13- وإذا قال قائل لهم ينصحهم ويرشدهم : أقبلوا على ما يجب ، وهو أن تؤمنوا إيماناً مخلصاً مثل إيمان الناس الكاملين المستجيبين لصوت العقل ؛ سخروا وتهكَّموا وقالوا : لا يليق بنا أن نتبع هؤلاء الجهلاء ضعاف العقول . فرد الله عليهم تطاولهم وحكم عليهم بأنهم - وحدهم - الجهلاء الحمقى . ولكنهم لا يعلمون علماً يقيناً أن الجهل ونقص الإدراك محصور فيهم مقصور عليهم .
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ }
أي : إذا قيل للمنافقين آمنوا كما آمن الناس ، أي : كإيمان الصحابة رضي الله عنهم ، وهو الإيمان بالقلب واللسان ، قالوا بزعمهم الباطل : أنؤمن كما آمن السفهاء ؟ يعنون - قبحهم الله - الصحابة رضي الله عنهم ، بزعمهم{[49]} أن سفههم أوجب لهم الإيمان ، وترك الأوطان ، ومعاداة الكفار ، والعقل عندهم يقتضي ضد ذلك ، فنسبوهم إلى السفه ، وفي ضمنه{[50]} أنهم هم العقلاء أرباب الحجى والنهى .
فرد الله ذلك عليهم ، وأخبر أنهم هم السفهاء على الحقيقة ، لأن حقيقة السفه{[51]} جهل الإنسان بمصالح نفسه ، وسعيه فيما يضرها ، وهذه الصفة منطبقة عليهم وصادقة عليهم ، كما أن العقل والحجا ، معرفة الإنسان بمصالح نفسه ، والسعي فيما ينفعه ، و[ في ] دفع ما يضره ، وهذه الصفة منطبقة على [ الصحابة و ]المؤمنين وصادقة عليهم ، فالعبرة بالأوصاف والبرهان ، لا بالدعاوى المجردة ، والأقوال الفارغة .
ثم بين القرآن أن الناصحين قد أمروهم بالمعروف بعد أن نهوهم عن المنكر فقال :
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَآ آمَنَ الناس قالوا أَنُؤْمِنُ كَمَآ آمَنَ السفهآء ألا إِنَّهُمْ هُمُ السفهآء } .
المراد من الناس : المؤمنون بالرسول صلى الله عليه وسلم الصادقون في إيمانهم .
السفهاء : جمع سفيه ، وأصل السفه : الخفة والرقة والتحرك والاضطراب يقال : ثوب سفيه ، إذا كان رديء النسج خفيفه ، أو كان بالياً رقيقاً . وتسفهت الريح الشجر . أي : مالت به . وزمام سفيه : كثير الاضطراب ، لمنازعة الناقة إياه ، وشاع في خفة العقل وضعف الرأي .
وهو المعنى المقصود بالسفهاء في الآية . فقد كان المنافقون يصفون المسلمين بذلك فيما بينهم . وروى أنهم كانوا يقولون : أنؤمن كما آمن سفيه بني فلان ، وسفيه بني فلان ؟ ! فأوحى الله للنبي صلى الله عليه وسلم بهذا الذي كانوا يقولونه .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت : لم وصفوهم بالسفه وهم العقلاء المراجيح ؟ قلت لأن المنافقين لجهلهم وإخلالهم بالنظر ، اعتقدوا أن ما هم فيه هو الحق ، وأن ما عداه باطل ، ومن ركب متن الباطل كان سفيهاً ، ولأنهم كانوا في رياسة من قومهم ويسار ، وكان أكثر المؤمنين فقراء ومنهم موال كصهبب وبلال وخباب ، فدعوهم سفهاء تحقيراً لشأنهم اه ملخصاً . وقد رد الله عليهم بما يكبتهم ويفضحهم فقال : { ألا إِنَّهُمْ هُمُ السفهآء ولكن لاَّ يَعْلَمُونَ } لأنهم أعرضوا عن النظر في الدليل وباعوا آخرتهم بدنياهم ، وهذا أقصى ما يبلغه الإِنسان من سفه العقل . وقد تضمن هذا الرد تسفيههم وتكذيبهم في دعوى سفه الصادقين في إيمانهم ، فإن قوله - تعالى - { ألا إِنَّهُمْ هُمُ السفهآء } يفيد أن السفه مقصور عليهم فلا يتجاوزهم إلى المؤمنين ، وقد تضمنت هذه الجملة من المؤكدات ما تضمنته الجملة السابقة في قوله تعالى - { ألا إِنَّهُمْ هُمُ المفسدون } .
ومن صفتهم كذلك التطاول والتعالي على عامة الناس ، ليكسبوا لأنفسهم مقاما زائفا في أعين الناس :
( وإذا قيل لهم : آمنوا كما آمن الناس ، قالوا : أنؤمن كما آمن السفهاء ؟ ألا إنهم هم السفهاء ، ولكن لا يعلمون ) . .
وواضح أن الدعوة التي كانت موجهة إليهم في المدينة هي أن يؤمنوا الإيمان الخالص المستقيم المتجرد من الأهواء . إيمان المخلصين الذين دخلوا في السلم كافة ، وأسلموا وجوههم لله ، وفتحوا صدورهم لرسول الله [ ص ] يوجههم فيستجيبون بكليتهم مخلصين متجردين . . هؤلاء هم الناس الذين كان المنافقون يدعون ليؤمنوا مثلهم هذا الإيمان الخالص الواضح المستقيم . .
وواضح أنهم كانوا يأنفون من هذا الاستسلام للرسول [ ص ] ويرونه خاصا بفقراء الناس غير لائق بالعلية ذوي المقام ! ومن ثم قالوا قولتهم هذه : ( أنؤمن كما آمن السفهاء ؟ ) . . ومن ثم جاءهم الرد الحاسم ، والتقرير الجازم :
( ألا إنهم هم السفهاء ، ولكن لا يعلمون ) . .
ومتى علم السفيه أنه سفيه ؟ ومتى استشعر المنحرف أنه بعيد عن المسلك القويم ؟ !
{ وإذا قيل لهم آمنوا } من تمام النصح والإرشاد فإن كمال الإيمان بمجموع الأمرين : الإعراض عما لا ينبغي وهو المقصود بقوله : { لا تفسدوا } ، والإتيان بما ينبغي وهو المطلوب بقوله { آمنوا } .
{ كما آمن الناس } في حيز النصب على المصدر ، وما مصدرية أو كافة مثلها في ربما ، واللام في الناس للجنس والمراد به الكاملون في الإنسانية العاملون بقضية العقل ، فإن اسم الجنس كما يستعمل لمسماه مطلقا يستعمل لما يستجمع المعاني المخصوصة به والمقصودة منه ، ولذلك يسلب عن غيره فيقال : زيد ليس بإنسان ، ومن هذا الباب قوله تعالى : { صم بكم عمي } ونحوه وقد جمعهما الشاعر في قوله :
أو للعهد ، والمراد به الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه . أو من آمن من أهل جلدتهم كابن سلام وأصحابه ، والمعنى آمنوا إيمانا مقرونا بالإخلاص متمحضا عن شوائب النفاق مماثلا لإيمانهم ، واستدل به على قبول توبة الزنديق وأن الإقرار باللسان إيمان وإن لم يفد التقييد .
{ قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء } الهمزة فيه للإنكار ، واللام مشار بها إلى الناس ، أو الجنس بأسره وهم مندرجون فيه على زعمهم ، وإنما سفهوهم لاعتقادهم فساد رأيهم ، أو لتحقير شأنهم ، فإن أكثر المؤمنين كانوا فقراء ومنهم موالي كصهيب وبلال ، أو للتجلد وعدم المبالاة بمن آمن منهم إن فسر الناس بعبد الله بن سلام وأشياعه . والسفه : خفة وسخافة رأي يقتضيهما نقصان العقل ، والحلم يقابله .
{ ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون } رد ومبالغة في تجهيلهم ، فإن الجاهل بجهله الجازم على خلاف ما هو الواقع أعظم ضلالة وأتم جهالة من المتوقف المعترف بجهله ، فإنه ربما يعذر وتنفعه الآيات والنذر ، وإنما فصلت الآية ب{ لا يعلمون } والتي قبلها ب{ لا يشعرون } لأنه أكثر طباقا لذكر السفه ، ولأن الوقوف على أمر الدين والتمييز بين الحق والباطل مما يفتقر إلى نظر وفكر . وأما النفاق وما فيه من الفتن والفساد فإنما يدرك بأدنى تفطن وتأمل فيما يشاهد من أقوالهم وأفعالهم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.