اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{أَمۡ لَهُمۡ نَصِيبٞ مِّنَ ٱلۡمُلۡكِ فَإِذٗا لَّا يُؤۡتُونَ ٱلنَّاسَ نَقِيرًا} (53)

لمَّا وصف [ تعالى ]{[8274]} اليهودَ بالجَهْلِ في الآية المتقدمة ؛ لتفضيلهم عِبَادَةَ الأوْثَانِ على عبادَةِ الله تعالى ، وصفَهُم في هذه الآية بالبُخْلِ والحَسَدِ ، وهذا على سَبيلِ الإنْكَارِ .

والبخلُ : ألاَّ يدفعَ إلى أحدٍ شَيْئاً مما أوتِيَ مِن النعمةِ ، [ والحَسَدُ : أنْ يتمنَى ألاَّ يُعْطِي اللَّهُ غيرَهُ شَيْئاً من النِّعَم ]{[8275]} فها يَشْترِكَانِ في إرادةِ مَنْعِ النعمَةِ من الغَيْرِ ، وإنما قدّم وَصْفَ الجَهْلِ علَى وصفِ البُخْلِ ، والحَسَدِ ؛ لأن الجهل سَبَبُهَا ؛ وذلك لأنَّ البَخِيلَ ، والحَاسِدَ يجهلانِ أنَّ الله تعالى هو الذي أعْطَى هذا ، ومَنَعَ هذا .

واعلمْ أنَّهُ تعَالَى جَعَل بُخْلَهم كالمانع مِنْ حُصُولِ الملْكِ لَهُم ، وهذا يدلُّ على أنَّ الملكَ والبُخْلَ لا يَجْتَمِعَانِ ؛ وذلك لأنَّ الانقيادَ{[8276]} [ للغير مكروهٌ لِذَاته ، وإنما يُحْمَلُ الإنْسَانُ على الانقيادِ لِلْغَيْر ]{[8277]} بالإحسانِ الحسن{[8278]} ؛ كما قيل : " بالبر يستعبد الحر " ، فمتى لم يُوجد الإحْسانُ ، لَمْ يُوجد الانقيادُ{[8279]} ، ثُمَّ قدْ يكونُ المُلْكُ على الظَّاهِرِ فَقَطْ ؛ وهو مُلْكُ المُلُوكِ ، وقد يكونُ الملكُ على البَاطِنِ فقط ؛ وهو مُلْكُ العُلَمَاءِ وقد يكون الملكُ عَلَيْهمَا ؛ وهو مُلْكُ الأنْبِيَاءِ ، فوجب في الأنبياء أنْ يكُونُوا في غَايَةِ{[8280]} الجُودِ ، والكَرَمِ ، والرَّحْمَةِ ، والشَّفَقَةِ ؛ حَتَّى يحصلَ الانقيادُ بالبَاطنِ والظَّاهِرِ ، وكمالُ هذه الصفاتِ كان حَاصِلاً لمحمدٍ صلى الله عليه وسلم .

و " أم " مُنقطعةٌ ؛ لِفواتِ شَرْطِ الاتِّصال ، كما تقدم أوَّل البقرةِ فتُقَدر ب " بَلْ " ، والهمزة التي يُرادُ بها الإنْكار ، وكذلك هُو في قوله : { أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ } وقال بعضُهم{[8281]} : الميمُ صلة ، وتقديره : ألَهُمْ ؛ لأنَّ حَرْفَ " أمْ " إذَا لَمْ يَسْبِقْهُ استفهامٌ ، كانتِ الميمُ صِلَةً فيه ، وقيل : " أمْ " هنا مُتصلةٌ ، وقد سبقه - هاهنا - استفهامٌ على سَبيلِ المعْنَى ؛ لأنَّهُ لمَّا حَكَى قَولَهُمْ لِلمشرِكينَ بأنَّهم أهْدَى سَبِيلاً مِنَ المؤمنِينَ عطفَ عليه قوله { أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ } فكأنَّهُ قال : أمِنْ ذلك يتعجَّبُ ؟ أمْ مِنْ كَوْنِهِم لَهُمْ نَصِيبٌ من الملك ؛ مع أنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُمْ مُلْكٌ ، لَبَخِلُوا بأقلِّ القَلِيلِ ؟ .

فصل في معنى " الملك "

اختلفوا في هذا { الْمُلْكِ } ، فقيل : إنَّ اليهودَ كانوا يقُولُونَ : نحنُ أوْلَى بالملكِ ، والنُّبوةِ ؛ فكَيْفَ نَتْبَعُ العَرَبَ ؟ فأبطل اللَّهُ ذلك ، بهذه الآيةِ .

وقيل : كانوا يَزْعُمُونَ أنَّ الملكَ يعودُ إليهم ، في آخرِ الزمانِ ، فيخرجُ مِنَ اليهودِ مَنْ يُجَدِّدُ مُلْكَهُمْ ؛ فَكَذَّبهم الله [ تعالى ]{[8282]} بهذه الآيةِ .

وقيل [ المرادُ ]{[8283]} بالمُلْكِ{[8284]} - هاهنا - التَّملِيكُ : يَعْنِي : أنَّهم إنَّما يَقْدِرُونَ على دفعِ نُبُوَّتِكَ ؛ لو كان التمليكُ إليهم ، [ و ]{[8285]} لو كان التملِيكُ إلَيهمْ ؛ لبخلوا بالنَّقِير ، والقِطْمِيرِ . فكيفَ يَقْدِرُونَ على النَّفْيِ{[8286]} والإثْبَاتِ .

قال أبُو بَكْرٍ الأصَمّ{[8287]} : كَانُوا أصْحَابَ بَسَاتِينَ وأمْوَالٍ ، وكانوا في عِزةٍ ، ومَنَعَةٍ ، وكانوا يَبْخَلُونَ على الفُقَراءِ بأقل القَلِيلِ ؛ فنزلت هذه الآيةُ .

قوله : " فإذن " حَرْفُ جَوَاب ، [ وجَزَاء ]{[8288]} ونُونُها أصلية ، قال مَكي [ وحذاق النحويِّين على كتب نونها نوناً ]{[8289]} وأجاز الفرَّاءُ أن تُكْتَبَ ألفاً ، وما قاله الفرَّاءُ هو قِيَاسُ{[8290]} الخَطِّ ؛ لأنه مَبْنيٌّ على الوَقْفِ [ والوقف على نُونها بالألف ، وهي حرفٌ يَنْصِبُ المضارع بِشُرُوطٍ تقدَّمَتْ ]{[8291]} ، ولكنْ إذَا وَقَعَتْ بعد عَاطِفٍ ، فالأحْسَنُ الإهمالُ وقد قرأ ابنُ{[8292]} مَسْعُودٍ ، وابنُ عَبَّاسٍ -هنا- بإعْمَالِهَا ، فَحَذَفَ النُّونَ مِنْ قَوْلِه : { لاَّ يُؤْتُونَ } .

وقال أبُو البَقَاءِ{[8293]} : ولَمْ يَعملْ - هنا - من أجْلِ حَرْفِ العَطْف وهُوَ الفَاء ، ويجوزُ في غَيْرِ القُرْآنِ ، أنْ يَعملَ مع الفَاءِ ، وليس المبطل لا ؛ لأنَّ " لا " يتخطَّاهَا العامِلُ ، فظاهِرُ هذه العبارَةِ : أنَّ المانِعَ حَرْفُ العَطْفِ ، وليس كذلك ، بل المانِعُ التلاوةُ ، ولذلك قال آخراً : ويجوزُ في غَيْرِ القُرْآنِ .

قال سِيبَويْهِ{[8294]} : " إذن " في أصل الأفعالِ بمنزِلَةِ " أظن " في عَوَامِلِ الأسْمَاءِ ، وتقريرهُ : أنَّ الظنَّ إذَا وَقَعَ أوَّلَ الكلام - نَصَبَ ، لا غَيْرَ ؛ كقولِكَ : أظُنُّ زَيْداً قائماً ، وإنْ تَوَسَّطَ جَازَ إلْغَاؤه ، وإعْمَالهُ تقول : زَيدٌ ظننْتُ مُنْطِلقٌ ، ومنطلقاً ، وإنْ تأخَّر ، ألْغِيَ .

والسببُ في ذلك ؛ أن " ظن " وأخواتِهَا ، نحو : عَلِمَ ، وحَسِبَ ، ضَعِيفةٌ في العملِ ؛ لأنها لا تُؤثِّرُ في مَفْعُولاتِهَا ، فإذا تَقَدَّمَتْ دلَّ تقدمُهَا على شِدَّةِ العِنَايَةِ ، فَقَوِي على التَّأثِيرِ ، وإذا تأخرت ، دلَّ على عدم العِنَايَةِ فلغى ، [ وإنْ توسَّطَتْ ، لا يكون في مَحَلِّ العنايةِ مِن كُلِّ الوُجُوهِ ، ولا في مَحَلِّ الإهْمَالِ من كل الوجوه ، فَلاَ جَرَمَ أوْجَبَ توسُّطُها الإعْمالَ ]{[8295]} ، والإعْمالُ{[8296]} في حَالِ التوسطِ أحسنُ{[8297]} والإلغاءُ حَالَ التأخُّرِ ، أحْسَنُ ، وإذا عرفتَ [ ذلك ]{[8298]} فنقول : " إذن " على هذا الترتيبِ ، [ فإن تقدمَّتْ نَصَبَتِ الفعلَ ، وإنْ توسَّطَتْ ، أوْ تأخرتْ جاز الإلْغَاءُ ]{[8299]} .

والنَّقِيرُ : قال أهلُ اللغةِ{[8300]} : النَّقِيرُ : نُقْطَةٌ في ظَهْرِ النواةِ ، ومنها تَنْبُتُ النخلةُ ، وقال أبُو العَالِيَة{[8301]} : هو نَقْدُ الرجلِ الشَّيْءَ بِطَرفِ إصْبَعِهِ ، كما يُنْقِرُ الدِّرْهَمَ ، وأصْلُه : أنَّهُ فِعْلٌ مِنَ النَّقْرِ ، يُقالُ للخشبِ الذي يُنْقَرُ فيه : إنَّهُ نَقِيرٌ ؛ لأنه يُنْقَرُ ، والنَّقْرُ : ضَرْبُ الحَجَرِ وغَيْرِه بالمِنْقِارِ ، يُقَالُ : فلانٌ كَرِيمُ النَّقِيرِ ، أي : الأصْلِ ، والمِنْقِارُ : حَدِيدَةٌ كالفأسِ تُقْطَعُ بها الحِجَارَةُ ، ومِنْهُ : مِنْقِارُ الطائِرِ ؛ لأنه يَنْقُرُ بِهِ ، وذكْرُ النَّقيرِ هُنَا تَمْثِيلٌ ، والغَرَضُ منه ، أنَّهم يَبْخَلُونَ بأقلِّ القَلِيلِ .


[8274]:سقط في أ.
[8275]:سقط في ب.
[8276]:في ب: الانقياد والمعين الإحسان له.
[8277]:سقط في ب.
[8278]:في ب: فإحسان المحسن.
[8279]:في ب: فمتى لم يوجد الإحسان لم يوجد الانقياد.
[8280]:في أ: نهاية.
[8281]:ينظر: تفسير الرازي 10/105.
[8282]:سقط في أ.
[8283]:سقط في ب.
[8284]:في ب: إن الملك.
[8285]:سقط في ب.
[8286]:في ب: فكيف يقدرون رفع بنوتك على النفي.
[8287]:ينظر: تفسير الرازي 10/105.
[8288]:سقط في ب.
[8289]:سقط في أ.
[8290]:في ب: القياس.
[8291]:سقط في أ.
[8292]:ينظر: المحرر الوجيز 2/67، والبحر المحيط 3/284، والدر المصون 2/7، 3.
[8293]:ينظر: الإملاء 1/183.
[8294]:ينظر: تفسير الرازي 10/105.
[8295]:سقط في ب.
[8296]:في أ: والإهمال.
[8297]:في ب: حسن.
[8298]:سقط في أ.
[8299]:سقط في ب.
[8300]:ينظر: تفسير الرازي 10/106.
[8301]:ينظر: تفسير القرطبي 5/162، والبغوي 1/442.