فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَلَوِ ٱتَّبَعَ ٱلۡحَقُّ أَهۡوَآءَهُمۡ لَفَسَدَتِ ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلۡأَرۡضُ وَمَن فِيهِنَّۚ بَلۡ أَتَيۡنَٰهُم بِذِكۡرِهِمۡ فَهُمۡ عَن ذِكۡرِهِم مُّعۡرِضُونَ} (71)

{ وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ } مستأنفة لبيان أنه لو جاء الحق على ما يهوونه ويريدونه من الشريك والولد لله تعالى لكان ذلك مستلزما للفساد العظيم وخروج نظام العالم عن الصلاح بالكلية ، وهو معنى قوله : { لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ } قال ابن جريج ومقاتل والسدي : الحق هو الله ، والمعنى لو جعل الله مع نفسه كما تحبون شريكا لفسدت هي { وَمَن فِيهِنَّ } وقال الفراء والزجاج : الحق القرآن ، أي لو نزل القرآن بما يحبون من الشرك لفسد نظام العالم ، وقيل المعنى لو كان الحق ما يقولون من اتخاذ الآلهة مع الله لاختلفت الآلهة ، ومثل ذلك قوله : { لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا } لوجود التمانع في الشيء عادة عند تعدد الحاكم وقد ذهب إلى القول الأول الأكثرون ، ولكنه يرد عليه أن المراد بالحق هنا هو الحق المذكور قبله ، من قوله : { بَلْ جَاءهُم بِالْحَقِّ } ، ولا يصح أن يكون المراد به هنالك الله سبحانه ، فالأولى تفسير الحق هنا وهناك بالصدق الصحيح من الدين الخالص من شرع الله ، والمعنى ولو ورد الحق متابعا لأهوائهم موافقا لفاسد مقاصدهم لحصل الفساد ، والمراد بمن في السماوات والأرض ما فيهما من المخلوقات وخص العقلاء بالذكر لأن غيرهم تبع .

وقرأ ابن مسعود : وما بينهما ، وسبب فساد المكلفين من بني آدم ظاهر ، وهو ذنوبهم التي من جملتها الهوى المخالف للحق ، وأما فساد ما عداهم فعلى وجه التبع أنهم مدبرون في الغالب بذوي العقول ، فلما فسدوا فسدوا ، ثم ذكر سبحانه أن نزول القرآن عليهم من جملة الحق فقال :

{ بَلْ أَتَيْنَاهُم بِذِكْرِهِمْ } إضراب وانتقال عن قوله : { وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ } أي كيف يكرهون الحق مع أن القرآن أتاهم بتشريفهم وتعظيمهم ، فاللائق بهم الانقياد ، فالمراد بالذكر هنا القرآن ، أي أتيناهم بالكتاب الذي هو فخرهم وشرفهم لأن الرسول منهم والقرآن بلغتهم ؛ ومثله قوله : { وإنه لذكر لك ولقومك } وحاصل المعنى بل أتيناهم بفخرهم وشرفهم الذي كان يجب عليهم أن يقبلوه ، ويقبلوا عليه وقال قتادة : المعنى بذكرهم الذي ذكر فيه ثوابهم وعقابهم . وقيل المعنى بذكر ما لهم به حاجة من أمر الدين .

وقرئ أتيتهم بتاء التكلم وأتيتهم بتاء الخطاب ، أي أتيتهم يا محمد ، وقرئ بذكراهم ، ونذكرهم بصيغة التكلم من التذكير ، وقيل الذكر هو الوعظ ، وقيل الذي كانوا يتمنونه ، ويقولون لو أن عندنا ذكرا من الأولين وقال ابن عباس : أتيناهم بينا لهم .

{ فَهُمْ } بما فعلوا من الاستكبار والنكوص { عَن ذِكْرِهِم } المختص بهم { مُّعْرِضُونَ } بسوء اختيارهم لا يلتفون إليه بحال من الأحوال ، وأتى بذكرهم مظهرا للتوكيد والتشنيع عليهم ، وفي هذا التركيب ما يدل على أن إعراضهم مختص بذلك لا يتجاوزه إلى غيره ؛