فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{وَلَوِ ٱتَّبَعَ ٱلۡحَقُّ أَهۡوَآءَهُمۡ لَفَسَدَتِ ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلۡأَرۡضُ وَمَن فِيهِنَّۚ بَلۡ أَتَيۡنَٰهُم بِذِكۡرِهِمۡ فَهُمۡ عَن ذِكۡرِهِم مُّعۡرِضُونَ} (71)

وجملة : { وَلَوِ اتبع الحق أَهْوَاءهُمْ } مستأنفة مسوقة لبيان أنه لو جاء الحق على ما يهوونه ويريدونه لكان ذلك مستلزماً للفساد العظيم ، وخروج نظام العالم عن الصلاح بالكلية ، وهو معنى قوله : { لَفَسَدَتِ السماوات والأرض وَمَن فِيهِنَّ } قال أبو صالح وابن جريج ومقاتل والسديّ : الحق : هو الله ، والمعنى : لو جعل مع نفسه كما يحبون شريكاً لفسدت السماوات والأرض . وقال الفراء والزجاج : يجوز أن يكون المراد بالحق : القرآن ، أي لو نزل القرآن بما يحبون من الشرك لفسد نظام العالم . وقيل : المعنى : ولو كان الحق ما يقولون من اتحاد الآلهة مع الله لاختلفت الآلهة ، ومثل ذلك قوله : { لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا } [ الأنبياء : 22 ] وقد ذهب إلى القول الأوّل الأكثرون ، ولكنه يرد عليه أن المراد بالحق هنا هو : الحق المذكور قبله في قوله : { بَلْ جَاءهُمْ بالحق } ولا يصح أن يكون المراد به هنالك الله سبحانه ، فالأولى تفسير الحق هنا وهناك : بالصدق الصحيح من الدين الخالص من شرع الله ، والمعنى : ولو ورد الحق متابعاً لأهوائهم موافقاً لفاسد مقاصدهم لحصل الفساد ، والمراد بقوله : { وَمَن فِيهِنَّ } من في السماوات والأرض من المخلوقات . وقرأ ابن مسعود : «وما بينهما » وسبب فساد المكلفين من بني آدم ظاهر ، وهو ذنوبهم التي من جملتها الهوى المخالف للحق ، وأما فساد ما عداهم فعلى وجه التبع ؛ لأنهم مدبرون في الغالب بذوي العقول فلما فسدوا فسدوا . ثم ذكر سبحانه أن نزول القرآن عليهم من جملة الحق فقال : { بَلْ أتيناهم بِذِكْرِهِمْ } والمراد بالذكر هنا القرآن ، أي بالكتاب الذي هو فخرهم وشرفهم ، ومثله قوله : { وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ } [ الزخرف : 44 ] . والمعنى : بل آتيناهم بفخرهم وشرفهم الذي كان يجب عليهم أن يقبلوه ، ويقبلوا عليه . وقال قتادة : المعنى : بذكرهم الذي ذكر فيه ثوابهم وعقابهم . وقيل : المعنى بذكر ما لهم به حاجة من أمر الدين . وقرأ ابن أبي إسحاق وعيسى بن عمر : «أتيتهم » بتاء [ المتكلم ] . وقرأ أبو حيوة والجحدري : «أتيتهم » بتاء الخطاب ، أي أتيتهم يا محمد . وقرأ عيسى بن عمر : «بذكراهم » . وقرأ قتادة : «نذكرهم » بالنون والتشديد من التذكير ، وتكون الجملة على هذه القراءة في محل نصب على الحال . وقيل : الذكر هو : الوعظ والتحذير { فَهُمْ عَن ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ } أي هم بما فعلوا من الاستكبار والنكوص عن هذا الذكر المختص بهم معرضون لا يلتفتون إليه بحال من الأحوال ، وفي هذا التركيب ما يدل على أن إعراضهم مختص بذلك لا يتجاوزه إلى غيره .

/خ83