{ أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ } أي : فيفضِّلون من شاءوا على من شاءوا بمجرد أهوائهم ، فيكونون شركاء لله في تدبير المملكة ، فلو كانوا كذلك لشحوا وبخلوا أشد البخل ، ولهذا قال : { فَإِذًا } أي : لو كان لهم نصيب من الملك { لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا } أي : شيئًا ولا قليلا . وهذا وصف لهم بشدة البخل على تقدير وجود ملكهم المشارك لملك الله . وأخرج هذا مخرج الاستفهام المتقرر إنكاره عند كل أحد .
ثم انتقل - سبحانه - من توبيخهم على تزكيتهم لأنفسهم بالباطل وعلى تفضيلهم عبادة الأوثان على عبادة الرحمن . إلى توبيخهم على البخل والأثرة فقال - تعالى - : { أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الملك فَإِذاً لاَّ يُؤْتُونَ الناس نَقِيراً } .
و { أَمْ } هنا منقطعة بمعنى بل فهى للاضراب والانتقال ، والهمزة للاستفهام الإِنكارى أى : لإِنكار أن يكون لهم نصيب من الملك ، وإبطال زعمهم من أن الملك يعود إليهم فى آخر الزمان . والفاء فى قوله { فَإِذاً } للسببية الجزائية لشرط محذوف .
والنقير : النكتة التى تكون فى ظهر النواة ويضرب به المثل فى القلة والحقارة .
والمعنى : إن هؤلاء اليهود ليس لهم نصيب من الملك ألبتة . لأنهم لا يستحقونه ، ولأنهم لو أتوا نصيبا منه على سبيل الفرض فإنهم لشدة حرصهم وبخلهم وأثرتهم لا يعطون أحدا غيرهم منه أقل القليل . وقد كنى عن أقل القليل هذا بالنقير .
فأنت ترى أن الآية الكريمة ترد على ما يزعمه اليهود من أن الملك لهم ، وأنهم لا يليق بهم أن يتبعوا غيرهم ، وتصفهم بأنهم أبخل الناس وأبعدهم عن العدل والقسط ومن كان هذه صفاته ، فقد اقتضت حكمة الله أن يحرمه نعمة الملك والسلطان .
وبعد التعجيب من أمرهم وموقفهم وقولهم ؛ وإعلان اللعنة عليهم والخذلان . . يأخذ في استنكار موقفهم من الرسول [ ص ] والمسلمين ؛ وغيظهم من أن يمن الله عليهم هذه المنة . . منة الدين والنصر والتمكين . وحسدهم لهم على ما أعطاعهم الله من فضله . وهم لم يعطوهم من عندهم شيئا ! ويكشف في الوقت ذاته عن كزازة طبيعتهم ؛ واستكثار أى عطاء يناله غيرهم ؛ مع أن الله قد أفاض عليهم وعلى آبائهم فلم يعلمهم هذا الفيض السماحة ؛ ولم يمنعهم من الحسد والكنود :
( أم لهم نصيب من الملك ؟ فإذا لا يؤتون الناس نقيرا ! )
يا عجبا ! إنهم لا يطيقون أن ينعم الله على عبد من عباده بشيء من عنده . . فهل هم شركاؤه - سبحانه ! - هل لهم نصيب في ملكه ، الذي يمنح منه ويفيض ؟ ولو كان لهم نصيب لضنوا - بكزازتهم وشحهم - أن يعطوا الناس نقيرا . . والنقير النقرة تكون في ظهر النواة - وهذه لا تسمح كزازة يهود وأثرتها البغيضة أن تعطيها للناس ، لو كان لها في الملك نصيب ! والحمد لله أن ليس لها في الملك نصيب . . وإلا لهلك الناس جميعا وهم لا يعطون حتى النقير ! ! !
عرف { أم } أن تعطف بعد استفهام متقدم ، كقولك : أقام زيد أم عمرو ، فإذا وردت ولم يتقدمها استفهام ، فمذهب سيبويه : أنها مضمنة معنى الإضراب عن الكلام الأول والقطع منه ، وهي مضمنة مع ذلك معنى الاستفهام ، فهي بمعنى «بل » مع ألف الاستفهام ، كقول العرب : إنها لإبل أم شاء? فالتقدير عند سيبويه ، أنها لإبل بل أهي شاء . وكذلك هذا الموضع ، تقديره : بل ألهم نصيب من الملك ؟ وقد حكي عن بعض النحويين ، أن { أم } يستفهم بها ابتداء دون تقدم استفهام ، حكاه ابن قتيبة في المشكل ، وهذا غير مشهور للعرب ، وقال بعض المفسرين : { أم } بمعنى بل ، ولم يذكروا الألف اللازمة ، فأوجبوا على هذا حصول الملك للمذكورين في الآية ، والتزموا ذلك وفسروا عليه ، فالمعنى عندهم : بل هم ملوك أهل دنيا وعتو وتنعم ، لا يبغون غيره ، فهم بخلاء به ، حريصون على أن لا يكون ظهور لسواهم .
قال القاضي أبو محمد : والمعنى على الأرجح الذي هو مذهب سيبويه والحذاق ، أنه استفهام على معنى الإنكار ، أي ألهم ملك ؟ فإذاً لوكان لبخلوا ، وقرأ ابن مسعود «فإذا لا يؤتوا » بغير نون على إعمال «إذاً » والمصحف على إلغائها ، والوجهان جائزان ، وإن كانت صدراً من أجل دخول الفاء عليها ، والنقير ، أعرف ما فيه أنها النكتة التي في ظهر النواة من التمرة ، ومن هنالك تنبت ، وهو قول الجمهور ، وقالت فرقة : هي النقطة التي في بطن النواة ، وروي عن ابن عباس أنه قال : هو نقر الإنسان بأصبعه ، وهذا كله يجمعه أنه كناية عن الغاية في الحقارة والقلة على مجاز العرب واستعارتها ، و { إذاً } في هذه الآية ملغاة لدخول فاء العطف عليها ، ويجوز إعمالها ، والإلغاء أفصح ، وذلك أنها إذا تقدمت أعملت قولاً واحداً ، ، فإذا دخل عليها وهي متقدمة فاء أو واو جاز إعمالها والإلغاء أفصح وهي لغة القرآن وتكتب «إذاً » بالنون وبالألف ، فالنون هو الأصل ، كعن ومن ، وجاز كتبها بالألف لصحة الوقوف عليها فأشبهت نون التنوين ، ولا يصح الوقوف على «عن ومن » .
( أم ) للإضراب الانتقالي . وهي تؤذن بهمزة استفهام محذوفة بعدها ، أي : بل ألَهُم نصيب من الملك فلا يؤتون الناس نقيراً .
والاستفهام إنكاري حكمه حكم النفي . والعطف بالفاء على جملة { لهم نصيب } وكذلك ( إذن ) هي جزاء لجملة { لهم نصيب } ، واعتبر الاستفهام داخلاً على مجموع الجملة وجزائها معاً ؛ لأنّهم ينتفي إعطاؤهم الناس نقيراً على تقدير ثبوت المُلك لهم لا على انتفائه . وهذا الكلام تهكّم عليهم في انتظارهم هو أن يرجع إليهم ملك إسرائيل ، وتسجيل عليهم بالبخل الذي لا يُؤاتي من يَرْجون المُلك . كما قال أبو الفتح البستي :
إذَا مَلِكَ لَمْ يَكُن ذَا هِبَهْ *** فدَعْه فدولتُه ذَاهِبَهْ
والنقير : شَكْلَةٌ في النواة كالدائرة ، يضرب بها المثَل في القلّة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{أم لهم}: ألَهُم، فلو كان لهم، يعني اليهود، {نصيب}، يعني حظا {من الملك فإذا لا يؤتون الناس نقيرا}: لا يعطون الناس -من بخلهم وحسدهم وقلة خيرهم- نقيرا يعني بالنقير: النقرة التي في ظهر النواة التي تنبت منها النخلة...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
{أمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ المُلْكِ}: أم لهم حظّ من الملك، يقول: ليس لهم حظّ من الملك، لو كان لهم نصيب من الملك إذا لم يؤتوا محمدا نقيرا...
ولو كان لهم نصيب وحظّ من الملك، لم يكونوا إذًا يعطون الناس نقيرا من بخلهم.
واختلف أهل التأويل في معنى النقير؛ فقال بعضهم: هو النقطة التي في ظهر النواة... النقير: وسط النواة.
النقير: النقطة التي في وسط النواة.
النقرة التي تكون في ظهر النواة.
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا حصين، عن أبي مالك، قال: النقير: الذي في ظهر النواة.
وقال آخرون: النقير: الحبة التي تكون في وسط النواة.
وقال آخرون: معنى ذلك: نقر الرجل الشيء بطرف أصابعه.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله وصف هؤلاء الفرقة من أهل الكتاب بالبخل باليسير من الشيء الذي لا خطر له، ولو كانوا ملوكا وأهل قدرة على الأشياء الجليلة الأقدار. فإذ كان ذلك كذلك، فالذي هو أولى بمعنى النقير أن يكون أصغر ما يكون من النقر، وإذا كان ذلك أولى به، فالنقرة التي في ظهر النواة من صغار النقر، وقد يدخل في ذلك كل ما شاكلها من النقر.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
(أم لهم نصيب من الملك): ما يدعيه اليهود أن الملك يعود إليهم. (فاذا لا يؤتون الناس) يعني: العرب. وذكر الزجاج في معناه وجهين: أحدهما: بل لهم نصيب، لأنهم كانوا أصحاب بساتين وأموال، وكانوا في غاية البخل. والثاني: أنهم لو أعطوا الملك، ما أعطوا الناس نقيرا من بخلهم اختاره البلخي وبه قال السدي، وابن جريج...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
وصف اليهود بالبخل والحسد وهما شرّ خصلتين: يمنعون ما أوتوا من النعمة ويتمنون أن تكون لهم نعمة غيرهم فقال: {أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مّنَ الملك} على أن أم منقطعة، ومعنى الهمزة لإنكار أن يكون لهم نصيب من الملك، ثم قال: {فَإِذاً لاَّ يُؤْتُونَ} أي لو كان لهم نصيب من الملك فإذاً لا يؤتون أحداً مقدار نقير لفرط بخلهم: والنقير: النقرة في ظهر النواة وهو مثل في القلة، كالفتيل والقطمير. والمراد بالملك: إما ملك أهل الدنيا. وإما ملك الله كقوله تعالى: {قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبّي إِذًا لأمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإنفاق} [الإسراء: 100] وهذا أوصف لهم بالشح، وأحسن لطباقه نظيره من القرآن. ويجوز أن يكون معنى الهمزة في أم: لإنكار أنهم قد أوتوا نصيباً من الملك، وكانوا أصحاب أموال وبساتين وقصور مشيدة كما تكون أحوال الملوك. وأنهم لا يؤتون أحداً مما يملكون شيئاً. وقرأ ابن مسعود: «فإذاً لا يؤتوا»، على إعمال إذا عملها الذي هو النصب، وهي ملغاة في قراءة العامة، كأنه قيل: فلا يؤتون الناس نقيراً إذاً...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
استفهام على معنى الإنكار، أي: ألهم ملك؟ فإذاً لوكان لبخلوا.
اعلم أنه تعالى وصف اليهود في الآية المتقدمة بالجهل الشديد، وهو اعتقادهم أن عبادة الأوثان أفضل من عبادة الله تعالى، ووصفهم في هذه الآية بالبخل والحسد، فالبخل هو أن لا يدفع لأحد شيئا مما آتاه الله من النعمة، والحسد هو أن يتمنى أن لا يعطي الله غيره شيئا من النعم، فالبخل والحسد يشتركان في أن صاحبه يريد منع النعمة من الغير، فأما البخيل فيمنع نعمة نفسه عن الغير، وأما الحاسد فيريد أن يمنع نعمة الله من عبادة، وإنما قدم تلك الآية على هذه الآية لأن النفس الإنسانية لها قوتان: القوة العالمة والقوة العاملة، فكمال القوة العالمة العلم، ونقصانها الجهل. وكمال القوة العاملة: الأخلاق الحميدة، ونقصانها الأخلاق الذميمة، وأشد الأخلاق الذميمة نقصانا البخل والحسد، لأنهما منشآن لعود المضار إلى عباد الله.
إذا عرفت هذا فنقول: إنما قدم وصفهم بالجهل على وصفهم بالبخل والحسد لوجهين:
الأول: أن القوة النظرية مقدمة على القوة العملية في الشرف والرتبة وأصل لها، فكان شرح حالها يجب أن يكون مقدما على شرح حال القوة العملية.
الثاني: أن السبب لحصول البخل والحسد هو الجهل، والسبب مقدم على المسبب، لا جرم قدم تعالى ذكر الجهل على ذكر البخل والحسد.
وإنما قلنا: إن الجهل سبب البخل والحسد: أما البخل فلأن بذل المال سبب لطهارة النفس ولحصول السعادة في الآخرة، وحبس المال سبب لحصول مال الدنيا في يده، فالبخل يدعوك إلى الدنيا ويمنعك عن الآخرة، والجود يدعوك إلى الآخرة ويمنعك عن الدنيا، ولا شك أن ترجيح الدنيا على الآخرة لا يكون إلا من محض الجهل. وأما الحسد فلأن الإلهية عبارة عن إيصال النعم والإحسان إلى العبيد، فمن كره ذلك فكأنه أراد عزل الإله عن الإلهية، وذلك محض الجهل. فثبت أن السبب الأصلي للبخل والحسد هو الجهل، فلما ذكر تعالى الجهل أردفه بذكر البخل والحسد ليكون المسبب مذكورا عقيب السبب، فهذا هو الإشارة إلى نظم هذه الآية. وههنا مسائل:
المسألة الثانية: ذكروا في هذا الملك وجوها:
الأول اليهود كانوا يقولون نحن أولى بالملك والنبوة فكيف نتبع العرب؟ فأبطل الله عليهم قولهم في هذه الآية.
الثاني: أن اليهود كانوا يزعمون أن الملك يعود إليهم في آخر الزمان، وذلك أنه يخرج من اليهود من يجدد ملكهم ودولتهم ويدعو إلى دينهم، فكذبهم الله في هذه الآية.
الثالث: المراد بالملك ههنا التمليك، يعني أنهم إنما يقدرون على دفع نبوتك لو كان التمليك إليهم، ولو كان التمليك إليهم لبخلوا بالنقير والقطمير، فكيف يقدرون على النفي والإثبات. قال أبو بكر الأصم: كانوا أصحاب بساتين وأموال، وكانوا في عزة ومنعة ثم كانوا يبخلون على الفقراء بأقل القليل، فنزلت هذه الآية.
المسألة الثالثة: أنه تعالى جعل بخلهم كالمانع من حصول الملك لهم، وهذا يدل على أن الملك والبخل لا يجتمعان، وتحقيق الكلام فيه من حيث العقل أن الانقياد للغير أمر مكروه لذاته، والإنسان لا يتحمل المكروه إلا إذا وجد في مقابلته أمرا مطلوبا مرغوبا فيه، وجهات الحاجات محيطة بالناس، فإذا صدر من إنسان إحسان إلى غيره صارت رغبة المحسن إليه في ذلك المال سببا لصيرورته منقادا مطيعا له، فلهذا قيل: بالبر يستعبد الحر، فإذا لم يوجد هذا بقيت النفرة الطبيعية عن الانقياد للغير خالصا عن المعارض، فلا يحصل الانقياد البتة، فثبت أن الملك والبخل لا يجتمعان ثم أن الملك على ثلاثة أقسام: ملك على الظواهر فقط، وهذا هو ملك الملوك، وملك على البواطن فقط، وهذا هو ملك العلماء، وملك على الظواهر والبواطن معا، وهذا هو ملك الأنبياء صلوات الله عليهم. فإذا كان الجود من لوازم الملك وجب في الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أن يكونوا في غاية الجود والكرم والرحمة والشفقة، ليصير كل واحد من هذه الأخلاق سببا لانقياد الخلق لهم، وامتثالهم لأوامرهم. وكمال هذه الصفات حاصل لمحمد عليه الصلاة والسلام.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان التقدير: كذلك كان من إلزامهم الذل والصغار، عطف عليه قوله: {أم} أي ليس {لهم نصيب} أي واحد من الأنصباء {من الملك فإذاً} أي فيتسبب عن ذلك أنهم إذا كان لهم أدنى نصيب منه {لا يؤتون الناس} أي الذين آمنوا {نقيراً} أي شيئاً من الدنيا ولا الآخرة من هدى ولا من غيره، والنقير: النقرة في ظهر النواة، قيل: غاية في القلة ؛ فهو كناية عن العدم، فهو بيان لأنهم لإفراط بخلهم لا يصلحون إلا لما هم فيه من الذل فكيف بدرجة الملك لأن الملك والبخل لا يجتمعان.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وبعد التعجيب من أمرهم وموقفهم وقولهم؛ وإعلان اللعنة عليهم والخذلان.. يأخذ في استنكار موقفهم من الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين؛ وغيظهم من أن يمن الله عليهم هذه المنة.. منة الدين والنصر والتمكين. وحسدهم لهم على ما أعطاهم الله من فضله. وهم لم يعطوهم من عندهم شيئا! ويكشف في الوقت ذاته عن كزازة طبيعتهم؛ واستكثار أي عطاء يناله غيرهم؛ مع أن الله قد أفاض عليهم وعلى آبائهم فلم يعلمهم هذا الفيض السماحة؛ ولم يمنعهم من الحسد والكنود:
(أم لهم نصيب من الملك؟ فإذا لا يؤتون الناس نقيرا!) يا عجبا! إنهم لا يطيقون أن ينعم الله على عبد من عباده بشيء من عنده.. فهل هم شركاؤه -سبحانه!- هل لهم نصيب في ملكه، الذي يمنح منه ويفيض؟ ولو كان لهم نصيب لضنوا -بكزازتهم وشحهم- أن يعطوا الناس نقيرا.. والنقير النقرة تكون في ظهر النواة -وهذه لا تسمح كزازة يهود وأثرتها البغيضة أن تعطيها للناس، لو كان لها في الملك نصيب! والحمد لله أن ليس لها في الملك نصيب.. وإلا لهلك الناس جميعا وهم لا يعطون حتى النقير!!!
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
(أم) هنا تفيد الانتقال في القول من التعجب من حالهم في ممالأة المشركين إلى بيان حالهم العجيب إذا أوتوا أي حظ من السلطان والحكم، والمعنى: أثبت أنهم إذا كان لهم حظ من الملك والسلطان ولو كان ضئيلا يحكمون بالعدل، ويقومون بالقسطاس المستقيم؟ والاستفهام لنفي الوقوع، وهو نفي لوقوع العدل منهم إذا أعطوا أي حظ من الحكم، ذلك لأن المنافق لا يمكن أن يكون عادلا؛ لأن العدل والالتواء نقيضان لا يجتمعان، ولأنهم أهل هوى، ولا عدل مع سيطرة الهوى، ولأنهم غلبت عليهم عصبية دينية جامحة، وكل حكم يصدر من التعصب لا يكون عدلا بالنسبة لمن تعصب عليه. ولذا قال سبحانه فيهم إذا حكموا:
{فإذاً لا يُؤتون الناس نقيرا} النقير العلامة السوداء الصغيرة التي تكون في ظهر النواة، وهي الثقبة التي تنبت منها النخلة، ويضرب بها المثل في الشيء الصغير البالغ أقصى حدود الصغر. والمعنى: إذا تولى هؤلاء نصيبا من الملك والسلطان، فإنهم لا يعطون الناس أي قدر من حقوقهم عليهم، ولو كان ضئيلا بالغا أقصى حدود الضآلة؛ ذلك لأن العادل يكون حكمه لمصلحة المحكومين، لا لمصلحته. وهؤلاء لا ينظرون إلى منافعهم الذاتية. ولأن العادل يحس من الناس له ما لهم وعليه ما عليهم، وهؤلاء يظنون أنهم صنف في الخليقة ممتاز، وأنهم أبناء الله وأحباؤه، والناس جميعا دونهم. ولأنهم يبغضون الناس جميعا؛ لأنهم يظنون أنهم سلبوهم حقوقهم، بمقتضى ما لهم من امتياز بمقتضى التكوين. فهم بهذه الأهواء الواهمة عادوا الناس وأبغضوهم، ويحسبون أنفسهم في حرب مستمرة من البشر! أنقذ الله أهل الإسلام من شرهم، وأرداهم هم ومن يعاونونهم على الغي والظلم والفساد، والله من ورائهم محيط.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
ماذا يملك هؤلاء؟ لماذا يستعلون على الناس؟ ولم هذا الشعور بالفوقية؟ لماذا هذا كله؟ هل هذا لأن لهم نصيباً من الملك، فلا يعطون الناس نقيراً منه وهي النقطة على ظهر النواة انطلاقاً من شعورهم بأنهم يملكون الدنيا وما فيها، وما قيمة ما يملكون، والملك لله يؤتيه من يشاء ويسلبه عمن يشاء؟...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
في تفسير الآيتين السابقتين قلنا أنّ اليهود عمدوا لإِرضاء الوثنيين في مكّة واستقطابهم إِلى الشهادة بأنّ وثنية قريش أفضل من توحيد المسلمين، بل وعمدوا عملياً إِلى السجود أمام الأصنام، وفي هذه الآيات يبيّن سبحانه أن حكمهم هذا لا قيمة له لوجهين.
إِنّ اليهود ليس لهم من جهة المكانة الاجتماعية تلك القيمة التي تؤهلهم للقضاء بين الناس والحكم في أُمورهم، ولم يفوض الناس إِليهم حق الحكم والقضاء بينهم أبداً ليكون لهم مثل هذا العمل: (أم لهم نصيب من الملك)؟ هذا مضافاً إِلى أنّهم لا يمتلكون أية قابلية وأهلية للحكومة المادية والمعنوية على الناس، لأن روح الاستئثار قد استحكم في كيانهم بقوّة إِلى درجة أنّهم إذا حصلوا على مثل هذه المكانة لم يعطوا لأحد حقّه، بل خصّوا كل شيء بأنفسهم دون غيرهم (فإِذاً لا يؤتون الناس نقيراً). فبالنظر إِلى أنّ هذه الأحكام التي يطلقها اليهود صادرة عن مثل هذه النفسية المريضة التي تسعى دائماً إِلى الاستئثار بكل شيء لأنفسهم أو لغيرهم ممن يعملون لصالحهم، على المسلمين أن لا يتأثروا بأمثال هذه الأحاديث والأحكام وأن لا يقلقوا لها.
إِنّ هذه الأحكام الباطلة ناشئة من حسدهم البغيض للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)...