إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{وَلَوِ ٱتَّبَعَ ٱلۡحَقُّ أَهۡوَآءَهُمۡ لَفَسَدَتِ ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلۡأَرۡضُ وَمَن فِيهِنَّۚ بَلۡ أَتَيۡنَٰهُم بِذِكۡرِهِمۡ فَهُمۡ عَن ذِكۡرِهِم مُّعۡرِضُونَ} (71)

{ وَلَوِ اتبع الحق أَهْوَاءهُمْ } استئنافٌ مسوقٌ لبيانِ أنَّ أهواءَهم الزَّائغة التي ما كرهوا الحقَّ إلا لعدم موافقته إيَّاها مقتضيةٌ للطَّامةِ أي لو كان ما كرهُوه من الحقِّ الذي مِن جُملتهِ ما جاء به عليه السَّلامُ موافقاً لأهوائِهم الباطلةِ { لَفَسَدَتِ السماوات والأرض وَمَن فِيهِنَّ } وخرجتْ عن الصَّلاحِ والانتظامِ بالكليةِ لأنَّ مناطَ النِّظامِ ليس إلاَّ ذلكَ وفيه من تنويهِ شأنِ الحقِّ والتَّنبيهِ على سُموِّ مكانه ما لا يخفى ، وأمَّا ما قيلَ لو اتَّبع الحقُّ الذي جاءَ به عليه السَّلامُ أهواءَهم وانقلبَ شِركاً لجاء اللَّهُ تعالى بالقيامةِ ولأهلكَ العالَم ولم يؤخِّرْ ، ففيهِ أنَّه لا يُلائم فرضَ مجيئهِ عليه السَّلامُ به وكذا ما قيل لو كانَ في الواقعِ إلا هان لا يناسبُ المقامَ وأمَّا ما قيل لو اتَّبع الحقُّ أهواءَهم لخرجَ عن الإلهية فممَّا لا احتمالَ له أصلاً .

{ بَلْ أتيناهم بِذِكْرِهِمْ } انتقالٌ من تشنيعهم بكراهةِ الحقِّ الذي به يقومُ العالمُ إلى تشنيعهم بالإعراضِ عمَّا جُبلَ عليه كلُّ نفسٍ من الرَّغبةِ فيما فيه خيرُها والمرادُ بالذِّكرِ القرآنُ الذي هو فخرُهم وشرفهم حسبما ينطقُ به قوله تعالى : { وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ } أي بل أتيناهُم بفخرهم وشرفهم الذي كان يجبُ عليهم أنْ يقبلُوا عليه أكملَ إقبالٍ { فَهُمُ } بما فعلُوه من النُّكوصِ { عَن ذِكْرِهِمْ } أي فخرهم وشرفهم خاصَّةً { مُّعْرِضُونَ } لا عن غيرِ ذلكَ ممَّا لا يُوجبُ الإقبالَ عليه والاعتناءَ بهِ .

وفي وضعِ الظَّاهر موضعَ الضَّميرِ مزيدُ تشنيعٍ لهم وتقريعٍ . والفاءُ لترتيب ما بعدَها من إعراضِهم عن ذكرِهم على ما قبلها من إيتاءَ ذكرِهم لا لترتيبِ الإعراضِ على الإيتاءِ مُطلقاً فإنَّ المستتبعَ لكونِ إعراضِهم إعراضاً عن ذكرِهم هو إيتاءُ ذكرِهم لا الإيتاءُ مُطلقاً ، وفي إسنادِ الإتيانِ بالذِّكرِ إلى نُون العظمةِ بعد إسنادِه إلى ضميرِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ تنويهٌ لشأنِ النبيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وتنبيهٌ على كونه بمثابةٍ عظيمةٍ منه عزَّ وجلَّ . وفي إيرادِ القُرآنِ الكريمِ عند نسبتهِ إليه تعالى بعُنوان الذِّكرِ من النُّكتةِ السِّريَّةِ والحكمةِ العبقريَّةِ ما لا يخفى ؛ فإنَّ التَّصريحَ بحقِّيتهِ المستلزمةِ لحقِّيةِ مَن جاء به هُو الذي يقتضيهِ مقامُ حكايةِ ما قاله المُبطلون في شأنه ، وأمَّا التَّشريفُ فإنَّما يليقُ به تعالى لاسيما رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أحدُ المشرَّفين . وقيل المرادُ بالذِّكرِ ما تمنَّوه بقولهم لو أنَّ عندنا ذِكراً من الأوَّلينَ . وقيل وعظهُم وأيَّد ذلكَ بأنَّه قرئ بذكراهُم . والتَّشنيعُ على الأوَّلينَ أشدُّ فإنَّ الإعراضَ عن وعظهم ليسَ في مثابةِ إعراضهم عن شرفهم أو عن ذكرهم الذي يتمنونه في الشَّناعةِ والقباحةِ .