اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَٱلۡقَمَرَ قَدَّرۡنَٰهُ مَنَازِلَ حَتَّىٰ عَادَ كَٱلۡعُرۡجُونِ ٱلۡقَدِيمِ} (39)

قوله : { والقمر قَدَّرْنَاهُ } قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو برفع «القمر » . والباقون بنصبه{[46213]} . فالرفع على الابتداء{[46214]} والنصب بإضمار فعل على الاشتغال{[46215]} . والوجهان مستويان لتقدم جملةٍ ذاتِ وجهين وهي قوله : { والشَّمْسُ تجري } . فإن راعيت صدرها رفعت لتعطف جملة اسمية على مثلها وإن راعيت عَجْزَهَا نصبت لتعطف فعلية على مثلها{[46216]} . وبهذه الآية يبطل ( قول ){[46217]} الأخفش : إنه لا يجوز النصب{[46218]} في الاسم إلا إذا كان في جملة الاشتغال ضمير يعود على الاسم الذي تضمنته جملةٌ ذات وجهين قال : لأن المعطوف على الخبر خبر فلا بد من ضمير يعود على المبتدأ فيجوز : «أَزْيْدٌ قَامَ{[46219]} وعمراً أكْرَمْتُه فِي دَارِهِ » ولو لم يقل «في داره » لم يجز ووجه الردّ من هذه الآية أن أربعة{[46220]} من السبعة نصَبُوا وليس في جملة الاشتغال ضمير يعود على الشمس وقد أجمع على النصب في قوله تعالى :

{ والسمآء رَفَعَهَا } [ الرحمن : 7 ] بعد قوله : { والنجم والشجر يَسْجُدَانِ } [ الرحمن : 6 ] .

قوله : { مَنَازِلَ } فيه أَوْجُهٌ :

أحدها : أنه مفعول ثان لأن «قَدَّرْنَا » بمعنى صَيَّرْنَا{[46221]} .

الثاني : أنَّه حال ولا بد من حذف مضاف قبل منازل تقديره : ذَا مَنَازِلَ{[46222]} قال الزمخشري : لا بُدَّ من تقدير لفظ يتم به معنى الكلام ، لأن القمر لم يجعل نفسه مَنَازلَ{[46223]} .

الثالث : أنه ظرف أي قدرنا مَسِيرَهُ فِي مَنَازِلَ{[46224]} . وتقدم نحوه أول يونس{[46225]} .

قوله : { حتى عَادَ كالعرجون } العامة على ضم العين والجيم . وفي وزنه وجهان :

أحدهما : أنه فُعْلُولٌ . فنونه أصلية وهذا هو المرجح{[46226]} .

والثاني : وَهُو قول الزجاج : أن نونه مزيدة ووزنه فُعْلُونٌ{[46227]} مشتقاً من الانْعِرَاج ، وهو الانعطاف وقرأ سُلَيْمَانُ{[46228]} التَّيْمِيُّ بكسر العين وفتح الجيم وهما لغتان كالبُزيون{[46229]} والبِزْيُون والعرجون عُود العِذْق ما بين الشماريخ إلى مَنْبِتِهِ من النخلة{[46230]} وهو تشبيه بديع شبه به القمر في ثلاثة أشياء دقَّتِهِ واستقواسه واصْفِرَارِهِ لأن العِذق الذي عليه الشماريخ إذا قَدِمَ وعَتِقَ دَقَّ وتَقَوَّسَ واصْفَرَّ{[46231]} . والقديم ما تَقَادَمُ عَهْدُهُ بحكم العادة ولا يشترط في جواز إطلاق لفظ القديم عليه مدةً بعينها بل إنما يعتبر العادة حتى لا يقال لمدينة بنيت من سنةٍ أو سنتين لبنائها قديم أو هي مدينة قديمةٌ ويقال لبعض الأشياء : إنّه قديم وإن لم يكن له سنةٌ ( واحدة ) ولهذا جاز أن يقال : بَيْتٌ قديمٌ وبناء قديم ولم يجز ( أن يقال ){[46232]} في العالم : إنه قديم ؛ لأن القِدَم في البيت والبناء يثبت بحكم تقادم العهد ومرور السنين عليه وإطلاق القديم على العالم بِتَمَادِي الأزمنة عند من ( لا ){[46233]} يعتقد أنه لا أول له ولا سابق عليه{[46234]} .


[46213]:من القراءات السبعية المتواترة وانظر: الكشف 2/216 وحجة ابن خالويه 298 والنشر 2/353 والسبعة 540 والإتحاف 365.
[46214]:ورجحه مكي في الكشف فقال: "وحجة من رفع وهو الاختيار لأن عليه أهل الحرمين وأبا عمرو وأنه قطعه مما قبله وجعله مستأنفا فرفعه بالابتداء وقدرناه الخبر".
[46215]:المرجعان السابقان وقد رجح الفراء الرفع أيضا فقال "الرفع فيه أعجب إلي من النصب". وانظر: النحاس 4/394 ومعاني الفراء 2/378 ومعاني الزجاج 4/287 والتبيان 1082 والبيان 2/295 ومشكل الإعراب 2/226.
[46216]:الدر المصون 4/418.
[46217]:سقط من "ب".
[46218]:نقل رأيه هذا ابن مالك في التسهيل 81 وقد وافق الأخفش صاحب المفصل وشارحه. انظر: شرح المفصل لابن يعيش 2/32 و 33.
[46219]:في "ب" وعمرو خطأ.
[46220]:وهم: حمزة والكسائي وعاصم وابن عامر وهي القراءة المعهودة عندنا.
[46221]:التبيان 1083 والبيان 2/295 ومشكل الإعراب 2/226.
[46222]:المشكل والبيان والتبيان السوابق.
[46223]:الكشاف 3/323.
[46224]:السابق.
[46225]:عند قوله: {هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل} الآية 5. اللباب 4/20.
[46226]:ووزن فعلول بضم الفاء واللام كثير في كلامهم جدا وقد ثبتت النون في الفعل الماضي فقالوا: عرجنه بالعصا ضربه وعرجنه: ضربه بالعرجون، وعرجن الثوب: صور فيه صور العراجين وقال رؤبة: في خدر مياس الدمى معرجن اللسان: "ع ر ج" 2871 و 2872 وانظر: التبيان 1083 وابن الأنباري 2/295. وقد جوز أبو البقاء الوجهين الأصل والزيادة بينما اعترض ابن الأنباري فقال: "ولا يكون وزنه على فعلون، لأنه ليس في كلامهم ما هو فعلون. وقد زعم بعضهم أن وزنه على فعلون من الانعراج والنون زائدة كما قالوا: فرسن ووزنه من الفرس وليس في الكلام فعلن غيره".
[46227]:معاني القرآن وإعرابه له 4/288.
[46228]:سليمان بن قتة وهي أمة التيمي البصري عرض على ابن عباس وعرض عليه الجحدري. انظر: طبقات القراء 1/314.
[46229]:الديباج الرقيق أو السندس.
[46230]:وانظر: مجاز القرآن 2/161 وغريب القرآن 365 وفسراه بالإهان إهان العذق الذي في أعلاه العثاكيل و "عود الكباسة". وانظر: معاني الفراء 2/378 والرازي 26/72.
[46231]:الكشاف 3/323.
[46232]:ساقطتان من "ب".
[46233]:ساقطتان من "ب".
[46234]:قاله الرازي في المرجع السابق.