : ( ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن )إنما يخضع للحق الكلي ، ولتدبير صاحب التدبير .
وهذه الأمة التي جاء لها الإسلام كانت أولى الأمم باتباع الحق الذي يتمثل فيه . ففوق أنه الحق هو كذلك مجد لها وذكر . وما كان لها من ذكر لولاه في العالمين :
( بل أتيناهم بذكرهم فهم عن ذكرهم معرضون ) . .
وقد ظلت أمة العرب لا ذكر لها في تاريخ العالم حتى جاءها الإسلام . وقد ظل ذكرها يدوي في آذان القرون طالما كانت به مستمسكة . وقد تضاءل ذكرها عندما تخلت عنه ، فلم تعد في العير ولا في النفير . ولن يقوم لها ذكر إلا يوم أن تفيء إلى عنوانها الكبير . . . !
وقوله تعالى : { ولو اتبع الحق أهواءهم } قال ابن جريج وأبو صالح { الحق } الله تعالى ع وهذا ليس من نمط الآية ، وقال غيرهما { الحق } هنا الصواب والمستقيم
قال أبو محمد رحمه الله :وهذا هو الأحرى ، على أن يكون المذكور قبل{[8524]} الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ، ويستقيم على هذا الفساد ، { السماوات والأرض ومن فيهن } لو كان بحكم هوى هؤلاء ، وذلك أنهم جعلوا لله شركاء وأولاداً ولو كان هذا حقاً لم تكن لله الصفات العالية ، ولو لم تكن له لم تكن الصنعة والقدرة كما هي ، وكان فساد { السماوات والأرض ومن فيهن } ، ومن قال إن { الحق } في الآية الله تعالى بشعت له لفظة { اتبع } وصعب عليه ترتيب الفساد المذكور في الآية لأن لفظة الاتباع على كلا الوجهين إنما هي استعارة بمعنى أن تكون أهواؤهم يصوبها الحق ويقررها فنحن نجد الله تعالى قد قرر كفر أمم وأهواءهم فليس في ذلك فساد سماوات ، وأما الحق نفسه الذي هو الصواب فلو كان طبق أهوائهم لفسد كل شيء فتأمله ، وقرأ ابن وثاب «ولوُ اتبع » بضم الواو وقال أبو الفتح : الضم في هذه الواو قليل والوجه تشبيههاً بواو الجمع كقوله { اشتروا الضلالة }{[8525]} [ البقرة : 16 ] وقوله { بذكرهم } يحتمل أن يريد بوعظهم والبيان لهم قاله ابن عباس ، وقرأ{[8526]} قتادة «نُذَكِّرهم » بنون مضمونة وذال مفتوحة وكسر الكاف مشددة{[8527]} ويحتمل أن يريد بشرفهم ، وهو مروي ، وقرأ عيسى بن عمر وابن أبي إسحاق «بل أتيتُهم بذكرهم » بضم تاء المتكلم ، وقرأ ابن أبي إسحاق أيضاً «بل أتيتَهم » خطاباً لمحمد صلى الله عليه وسلم ، وقرأ الجمهور «بل أتينهم بذكرهم » وروي عن أبي عمرو و «آتيناهم » بالمد بمعنى أعطيناهم .
{ وَلَوِ اتبع الحق أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ السماوات والأرض وَمَن فِيهِنَّ } .
عطف هذا الشرط الامتناعي على جملة { وأكثرهم للحق كارهون } [ المؤمنون : 70 ] زيادة في التشنيع على أهوائهم فإنها مفضية إلى فساد العالم ومن فيه وكفى بذلك فظاعة وشناعة .
والحق هنا هو الحق المتقدم في قوله : { بل جاءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون } [ المؤمنون : 70 ] وهو الشيء الموافق للوجود الواقعي ولحقائق الأشياء . وعلم من قوله { ولو اتبع الحق أهواءهم } أن كراهة أكثرهم للحق ناشئة عن كون الحق مخالفاً أهواءهم فسجل عليهم أنهم أهل هوى والهوى شهوة ومحبة لما يلائم غرض صاحبه ، وهو مصدر بمعنى المفعول . وإنما يجري الهوى على شهوة دواعي النفوس أعني شهوات الأفعال غير التي تقتضيها الجبلة ، فشهوة الطعام والشراب ونحوهما مما تدعو إليه الجبلة ليست من الهوى وإنما الهوى شهوة ما لا تقتضيه الفطرة كشهوة الظلم وإهانة الناس ، أو شهوة ما تقتضيه الجبلة لكن يشتهى على كيفية وحالة لا تقتضيها الجبلة لما يترتب على تلك الحالة من فساد وضر مثل شهوة الطعام المغصوب وشهوة الزنا ، فمرجع معنى الهوى إلى المشتهى الذي لا تقتضيه الجبلة .
والاتِّباع : مجاز شائع في الموافقة ، أي لو وافق الحق ما يشتهونه .
ومعنى موافقة الحق الأهواء أن تكون ماهية الحق موافقة لأهواء النفوس . فإن حقائق الأشياء لها تقرر في الخارج سواء كانت موافقة لما يشتهيه الناس أم لم تكن موافقة له ؛ فمنها الحقائق الوجودية وهي الأصل فهي متقررة في نفس الأمر مثل كون الإله واحداً ، وكونه لا يلد ، وكون البعث واقعاً للجزاء ، فكونها حقاً هو عين تقررها في الخارج .
ومنها الحقائق المعنوية وهي الموجودة في الاعتبار فهي متقررة في الاعتبارات . وكونها حقاً هو كونها جارية على ما يقتضيه نظام العالم مثل كون الوأد ظلماً ، وكون القتل عدواناً ، وكون القمار أخذ مال بلا حق لآخذه في أخذه ، فلو فرض أن يكون الحق في أضداد هذه المذكورات لفسدت السماوات والأرض وفسد من فيهن ، أي من في السماوات والأرض من الناس .
ووجه الملازمة بين فساد السماوات والأرض وفساد الناس وبين كون الحق جارياً على أهواء المشركين في الحقائق هو أن أهواءهم شتى ؛ فمنها المتفق ، وأكثرهم مختلف ، وأكثر اتفاق أهوائهم حاصل بالشرك ، فلو كان الحق الثابت في الواقع موافقاً لمزاعمهم لاختلت أصول انتظام العوالم .
فإن مبدأ الحقائق هو حقيقة الخالق تعالى ، فلو كانت الحقيقة هي تعدد الآلهة لفسدت العوالم بحكم قوله تعالى { لو كان فيهما ءالهة إلا الله لفسدتا } [ الأنبياء : 22 ] وقد تقدم تفصيله في سورة الأنبياء . وذلك أصل الحق وقوامه وانتقاضه انتقاض لنظام السموات والأرض كما تقدم . وقد قال الله تعالى في هذه السورة { ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله } [ المؤمنون : 91 ] الآية ، فمن هواهم الباطل أن جعلوا من كمال الله أن يكون له ولد .
ثم ننتقل بالبحث إلى بقية حقائق ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الحق لو فرض أن يكون الثابت نقيض ذلك لتسرب الفساد إلى السموات والأرض ومن فيهن . فلو فرض عدم البعث للجزاء لكان الثابت أن لا جزاء على العمل ؛ فلم يعمل أحد خيراً إذ لا رجاء في ثواب . ولم يترك أحد شراً إلا إذ لا خوف من عقاب فيغمر الشر الخير والباطل الحق وذلك فساد لمن في السموات والأرض قال تعالى : { أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون } [ المؤمنون : 115 ] .
وكذا لو كان الحق حسنَ الاعتداء والباطلُ قبحَ العدل لارتمى الناس بعضهم على بعض بالإهلاك جُهد المستطاع فهلك الضرع والزرع قال تعالى : { وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد } [ البقرة : 205 ] ، وهكذا الحال في أهوائهم المختلفة . ويزيد أمرها فساداً بأن يتبع الحق كل ساعة هوى مخالفاً للهوى الذي اتبعه قبل ذلك فلا يستقر نظام ولا قانون .
وهذا المعنى ناظر إلى معنى قوله تعالى : { وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون } [ الدخان : 38 ، 39 ] .
والظاهر أن ( مَن ) في قوله : { ومن فيهن } صادقة على العقلاء من البشر والملائكة . ففساد البشر على فرض أن يكون جارياً على أهواء المشركين ظاهر مما قررناه .
وأما فساد الملائكة فلأن من أهواء المشركين زعمهم أن الملائكة بنات الله فلو كان الواقع أن حقيقة الملائكة بُنوة الله لأفضى ذلك إلى أنهم ءالهة لأن المتولد من جنس يجب أن يكون مماثلاً لما تولد هو منه إذ الولد نسخة من أبيه فلزم عليه ما يلزم على القول بتعدد الآلهة . وأيضاً لو لم يكن من فصول حقيقة الملائكة أنهم مسخرون لطاعة الله وتنفيذ أوامره لفسدت حقائقهم فأفسدوا ما يأمرهم الله بإصلاحه وبالعكس فتنتقض المصالح .
ويجوز أن يكون { مَن } صادقاً على المخلوقات كلها على وجه التغليب في استعمال ( مَن ) . ووجه الملازمة ينتظم بالأصالة مع وجه الملازمة بين تعدد الآلهة وبين فساد السماوات والأرض ثم يسري إلى اختلال مواهي الموجودات فتصبح غير صالحة لما خلقت عليه ، فيفسد العالم . وقد كان بعض الفلاسفة المتأخرين فرض بحثاً في إمكان فناء العالم وفرَض أسباباً إن وجد واحد منها في هذا العالم . وعدّ من جملتها أن تحدث حوادث جوية تفسد عقول البشر كلهم فيتألبون على إهلاك العالم فلو أجرى الله النظام على مقتضى الأهواء من مخالفة الحق لما هو عليه في نفس الأمر كما يشتهون لعاد ذلك بالفساد على جميع العالم فكانوا مشمولين لذلك الفساد لأنهم من جملة ما في السماوات والأرض ، فناهيك بأفن آراء لا تميز بين الضر والنافع لأنفسهما .
وكفى بذلك شناعة لكراهيتهم الحق وإبطالاً لزعمهم أن ما جاء به الرسول تصرفات مجنون .
{ بل آتيناهم بذكرهم فهم عن ذكرهم معرضون }
إبطال لما اقتضاه الفرض في قوله { ولو اتبع الحق أهواءهم } أي بل لم يتبع الحق أهواءهم فأبلغنا إليهم الحق على وجهه بالقرآن الذي هو ذكر لهم يوقظ عقولهم من سباتها . كأنه يذكر عقولهم الحق الذي نسيته بتقادم الزمان على ضلالات آبائهم التي سنوها لهم فصارت أهواء لهم ألفوها فلم يقبلوا انزياحاً عنها وأعرضوا عن الحق بأنه خالفها ، فجعل إبلاغ الحق لهم بالأدلة بمنزلة تذكير الناسي شيئاً طال عهده به كما قال عمر بن الخطاب في كتابه إلى أبي موسى الأشعري « فإن الحق قديم » قال تعالى { ويحق الله الحق بكلماته ولو كره المجرمون } [ يونس : 82 ] .
وعُدِّي فعل { أتيناهم } بالباء لأنه استعمل مجازاً في الإرسال والتوجيه .
والذكر يجوز أن يكون مصدراً بمعنى التذكير . ويجوز أن يكون اسماً للكلام الذي يذكر سامعه بما غفل عنه وهو شأن الكتب الربانية . وإضافة الذكر إلى ضميرهم لفظية من الإضافة إلى مفعول المصدر .
والفاء لتفريع إعراضهم على الإتيان بالذكر إليهم ، أي فتفرع على الإرسال إليهم بالذكر إعراضهم عنه . والمعنى : أرسلنا إليهم القرآن ليُذَكِّرهم .
وقيل : إضافة الذكر إلى ضميرهم معنوية ، أي الذكر الذي سألوه حين كانوا يقولون { لو أن عندنا ذكراً من الأولين لكنَّا عباد الله المخلصين } [ الصافات : 168 - 169 ] فيكون الذكر على هذا مصدراً بمعنى الفاعل ، أي ما يتذكرون به . والفاء على هذا الوجه فاء فصيحة ، أي فها قد أعطيناهم كتاباً فأعرضوا عن ذكرهم الذي سألوه كقوله تعالى : « لو أن عندنا ذكراً من الأولين ( أي من رسل قبل محمد صلى الله عليه وسلم لكنا عباد الله المخلصين فكفروا به » ، وقول عباس بن الأحنف :
قالوا خراسان أقصى ما يراد بنا *** ثم القفول فقد جئنا خُراسان
وقوله تعالى : { أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم بشير ونذير } [ المائدة : 19 ] .
والتعبير عن إعراضهم بالجملة الاسمية للدلالة على ثبات إعراضهم وتمكنه منهم . وتقديم المجرور على عامله للاهتمام بذكرهم ليكون إعراضهم عنه محل عجب .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ولو اتبع الحق أهواءهم} يعني: لو اتبع الله أهواء كفار مكة، فجعل مع نفسه شريكا {لفسدت} يعني: لهلكت {السماوات والأرض ومن فيهن} من الخلق {بل أتيناهم بذكرهم} يعني: بشرفهم، يعني: القرآن {فهم عن ذكرهم معرضون} يعني، القرآن، معرضون عنه فلا يؤمنون به.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ولو عمل الربّ تعالى ذكره بما يهوَى هؤلاء المشركون وأجرى التدبير على مشيئتهم وإرادتهم وترك الحقّ الذي هم له كارهون، لفسدت السموات والأرض ومن فيهنّ، وذلك أنهم لا يعرفون عواقب الأمور والصحيحَ من التدبير والفاسد، فلو كانت الأمور جارية على مشيئتهم وأهوائهم مع إيثار أكثرهم الباطل على الحقّ، لم تقرّ السموات والأرض ومن فيهنّ من خلق الله، لأن ذلك قام بالحقّ...
وقوله:"بَلْ أتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ" اختلف أهل التأويل في تأويل الذكر في هذا الموضع؛
فقال بعضهم: هو بيان الحقّ لهم بما أنزل على رجل منهم من هذا القرآن...
وقال آخرون: بل معنى ذلك: بل أتيناهم بشَرَفهم، وذلك أن هذا القرآن كان شَرَفا لهم، لأنه نزل على رجل منهم، فأعرضوا عنه وكفروا به، وقالوا: ذلك نظير قوله: "وَإنّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ "وهذان القولان متقاربا المعنى. وذلك أن الله جلّ ثناؤه أنزل هذا القرآن بيانا بيّن فيه ما لخلقه إليه الحاجة من أمر دينهم، وهو مع ذلك ذكر لرسوله صلى الله عليه وسلم وقومه وشَرَف لهم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{ولو اتبع الحق أهواءهم} قال عامة أهل التأويل: الحق ههنا: هو الله، أي لو اتبع الله أهواءهم في كفرهم وشركهم {لفسدت السموات والأرض ومن فيهن} وتأويل هذا أن الكفر والشرك مما لا عاقبة له، فهو في الحكمة والعقل فاسد باطل غير مستحسن.
وقال بعضهم: الحق ههنا كتاب الله، وهو القرآن على ما يهوون هم لفسد ما ذكر لأنه يكون خارجا عن الحكمة.
وجائز أن يوصل قوله: {ولو اتبع الحق أهواءهم} بالحق، الذي سبق ذكره، وهو قوله: {بل جاءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون} أي: لو اتبع ذلك الحق أهواءهم، وجاء على ما هويته أنفسهم، واشتهت، والحق اسم كل مستحسن وممدوح في العقل والحكمة. ولو اتبع ذلك الحق أهواءهم، وجاء على ما هويته أنفسهم، واشتهت من عباده غير الله وتسميتهم إياها آلهة وإنكارهم البعث والتوحيد وغير ذلك من الأفعال التي كانوا اختاروها وعملوا {لفسدت السموات والأرض} وما ذكر لأنه يكون خلقهم وخلق ما ذكر من السموات والأرض وما فيهن لا لما توجبه الحكمة والعقل إذ خلقهم، وخلق ما ذكر لأفعالهم التي يفعلون.
فإذا خرجت أفعالهم على غير ما توجبه الحكمة والعقل بل على السفه والجهل خرج الذي لها خلق من أجلها الشيء. كذلك إذ خلق الشيء وفعله لا لعاقبة تقصد خارج عن الحكمة، والله أعلم بذلك.
وجائز أن يكون الحق، هو رسوله الله؛ أي رسول الله لو اتبع أهواءهم لفسد ما ذكر.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
وفي إتباع أهوائهم قولان: أحدهما: لو اتبع أهواءهم فيما يشتهونه. الثاني: فيما يعبدونه...
{لَفَسَدَتِ السَّموَاتُ وَالأَرْضُ} يحتمل وجهين: أحدهما: لفسد تدبير السموات والأرض لأنها مدبرة بالحق لا بالهوى. الثاني: لفسدت أحوال السموات والأرض لأنها جارية بالحكمة لا على الهوى...
وفساد الإِنس يكون على وجهين: أحدهما: بإتباع الهوى. وذلك مهلك. الثاني: بعبادة غير الله، وذلك كفر.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
معنى قوله:"ولو اتبع الحق أهواءهم" أن الحق لما كان يدعو إلى الأفعال الحسنة، والأهواء تدعو إلى الأفعال القبيحة، فلو اتبع الحق داعي الهوى لدعاه إلى قبيح الأعمال وإلى ما فيه الفساد والاختلاط، ولو جرى الأمر على ذلك "لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن "ووجه فساد العالم بذلك: أنه يوجب بطلان الأدلة وامتناع الثقة بالمدلول عليه، وأنه لا يؤمن وقوع الظلم، الذي لا ينصف منه، وتختلط الأمور أقبح الاختلاط ولا يوثق بوعد، ولا وعيد، ولا يؤمن انقلاب عدل الحكيم. وهذا معنى عجيب...
والهوى: ميل النفس إلى المشتهى من غير داعي الحق، كما قال تعالى "وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى"، فلا يجوز لأحد أن يفعل شيئا لأنه يهواه. ولكن يفعله لأنه صواب، على أنه يهواه أو لأنه يهواه مع أنه صواب حسن جائز.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
دلّ بهذا على عظم شأن الحق، وأنّ السموات والأرض ما قامت ولا من فيهنّ إلا به، فلو اتبع أهواءهم لانقلب باطلاً، ولذهب ما يقوم به العالم فلا يبقى له بعده قوام...
والحق هو الإسلام. فلو اتبع الإسلام قولهم لعلم الله حصول المفاسد عند بقاء هذا العالم، وذلك يقتضي تخريب العالم وإفناءه.
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
وقيل:"لو اتبع الحق أهواءهم" أي بما يهواه الناس ويشتهونه لبطل نظام العالم؛ لأن شهوات الناس تختلف وتتضاد، وسبيل الحق أن يكون متبوعا، وسبيل الناس الانقياد للحق...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{ولو اتبع الحق} أي في الأصول والفروع والأحوال والأقوال {أهواءهم} أي شهواتهم التي تهوي بهم لكونها أهواء -بما أشار إليه الافتعال {لفسدت السماوات} على علوها وإحكامها {والأرض} على كثافتها وانتظامها {ومن فيهن} على كثرتهم وانتشارهم وقوتهم، بسبب ادعائهم تعدد الآلهة، ولو كان ذلك حقاً لأدى ببرهان التمانع إلى الفساد، وبسبب اختلاف أهوائهم واضطرابها المفضي إلى النزاع كما ترى من الفساد عند اتباع بعض الأغراض في بعض الأزمان إلى أن يصلحها الحق بحكمته، ويقمعها بهيبته وسطوته، ولكنا لم نتبع الحق أهواءهم {بل أتيناهم} بعظمتنا {بذكرهم} وهو الكتاب الذي في غاية الحكمة، ففيه صلاح العالم وتمام انتظامه، فإذا تأمله الجاهل صده عن جهله فسعد في أقواله وأفعاله، وبان له الخير في سائر أحواله، وإذا تدبره العالم عرج به إلى نهاية كماله، فحينئذ يأتي السؤال عمن أنزله، فتخضع الرقاب، وعمن أنزل عليه فيعظم في الصدور، وعن قومه فتجلهم النفوس، وتنكس لمهابتهم الرؤوس، فيكون لهم أعظم ذكر وأعلى شرف. ولما جعلوا ما يوجب الإقبال سبباً للإدبار، قال معجباً منهم: {فهم عن ذكرهم} أي الذي هو شرفهم {معرضون} لا يفوتنا بإعراضهم مراد، ولا يلحقنا به ضرر، إنما ضرره عائد إليهم، وراجع في كل حال عليهم.
تفسير القرآن للمراغي 1371 هـ :
{ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن} أي ولو سلك القرآن طريقهم، بأن جاء مؤيدا للشرك بالله، واتخاذ الولد – تعالى الله عن ذلك – وزين الآثام واجتراح السيئات، لاختل نظام العالم كما جاء في قوله: {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا} [الأنبياء:22] ولو أباح الظلم وترك العدل لوقع الناس في هرج ومرج، ولوقع أمر الجماعات في اضطراب وفساد، والمشاهد في الأمم التي يفشو فيها التخاذل والذلة والمسكنة يؤول أمرها إلى الزوال، ولو أباح العدوان واغتصاب الأموال وأن يكون الضعيف فريسة للقوي، لما استتب أمن ولا ساد نظام، وحال العرب قبل الإسلام شاهد صدق على ذلك. ولو أباح الزنا لفسدت الأنساب وما عرف والد ولده، فلا تتكون الأسر، ولا يكون من يعول الأبناء، ولا يبحث لهم عن رزق، فيكونون شردا في الطرقات لا مأوى لهم، ولا عائل يقوم بشؤونهم، وأكبر برهان على هذا ما هو حادث في أوروبا الآن من وجود نسل بازدواج غير شرعي مما تئن منه الأمم والجماعات؛ إلى نحو أولئك مما سبق ذكره من قبل وفصلناه تفصيلا. وبعد أن أنبهم على كراهتهم للحق، شنع عليهم لإعراضهم عما فيه الخير لهم، وهو يخالف ما جلبت عليه النفوس من الرغبة في ذلك فقال: {بل أتيناهم بذكرهم فهم عن ذكرهم معرضون} أي بل جئناهم بالقرآن الذي فيه فخرهم وشرفهم فأعرضوا عنه، ونكصوا على أعقابهم، وازدروا به وجعلوه هزوا وسخرية، وما كان لهم من الخير أن يفعلوا ذلك.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
فالقرآن ومن جاء به، أعظم نعمة ساقها الله إليهم، فلم يقابلوها إلا بالرد والإعراض، فهل بعد هذا الحرمان حرمان؟ وهل يكون وراءه إلا نهاية الخسران؟.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
والحق لا يمكن أن يدور مع الهوى؛ وبالحق تقوم السماوات والأرض، وبالحق يستقيم الناموس، وتجري السنن في هذا الكون وما فيه ومن فيه: (ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن).. فالحق واحد ثابت، والأهواء كثيرة متقلبة. وبالحق الواحد يدبر الكون كله، فلا ينحرف ناموسه لهوى عارض، ولا تتخلف سنته لرغبة طارئة. ولو خضع الكون للأهواء العارضة، والرغبات الطارئة لفسد كله، ولفسد الناس معه، ولفسدت القيم والأوضاع، واختلت الموازين والمقاييس؛ وتأرجحت كلها بين الغضب والرضى، والكره والبغض، والرغبة والرهبة، والنشاط والخمول.. وسائر ما يعرض من الأهواء والمواجد والانفعالات والتأثرات.. وبناء الكون المادي واتجاهه إلى غايته كلاهما في حاجة إلى الثبات والاستقرار والاطراد، على قاعدة ثابتة، ونهج مرسوم، لا يتخلف ولا يتأرجح ولا يحيد. ومن هذه القاعدة الكبرى في بناء الكون وتدبيره، جعل الإسلام التشريع للحياة البشرية جزءا من الناموس الكوني، تتولاه اليد التي تدبر الكون كله وتنسق أجزاءه جميعا. والبشر جزء من هذا الكون خاضع لناموسه الكبير؛ فأولى أن يشرع لهذا الجزء من يشرع للكون كله، ويدبره في تناسق عجيب. بذلك لا يخضع نظام البشر للأهواء فيفسد ويختل: (ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن) إنما يخضع للحق الكلي، ولتدبير صاحب التدبير. وهذه الأمة التي جاء لها الإسلام كانت أولى الأمم باتباع الحق الذي يتمثل فيه. ففوق أنه الحق هو كذلك مجد لها وذكر. وما كان لها من ذكر لولاه في العالمين: (بل أتيناهم بذكرهم فهم عن ذكرهم معرضون)..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والحق هنا هو الحق المتقدم في قوله: {بل جاءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون} وهو الشيء الموافق للوجود الواقعي ولحقائق الأشياء. وعلم من قوله {ولو اتبع الحق أهواءهم} أن كراهة أكثرهم للحق ناشئة عن كون الحق مخالفاً أهواءهم فسجل عليهم أنهم أهل هوى والهوى شهوة ومحبة لما يلائم غرض صاحبه، وهو مصدر بمعنى المفعول. وإنما يجري الهوى على شهوة دواعي النفوس أعني شهوات الأفعال غير التي تقتضيها الجبلة، فشهوة الطعام والشراب ونحوهما مما تدعو إليه الجبلة ليست من الهوى وإنما الهوى شهوة ما لا تقتضيه الفطرة كشهوة الظلم وإهانة الناس...
والاتِّباع: مجاز شائع في الموافقة، أي لو وافق الحق ما يشتهونه. ومعنى موافقة الحق الأهواء أن تكون ماهية الحق موافقة لأهواء النفوس. فإن حقائق الأشياء لها تقرر في الخارج سواء كانت موافقة لما يشتهيه الناس أم لم تكن موافقة له؛ فمنها الحقائق الوجودية وهي الأصل فهي متقررة في نفس الأمر مثل كون الإله واحداً، وكونه لا يلد، وكون البعث واقعاً للجزاء، فكونها حقاً هو عين تقررها في الخارج. ومنها الحقائق المعنوية وهي الموجودة في الاعتبار فهي متقررة في الاعتبارات. وكونها حقاً هو كونها جارية على ما يقتضيه نظام العالم مثل كون الوأد ظلماً، وكون القتل عدواناً، وكون القمار أخذ مال بلا حق لآخذه في أخذه، فلو فرض أن يكون الحق في أضداد هذه المذكورات لفسدت السماوات والأرض وفسد من فيهن، أي من في السماوات والأرض من الناس. ووجه الملازمة بين فساد السماوات والأرض وفساد الناس وبين كون الحق جارياً على أهواء المشركين في الحقائق هو أن أهواءهم شتى؛ فمنها المتفق، وأكثرهم مختلف، وأكثر اتفاق أهوائهم حاصل بالشرك، فلو كان الحق الثابت في الواقع موافقاً لمزاعمهم لاختلت أصول انتظام العوالم. فإن مبدأ الحقائق هو حقيقة الخالق تعالى، فلو كانت الحقيقة هي تعدد الآلهة لفسدت العوالم بحكم قوله تعالى {لو كان فيهما ءالهة إلا الله لفسدتا} [الأنبياء: 22]...
والظاهر أن (مَن) في قوله: {ومن فيهن} صادقة على العقلاء من البشر والملائكة. ففساد البشر على فرض أن يكون جارياً على أهواء المشركين ظاهر مما قررناه. وأما فساد الملائكة فلأن من أهواء المشركين زعمهم أن الملائكة بنات الله فلو كان الواقع أن حقيقة الملائكة بُنوة الله لأفضى ذلك إلى أنهم ءالهة لأن المتولد من جنس يجب أن يكون مماثلاً لما تولد هو منه، إذ الولد نسخة من أبيه فلزم عليه ما يلزم على القول بتعدد الآلهة. وأيضاً لو لم يكن من فصول حقيقة الملائكة أنهم مسخرون لطاعة الله وتنفيذ أوامره لفسدت حقائقهم فأفسدوا ما يأمرهم الله بإصلاحه وبالعكس فتنتقض المصالح. ويجوز أن يكون {مَن} صادقاً على المخلوقات كلها على وجه التغليب في استعمال (مَن)...
{بل آتيناهم بذكرهم فهم عن ذكرهم معرضون} إبطال لما اقتضاه الفرض في قوله {ولو اتبع الحق أهواءهم} أي بل لم يتبع الحق أهواءهم فأبلغنا إليهم الحق على وجهه بالقرآن الذي هو ذكر لهم يوقظ عقولهم من سباتها. كأنه يذكر عقولهم الحق الذي نسيته بتقادم الزمان على ضلالات آبائهم التي سنوها لهم فصارت أهواء لهم ألفوها فلم يقبلوا انزياحاً عنها وأعرضوا عن الحق بأنه خالفها، فجعل إبلاغ الحق لهم بالأدلة بمنزلة تذكير الناسي شيئاً طال عهده به كما قال عمر بن الخطاب في كتابه إلى أبي موسى الأشعري « فإن الحق قديم» قال تعالى {ويحق الله الحق بكلماته ولو كره المجرمون} [يونس: 82]. وعُدِّي فعل {أتيناهم} بالباء لأنه استعمل مجازاً في الإرسال والتوجيه. والذكر يجوز أن يكون مصدراً بمعنى التذكير. ويجوز أن يكون اسماً للكلام الذي يذكر سامعه بما غفل عنه وهو شأن الكتب الربانية...
والمعنى: أرسلنا إليهم القرآن ليُذَكِّرهم.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
أولهما الشهوة والسيطرة التي قد تجمح بصاحبها عن مناهج السداد، وموضع الاستقامة، والتي تضل معها الأفهام والعقول.
وثانيهما سيطرة الأهواء، فيتخيل ثم يخال، وإن هذين الأمرين لا يقوم بهما أمر صالح للبقاء، فالشهوات نزعات ولا تكون معها إلا لذات وقتية لا تدوم، بل تنتهي بانتهاء وقتها، فلذة الخمر تنتهي بانتهاء وقتها، وكذلك كل لذة جسمية تنفعل بها النفس لا تدوم، وشهوات الناس مختلفة، فيكون التضاد بين الناس والتنازع المستمر، والتناحر القاتل، كما نرى الآن في أمم أوربا وخاصة أمريكا، ثم الأوهام من شأنها أن تصور ما ليس واقعا كأنه واقع، ويتخيل الشخص، ثم يخال. هذا هو الهوى، وأهواء العرب، كانت انحرافا فكريا أدى إلى استحسان الشر، وضعفا عقليا أدى إلى اتباع الآباء ولو كانوا لا يعقلون شيئا، مما أدى إلى تحريم ما أحل الله، وأدى إلى الطواف عرايا، للتخلص من نجاسة الثياب المعنوية، كما توهموا، وأدى إلى قتل أبنائهم ووأد بناتهم، وإلى استباحة أكل أموال الناس بالباطل. هذه هي الأهواء ما كان معروفا منها بعضه عند العرب، أما الحق فإن مصدره العقل، والعقل يقوم على ثلاثة أمور: أولها الميزان بين الأشياء والأفعال فيتخير أنقاها وأثبتها وأصلحها، وأكثرها نفعا. وثانيها القسطاس المستقيم الذي يكون ميزان الأشياء، وحكم الموازنة فيها. وثالثها أنه يقدر خير الأمور بأنه ما يكون باقيا، ولو كان في آجل. على هذا لا يمكن أن يكون الحق متفقا مع الأهواء، وخصوصا أهواء العرب التي أشرنا إلى بعضها؛ ولذا قال تعالى: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ}. أما فساد السموات فلأنها قائمة على تماسك أجرامها بأركان قوية منتظمة لا تتخلف، ولو كانت خاضعة لأهواء أهل الشرك لتزايلت؛ لأن أهواء أهل الشرك تفرق المجتمع، كما كانت الحال بينهم، وأما الأرض فلأنها تعمر باستنباط خيرها، وتعرف إصلاحها والغرائز الإنسانية التي تمد النفوس بشهوة الغلب، وشهوة الجنس، وشهوة المال، وشهوة السلطان والتحكم، وإذا حكمت هذه وأشباهها، فإن الحاكم يعجل بفنائه، ولولا رحمة من ربك ببقاء سلطان الحق ولو في الأقوال دون الأفعال، لآذنت الدنيا بخراب، قال تعالى في بيان أن الرسل جميعا جاءوا بالحق وميزانه: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25)} [الحديد]. {بَلْ أَتَيْنَاهُم بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِم مُّعْرِضُونَ} بل للإضراب عن توهمهم أن الحق يساير أهواءهم، وأتيناهم بما بذكرهم الحق، ويبعدهم عن أهوائهم ويذكرهم بمعنى التذكير، وهو من إضافة المصدر إلى مفعوله، أي جئناهم بما يذكرهم، وينبههم إلى خلل تفكيرهم وبعدهم عن الحق وسيطرة أهوائهم..
إذن: فالمسائل لا تسير على هوى المخلوق، إنما على مرادات الخالق، لأن الخالق سبحانه هو صانع هذا الكون، وكل صانع يغار على صنعته، وهذا مشاهد حتى في صنعة البشر، ولك أن تتصور ماذا يحدث لو أفسدت على صانع ما صنعه. وعدالة الأشياء أن تسير على وفق مرادات الصانع، لا هوى المصنوع، لأن الأهواء تملكها الأغيار، فالإنسان لو سار في حركة حياته على وفق هواه لأخذ ما ليس له، ولقبل الرشوة، ومال إلى الفسق والانحراف، لأنه في الظاهر يرى أنه منتفع بهذا ولا ينظر إلى العاقبة والمحصلة النهائية، لقد نظر إلى متعة زائلة موقوتة، ونسي تبعة ثقيلة لن يقدر عليها فيما بعد. لذلك يقول الحق سبحانه: {ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن} ولك أن تقول: نعم، اتباع الأهواء يفسد الأرض، ويفسد حركة الحياة فيها، لكن كيف يفسد السماء؟ وهل لأحد قدرة عليها؟. ونقول: ألم يكن من أمنيات هؤلاء: {وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا (90) أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا (91) أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا.. (92)} [الإسراء]. إذن: من أهوائهم أن تتهدم السماء، ولو حتى على رؤوسهم، وأي فساد بعد هذا، وهكذا لو اتبعت أهواءهم لفسدت السموات والأرض، ليس هذا وفقط بل {ومن فيهن} حيث سيتعدى فسادهم ليشمل كل ما في الوجود. لذلك يقيد النبي (صلى الله عليه وسلم) هذه الأهواء في قوله:"لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به" لأنه (صلى الله عليه وسلم): {وما ينطق عن الهوى (3) إن هو إلا وحي يوحى (4)} [النجم]... ثم يقول تعالى: {بل أتيناهم بذكرهم فهم عن ذكرهم معرضون} و (بل) تفيد الإضراب عن الكلام السابق، وإثبات كلام جديد بعدها، والذكر هنا يعني: الشرف والصيت والمكانة العالية، كما جاء في قوله تعالى عن القرآن: {وإنه لذكر لك ولقومك.. (44)} [الزخرف]. وقوله تعالى: {لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم أفلا تعقلون (10)} [الأنبياء]: فكان يجب عليهم أن يحتضنوا هذا القرآن، ويرفعوه فوق رؤوسهم، ففيه مجدهم وشرفهم وعزتهم، والعرب بدون القرآن لا ذكر لهم، فقد كانوا أمة أمية تعيش على الترحال والتنقل، ولا تستقر إلا على منابع الماء ومواضع الكلأ، كانوا بدوا تنتشر فيما بينهم الحروب والغارات وقطع الطريق، كان الواحد منهم يسرق ليكرم ضيفه بما سرق. وهذه من الأمور العجيبة في عادات العرب في الجاهلية، فلم يكن لديهم منهج يحكم حياتهم، عجيب أن ترى حب الغارة والاعتداء مع الشهامة والكرم في طبيعة واحدة، فهو يفعل ما يعنّ له، وما يخطر بباله، فالمسألة ليست محكومة عندهم بقانون،...
والشاهد أنهم جماعة تناقضت خصالهم، وقد عاشوا في أمية تامة فلم يعالجوا حضارة، وهذه حسبت لهم بعد ظهور الإسلام وبعثة النبي (صلى الله عليه وسلم) من بينهم، فكيف لمثل هؤلاء أن يأتوا بهذه المعاني والأساليب العالية التي تحكم العالم كله؟ ولو كانوا أهل علم وحضارة لقالوا عنهم وعن الإسلام: إنه قفزة حضارية. ولو كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قارئا لقالوا: قرأ لفلان وفلان، كما حكى عنهم الحق سبحانه وتعالى: {ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر.. (103)} [النحل]. إذن: فذكر العرب وشرفهم ومجدهم وكرامتهم في القرآن، ومع ذلك لم يعملوا حتى لمصلحتهم، ولم يهتموا بهذا القرآن، إنما أعرضوا عنه {فهم عن ذكرهم معرضون} أي: عن القرآن، وهذا دليل أنهم كانوا مغفلين، لا يعرفون حتى مصلحتهم.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
لأن الخضوع للأهواء يستتبع عدم وجود ضوابط لأيّ شيء على صعيد التكوين والتشريع، لأنه لن يكون منطلقاً من دراسة العناصر الضرورية التي تضمن للوجود أو للإنسان صلاحه وثباته واستمراره، لجهة ما تحتويه من أسرار وخصائص وتوازنات في علاقة الأشياء ببعضها البعض ودورها في حركة الإنسان وحياته، هذه الخصائص التي تجعل لكل شيءٍ هدفاً ودوراً وموقعاً مميّزاً، وتخلق نوعاً من التكامل بين عناصر الوجود وطبيعة الأشياء، ولوناً من ألوان التوازن في أوضاع الناس في حياتهم العامة والخاصة، وفي علاقة الإنسان بالكون والحياة.. وإذا فَقَد الكون ضوابطه وقوانينه وركائزه فَقَد أيّ مصدر للثبات والامتداد، وإذا انعدمت في التشريع المصالح والمفاسد التي تحكم الأوامر والنواهي فَقَد التشريع فاعليته القويّة في تنظيم حياة مستقرّة للإنسان، لأن الأهواء لا تحكمها قاعدة أو قانون، ما يجعل الكون كله عرضة للاهتزاز وللفساد وللخلل، وبذلك تفسد السماوات والأرض لو أريد لها أن تتحرك أو تتغير أو تثبت أو تزول تبعاً للأهواء المتنوعة والشهوات المتباينة والأمزجة المتقلّبة، ويفسد مَنْ فيهن من إنسان وحيوان وغيرهما لو كانت الأنظمة الموضوعة لها بعيدة عن منطق العقل، وقريبة إلى منطق الهوى والشهوة والانفعال.. إن المسألة في مجملها هي الفرق بين القاعدة واللاقاعدة، فلا يمكن أن يصلح شيء لا قاعدة له في ساحة الوجود أو التشريع، وبذلك لا يمكن أن تكون الأهواء أساساً لذلك كله.. ولذلك اقتضت الحكمة الإلهية، أن يتجاوز الناس أهواءهم ونوازعهم، لينظم الوحي حركتهم في الواقع كله، ويصدم كل مرتكزاتهم الخاطئة، ويغير كل عاداتهم المتخلفة، وينسخ كل شرائعهم الباطلة.
{بَلْ آَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ} وهو القرآن الذي يذكّرهم بالحقائق التي تفتح عقولهم على ما غفلوا عنه من عناصر الهدى، وتذكّرهم ما نسوه من قواعد النجاة والنجاح.. وقد نسب الذكر إليهم، باعتبار أن هدف حركته في الواقع هو تذكيرهم، ليكونوا القاعدة الإيمانية للمستقبل، باعتبارهم أوّل من تحركت الدعوة إليهم بالإسلام في وقت غفلوا فيه عن الحقّ ونسوا قواعد النجاة. {فَهُمْ عَن ذِكْرِهِمْ مُّعْرِضُونَ} لأنهم يرفضون الانفتاح على كل آيات الله، ويخافون من سيطرتها الفكرية على أذهانهم، ما قد يدفعهم إلى تغيير مواقفهم، والابتعاد بالتالي عمّا ألفوه من مواقع شركهم...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
أجل، إنّ كلمات الرّسول راشدة حكيمة، إلاّ أنّهم ينكرونها لعدم انسجامها مع أهوائهم النفسيّة. فألصقوا به تهمة الجنون! في الوقت الذي لا ضرورة في توافق الحقّ مع رغبات الناس (ولو اتّبع الحقّ أهواءهم لفسدت السموات والأرض ومن فيهنّ). لأنّه لا يوجد مقياس يحدّد أهواء الناس، مضافاً إلى أنّها تميل إلى الشرّ والفساد غالباً، ولو اتّبعتها قوانين الوجود لعمّت الفوضى في الكون ولفسد العالم. وتأكيداً لذلك تقول الآية: (بل أتيناهم بذكرهم فهم عن ذكرهم معرضون) أي منحناهم القرآن الذي هو أساس للذكر والتوجّه إلى الله، وسبب لرفعتهم وشرفهم، إلاّ أنّهم أعرضوا عن هذا المنار الذي يُضيء لهم درب السعادة والشرف.