لمَّا وصف [ تعالى ]{[8274]} اليهودَ بالجَهْلِ في الآية المتقدمة ؛ لتفضيلهم عِبَادَةَ الأوْثَانِ على عبادَةِ الله تعالى ، وصفَهُم في هذه الآية بالبُخْلِ والحَسَدِ ، وهذا على سَبيلِ الإنْكَارِ .
والبخلُ : ألاَّ يدفعَ إلى أحدٍ شَيْئاً مما أوتِيَ مِن النعمةِ ، [ والحَسَدُ : أنْ يتمنَى ألاَّ يُعْطِي اللَّهُ غيرَهُ شَيْئاً من النِّعَم ]{[8275]} فها يَشْترِكَانِ في إرادةِ مَنْعِ النعمَةِ من الغَيْرِ ، وإنما قدّم وَصْفَ الجَهْلِ علَى وصفِ البُخْلِ ، والحَسَدِ ؛ لأن الجهل سَبَبُهَا ؛ وذلك لأنَّ البَخِيلَ ، والحَاسِدَ يجهلانِ أنَّ الله تعالى هو الذي أعْطَى هذا ، ومَنَعَ هذا .
واعلمْ أنَّهُ تعَالَى جَعَل بُخْلَهم كالمانع مِنْ حُصُولِ الملْكِ لَهُم ، وهذا يدلُّ على أنَّ الملكَ والبُخْلَ لا يَجْتَمِعَانِ ؛ وذلك لأنَّ الانقيادَ{[8276]} [ للغير مكروهٌ لِذَاته ، وإنما يُحْمَلُ الإنْسَانُ على الانقيادِ لِلْغَيْر ]{[8277]} بالإحسانِ الحسن{[8278]} ؛ كما قيل : " بالبر يستعبد الحر " ، فمتى لم يُوجد الإحْسانُ ، لَمْ يُوجد الانقيادُ{[8279]} ، ثُمَّ قدْ يكونُ المُلْكُ على الظَّاهِرِ فَقَطْ ؛ وهو مُلْكُ المُلُوكِ ، وقد يكونُ الملكُ على البَاطِنِ فقط ؛ وهو مُلْكُ العُلَمَاءِ وقد يكون الملكُ عَلَيْهمَا ؛ وهو مُلْكُ الأنْبِيَاءِ ، فوجب في الأنبياء أنْ يكُونُوا في غَايَةِ{[8280]} الجُودِ ، والكَرَمِ ، والرَّحْمَةِ ، والشَّفَقَةِ ؛ حَتَّى يحصلَ الانقيادُ بالبَاطنِ والظَّاهِرِ ، وكمالُ هذه الصفاتِ كان حَاصِلاً لمحمدٍ صلى الله عليه وسلم .
و " أم " مُنقطعةٌ ؛ لِفواتِ شَرْطِ الاتِّصال ، كما تقدم أوَّل البقرةِ فتُقَدر ب " بَلْ " ، والهمزة التي يُرادُ بها الإنْكار ، وكذلك هُو في قوله : { أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ } وقال بعضُهم{[8281]} : الميمُ صلة ، وتقديره : ألَهُمْ ؛ لأنَّ حَرْفَ " أمْ " إذَا لَمْ يَسْبِقْهُ استفهامٌ ، كانتِ الميمُ صِلَةً فيه ، وقيل : " أمْ " هنا مُتصلةٌ ، وقد سبقه - هاهنا - استفهامٌ على سَبيلِ المعْنَى ؛ لأنَّهُ لمَّا حَكَى قَولَهُمْ لِلمشرِكينَ بأنَّهم أهْدَى سَبِيلاً مِنَ المؤمنِينَ عطفَ عليه قوله { أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ } فكأنَّهُ قال : أمِنْ ذلك يتعجَّبُ ؟ أمْ مِنْ كَوْنِهِم لَهُمْ نَصِيبٌ من الملك ؛ مع أنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُمْ مُلْكٌ ، لَبَخِلُوا بأقلِّ القَلِيلِ ؟ .
اختلفوا في هذا { الْمُلْكِ } ، فقيل : إنَّ اليهودَ كانوا يقُولُونَ : نحنُ أوْلَى بالملكِ ، والنُّبوةِ ؛ فكَيْفَ نَتْبَعُ العَرَبَ ؟ فأبطل اللَّهُ ذلك ، بهذه الآيةِ .
وقيل : كانوا يَزْعُمُونَ أنَّ الملكَ يعودُ إليهم ، في آخرِ الزمانِ ، فيخرجُ مِنَ اليهودِ مَنْ يُجَدِّدُ مُلْكَهُمْ ؛ فَكَذَّبهم الله [ تعالى ]{[8282]} بهذه الآيةِ .
وقيل [ المرادُ ]{[8283]} بالمُلْكِ{[8284]} - هاهنا - التَّملِيكُ : يَعْنِي : أنَّهم إنَّما يَقْدِرُونَ على دفعِ نُبُوَّتِكَ ؛ لو كان التمليكُ إليهم ، [ و ]{[8285]} لو كان التملِيكُ إلَيهمْ ؛ لبخلوا بالنَّقِير ، والقِطْمِيرِ . فكيفَ يَقْدِرُونَ على النَّفْيِ{[8286]} والإثْبَاتِ .
قال أبُو بَكْرٍ الأصَمّ{[8287]} : كَانُوا أصْحَابَ بَسَاتِينَ وأمْوَالٍ ، وكانوا في عِزةٍ ، ومَنَعَةٍ ، وكانوا يَبْخَلُونَ على الفُقَراءِ بأقل القَلِيلِ ؛ فنزلت هذه الآيةُ .
قوله : " فإذن " حَرْفُ جَوَاب ، [ وجَزَاء ]{[8288]} ونُونُها أصلية ، قال مَكي [ وحذاق النحويِّين على كتب نونها نوناً ]{[8289]} وأجاز الفرَّاءُ أن تُكْتَبَ ألفاً ، وما قاله الفرَّاءُ هو قِيَاسُ{[8290]} الخَطِّ ؛ لأنه مَبْنيٌّ على الوَقْفِ [ والوقف على نُونها بالألف ، وهي حرفٌ يَنْصِبُ المضارع بِشُرُوطٍ تقدَّمَتْ ]{[8291]} ، ولكنْ إذَا وَقَعَتْ بعد عَاطِفٍ ، فالأحْسَنُ الإهمالُ وقد قرأ ابنُ{[8292]} مَسْعُودٍ ، وابنُ عَبَّاسٍ -هنا- بإعْمَالِهَا ، فَحَذَفَ النُّونَ مِنْ قَوْلِه : { لاَّ يُؤْتُونَ } .
وقال أبُو البَقَاءِ{[8293]} : ولَمْ يَعملْ - هنا - من أجْلِ حَرْفِ العَطْف وهُوَ الفَاء ، ويجوزُ في غَيْرِ القُرْآنِ ، أنْ يَعملَ مع الفَاءِ ، وليس المبطل لا ؛ لأنَّ " لا " يتخطَّاهَا العامِلُ ، فظاهِرُ هذه العبارَةِ : أنَّ المانِعَ حَرْفُ العَطْفِ ، وليس كذلك ، بل المانِعُ التلاوةُ ، ولذلك قال آخراً : ويجوزُ في غَيْرِ القُرْآنِ .
قال سِيبَويْهِ{[8294]} : " إذن " في أصل الأفعالِ بمنزِلَةِ " أظن " في عَوَامِلِ الأسْمَاءِ ، وتقريرهُ : أنَّ الظنَّ إذَا وَقَعَ أوَّلَ الكلام - نَصَبَ ، لا غَيْرَ ؛ كقولِكَ : أظُنُّ زَيْداً قائماً ، وإنْ تَوَسَّطَ جَازَ إلْغَاؤه ، وإعْمَالهُ تقول : زَيدٌ ظننْتُ مُنْطِلقٌ ، ومنطلقاً ، وإنْ تأخَّر ، ألْغِيَ .
والسببُ في ذلك ؛ أن " ظن " وأخواتِهَا ، نحو : عَلِمَ ، وحَسِبَ ، ضَعِيفةٌ في العملِ ؛ لأنها لا تُؤثِّرُ في مَفْعُولاتِهَا ، فإذا تَقَدَّمَتْ دلَّ تقدمُهَا على شِدَّةِ العِنَايَةِ ، فَقَوِي على التَّأثِيرِ ، وإذا تأخرت ، دلَّ على عدم العِنَايَةِ فلغى ، [ وإنْ توسَّطَتْ ، لا يكون في مَحَلِّ العنايةِ مِن كُلِّ الوُجُوهِ ، ولا في مَحَلِّ الإهْمَالِ من كل الوجوه ، فَلاَ جَرَمَ أوْجَبَ توسُّطُها الإعْمالَ ]{[8295]} ، والإعْمالُ{[8296]} في حَالِ التوسطِ أحسنُ{[8297]} والإلغاءُ حَالَ التأخُّرِ ، أحْسَنُ ، وإذا عرفتَ [ ذلك ]{[8298]} فنقول : " إذن " على هذا الترتيبِ ، [ فإن تقدمَّتْ نَصَبَتِ الفعلَ ، وإنْ توسَّطَتْ ، أوْ تأخرتْ جاز الإلْغَاءُ ]{[8299]} .
والنَّقِيرُ : قال أهلُ اللغةِ{[8300]} : النَّقِيرُ : نُقْطَةٌ في ظَهْرِ النواةِ ، ومنها تَنْبُتُ النخلةُ ، وقال أبُو العَالِيَة{[8301]} : هو نَقْدُ الرجلِ الشَّيْءَ بِطَرفِ إصْبَعِهِ ، كما يُنْقِرُ الدِّرْهَمَ ، وأصْلُه : أنَّهُ فِعْلٌ مِنَ النَّقْرِ ، يُقالُ للخشبِ الذي يُنْقَرُ فيه : إنَّهُ نَقِيرٌ ؛ لأنه يُنْقَرُ ، والنَّقْرُ : ضَرْبُ الحَجَرِ وغَيْرِه بالمِنْقِارِ ، يُقَالُ : فلانٌ كَرِيمُ النَّقِيرِ ، أي : الأصْلِ ، والمِنْقِارُ : حَدِيدَةٌ كالفأسِ تُقْطَعُ بها الحِجَارَةُ ، ومِنْهُ : مِنْقِارُ الطائِرِ ؛ لأنه يَنْقُرُ بِهِ ، وذكْرُ النَّقيرِ هُنَا تَمْثِيلٌ ، والغَرَضُ منه ، أنَّهم يَبْخَلُونَ بأقلِّ القَلِيلِ .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.