{ 12 - 19 } { وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ * وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } إلى آخر القصة .
يخبر تعالى عن امتنانه على عبده الفاضل لقمان ، بالحكمة ، وهي العلم [ بالحق ]{[664]} على وجهه وحكمته ، فهي العلم بالأحكام ، ومعرفة ما فيها من الأسرار والإحكام ، فقد يكون الإنسان عالما ، ولا يكون حكيما .
وأما الحكمة ، فهي مستلزمة للعلم ، بل وللعمل ، ولهذا فسرت الحكمة بالعلم النافع ، والعمل الصالح .
ولما أعطاه اللّه هذه المنة العظيمة ، أمره أن يشكره على ما أعطاه ، ليبارك له فيه ، وليزيده من فضله ، وأخبره أن شكر الشاكرين ، يعود نفعه عليهم ، وأن من كفر فلم يشكر اللّه ، عاد وبال ذلك عليه . والله غني [ عنه ]{[665]} حميد فيما يقدره ويقضيه ، على من خالف أمره ، فغناه تعالى ، من لوازم ذاته ، وكونه حميدا في صفات كماله ، حميدا في جميل صنعه ، من لوازم ذاته ، وكل واحد من الوصفين ، صفة كمال ، واجتماع أحدهما إلى الآخر ، زيادة كمال إلى كمال .
واختلف المفسرون ، هل كان لقمان نبيا ، أو عبدا صالحا ؟ واللّه تعالى لم يذكر عنه إلا أنه آتاه الحكمة ، وذكر بعض ما يدل على حكمته في وعظه لابنه ، فذكر أصول الحكمة وقواعدها الكبار فقال : { وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ }
ثم ساق - سبحانه - على لسان عبد صالح من عباده ، جملة من الوصايا الحكيمة ، لتكون عظة وعبر للناس ، فقال - تعالى - : { وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ . . . الأصوات لَصَوْتُ الحمير } .
قال ابن كثير - رحمه الله - : اختلف السلف فى لقمان ، هل كان نبيا أو عبدا صالحا من غير نبوة ؟ والأكثرون على أنه لم يكن نبيا .
وعن ابن عباس وغيره : كان لقمان عبدا حبشا نجارا . . .
قال له مولاه : اذبح لنا شاة وجئنى بأخبث ما فيها ؟ فذبحها وجهاءه بلسانها وقلبها . ثم قال له مرة ثانية : اذبح لنا شاة وجئنى بأحسن ما فيها ؟ فذبحها وجاءه - أيضاً بقلبها ولسانها ، فقال له مولاه ما هذا ؟ فقال لقمان : إنه ليس من شئ أطيب منهما إذا طابا ، وليس من شئ أخبث منها إذا خبثا .
وقال له رجل : ألست عبد فلان ؟ فما الذى بلغ بك ما أرى من الحكمة ؟ فقال لقمان : قدر الله وأداء الأمانة ، وصدق الحديث ، وتركى مالا يعنينى .
ومن أقواله لابنه : يا بنى اتخذ تقوى الله لك تجارة ، يأتك الربح من غير بضاعة . يا بنى ، لا تكن اعجز من هذا الديك الذى يصوت بالأسحار ، وأنت نائم على فراشك ، با بنى ، اعتزل الشر كما يعتزلك ، فإن الشر للشر خلق .
يا بنى ، عليك بمجالس العلماء ، وبسماع كلام الحكماء ، فإن الله - تعالى - يحيى القلب الميت بنور الحكمة .
يا بنى ، إنك منذ نزلت الدنيا استدبرتها ، واستقبلت الآخرة ، ودار أنت إليها تسير ، أقرب من دار أنت عنها ترتحل .
وقال الآلوسى ما ملخصه : ولقمان : اسم أعجمى لا عربى وهو ابن باعوراء . قيل : كان فى زمان داود - عليه السلام - وقيل : كان زمانه بين عيسى وبين محمد - عليهما الصلاة والسلام - .
ثم قال الآلوسى : وإنى اختار أنه كان رجلا صالحا حكيما ، ولم يكن نبيا .
وقوله - سبحانه - : { وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الحكمة } كلام مستانف مسوق لإِبطال الإِشراك بالله - تعالى - عن طرق النقل ، بعد بيان إبطال عن طريق العقل ، فى قوله - سبحانه - قبل ذلك : { هذا خَلْقُ الله فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الذين مِن دُونِهِ . . . } والحكمة : اكتساب العلم النافع والعمل به . و هى : العقل والفهم . أو هى الإِصافة فى القول والعمل .
والمعنى : والله لقد أعطينا - بفضلنا وإحساننا - عبدنا لقمان العلم النافع والعمل به .
وقوله - سبحانه - { أَنِ اشكر للَّهِ } بيان لما يقتضيه إعطاء الحكمة . أى : أتيناه الحكمة وقلنا له أن اشكر لله على ما أعطاك من نعم لكى يزيدك منها .
قال الشوكانى : قوله : { أَنِ اشكر للَّهِ } أن هى المفسرة : لأن فى إيتاء الحكمة معنى القول . وقيل التقدير : قلنا له أن اشكر لى . . وقيل : بأن اشكر لى فشكر ، فكان حكيما بشكره .
والشكر لله : الثناء عليه فى مقابلة النعمة - واستعمالها فيما خلقت له - ، وطاعته فيما أمر به .
ثم بين - سبحانه - حسن عاقبة الشكر وسوء عاقبة الجحود فقال : { وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ حَمِيدٌ } .
أى : ومن يشكر الله - تعالى - على نعمه ، فإن نفع شكره إنما يعود إليه ، ومن جحد نعم الله - تعالى - واستحب الكفر على الإِيمان ، فالله - تنعالى - غنى عنه وعن غيره ، حقيق بالحمد من سائر خلقه لإِنعامه عليهم بالنعم التى لا تعد ولا تحصى : فحميد بمعنى محمود .
فالجملة الكريمة المقصود بها ، بيان غنى الله - تعالى - عن خلقه ، وعدم انتفاعهم بطاعتهم ، لأن منفعتها راجعة إليهم ، وعدم تضرره بمعصيتهم . وإنما ضرر ذلك يعود عليهم . وعبر - سبحانه - فى جانب الشكر بالفعل المضارع ، للإِشارة إلى أن من شأن الشاكرين أنهم دائما على تذكر لنعم الله - تعالى - ، وإذا ما غفلوا عن ذلك لفترة من الوقت ، عادوا إلى طاعته - سبحانه - وشكره .
وعبر فى جانب الكفر بالفعل الماضى ، للإِشعار بأنه لا يصح ولا ينبغى من أى عاقل ، بل كل عاقل عليه أن يهجر ذلك هجرا تاما ، وأن يجعله فى خبر كان .
وجواب الشرط محذوف ، وقد قام مقامه قوله - تعالى - : { فَإِنَّ الله غَنِيٌّ حَمِيدٌ } والتقدير : ومن كفر فضرر كفره راجع إليه . لأن الله - تعالى - غنى حميد .
بعد ذلك يبدأ الجولة الثانية . يبدؤها في نسق جديد . نسق الحكاية والتوجيه غير المباشر . ويعالج قضية الشكر لله وحدة ، وتنزيهه عن الشرك كله ، وقضية الآخرة والعمل والجزاء في خلال الحكاية .
( ولقد آتينا لقمان الحكمة أن اشكر لله ؛ ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه ، ومن كفر فإن الله غني حميد ) .
ولقمان الذي اختاره القرآن ليعرض بلسانه قضية التوحيد وقضية الآخرة تختلف في حقيقته الروايات : فمن قائل : إنه كان نبيا ، ومن قائل : إنه كان عبدا صالحا من غير نبوة - والأكثرون على هذا القول الثاني - ثم يقال : إنه كان عبدا حبشيا ، ويقال : إنه كان نوبيا . كما قيل : إنه كان في بني إسرائيل قاضيا من قضاتهم . . وأيا من كان لقمان فقد قرر القرآن أنه رجل آتاه الله الحكمة . الحكمة التي مضمونها ومقتضاها الشكر لله : ( ولقد آتينا لقمان الحكمة أن اشكر لله ) . . وهذا توجيه قرآني ضمني إلى شكر الله اقتداء بذلك الرجل الحكيم المختار الذي يعرض قصته وقوله . وإلى جوار هذا التوجيه الضمني توجيه آخر ، فشكر الله إنما هو رصيد مذخور للشاكر ينفعه هو ، والله غني عنه . فالله محمود بذاته ولو لم يحمده أحد من خلقه : ( ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه . ومن كفر فإن الله غني حميد ) . . وإذن فأحمق الحمقى هو من يخالف عن الحكمة ؛ ولا يدخر لنفسه مثل ذلك الرصيد .
اختلف السلف في لقمان ، عليه السلام : هل كان نبيًا ، أو عبدًا صالحا من غير نبوة ؟ على قولين ، الأكثرون على الثاني .
وقال سفيان الثوري ، عن الأشعث ، عن عِكْرِمَة ، عن ابن عباس قال : كان لقمان عبدًا حبشيًا نجارًا .
وقال قتادة ، عن عبد الله بن الزبير ، قلت لجابر بن عبد الله : ما انتهى إليكم من شأن لقمان ؟ قال : كان قصيرًا أفطس من النوبة .
وقال يحيى بن سعيد الأنصاري ، عن سعيد بن المسيب قال : كان لقمان من سودان مصر ، ذا مشافر ، أعطاه الله الحكمة ومنعه النبوة .
وقال الأوزاعي : رحمه الله ، حدثني عبد الرحمن بن حَرْمَلة قال : جاء رجل أسود إلى سعيد بن المسيب يسأله ، فقال له سعيد بن المسيب : لا تحزن من أجل أنك أسود ، فإنه كان من أخير الناس ثلاثة من السودان : بلال ، ومهْجَع مولى عمر بن الخطاب ، ولقمان الحكيم ، كان أسود نوبيًا ذا مشافر{[22931]} .
وقال ابن جرير : حدثنا ابن وَكِيع ، حدثنا أبي ، عن أبي الأشهب{[22932]} ، عن خالد الرَّبَعِيّ قال : كان لقمان عبدًا حبشيا نجارا ، فقال له مولاه : اذبح لنا هذه الشاة . فذبحها ، فقال : أخْرجْ أطيب مُضغتين فيها . فأخرج اللسان والقلب ، فمكث ما شاء الله ثم قال : اذبح لنا هذه الشاة . فذبحها ، فقال : أخرج أخبث مضغتين فيها . فأخرج اللسان والقلب ، فقال له مولاه : أمرتك أن تخرج أطيب مضغتين فيها فأخرجتهما ، وأمرتك أن تخرج أخبث مضغتين فيها فأخرجتهما . فقال لقمان : إنه ليس من شيء أطيب منهما إذا طابا ، ولا أخبث منهما إذا خَبُثا{[22933]} .
وقال شعبة ، عن الحكم ، عن مجاهد : كان لقمان عبدًا صالحًا ، ولم يكن نبيا .
وقال الأعمش : قال مجاهد : كان لقمان عبدا أسود عظيم الشفتين ، مشقق القدمين .
وقال حَكَّام بن سَلْم ، عن سعيد الزبيدي ، عن مجاهد : كان لقمان الحكيم عبدا حبشيا غليظ الشفتين ، مُصَفح القدمين ، قاضيا على بني إسرائيل .
وذكر غيره : أنه كان قاضيا على بني إسرائيل في زمن{[22934]} داود ، عليه السلام .
وقال ابن جرير : حدثنا ابن حُمَيد ، حدثنا الحكم ، حدثنا عمرو بن قيس قال : كان لقمان ، عليه السلام ، عبدًا أسود غليظ الشفتين ، مُصَفَّح القدمين ، فأتاه رجل وهو في مجلس أناس يحدثهم ، فقال له : ألست الذي كنت ترعى معي الغنم في مكان كذا وكذا ، قال : نعم . فقال : فما بلغ بك ما أرى ؟ قال : صدق الحديث ، والصمت عما لا يعنيني{[22935]} .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زُرْعَة ، حدثنا صفوان ، حدثنا الوليد ، حدثنا{[22936]} عبد الرحمن بن يزيد{[22937]} عن جابر قال : إن الله رفع لقمان الحكيم بحكمته ، فرآه رجل كان يعرفه قبل ذلك ، فقال له : ألست عبد بني فلان الذي كنت ترعى بالأمس ؟ قال : بلى . قال : فما بلغ بك ما أرى ؟ قال : قَدَرُ الله ، وأداء الأمانة ، وصدق الحديث ، وتركي ما لا يعنيني .
فهذه الآثار منها ما هو مُصرَّح فيه بنفي كونه نبيا ، ومنها ما هو مشعر بذلك ؛ لأن كونه عبدًا قد مَسَّه الرق ينافي كونه نبيا ؛ لأن الرسل كانت تبعث في أحساب قومها ؛ ولهذا كان جمهور السلف على أنه لم يكن نبيا ، وإنما ينقل كونه نبيا عن عكرمة - إن صح السند إليه ، فإنه رواه ابن جرير ، وابن أبي حاتم من حديث وَكِيع{[22938]} عن إسرائيل ، عن جابر ، عن عكرمة فقال : كان لقمان نبيًا . وجابر هذا هو ابن يزيد الجعفي ، وهو ضعيف ، والله{[22939]} أعلم .
وقال عبد الله بن وهب : أخبرني عبد الله بن عياش القتْبَاني ، عن عُمَر مولى غُفرَة قال : وقف رجل على لقمان الحكيم فقال : أنت لقمان ، أنت عبد بني الحسحاس ؟ قال : نعم . قال : أنت راعي الغنم ؟ قال : نعم . قال : أنت الأسود ؟ قال : أما سوادي فظاهر ، فما الذي يعجبك من أمري ؟ قال : وَطءْ الناس بسَاطك ، وغَشْيُهم بابك ، ورضاهم بقولك . قال : يا بن أخي{[22940]} إن صَغَيتَ{[22941]} إلى ما أقول لك كنت كذلك . قال لقمان : غضي بصري ، وكفي لساني ، وعفة طعمتي ، وحفظي فرجي ، وقولي بصدق ، ووفائي بعهدي ، وتكرمتي ضيفي ، وحفظي جاري ، وتركي ما لا يعنيني ، فذاك الذي صيرني إلى ما{[22942]} ( 10 ) ترى .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا ابن نُفَيل ، حدثنا عمرو بن واقد ، عن عَبْدَةَ بن رَبَاح ، عن ربيعة ، عن{[22943]} أبي الدرداء ، رضي الله عنه ، أنه قال يومًا - وذُكرَ لقمان الحكيم - فقال : ما أوتي ما أوتي عن أهل ولا مال ، ولا حسب ولا خصال ، ولكنه كان رجلا صَمْصَامة سكيتا ، طويل التفكر ، عميق النظر ، لم ينم نهارًا قط ، ولم يره أحد قط يبزق ولا يتنخَّع ، ولا يبول ولا يتغوط ، ولا يغتسل ، ولا يعبث ولا يضحك ، وكان لا يعيد منطقًا نطقه إلا أن يقول حكمة يستعيدها إياه أحد ، وكان قد تزوج وولد له أولاد ، فماتوا فلم يبك عليهم . وكان يغشى السلطان ، ويأتي الحكام ، لينظر ويتفكر ويعتبر{[22944]} ، فبذلك أوتي ما أوتي .
وقد ورد أثر غريب عن قتادة ، رواه ابن أبي حاتم ، فقال :
حدثنا أبي ، حدثنا العباس بن الوليد ، حدثنا زيد بن يحيى بن عبيد الخزاعي ، حدثنا سعيد بن بشير ، عن قتادة قال : خَيّر الله لقمان الحكيم بين النبوة والحكمة ، فاختار الحكمة على النبوة . قال : فأتاه جبريل وهو نائم فَذرَّ عليه الحكمة - أو : رش عليه الحكمة - قال : فأصبح ينطق بها .
قال سعيد : فسمعت عن قتادة يقول : قيل للقمان : كيف اخترت الحكمة على النبوة وقد خَيَّرك ربك ؟ فقال : إنه لو أرسل إليَّ بالنبوة عَزْمَة لرجوت فيه الفوز منه ، ولكنت أرجو أن أقوم بها ، ولكنه خَيّرني فخفت أن أضعف عن النبوة ، فكانت الحكمة أحب إليَّ .
فهذا من رواية سعيد بن بشير ، وفيه ضعف قد تكلموا فيه بسببه ، فالله أعلم .
والذي رواه سعيد بن أبي عَرُوبة ، عن قتادة ، في قوله تعالى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ } أي : الفقه في الإسلام ، ولم يكن نبيًا ، ولم يوح إليه .
وقوله : { وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ } أي : الفهم والعلم والتعبير ، { أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ } أي : أمرناه أن يشكر الله ، عز وجل ، على ما أتاه الله ومنحه ووهبه من الفضل ، الذي خصَّه{[22945]} به عمن سواه من أبناء جنسه وأهل زمانه .
ثم قال تعالى : { وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ } أي : إنما يعود نفع ذلك وثوابه على الشاكرين {[22946]} لقوله{[22947]} تعالى : { وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلأنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ } [ الروم : 44 ] .
وقوله : { وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ } أي : غني عن العباد ، لا يتضرر بذلك ، ولو كفر أهل الأرض كلهم جميعًا ، فإنه الغني عمن سواه ؛ فلا إله إلا الله ، ولا نعبد إلا إياه .
الواو عاطفة قصة لقمان على قصة النضر بن الحارث المتقدمة في قوله تعالى { ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله } [ لقمان : 6 ] باعتبار كونها تضمنت عجيب حاله في الضلالة من عنايته بلهو الحديث ليضل عن سبيل الله ويتخذ سبيل الله هزؤاً ، وباعتبار كون قصة لقمان متضمنة عجيب حال لقمان في الاهتداء والحكمة ، فهما حالان متضادان ؛ فقُطِع النظر عن كون قصة النضر سيقت مساق المقدمة والمدخل إلى المقصود لأن الكلام لما طال في المقدمة خرجت عن سَنن المقدمات إلى المقصودات بالذات فلذلك عطفت عطفَ القصص ولم تُفصل فَصْل النتائج عقب مقدماتها . وقد تتعدد الاعتبارات للأسلوب الواحد فيتخير البليغ في رعيها كقوله تعالى { يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبناءكم } في سورة البقرة ( 49 ) ، { ويذبحون أبناءكم } في سورة [ إبراهيم : 1 ] . وافتتاح القصة بحرفي التوكيد : لام القسم و ( قد ) للإنباء بأنها خبر عن أمر مهم واقع .
و { لقمان } اسم رجل حكيم صالح ، وأكثر الروايات في شأنه التي يعضد بعضها وإن كانت أسانيدها ضعيفة تقتضي أنه كان من السود ، فقيل هو من بلاد النوبة ، وقيل من الحبشة .
وليس هو لقمان به عاد الذي قال المثل المشهور : إحدى حُظيات لقمان . والذي ذكره أبو المهوش الأسدي أو يزيد بن عمر يصعق في قوله :
تراه يطوف الآفاق حرصاً *** ليأكل رأس لقمان بن عاد
ويعرف ذلك بلقمان صاحب النسور ، وهو الذي له ابن اسمه لقيم{[321]} وبعضهم ذكر أن اسم أبيه باعوراء ، فسبق إلى أوهام بعض المؤلفين{[322]} أنه المسمى في كتب اليهود بلعام بن باعوراء المذكور خبره في « الإصحاحين » ( 22 و23 ) من « سفر العدد » ، ولعل ذلك وهَم لأن بلعام ذلك رجل من أهل مَدْيَن كان نبيئاً في زمن موسى عليه السلام ، فلعل التوهم جاء من اتحاد اسم الأب ، أو من ظن أن بلعام يرادف معنى لقمان لأن بلعام من البلع ولقمان من اللّقم فيكون العرب سموه بما يرادف اسمه في العبرانية . وقد اختلف السلف في أن لقمان المذكور في القرآن كان حكيماً أو نبيئاً . فالجمهور قالوا : كان حكيماً صالحاً . واعتمد مالك في « الموطأ » على الثاني ، فذكره في « جامع الموطأ » مرتين بوصف لقمان الحكيم ، وذلك يقتضي أنه اشتهر بذلك بين علماء المدينة . وذكر ابن عطية : أن ابن عمر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " لم يكن لقمان نبيئاً ولكن كان عبداً كثير التفكر حسنَ اليقين أحبَّ الله تعالى فأحبه فمنَّ عليه بالحكمة " ويظهر من الآيات المذكورة في قصته هذه أنه لم يكن نبيئاً لأنه لم يمتن عليه بوحي ولا بكلام الملائكة . والاقتصارُ على أنه أوتي الحكمة يومىء إلى أنه أُلهم الحكمة ونطق بها ، ولأنه لما ذكر تعليمه لابنه قال تعالى : { وهو يعظه } [ لقمان : 13 ] وذلك مؤذن بأنه تعليم لا تبليغ تشريع .
وذهب عكرمة والشعبي : أن لقمان نبيء ولفظ الحكمة يسمح بهذا القول لأن الحكمة أطلقت على النبوءة في كثير من القرآن كقوله في داود { وءاتيناه الحكمة وفصلَ الخطاب } [ ص : 20 ] . وقد فسرت الحكمة في قوله تعالى { ومن يُؤْت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً } [ البقرة : 269 ] بما يشمل النبوءة . وأن الحكمة « معرفة حقائق الأشياء على ما هي عليه » وأعلاها النبوءة لأنها علم بالحقائق مأمون من أن يكون مخالفاً لما هي عليه في نفس الأمر إذ النبوءة متلقاة من الله الذي لا يعزب عن عمله شيء . وسيأتي أن إيراد قوله تعالى { ووصينا الإنسان بوالديه } [ لقمان : 14 ] في أثناء كلام لقمان يساعد هذا القول .
وذكر أهل التفسير والتاريخ أنه كان في زمن داود . وبعضهم يقول : إنه كان ابن أخت أيوب أو ابن خالته ، فتعين أنه عاش في بلاد إسرائيل . وذكر بعضهم أنه كان عبداً فأعتقه سيده ، وذكر ابن كثير عن مجاهد : أن لقمان كان قاضياً في بني إسرائيل في زمان داود عليه السلام ، ولا يوجد ذكر ذلك في كتب الإسرائيليين . قيل كان راعياً لغنم وقيل كان نجاراً وقيل خياطاً . وفي « تفسير ابن كثير » عن ابن وهب أن لقمان كان عبداً لبني الحسحاس وبنو الحسحاس من العرب وكان من عبيدهم سحيم العبد الشاعر المخضرم الذي قتل في مدة عثمان .
وحكمة لقمان مأثورة في أقواله الناطقة عن حقائق الأحوال والمقرّبة للخفيات بأحسن الأمثال . وقد عني بها أهل التربية وأهل الخير ، وذكر القرآن منها ما في هذه السورة ، وذكر منها مالك في « الموطأ » بلاغين في كتاب « الجامع » وذكر حكمة له في كتاب « جامع العتبية » وذكر منها أحمد بن حنبل في « مسنده » ولا نعرف كتاباً جمع حكمة لقمان . وفي « تفسير القرطبي » قال وهب بن منبه : قرأت من حكمة لقمان أرجح من عشرة آلاف باب . ولعل هذا إن صح عن وهب بن منبه كان مبالغة في الكثرة .
وكان لقمان معروفاً عند خاصة العرب . قال ابن إسحاق في « السيرة » : قدم سويد بن الصامت أخو بني عمرو بن عوف مكة حاجّاً أو معتمراً فتصدى له رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاه إلى الإسلام فقال له سويد : فلعل الذي معك مثل الذي معي ؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم وما الذي معك ؟ قال : مجلة لقمان . فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم اعرِضها عليّ ، فعرضها عليه ، فقال : إن هذا الكلام حسن والذي معي أفضل من هذا قرآن أنزله الله . قال ابن إسحاق : فقدم المدينة فلم يلبث أن قتلته الخزرج وكان قتله قبل يوم بعاث . وكان رجال من قومه يقولون : إنّا لنراه قد قتل وهو مسلم وكان قومه يدْعُونه الكامل اهـ . وفي « الاستيعاب » لابن عبد البر : أنا شَاكّ في إسلامه كما شك غيري .
وقد تقدم في صدر الكلام على هذه السورة أن قريشاً سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لقمان وابنه وذلك يقتضي أنه كان معروفاً للعرب . وقد انتهى إليّ حين كتابة هذا التفسير من حِكَم لقمان المأثورة ثمان وثلاثون حكمةً غير ما ذكر في هذه الآية وسنذكرها عند الفراغ من تفسير هذه الآيات .
والإيتاء : الإعطاء ، وهو مستعار هنا للإلهام أو الوحي .
و { لقمان } : اسم علَم مَادته مادة عربية مشتق من اللَّقْم ، والأظهر أن العرب عربوه بلفظ قريب من ألفاظ لغتهم على عادتهم كما عربوا شاول باسم طالوت وهو ممنوع من الصرف لزيادة الألف والنون لا للعجمة .
وتقدم تعريف الحكمة عند قوله تعالى { يؤتي الحكمة من يشاء } في سورة البقرة ( 269 ) ، وقوله { ادع إلى سبيل ربك بالحكمة } في سورة النحل ( 125 ) .
و{ أنْ } في قوله { أن اشكر لله } تفسيرية وليست تفسيراً لفعل { ءاتينا } لأنه نصب مفعوله وهو الحكمة ، فتكون { أنْ } مفسرة للحكمة باعتبار أن الحكمة هنا أقوال أوحيت إليه أو ألهمها فيكون في الحكمة معنى القول دون حروفه فيصلح أن تُفسر ب { أنْ } التفسيرية ، كما فسرت حاجة في قول الشاعر الذي لم يُعرف وهو من شواهد العربية :
إنْ تحملا حاجة لي خفّ محملها *** تستوجبا منة عندي بهــا ويَدا
أنْ تقرءان علي أسماء ويحكمـا *** منـي السلامَ وأن لا تُخبرا أحدا
والصوفية وحكماء الإشراق يرون خواطرَ الأصفياء حجة ويسمونها إلهاماً . ومال إليه جمّ من علمائنا . وقد قال قطب الدين الشيرازي في « ديباجة شرحه على المفتاح » : أما بعد إني قَد ألقي إليَّ على سبيل الإنذار ، من حضرة الملك الجبار ، بلسان الإلهام ، إلاَّ كوَهَم من الأوهام ، ما أورثني التجافيَ عن دار الغرور ، والإنابة إلى دار السرور ، الخ .
وكان أول ما لُقنه لقمان من الحكمة هو الحكمة في نفسه بأن أمره الله بشكره على ما هو محفوف به من نعم الله التي منها نعمة الاصطفاء لإعطائه الحكمة وإعداده لذلك بقابليته لها . وهذا رأس الحكمة لتضمنه النظر في دلائل نفسه وحقيقته قبل النظر في حقائق الأشياء وقبل التصدي لإرشاد غيره ، وأن أهم النظر في حقيقته هو الشعور بوجوده على حالة كاملة والشعور بموجده ومفيض الكمال عليه ، وذلك كله مقتض لشكر موجده على ذلك . وأيضاً فإن شكر الله من الحكمة ، إذ الحكمة تدعو إلى معرفة حقائق الأشياء على ما هي عليه لقصد العمل بمقتضى العلم ، فالحكيم يبث في الناس تلك الحقائق على حسب قابلياتهم بطريقة التشريع تارة والموعظة أخرى ، والتعليم لقابليه مع حملهم على العمل بما علموه من ذلك ، وذلك العمل من الشكر إذ الشكر قد عُرف بأنه صرف العبد جميع ما أنعم الله به عليه من مواهب ونِعم فيما خلق لأجله ؛ فكان شكر الله هو الأهم في الأعمال المستقيمة فلذلك كان رأس الحكمة لأن من الحكمة تقديم العلم بالأنفع على العلم بما هو دونه ؛ فالشكر هو مبدأ الكمالات علماً ، وغايتها عملاً .
وللتنبيه على هذا المعنى أعقب الله الشكر المأمور به ببيان أن فائدته لنفس الشاكر لا للمشكور بقوله { ومَن يشكر فإنما يشكر لنفسه } لأن آثار شكر الله كمالات حاصلة للشاكر ولا تنفع المشكور شيئاً لغناه سبحانه عن شكر الشاكرين ، ولذلك جيء به في صورة الشرط لتحقيق التعلق بين مضمون الشرط ومضمون الجزاء ، فإن الشرط أدل على ذلك من الإخبار . وجيء بصيغة حصر نفع الشكر في الثبوت للشاكر بقوله { فإنما يشكر لنفسه } أي ما يشكر إلا لفائدة نفسه ، ولام التعليل مؤذنة بالفائدة . وزيد ذلك تبيناً بعطف ضده بقوله { ومَن كفر فإن الله غنيّ حميد } لإفادة أن الإعراض عن الشكر بعد استشعاره كفر للنعمة وأن الله غنيّ عن شكره بخلاف شأن المخلوقات إذ يكسبهم الشكر فوائد بين بني جنسهم تجر إليهم منافع الطاعة أو الإعانة أو الإغناء أو غير ذلك من فوائد الشكر للمشكورين على تفاوت مقاماتهم ، والله غني عن جميع ذلك ، وهو { حميد } ، أي : كثير المحمودية بلسان حال الكائنات كلها حتى حال الكافر به كما قال تعالى { ولله يسجد مَن في السماوات والأرض طوعاً وكرهاً } سورة الرعد ( 15 ) .
ومن بلاغة القرآن وبديع إيجازه أن كان قوله { أن اشكر لله } جامعاً لمبدأ الحكمة التي أوتيها لقمان ، ولأمره بالشكر على ذلك ، فقد جمع قوله { أن اشكر لله } الإرشاد إلى الشكر ، مع الشروع في الأمر المشكور عليه تنبيهاً على المبادرة بالشكر عند حصول النعمة . وإنما قوبل الإعراض عن الشكر بوصف الله بأنه حميد لأن الحمد والشكر متقاربان ، وفي الحديث : « الحَمدُ رأس الشكر » فلما لم يكن في أسماء الله تعالى اسم من مادة الشكر إلا اسمه الشكور وهو بمعنى شاكر ، أي : شاكر لعباده عبادتَهم إياه عُبر هنا باسمه { حميد } . وجيء في فعل { يشكر } بصيغة المضارع للإيماء إلى جدارة الشكر بالتجديد .
واللام في قوله { أن اشكر لي } [ لقمان : 14 ] داخلة على مفعول الشكر وهي لام ملتزم زيادتها مع مادة الشكر للتأكيد والتقوية ، وتقدم في قوله { واشكُرُوا لي } في سورة البقرة ( 152 ) .