مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{أَمۡ لَهُمۡ نَصِيبٞ مِّنَ ٱلۡمُلۡكِ فَإِذٗا لَّا يُؤۡتُونَ ٱلنَّاسَ نَقِيرًا} (53)

قوله تعالى : { أم لهم نصيب من الملك فإذا لا يؤتون الناس نقيرا }

اعلم أنه تعالى وصف اليهود في الآية المتقدمة بالجهل الشديد ، وهو اعتقادهم أن عبادة الأوثان أفضل من عبادة الله تعالى ، ووصفهم في هذه الآية بالبخل والحسد ، فالبخل هو أن لا يدفع لأحد شيئا مما آتاه الله من النعمة ، والحسد هو أن يتمنى أن لا يعطي الله غيره شيئا من النعم ، فالبخل والحسد يشتركان في أن صاحبه يريد منع النعمة من الغير ، فأما البخيل فيمنع نعمة نفسه عن الغير ، وأما الحاسد فيريد أن يمنع نعمة الله من عبادة ، وإنما قدم تلك الآية على هذه الآية لأن النفس الإسانية لها قوتان : القوة العالمة والقوة العاملة ، فكمال القوة العالمة العلم ، ونقصانها الجهل ، وكمال القوة العاملة : الأخلاق الحميدة ، ونقصانها الأخلاق الذميمة ، وأشد الأخلاق الذميمة نقصانا البخل والحسد ، لأنهما منشآن لعود المضار إلى عباد الله .

إذا عرفت هذا فنقول : إنما قدم وصفهم بالجهل على وصفهم بالبخل والحسد لوجهين : الأول : أن القوة النظرية مقدمة على القوة العملية في الشرف والرتبة وأصل لها ، فكان شرح حالها يجب أن يكون مقدما على شرح حال القوة العملية . الثاني : أن السبب لحصول البخل والحسد هو الجهل ، والسبب مقدم على المسبب ، لا جرم قدم تعالى ذكر الجهل على ذكر البخل والحسد . وإنما قلنا : إن الجهل سبب البخل والحسد : أما البخل فلأن بذل المال سبب لطهارة النفس ولحصول السعادة في الآخرة ، وحبس المال سبب لحصول مال الدنيا في يده ، فالبخل يدعوك إلى الدنيا ويمنعك عن الآخرة ، والجود يدعوك إلى الآخرة ويمنعك عن الدنيا ، ولا شك أن ترجيح الدنيا على الآخرة لا يكون إلا من محض الجهل . وأما الحسد فلأن الإلهية عبارة عن إيصال النعم والإحسان إلى العبيد ، فمن كره ذلك فكأنه أراد عزل الإله عن الإلهية ، وذلك محض الجهل . فثبت أن السبب الأصلي للبخل والحسد هو الجهل ، فلما ذكر تعالى الجهل أردفه بذكر البخل والحسد ليكون المسبب مذكورا عقيب السبب ، فهذا هو الإشارة إلى نظم هذه الآية ، وههنا مسائل :

المسألة الأولى : «أم » ههنا فيه وجوه : الأول : قال بعضهم : الميم صلة ، وتقديره : ألهم لأن حرف «أم » إذا لم يسبقه استفهام كان الميم فيه صلة . الثاني : أن «أم » ههنا متصلة ، وقد سبق ههنا استفهام على سبيل المعنى ، وذلك لأنه تعالى لما حكى عن هؤلاء الملعونين قولهم للمشركين : أنهم أهدى سبيلا من المؤمنين ، عطف عليه بقوله : { أم لهم نصيب } فكأنه تعالى قال : أمن ذلك يتعجب ، أم من قولهم : لهم نصيب من الملك ، مع أنه لو كان لهم ملك لبخلوا بأقل القليل . الثالث : أن «أم » ههنا منقطعة وغير متصلة بما قبلها البتة ، كأنه لما تم الكلام الأول قال : بل لهم نصيب من الملك ، وهذا الاستفهام استفهام بمعنى الإنكار ، يعني ليس لهم شيء من الملك البتة ، وهذا الوجه أصح الوجوه .

المسألة الثانية : ذكروا في هذا الملك وجوها : الأول اليهود كانوا يقولون نحن أولى بالملك والنبوة فكيف نتبع العرب ؟ فأبطل الله عليهم قولهم في هذه الآية . الثاني : أن اليهود كانوا يزعمون أن الملك يعود إليهم في آخر الزمان ، وذلك أنه يخرج من اليهود من يجدد ملكهم ودولتهم ويدعو إلى دينهم ، فكذبهم الله في هذه الآية . الثالث : المراد بالملك ههنا التمليك ، يعني أنهم إنما يقدرون على دفع نبوتك لو كان التمليك إليهم ، ولو كان التمليك إليهم لبخلوا بالنقير والقطمير ، فكيف يقدرون على النفي والإثبات . قال أبو بكر الأصم : كانوا أصحاب بساتين وأموال ، وكانوا في عزة ومنعة ثم كانوا يبخلون على الفقراء بأقل القليل ، فنزلت هذه الآية .

المسألة الثالثة : أنه تعالى جعل بخلهم كالمانع من حصول الملك لهم ، وهذا يدل على أن الملك والبخل لا يجتمعان ، وتحقيق الكلام فيه من حيث العقل أن الانقياد للغير أمر مكروه لذاته ، والإنسان لا يتحمل المكروه إلا إذا وجد في مقابلته أمرا مطلوبا مرغوبا فيه ، وجهات الحاجات محيطة بالناس ، فإذا صدر من إنسان إحسان إلى غيره صارت رغبة المحسن إليه في ذلك المال سببا لصيرورته منقادا مطيعا له ، فلهذا قيل : بالبر يستعبد الحر ، فإذا لم يوجد هذا بقيت النفرة الطبيعية عن الانقياد للغير خالصا عن المعارض ، فلا يحصل الانقياد البتة ، فثبت أن الملك والبخل لا يجتمعان ثم أن الملك على ثلاثة أقسام : ملك على الظواهر فقط ، وهذا هو ملك الملوك ، وملك على البواطن فقط ، وهذا هو ملك العلماء ، وملك على الظواهر والبواطن معا ، وهذا هو ملك الأنبياء صلوات الله عليهم . فإذا كان الجود من لوازم الملك وجب في الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أن يكونوا في غاية الجود والكرم والرحمة والشفقة ، ليصير كل واحد من هذه الأخلاق سببا لانقياد الخلق لهم ، وامتثالهم لأوامرهم . وكمال هذه الصفات حاصل لمحمد عليه الصلاة والسلام .

المسألة الرابعة : قال سيبويه : «إذن » في عوامل الأفعال بمنزلة «أظن » في عوامل الأسماء ، وتقريره أن الظن إذا وقع في أول الكلام نصب لا غير ، كقولك أظن زيدا قائما ، وإن وقع في الوسط جاز إلغاؤه وإعماله ، كقوله : زيد أظن قائم ، وإن شئت قلت زيدا أظن قائما ، وإن تأخر فالأحسن إلغاؤه ، تقول زيد منطلق ظننت ، والسبب فيما ذكرناه أن «ظن » وما أشبهه من الأفعال نحو علم وحسب ضعيفة في العمل ، لأنها لا تؤثر في معمولاتها ، فإذا تقدم دل التقدم في الذكر على شدة العناية فقوي على التأثير ، وإذا تأخر دل على عدم العناية فلغا ، وإن توسط فحينئذ لا يكون في محل العناية من كل الوجوه ، ولا في محل الإهمال من كل الوجوه ، بل كانت كالمتوسطة في هاتين الحالتين فلا جرم كان الأعمال والإلغاء جائزا .

واعلم أن الأعمال في حال التوسط أحسن ، والإلغاء حال التأخر أحسن .

إذا عرفت هذا فنقول : كلمة «إذن » على هذا الترتيب أيضا ، فإن تقدمت نصبت الفعل ، تقول إذن أكرمك ، وإن توسطت أو تأخرت جاز الإلغاء ، تقول أنا إذن أكرمك ، وأنا أكرمك إذن فتلغيه في هاتين الحالتين .

إذا عرفت هذه المقدمة فقوله تعالى : { فإذا لا يؤتون الناس نقيرا } كلمة «إذن » فيها متقدمة وما عملت ، فذكروا في العذر وجوها : الأول : أن في الكلام تقديما وتأخيرا ، والتقدير : لا يؤتون الناس نقيرا إذن . الثاني : أنها لما وقعت بين الفاء والفعل جاز أن تقدر متوسطة فتلغى كما تلغى إذا توسطت أو تأخرت ، وهكذا سبيلها مع الواو كقوله تعالى : { وإذا لا يلبثون خلفك } والثالث : قرأ ابن مسعود ( فإذا لا يؤتوا ) على إعمال «إذن » عملها الذي هو النصب .

المسألة الخامسة : قال أهل اللغة : النقير نقرة في ظهر النواة ومنها تنبت النخلة ، وأصله أنه فعيل من النقر ، ويقال للخشب الذي ينقر فيه نقير لأنه ينقر ، والنقر ضرب الحجر وغيره بالمنقار والمنقار حديدة كالفأس تقطع بها الحجارة ، ومنه منقار الطائر لأنه ينقر به .

واعلم أن ذكر النقير هاهنا تمثيل ، والغرض أنهم يبخلون بأقل القليل .