90- ولبئس ما باعوا به أنفسهم بغياً وعدواناً ، إذ مالوا مع أهوائهم وتعصبهم لشعبهم فكفروا بما أنزلنا ، ناقمين على غيرهم أن خصهم الله دونهم بإرسال رسول منهم منكرين على الله أن يكون له مطلق الخيرة في أن ينزل من فضله على من يشاء من عباده ، فباءوا بغضب على غضب لكفرهم وعنادهم وحسدهم ، وعذبوا بكفرهم وللكافرين عذاب عظيم .
{ وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ * بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ }
أي : ولما جاءهم كتاب من عند الله على يد أفضل الخلق وخاتم الأنبياء ، المشتمل على تصديق ما معهم من التوراة ، وقد علموا به ، وتيقنوه حتى إنهم كانوا إذا وقع{[93]} بينهم وبين المشركين في الجاهلية حروب ، استنصروا بهذا النبي ، وتوعدوهم بخروجه ، وأنهم يقاتلون المشركين معه ، فلما جاءهم هذا الكتاب والنبي الذي عرفوا ، كفروا به ، بغيا وحسدا ، أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده ، فلعنهم الله ، وغضب عليهم غضبا بعد غضب ، لكثرة كفرهم وتوالى شكهم وشركهم .
{ وللكافرين عذاب مهين } أي : مؤلم موجع ، وهو صلي الجحيم ، وفوت النعيم المقيم ، فبئس الحال حالهم ، وبئس ما استعاضوا واستبدلوا من الإيمان بالله وكتبه ورسله ، الكفر به ، وبكتبه ، وبرسله ، مع علمهم وتيقنهم ، فيكون أعظم لعذابهم .
ثم ذكر - سبحانه - أنهم بكفرهم قد باعوا أنفسهم بثمن بخس . فقال تعالى : " بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله " أي : بئس الشيء الذي باع به اليهود أنفسهم كفرهم بما أنزل الله بغياً وحسداً أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده .
وجمهور المفسرين على أن { اشتروا } هنا بمعنى باعوا ، لأن أولئك اليهود ، لما كانوا متمكنين من الإِيمان الذي يفضي بهم إلى السعادة الأبدية بعد أن جاءهم ما عرفوا من الحق فتركوه ، واستمروا على كفرهم بغياً وحسداً وحباً في الرياسة وتعصباً لجنسيتهم لما كانوا كذلك ، صار اختيارهم للكفر على الإِيمان ، بمنزلة اختيار صاحب السلعة ثمنها على سلعته ، فكاأنهم بذلوا أنفسهم التي كان باستطاعتهم الانتفاع بإيمانها ، وقبضوا الكفر عوضاً عنها فأنفسهم بمنزلة السلعة المبيعة وكفرهم بمنزلة ثمنها المقبوض ، فبئس هذا الثمن الذي أوردهم العذاب الأليم .
وعبر - سبحانه - عن كفرهم بصيغة المضارع { أَن يَكْفُرُواْ } وعن بيعهم لأنفسهم بالماضي { اشتروا } للدلالة على أنهم صرحوا بكفرهم بالقرآن الكريم من قبل نزول الآية ، وإن بيعهم أنفسهم بالكفر طبيعة فيهم مستقرة منذ وقت بعيد ، وأنهم مازالوا مستمرين على تلك الطبيعة المنحرفة .
وقوله تعالى : { بَغْياً أَن يُنَزِّلُ الله مِن فَضْلِهِ على مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ } تعليل لكفرهم وبيان للباعث عليه ، أي كفروا بما أنزل الله على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم بدافع من البغي والحقد ، وكراهة أن ينزل الله الوحي من فضله على من يشاء من عباده ، فالبغي هنا مصدر بغي يبغى إذا ظلم . والمراد به ظلم خاص هو الحسد ، وإنما عد الحسد ظلما ، لأن الظلم معناه المعاملة التي تبعد عن الحق وتجافيه ، والحسد معناه تمنى زوال النعمة عن الغير والظالم والحاسد قد جانب كل منهما الحق فيما صنع ، والحاسد لن يناله نفع من زوال نعمة المحسود ، كما أنه لن يناله ضر من بقائها ، وما دام كذلك فالحاسد ظالم للمحسود بتمنى زوال النعمة وصدق الشاعر في قوله .
وأظلم خلق الله من بات حاسداً - لمن بات في نعمائه يتقلب - .
فاليهود قد كفروا بما أنزل الله ، من أجل حسدهم للنبي صلى الله عليه وسلم على النبوة ولأنه لم يكن منهم وكان من العرب ، وكراهية لأن ينزل الله الوحي على من يصطفيه للرسالة من غيرهم ، فعدم إيمانهم بما عرفوه وارتقبوه سببه أنانيتهم البغيضة ، وأثرتهم الذميمة التي حملتهم على أن يحسدوا الناس على ما آتاهم الله من فضله ، وأن يتوهموا أن النبوة مقصورة عليهم ، فليس لله - تعالى - في زعمهم ، - أن ينزعها من ذرية إسحاق ليجعلها في ذرية إسماعيل عليهما السلام - .
ولم يصرح - سبحانه - بأن المحسود هو النبي صلى الله عليه وسلم لعلم ذلك من سياق الآيات الكريمة وللتنبيه على أن الحسد في ذاته مذموم كيفما كان حال المحسود .
ثم بين - سبحانه - بعد ذلك ما آل إليه أمرهم من خسران مبين فقال تعالى : { فَبَآءُو بِغَضَبٍ على غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ } : باء بإثمه يبوء أي : رجع أي : فرجعوا من أجل كفرهم وحسدهم للنبي صلى الله عليه وسلم بغضب مضموم إلى غضب آخر كانوا قد استحقوه بسبب كفرهم بعيسى - عليه السلام - وبسبب تحريفهم للكلم عن مواضعه ، وتضييعهم لأحكام التوراة . فهم بسبب كفرهم المستمر الذي تعددت أسبابه ، يصيبهم غضب كثير متعاقب من الله - تعالى - .
ويصح أن يكون معنى قوله : { فَبَآءُو بِغَضَبٍ على غَضَبٍ } أنهم رجعوا بغضب شديد مؤكد ، لصدوره من الله - تعالى - .
ولامراد بالكافرين ، اليهود الذين تحدث عنهم فيما سبق ، فهم الذين عرفوا صدق محمد صلى الله عليه وسلم في نبوته بما نطقت به التوراة ، ومع ذلك كفروا به فاستحبوا العمى على الهدى .
وعبر عنهم بهذا العنوان للتنبيه على أن ما أصابهم من عذاب مذل لهم كان بسبب كفرهم ، ويصح أن يراد بالكافرين : كل كافروهم يدخلون فيه دخولا أوليا ؛ وإنما كان لهم العذاب المهين لأن كفرهم لما كان سببه البغي والحسد والتكبر والأنانية ، قوبلوا بالإِهانة والصغار .
وبذلك تكون الآيتان الكريمتان قد كشفتا عن لون من صفات اليهود الذميمة وهو إعراضهم عن الإِيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم الذي كانوا يستنصرون به على أعدائهم قبل بعثته ، وبيعهم الإِيمان الذي كان في مكنتهم الظفر به بالكفر بما أنزل الله من دين قويم ، وكتاب كريم إرضاء لغريزة الحقد الذي استحوذ على قلوبهم ، وتمشياً مع أثرتهم التي أبت عليهم أن يؤمنوا بنبي ليس من نسل إسرائيل ولو جاءهم بالحق المبين ، فحق عليهم قول الله - تعالى - : { فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ ولكن الظالمين بِآيَاتِ الله يَجْحَدُونَ } .
ويفضح السبب الخفي لهذا الموقف الشائن الذي وقفوه ؛ بعد أن يقرر خسارة الصفقة التي اختاروها :
( بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله ، بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده . فباؤوا بغضب على غضب ، وللكافرين عذاب مهين ) . .
بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا . . . لكأن هذا الكفر هو الثمن المقابل لأنفسهم ! والإنسان يعادل نفسه بثمن ما ، يكثر أو يقل . أما أن يعادلها بالكفر فتلك أبأس الصفقات وأخسرها ولكن هذا هو الواقع . وإن بدا تمثيلا وتصويرا . لقد خسروا أنفسهم في الدنيا فلم ينضموا إلى الموكب الكريم العزيز ولقد خسروا أنفسهم في الآخرة بما ينتظرهم من العذاب المهين . وبماذا خرجوا في النهاية ؟ خرجوا بالكفر ، هو وحده الذي كسبوه وأخذوه !
وكان الذي حملهم على هذا كله هو حسدهم لرسول الله [ ص ] أن يختاره الله للرسالة التي انتظروها فيهم ، وحقدهم لأن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده . وكان هذا بغيا منهم وظلما فعادوا من هذا الظلم بغضب على غضب ؛ وهناك ينتظرهم عذاب مهين ، جزاء الاستكبار والحسد والبغي الذميم .
وهذه الطبيعة التي تبدو هنا في يهود هي الطبيعة الكنود ، طبيعة الأثرة الضيقة التي تحيا في نطاق من التعصب شديد ؛ وتحس أن كل خير يصيب سواها كأنما هو مقتطع منها ؛ ولا تشعر بالوشيجة الإنسانية الكبرى ، التي تربط البشرية جميعا . . وهكذا عاش اليهود في عزلة ، يحسون أنهم فرع مقطوع من شجرة الحياة ؛ ويتربصون بالبشرية الدوائر ؛ ويكنون للناس البغضاء ، ويعانون عذاب الأحقاد والضغائن ، ويذيقون البشرية رجع هذه الأحقاد فتنا يوقدونها بين بعض الشعوب وبعض ، وحروبا يثيرونها ليجروا من ورائها المغانم ، ويروون بها أحقادهم التي لا تنطفىء ، وهلاكا يسلطونه على الناس ، ويسلطه عليهم الناس . . وهذا الشر كله إنما نشأ من تلك الأثرة البغيضة : ( بغيا . . أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده ) . .
{ بئس ما اشتروا به أنفسهم } ما نكرة بمعنى شيء مميزة لفاعل بئس المستكن ، واشتروا صفته ومعناه باعوا ، أو اشتروا بحسب ظنهم ، فإنهم ظنوا أنهم خلصوا أنفسهم من العقاب بما فعلوا . { أن يكفروا بما أنزل الله } هو المخصوص بالذم { بغيا } طلبا لما ليس لهم وحسدا ، وهو علة { أن يكفروا } دون { اشتروا } للفصل . { أن ينزل الله } لأن ينزل ، أي حسدوه على أن ينزل الله . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وسهل ويعقوب بالتخفيف . { من فضله } يعني الوحي . { على من يشاء من عباده } على من اختاره للرسالة { فباؤوا بغضب على غضب } للكفر والحسد على من هو أفضل الخلق . وقيل : لكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم بعد عيسى عليه السلام ، أو بعد قولهم عزير ابن الله { وللكافرين عذاب مهين } يراد به إذلالهم ، بخلاف عذاب العاصي فإنه طهرة لذنوبه .