ثم ذكر - سبحانه - آية أخرى تتعلق بكمال قدرته فقال : { والقمر قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ . . }
ولفظ القمر قراه جمهور القراء بالنصب على أنه مفعول لفعل محذوف يفسره ما بعده .
والمنازل جمع منزل . والمراد بها أماكن سيره فى كل ليلة ، وهى ثمان وعشرون منزلا ، تبدأ من أول ليلة فى الشهر ، إلى الليلة الثامنة والعشرين منه . ثم يستتر القمر ليلتين إن كان الشهر تاما . ويستتر ليلة واحدة إن كان الشهر تسعا وعشرين ليلة .
أى : وقدرنا سير القمر فى منازل ، بأن ينزل فى كل ليلة فى منزل لا يتخطاه ولا يتقاصر عنه ، إذا كل شئ عندنا بمقدار . .
وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو { والقمر } بالرفع على الابتداء ، وخبره جملة " قدرناه " .
قال الآلوسى ما ملخصه . قوله : { والقمر قَدَّرْنَاهُ } - بالنصب - أى : وصيرنا سيره ، أى : محله الذى يسيره فيه { منازل } فقدَّر بمعنى صيرَّ الناصب لمفعولين . والكلام على حذف مضاف ، والمضاف المحذوف مفعوله الأول { منازل } مفعوله الثانى .
وقرأ الحرميان وأبو عمرو : { والقمرُ } بالرفع ، على الابتداء ، وجملة { قدرناه } خبره .
والمنازل : جمع منزل ، والمراد به المسافة التى يقطعها القمر فى يوم وليلة .
وقوله - سبحانه - : { حتى عَادَ كالعرجون القديم } تصوير بديع لحالة القمر وهو فى آخر منازله .
والعرجون : هو قنو النخلة ما بين الشماريخ إلى منبته منها ، وهو الذى يحمل ثمار النخلة سواء أكانت تلك الثمار مستوية أم غير مستوية . وسمى عرجونا من الانعراج ، وهو الانعطاف والتقوس ، شبه به القمر فى دقته وتقوسه واصفراره .
أى : وصيرنا سير القمر فى منازل لا يتعداها ولا يتقاصر عنها ، فإذا صار فى آخر منازله ، أصبح فى دقته وتقوسه كالعرجون القديم ، أى : العتيق اليابس .
قال بعض العلماء : والذى يلاحظ القمر ليلة بعد ليلة . يدرك ظل التعبير القرآنى العجيب { حتى عَادَ كالعرجون القديم } وبخاصة ظل ذلك اللفظ { القديم } . فالمقر فى لياليه الأولى هلال . وفى لياليه الأخيرة هلال . ولكنه فى لياليه الأولى يبدو وكأن فيه نضارة وقوة . وفى لياليه الأخيرة يطلع وكأنما يغشاه سهوم ووجوم ، ويكون فيه شحوب وذبول . ذبول العرجون القديم ، فليست مصادفة أن يعبر القرآن عنه هذا التعبير الموحى العجيب .
( والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم ) . .
والعباد يرون القمر في منازله تلك . يولد هلالاً . ثم ينمو ليلة بعد ليلة حتى يستدير بدراً . ثم يأخذ في التناقص حتى يعود هلالاً مقوساً كالعرجون القديم . والعرجون هو العذق الذي يكون فيه البلح من النخلة .
والذي يلاحظ القمر ليلة بعد ليلة يدرك ظل التعبير القرآني العجيب : ( حتى عاد كالعرجون القديم ) . . وبخاصة ظل ذلك اللفظ( القديم ) . فالقمر في لياليه الأولى هلال . وفي لياليه الأخيرة هلال . . ولكنه في الأولى يبدو وكأن فيه نضارة وفتوة . وفي الأخير يطلع وكأنما يغشاه سهوم ووجوم ، ويكسوه شحوب وذبول . ذبول العرجون القديم ! فليست مصادفة أن يعبر القرآن الكريم عنه هذا التعبير الموحي العجيب !
والحياة مع القمر ليلة بعد ليلة تثير في الحس مشاعر وخواطر ندية ثرية موحية عميقة . والقلب البشري الذي يعيش مع القمر دورة كاملة ، لا ينجو من تأثرات واستجابات ، ومن سبحات مع اليد المبدعة للجمال والجلال ؛ المدبرة للأجرام بذلك النظام . سواء كان يعلم سر هذه المنازل والأشكال القمرية المختلفة أو لا يعلم . فالمشاهدة وحدها كفيلة بتحريك القلب ، واستجاشة الشعور ، وإثارة التدبر والتفكير .
{ والقمر قدرناه } قدرنا مسيره . { منازل } أو سره في منازل وهي ثمانية وعشرون : والسرطان ، البطين ، الثريا ، الدبران ، الهقعة ، الهنعة ، الذراع ، النثرة ، الطرف ، الجبهة ، الزبرة ، الصرفة ، العواء ، السماك ، الغفر ، الزبانا ، الاكليل ، القلب ، الشولة ، النعائم ، البلدة ، سعد الذابح ، سعد بلع ، سعد السعود ، سعد الأخبية ، فرغ الدلو المقدم ، فرغ الدلو المؤخر ، الرشا ، وهو بطن الحوت ينزل كل ليلة في واحد منها لا يتخطاه ولا يتقاصر عنه ، فإذا كان في آخر منازله وهو الذي يكون فيه قبيل الاجتماع دق واستقوس ، وقرأ الكوفيون وابن عامر { والقمر } بنصب الراء . { حتى عاد كالعرجون } كالشمراخ المعوج ، فعلون من الانعراج وهو العوجاج ، وقرئ { كالعرجون } وهما لغتان كالبزيون والبزيون . { القديم } العتيق وقيل ما مر عليه حول فصاعدا .
قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وروححِ عن يعقوب برفع { والقَمَرُ } فهو إما معطوف على { والشمس تجري } [ يس : 38 ] عطفَ المفردات ، وإما مبتدأ والعطف من عطف الجمل .
وجملة { قَدَّرْناهُ } إما حال وإما خبر . وقرأه ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي وأبو جعفر ورويس عن يعقوب وخلَفٌ بنصب { القمرَ } على الاشتغال فهو إذن من عطف الجمل .
وتقدّم تفسير منازل القمر عند قوله تعالى : { وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب } في سورة يونس } ( 5 ) .
والتقدير : يطلق على جعل الأشياء بقدْر ونظام محكم ، ويطلق على تحديد المقدار من شيء تطلب معرفة مقداره مثل تقدير الأوقات وتقدير الكميات من الموزونات والمعدودات ، وكلا الإِطلاقين مراد هنا . فإن الله قدّر للشمس والقمر نظامَ سيرهما وقدّر بذلك حساب الفصول السنوية والأشهر والأيام والليالي .
وعُدّي فعل { قَدَّرْناهُ } إلى ضمير { القمر } الذي هو عبارة عن ذاته وإنما التقدير لسيره ولكن عدي التقدير إلى اسم ذاته دون ذكر المضاف مبالغة في لزوم السَّير له من وقت خَلقه حتى كأنَّ تقدير سيره تقدير لذاته .
وانتصب { مَنَازِلَ } على الظرفية المكانية مثل : سرت أميالاً ، أي قدرنا سيره في منازل ينتقل بسيره فيها منزلة بعد أخرى .
و { حتى } ابتدائية ، أي ليست حرف جر فإن ما بعدها جملة . ومعنى الغاية لا يفارق { حتى } فآذن ما فيها من معنى الغاية بمغيّا محذوف فالغاية تستلزم ابتداء شيء . والتقدير : فابتدأ ضوؤه وأخذ في الازدياد ليلة قليلة ثم أخذ في التناقص حتى عاد ، أي صار كالعرجون القديم ، أي شبيهاً به . وعبر عنه بهذا التشبيه إذ ليس لضوء القمر في أواخر لياليه اسم يعرف به بخلاف أول أجزاء ضوئه المسمّى هلالاً ، ولأن هذا التشبيه يماثل حالة استهلاله كما يماثل حالة انتهائه .
و { عَادَ } بمعنى صار شكله للرائي كالعرجون . والعرجون : العود الذي تخرجه النخلة فيكون الثمر في منتهاه وهو الذي يبقى متصلاً بالنخلة بعد قطع الكَبَاسَة منه وهي مجتمع أعواد التمر .
و { القديم } : هو البالي لأنه إذا انقطع الثمر تَقوس واصفَارّ وتضاءل فأشبه صورة ما يواجه الأرض من ضوء القمر في آخر ليالي الشهر وفي أول ليلة منه ، وتركيب { عَادَ كالعُرجُونِ القَدِيمِ } صالح لصورة القمر في الليلة الأخيرة وهي التي يعقبها المحاق ولصورته في الليلة الأولى من الشهر هو الهلال . وقد بُسط لهم بيان سير القمر ومنازله لأنهم كانوا يتقنون علمه بخلاف سير الشمس .