124- وإن هؤلاء الكبار من المجرمين يحسدون الناس على ما آتاهم الله من علم ونبوة وهداية ، فإذا جاءتهم حُجة قاطعة لا يذعنون لها ، ولكن يقولون : لن نذعن للحق حتى ينزل علينا الوحي كما ينزل على الرسل ، والله - وحده - هو الذي يصطفي لرسالته من يشاء من خلقه ، وإن هؤلاء المعاندين إذا كانوا يطلبون الرياسة بهذا العناد ، فسينالهم الصَغار والذل في الدنيا بسببه ، وسينالهم العذاب الشديد في الآخرة بسبب تدبيرهم السيئ .
وإنما ثبت أكابر المجرمين على باطلهم ، وقاموا برد الحق الذي جاءت به الرسل ، حسدا منهم وبغيا ، فقالوا : { لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ } من النبوة والرسالة . وفي هذا اعتراض منهم على الله ، وعجب بأنفسهم ، وتكبر على الحق الذي أنزله على أيدي رسله ، وتحجر على فضل الله وإحسانه .
فرد الله عليهم اعتراضهم الفاسد ، وأخبر أنهم لا يصلحون للخير ، ولا فيهم ما يوجب أن يكونوا من عباد الله الصالحين ، فضلا أن يكونوا من النبيين والمرسلين ، فقال : { اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } فيمن علمه يصلح لها ، ويقوم بأعبائها ، وهو متصف بكل خلق جميل ، ومتبرئ من كل خلق دنيء ، أعطاه الله ما تقتضيه حكمته أصلا وتبعا ، ومن لم يكن كذلك ، لم يضع أفضل مواهبه ، عند من لا يستأهله ، ولا يزكو عنده .
وفي هذه الآية ، دليل على كمال حكمة الله تعالى ، لأنه ، وإن كان تعالى رحيما واسع الجود ، كثير الإحسان ، فإنه حكيم لا يضع جوده إلا عند أهله ، ثم توعد المجرمين فقال : { سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ } أي : إهانة وذل ، كما تكبروا على الحق ، أذلهم الله . { وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ } أي : بسبب مكرهم ، لا ظلما منه تعالى .
ثم حكى القرآن لوناً من ألوان مكرهم فقال : { وَإِذَا جَآءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حتى نؤتى مِثْلَ مَآ أُوتِيَ رُسُلُ الله } .
أى : وإذا جاءت أولئك المشركين الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم " لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها " حجة قاطعة تشهد بصدقك يا محمد فيما تبلغه عن ربك ، قالوا حسدا لك ، لن نؤمن لك يا محمد حتى تعطى من الوحى والرسالة مثلما أعطى رسل الله ، وأضافوا الإيتاء إلى رسل الله ، لأنهم لا يعترفون بما أوتيه صلى الله عليه وسلم من الوحى والرسالة .
روى أن الوليد بن المغيرة قال للنبى صلى الله عليه وسلم : لو كانت النبوة حقا لكنت أنا أولى بها منك لأنى أكبر منك سناً وأكثر مالا فأنزل الله هذه الآية " .
وقال مقاتل : نزلت فى أبى جهل وذلك أنه قال : زاحمنا بنو عبد المطلب فى الشرف حتى إذا صرنا كفرسى رهان قالوا : منا نبى يوحى إليه ، والله لا نؤمن به ولا نتبعه أبدا إلا أن يأتينا وحى كما يأتيه ، فأنزل الله هذه الآية " .
وقد رد الله - تعالى - على هؤلاء الحاسدين ردا حاسما فقال : { الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } أى : أن للرسالة موضوعا مخصوصا لا يصلح وضعها إلا فيه ، فمن كان مخصوصاً موصوفا بتلك الصفات لأجلها يصلح وضع الرسالة فيه كان رسولا وإلا فلا ، والعالم بتلك الصفات ليس إلا الله - تعالى - ثم قال : وفى هذه الجملة الكريمة تنبيه على دقيقة أخرى وهى أن أقل ما لا بد منه فى حصول النبوة والرسالة والبراءة عن المكر والغدر والغل والحسد ، وقوله { لَن نُّؤْمِنَ حتى نؤتى مِثْلَ مَآ أُوتِيَ رُسُلُ الله } عين المكر والغدر والغل والحسد ، فكيف يعقل حصول النبوة والرسالة مع هذه الصفات " .
وهذه الجملة حجة لأهل الحق على أن الرسالة هبة من الله يختص بها من يشاء من عباده ، ولا ينالها أحد بكسبه ولا بذكائه ولا بنسبه .
ولذا قال الإمام الآلوسى : وجملة { الله أَعْلَمُ } . . . الخ . استئناف بيانى ، والمعنى : أن منصب الرسالة ليس مما ينال بما يزعمونه من كثرة المال والولد ، وتعاضد الأسباب والعدد ، وإنما ينال بفضائل نفسانية ، ونفس قدسية أفاضها الله - تعالى - بمحض الكرم والجود على من كمل استعداده " .
هذا . وقد وردت أحاديث كثيرة تحدث النبى صلى الله عليه وسلم فيها عن اصطفاء الله له وفضله عليه ، ومن ذلك ما رواه الإمام مسلم عن وائلة ابن الأسقع قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله - عز وجل - اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل ، واصطفى من بنى إسماعيل بنى كنانة ، واصطفى من بنى كنانة قريشا ، واصطفى من قريش بنى هاشم ، واصطفى من بنى هاشم محمدا صلى الله عليه وسلم " .
وروى الإمام أحمد عن المطلب عن أبى وداعة عن العباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله خلق الخلق فجعلنى فى خير خلقه ، وجعلهم فريقين ، فجعلنى فى خير فرقة ، وخلق القبائل فجعلنى فى خير قبيلة ، وجعلهم بيوتا ، فجعلنى فى خيرهم بيتا ، فأنا خيركم بيتا وخيركم نفسا " .
ثم بين - سبحانه - عاقبة أولئك الماكرين الحاسدين للنبى - صلى الله عليه وسلم - على ما آتاه الله من فضله فقال : { سَيُصِيبُ الذين أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ الله وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُونَ } .
قال القرطبى ما ملخصه : الصغار : الضيم والذل والهوان . والمصدر الصغر بالتحريك - وأصله من الصغر دون الكبر فكأن الذل يصغر إلى المرء نفسه وقيل : أصله من الصغر وهو الرضا بالذل . والصاغر : الراضى بالذل . وأرض مصغرة : نبتها صغير لم يطل . ويقال : صغر - بالكسر - يصغر صغراً وصغاراً فهو صاغر إذا ذل وهان " .
والمعنى : سيصيب الذين أجرموا بعد تكبرهم وغرورهم وتطاولهم ذل عظيم وهوان شديد ثابت لهم عند الله فى الدنيا والآخرة ، وبسبب مكرهم المستمر ، وعدائهم الدائم لرسل الله وأوليائه .
والجملة الكريمة استئناف آخر ناع على أولئك الماكرين ما سيلقونه من ألوان العقوبات بعد ما نعى عليهم حرمانهم مما أنكره من إيتائهم مثل ما أوتى رسل الله ، والسين للتأكيد .
والعندية فى قوله " عند الله " مجاز عن حشرهم يوم القيامة ، أو عن حكمه سبحانه - وقضائه فيهم بذلك ، كقولهم : ثبت عند فلان القاضى كذا أى : فى حكمه ، ولذا قدم الصغار على العذاب لأنه يصيبهم فى الدنيا .
قال ابن كثير : ولما كان المرك غالبا إنما يكون خفيا ، وهو التلطف فى التحيل والخديعة ، قوبلوا بالعذاب الشديد من الله يوم القيامة جزاء وفاقا ولا يظلم ربك أحداً . وجاء فى الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ينصب لكل غادر لواء عند إسته يوم القيامة فيقال : هذه غدرة فلان بن فلان " والحكمة فى ذلك أنه لما كان الغدر خفيا لا يطلع عليه الناس ، فيوم القيامة يصير علما منشوراً على صاحبه بما فعل " .
ثم يكشف السياق القرآني عن طبيعة الكبر في نفوس أعداء رسل الله ودينه . . الكبر الذي يمنعهم من الإسلام ؛ خيفة أن يرجعوا عباداً لله كسائر العباد ، فهم يطلبون امتيازاً ذاتياً يحفظ لهم خصوصيتهم بين الأتباع . ويكبر عليهم أن يؤمنوا للنبي فيسلموا له ، وقد تعودوا أن يكونوا في مقام الربوبية للأتباع ، وأن يشرعوا لهم فيقبلوا منهم التشريع ، وأن يأمروهم فيجدوا منهم الطاعة والخضوع . . من أجل ذلك يقولون قولتهم المنكرة الغبية كذلك : لن نؤمن حتى نؤتي مثلما أوتي رسل الله :
( وإذا جاءتهم آية قالوا : لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله ) .
وقد قال الوليد بن المغيرة : لو كانت النبوة حقا لكنت أولى بها منك ، لأني أكبر منك سنا ، وأكثر منك مالا ! وقال أبو جهل : والله لا نرضى به ولا نتبعه أبداً ، إلا أن يأتينا وحي كما يأتيه !
وواضح أن الكبر النفسي ، وما اعتاده الأكابر من الخصوصية بين الأتباع ، ومظهر هذه الخصوصية الأول هو الأمر منهم والطاعة والاتباع من الأتباع ! . . واضح أن هذا من أسباب تزيين الكفر في نفوسهم ، ووقوفهم من الرسل والدين موقف العداء .
ويرد الله على قولتهم المنكرة الغبية . . أولا بتقرير أن أمر اختيار الرسل للرسالة موكول إلى علمه المحيط بمن يليق بهذا الأمر الكوني الخطير . . ويرد عليهم ثانيا بالتهديد والتحقير وسوء المصير :
( الله أعلم حيث يجعل رسالته . سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله وعذاب شديد بما كانوا يمكرون ) . .
إن الرسالة أمر هائل خطير . أمر كوني تتصل فيه الإرادة الأزلية الأبدية بحركة عبد من العبيد . ويتصل فيه الملأ الأعلى بعالم الإنسان المحدود . وتتصل فيه السماء بالأرض ، والدنيا بالآخرة ، ويتمثل فيه الحق الكلي ، في قلب بشر ، وفي واقع ناس ، وفي حركة تاريخ . وتتجرد فيها كينونة بشرية من حفظ ذاتها لتخلص لله كاملة ، لا خلوص النية والعمل وحده ، ولكن كذلك خلوص المحل الذي يملؤه هذا الأمر الخطير . فذات الرسول [ ص ] تصبح موصولة بهذا الحق ومصدره صلة مباشرة كاملة . وهي لا تتصل هذه الصلة إلا أن تكون من ناحية عنصرها الذاتي صالحة للتلقي المباشر الكامل بلا عوائق ولا سدود . .
والله وحده - سبحانه - هو الذي يعلم أين يضع رسالته ، ويختار لها الذات التي تنتدب من بين ألوف الملايين ، ويقال لصاحبها : أنت منتدب لهذا الأمر الهائل الخطير .
والذين يتطلعون إلى مقام الرسالة ؛ أو يطلبون أن يؤتوا مثل ما أوتي الرسول . . هم أولا من طبيعة لا تصلح أساساً لهذا الأمر . فهم يتخذون من ذواتهم محوراً للوجود الكوني ! والرسل من طبيعة أخرى ، طبيعة من يتلقى الرسالة مستسلماً ، ويهب لها نفسه ، وينسى فيها ذاته ، ويؤتاها من غير تطلع ولا ارتقاب : ( وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب ، إلا رحمة من ربك ) . . ثم هم بعد ذلك جهال لا يدركون خطورة هذا الأمر الهائل ، ولا يعلمون أن الله وحده هو الذي يقدر بعلمه على اختيار الرجل الصالح . .
( الله أعلم حيث يجعل رسالته ) . .
وقد جعلها سبحانه حيث علم ، واختار لها أكرم خلقه وأخلصهم ، وجعل الرسل هم ذلك الرهط الكريم ، حتى انتهت إلى محمد خير خلق الله وخاتم النبيين .
ثم التهديد بالصغار والهوان على الله ، وبالعذاب الشديد المهين :
( سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله وعذاب شديد بما كانوا يمكرون ) . .
والصغار عند الله يقابل الاستعلاء عند الأتباع ، والاستكبار عن الحق ، والتطاول إلى مقام رسل الله ! . .
والعذاب الشديد يقابل المكر الشديد ، والعداء للرسل ، والأذى للمؤمنين .
هذه الآية آية ذم للكفار وتوعد لهم ، يقول وإذا جاءتهم علامة ودليل على صحة الشرع تشططوا وتسحبوا وقالوا : إنما يفلق لنا البحر ، إنما يحيي لنا الموتى ونحو ذلك{[5079]} ، فرد الله عز وجل عليهم بقوله : { الله أعلم حيث يجعل رسالاته } أي فيمن اصطفاه وانتخبه لا فيمن كفر وجعل يتشطط على الله ، قال الزجاج : قال بعضهم : الأبلغ في تصديق الرسل أن لا يكونوا قبل المبعث مطاعين في قومهم ، و { أعلم } معلق العمل ، والعامل في { حيث } فعل تقديره : يعلم حيث{[5080]} ، ثم توعد تعالى بأن هؤلاء المجرمين الأكابر في الدنيا سيصيبهم عند الله صغار وذلة ، و { عند الله } متعلقة ب { سيصيب } ، ويصح أن تتعلق ب { صغاراً } لأنه مصدر ، قال الزجّاج : التقدير صغار ثابت عند الله ، قال أبو علي : وهو متعلق ب { صغار } دون تقدير ثابت ولا شيء غيره .