{ 23 - 25 } { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ * وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ * إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ }
لما ذكر تعالى ، آياته التي ذكر بها عباده ، وهو : القرآن ، الذي أنزله على محمد صلى اللّه عليه وسلم ، ذكر أنه ليس ببدع من الكتب ، ولا من جاء به ، بغريب من الرسل ، فقد آتى الله موسى الكتاب الذي هو التوراة المصدقة للقرآن ، التي قد صدقها القرآن ، فتطابق حقهما ، وثبت برهانهما ، { فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ } لأنه قد تواردت أدلة الحق وبيناته ، فلم يبق للشك والمرية ، محل .
{ وَجَعَلْنَاهُ } أي : الكتاب الذي آتيناه موسى { هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ } يهتدون به في أصول دينهم ، وفروعه{[685]} وشرائعه موافقة لذلك الزمان ، في بني إسرائيل .
وأما هذا القرآن الكريم ، فجعله اللّه هداية للناس كلهم ، لأنه هداية للخلق ، في أمر دينهم ودنياهم ، إلى يوم القيامة ، وذلك لكماله وعلوه { وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ }
ثم أشارت السورة الكريمة بعد ذلك إلى ما أعطاه الله - تعالى - لنبيه موسى - عليه السلام - من نعم . وما منحه للصالحين من قومه من منن ، فقال - تعالى - : { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الكتاب . . . فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } .
والمراد بالكتاب فى قوله - تعالى - : { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الكتاب } التوراة التى أنزلها سبحانه - لتكون هداية لبنى إسرائيل .
قالوا : وإنما ذكر موسى لقربه من النبى صلى الله عليه وسلم ووجود من كان على دينه إلزاماً لهم . إنما لم يختر عيسى - عليه السلام - للذكر وللاستدلال ، لأن اليهود ما كانوا يوافقون على نبوته ، وأما النصارى فكانوا يعترفون بنبوة موسى - عليه السلام - .
والضمير المجرور فى قوله : { فَلاَ تَكُن فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَآئِهِ } يعود إلى موسى على أرجح لأقوال - أو إلى الكتاب .
أى : أتينا موسى الكتاب فلا تكن - أيها الرسول الكريم - فى مرية أو شك من لقاء وسى للكتاب الذى أوحيناه إليه ، بقبول ورضا وتحمل لتكاليف الدعوة به ، فكن مثله فى لك ، وبلغ ما أنزل إليك من ربك دون ان تخشى أحداً سواه .
قال الآلوسى ما ملخصه : قوله : { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الكتاب } أى : جنس الكتاب { فَلاَ تَكُن فِي مِرْيَةٍ } أى : شك { مِّن لِّقَآئِهِ } أى : من لقائه ذلك الجنس .
وحمل بعضهم { الكتاب } على العهد ، أى الكتاب المعهود وهو التوراة .
ونهيه صلى الله عليه وسلم عن أن يكون فى شك ، المقصود به أمته ، والتعريض بمن اتصف بذلك . وقيل الكتاب ، المراد به التوراة ، وضمير ، لقائه ، عائد إليه من غير تقدير مضاف . ولقاء صدر مضاف إلى مفعوله موسى . أى : فلا تكن فى مرية من لقاء موسى الكتاب ، ومضاف إلى فاعله ، ومفعوله موسى . أى : من لقاء الكتاب موسى ووصوله إليه . .
وهذا الرأى الأخير الذى عبر عنه الآلوسى - رحمه الله - بقوله " وقيل " وهو فى رأينا رجح الآراء ، وأقربها إلى الصواب ، لبعده عن التكلف .
قال الجمل فى حاشيته ، بعد أن ساق ستة أقوال فى عودة الضمير فى قوله { مِّن لِّقَآئِهِ } : وأظهرها أن الضمير إما لموسى وإما للكتاب . أى : لا ترتب فى أن موسى لقى الكتاب أنزل عليه .
قال صاحب الكشاف : والضمير فى " لقائه " له - أى لموسى - ، ومعناه : إنا آتينا موسى - عليه السلام - مثل ما آتيناك من الكتب ، ولقيناه مثل ما لقيناك من الوحى ، فلا تكن فى شك من أنك لقيت مثله ، ولقيت نظيره كقوله - تعالى - : { فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الذين يَقْرَءُونَ الكتاب مِن قَبْلِكَ } .
وقوله - تعالى - : { وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لبني إِسْرَائِيلَ } أى : وجعلنا الكتاب الذى أنزلناه على نبينا موسى - عليه السلام - هداية لبنى إسرائيل إلى طريق الحق والسداد .
وتنتهي تلك الجولة مع مصائر المجرمين والصالحين ، وعواقب المؤمنين والفاسقين ، ومشاهد هؤلاء وهؤلاء في اليوم الذي يشكون فيه ويستريبون . ثم يأخذ سياق السورة في جولة جديدة مع موسى وقومه ورسالته . جولة مختصرة لا تزيد على إشارة إلى كتاب موسى - عليه السلام - الذي جعله الله هدى لبني إسرائيل ؛ كما جعل القرآن كتاب محمد [ صلى الله عليه وسلم ] هدى للمؤمنين . وإلى التقاء صاحب القرآن مع صاحب التوراة على الأصل الواحد والعقيدة الثابتة . وإلى اصطفاء الصابرين الموقنين من قوم موسى ليكونوا أئمة لقومهم إيحاء للمسلمين في ذلك الحين بالصبر واليقين ، وبيانا للصفة التي تستحق بها الإمامة في الأرض والتمكين :
( ولقد آتينا موسى الكتاب - فلا تكن في مرية من لقائه وجعلناه هدى لبني إسرائيل . وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون . إن ربك هو يفصل بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون ) . .
وتفسير هذه العبارة المعترضة : ( فلا تكن في مرية من لقائه )على معنى تثبيت الرسول صلى الله عليه وسلم على الحق الذي جاء به ؛ وتقرير أنه الحق الواحد الثابت الذي جاء به موسى في كتابه ؛ والذي يلتقي عليه الرسولان ويلتقي عليه الكتابان . . هذا التفسير أرجح عندي مما أورده بعض المفسرين من أنها إشارة إلى لقاء النبي [ صلى الله عليه وسلم ] لموسى عليه السلام في ليلة الإسراء والمعراج .
يقول تعالى مخبرًا عن عبده ورسوله موسى ، عليه السلام ، أنه آتاه الكتاب وهو التوراة .
وقوله : { فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ } : قال قتادة : يعني به ليلة الإسراء . {[23152]} ثم روي عن أبي العالية الرّياحي قال : حدثني ابن عم نبيكم - يعني ابن عباس - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أُريتُ ليلة أسري بي موسى بن عمران ، رجلا آدم طُوَالا جَعْدًا ، كأنه من رجال شَنُوءة . ورأيت عيسى رجلا مربوع الخلق ، إلى الحمرة والبياض ، مبسط الرأس ، ورأيت مالكًا خازن النار والدجال ، في آيات أراهن الله إياه » ، { فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ } ، أنه قد رأى موسى ، ولقي موسى ليلة أسري به . {[23153]}
وقال الطبراني : حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة ، حدثنا الحسن بن علي الحُلْوَاني ، حدثنا روح بن عبادة ، حدثنا سعيد بن أبي عَرُوبَة ، عن قتادة ، عن أبي العالية ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : { وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ } ، قال : جُعل موسى هُدى لبني إسرائيل ، وفي قوله : { فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ } قال : من لقاء موسى ربه عز وجل . {[23154]}
وقوله : { وَجَعَلْنَاهُ } أي : الكتاب الذي آتيناه { هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ } ، [ كما قال تعالى في سورة الإسراء : { وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلا } [ الإسراء : 2 ] .
قرأ الناس «في مِرية » بكسر الميم ، وقرأ الحسن بضمها ، واختلف المتأولون في الضمير الذي في { لقائه } على من يعود ؛ فقال أبو العالية الرياحي وقتادة : يعود على موسى ، والمعنى لا تكن في شك من أن تلقى موسى ، أي في ليلة الإسراء ، وهذا قول جماعة من السلف ، وقاله المبرد حين امتحن ابا إسحاق الزجاج بهذه المسألة ، وقالت فرقة الضمير عائد على { الكتاب } أي أنه لقي موسى حين لقيه موسى ، والمصدر في هذا التأويل يصح أن يكون مضافاً للفاعل بمعنى لقي الكتاب موسى ، ويصح أن يكون مضافاً إلى المفعول بمعنى لقي الكتابَ - بالنصب - موسى ، وقال الحسن الضمير عائد على ما يتضمنه القول من الشدة والمحنة التي لقي موسى ، وذلك أن إخباره بأنه آتى موسى الكتاب كأنه قال { ولقد آتينا موسى } هذا العبء الذي أنت بسبيله فلا تمتر أنك تلقى ما لقي هو من المحنة بالناس ، وكأن الآية تسلية لمحمد صلى الله عليه وسلم ، وقالت فرقة معناه فلا تكن في شك من لقائه في الآخرة .
قال الفقيه الإمام القاضي : وهذا قول ضعيف ، وقالت فرقة الضمير العائد على { ملك الموت } [ السجدة : 11 ] الذي تقدم ذكره ، وقوله { فلا تكن في مرية من لقائه } اعتراض بين الكلامين .
لما جرى ذكر إعراض المشركين عن آيات الله وهي آيات القرآن في قوله { ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها } [ السجدة : 22 ] ، استطرد إلى تسلية النبي صلى الله عليه وسلم بأن ما لقي من قومه هو نظير ما لقيه موسى من قوم فرعون الذين أرسل إليهم فالخبر مستعمل في التسلية بالتنظير والتمثيل . فهذه الجملة وما بعدها إلى قوله { فيما كانوا فيه يختلفون } [ السجدة : 25 ] معترضات . وموقع التأكيد بلام القسم وحرف التحقيق هو ما استعمل فيه الخبر من التسلية لا لأصل الأخبار لأنه أمر لا يحتاج إلى التأكيد ، وبه تظهر رشاقة الاعتراض بتفريع { فلا تكن في مرية من لقائه } على الخبر الذي قبله .
وأريد بقوله { ءاتينا موسى الكتاب } أرسلنا موسى ، فذِكر إيتائه الكتاب كناية عن إرساله ، وإدماج ذكر { الكتاب } للتنويه بشأن موسى وليس داخلاً في تنظير حال الرسول صلى الله عليه وسلم بحال موسى عليه السلام في تكذيب قومه إياه لأن موسى لم يكذبه قومه ألا ترى إلى قوله تعالى : { وجعلناه هدى لبني إسرائيل } الآيات ، وليتأتى من وفرة المعاني في هذه الآية ما لا يتأتى بدون ذِكر { الكتاب .
وجملة { فلا تكن في مرية من لقائه } معترضة وهو اعتراض بالفاء ، ومثله وارد كثيراً في الكلام كما تقدم عند قوله تعالى : { إن يكن غنياً أو فقيراً فالله أولى بهما } الآية في سورة النساء ( 135 ) . ويأتي عند قوله تعالى : { هذا فليذوقوه حميمٌ وغساق } في سورة ص ( 57 ) .
والمرية : الشك والتردد . وحرف الظرفية مجاز في شدة الملابسة ، أي لا يكن الشك محيطاً بك ومتمكناً منك ، أي لا تكن ممترياً في أنك مثله سينالك ما نالَه من قومه .
والخطاب يجوز أن يكون للنبيء ، فالنهي مستعمل في طلب الدوام على انتفاء الشك فهو نهي مقصود منه التثبيت كقوله { فلا تك في مرية مما يعبد هؤلاء } [ هود : 109 ] ، وليس لطلب إحداث انكفاف عن المرية لأنها لم تقع من قبل .
واللقاء : اسم مصدر لَقِيَ وهو الغالب في الاستعمال دون لِقى الذي هو المصدر القياسي . واللقاء : مصادفة فاعل هذا الفعل مفعولَه ، ويطلق مجازاً على الإصابة كما يقال : لقيت عناء ، ولقيت عَرق القِربة ، وهو هنا مجاز ، أي لا تكن في مرية في أن يصيبك ما أصابه ، وضمير الغائب عائد إلى موسى . واللقاء مصدر مضاف إلى فاعله ، أي مما لقي موسى من قوم فرعون من تكذيب ، أي من مثل ما لقي موسى ، وهذا المضاف يدل عليه المقام أو يكون جارياً على التشبيه البليغ كقوله : هو البدر ، أي : من لقاء كلقائه ، فيكون هذا في معنى آيات كثيرة في هذا المعنى وردت في القرآن كقوله تعالى : { ولقد استُهْزِىء برُسُل من قبلك } [ الأنعام : 10 ] { فصبَروا على ما كُذّبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا } [ الأنعام : 34 ] ، وقوله : { وإن كادوا لَيَسْتَفِزُّونك من الأرض لِيُخرِجُوك منها وإذاً لا يلبثون خَلْفَك إلا قليلاً سُنَّةَ من قد أرسلنا من قبلك من رُسُلِنا } [ الإسراء : 76 ، 77 ] . هذا أحسن تفسير للآية وقريب منه مأثور عن الحسن .
ويجوز أن يكون ضمير { لقائه } عائداً إلى موسى على معنى : من مثل ما لقي موسى من إرساله وهو أن كانت عاقبة النصر له على قوم فرعون ، وحصول الاهتداء بالكتاب الذي أوتيه ، وتأييده باهتداء بني إسرائيل ، فيكون هذا المعنى بشارة للنبيء صلى الله عليه وسلم بأن الله سيظهر هذا الدين . ويجوز أن يكون ضمير { لقائه } عائداً إلى الكتاب كما في « الكشاف » لكن على أن يكون المعنى : فلا تكن في شك من لقاء الكتاب ، أي من أن تلقى من إيتائك الكتاب ما هو شنشنة تلقِّي الكتب الإلهية كما تلقاها موسى . فالنهي مستعمل في التحذير ممن ظن أن لا يلحقه في إيتاء الكتاب من المشقة ما لقيه الرسل من قبله ، أي من جانب أذى قومه وإعراضهم . ويجوز أن يكون الخطاب في قوله { فلا تكن } لغير معين وهو موجه للذين امتروا في أن القرآن أنزل من عند الله سواء كانوا المشركين أو الذين يلقنونهم من أهل الكتاب ، أي لا تمتروا في إنزال القرآن على بشر فقد أنزل الكتاب على موسى فلا تكونوا في مرية من إنزال القرآن على محمد . وهذا كقوله تعالى : { إذ قالوا ما أنزل الله على بشر مِن شيء قل مَن أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نوراً وهدى للناس } [ الأنعام : 91 ] . فالنهي مستعمل في حقيقته من طلب الكف عن المرية في إنزال القرآن . وللمفسرين احتمالات أخرى كثيرة لا تسفر عن معنى بيِّن ، ومن أبعدها حمل اللقاء على حقيقته وعود ضمير الغائب لموسى وأن المراد لقاؤه ليلة الإسراء وعَده الله به وحقَّقه له في هذه الآية قبل وقوعه . قال ابن عطية : وقال المبرد حين امتحن أبا إسحاق الزجاج بهذه المسألة
وضمير النصب في { وجعلناه هدى } يجوز أن يعود على الكتاب أو على موسى وكلاهما سبب هدى ، فوصف بأنه هدى للمبالغة في حصول الاهتداء به وهو معطوف على { ءاتينا موسى الكتاب } وما بينهما اعتراض . وهذا تعريض بالمشركين إذ لم يشكروا نعمة الله على أن أرسل إليهم محمد بالقرآن ليهتدوا فأعرضوا وكانوا أحق بأن يحرصوا على الاهتداء بالقرآن وبهدي محمد صلى الله عليه وسلم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
أعطينا موسى صلى الله عليه وسلم التوراة.
{فلا تكن} يا محمد {في مرية من لقائه}: لا تكن في شك من لقاء موسى، عليه السلام، التوراة، فإن الله عز وجل ألقى الكتاب عليه، يعني التوراة حقا.
{وجعلناه هدى} يعني التوراة هدى {لبني إسرائيل} من الضلالة.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ولقد آتينا موسى التوراة، كما آتيناك الفرقان يا محمد، "فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ "يقول: فلا تكن في شكّ من لقائه، فكان قتادة يقول: معنى ذلك: فلا تكن في شكّ من أنك لقيته، أو تلقاه ليلة أُسري بك، وبذلك جاء الأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة عن أبي العالية الرياحي، قال: حدثنا ابن عمّ نبيكم، يعني ابن عباس، قال: قال نبيّ الله صلى الله عليه وسلم: «أُرِيتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ رَجُلاً آدَمَ طوَالاً جَعْدا، كأنّهُ مِنْ رِجالِ شَنُوءَةَ، ورأيْتُ عِيسَى رَجُلاً مَربُوعَ الخَلْقِ إلى الحُمْرَةِ والبَياضِ، سَبْطَ الرأسِ، ورأيْتُ مالِكا خازِنَ النّارِ، والدّجّالَ» في آيات أرَاهُنّ اللّهُ إيّاهُ، "فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ" أنه قد رأى موسى، ولقي موسى ليلة أُسري به.
وقوله: "وَجَعَلْناهُ هُدًى لِبَنِي إسْرائِيلَ" يقول تعالى ذكره: وجعلنا موسى هدى لبني إسرائيل، يعني: رشادا لهم يرشدون باتباعه، ويصيبون الحقّ بالاقتداء به، والائتمام بقوله.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{فلا تكن في مرية من لقائه} أي من أن تلقاه يوم القيامة.
يحتمل قوله {هدى لبني إسرائيل} وجهين:
أحدهما: البيان: أي جعلناه بيانا لهم، يبين ما لهم وما عليهم وما لله عليهم.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{الكتاب} للجنس والضمير في {لّقَائِهِ} له. ومعناه: إنا آتينا موسى عليه السلام مثل ما آتيناك من الكتاب، ولقيناه مثل ما لقيناك من الوحي، فلا تكن في شك من أنك لقيت مثله ولقيت نظيره كقوله تعالى: {فَإِن كُنتَ فِي شَكّ مّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الذين يَقْرَءونَ الكتاب مِن قَبْلِك} [يونس: 94] ونحو قوله: {مّن لّقَائِهِ} وقوله: {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى القرءان مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ} [النمل: 6] وقوله: {وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ القيامة كِتَابًا يلقاه مَنْشُوراً} [الإسراء: 13]. وجعلنا الكتاب المنزل على موسى عليه السلام {هُدًى} لقومه.
يحتمل أن تكون الآية واردة لا للتقرير بل لتسلية النبي عليه السلام، فإنه لما أتى بكل آية وذكر بها وأعرض عنها قومه حزن عليهم، فقيل له تذكر حال موسى ولا تحزن فإنه لقي ما لقيت وأوذي كما أوذيت، وعلى هذا فاختيار موسى عليه السلام لحكمة، وهي أن أحدا من الأنبياء لم يؤذه قومه إلا الذين لم يؤمنوا به، وأما الذين آمنوا به فلم يخالفوه غير قوم موسى، فإن من لم يؤمن به آذاه مثل فرعون وغيره، ومن آمن به من بني إسرائيل أيضا آذاه بالمخالفة، وطلب أشياء منه مثل طلب رؤية الله جهرة، ومثل قوله: {اذهب أنت وربك فقاتلا}.
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
والمعنى إنَّا آتينا مُوسى مثلَ ما آتيناك من الكتابِ ولقَّيناه من الوحيِ مثلَ ما لقَّيناك من الوحيِ فلا تكُن في شكَ من أنَّك لقيتَ مثلَه ونظيرَه.
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
وخلاصة ما تؤذن به الفاء التفريعية أن معرفتك بأن موسى عليه السلام أوتي التوراة ينبغي أن تكون سبباً لإزالة الريب عنك في أمر كتابك؛ ونهيه عليه الصلاة والسلام عن أن يكون في شك،المقصود منه نهى أمته صلى الله عليه وسلم والتعريض بمن اتصف بذلك، وفي التعبير باللقاء دون الإيتاء من تعظيم شأنه صلى الله عليه وسلم ما لا يخفى على المتدبر.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} يهتدون به في أصول دينهم، وفروعه وشرائعه موافقة لذلك الزمان، في بني إسرائيل.
وأما هذا القرآن الكريم، فجعله اللّه هداية للناس كلهم، لأنه هداية للخلق، في أمر دينهم ودنياهم، إلى يوم القيامة، وذلك لكماله وعلوه {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ}
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وتفسير هذه العبارة المعترضة: (فلا تكن في مرية من لقائه) على معنى تثبيت الرسول صلى الله عليه وسلم على الحق الذي جاء به؛ وتقرير أنه الحق الواحد الثابت الذي جاء به موسى في كتابه؛ والذي يلتقي عليه الرسولان ويلتقي عليه الكتابان.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{ءاتينا موسى الكتاب} أرسلنا موسى، فذِكر إيتائه الكتاب كناية عن إرساله، وإدماج ذكر {الكتاب} للتنويه بشأن موسى، وليس داخلاً في تنظير حال الرسول صلى الله عليه وسلم بحال موسى عليه السلام في تكذيب قومه إياه، لأن موسى لم يكذبه قومه ألا ترى إلى قوله تعالى: {وجعلناه هدى لبني إسرائيل} الآيات، وليتأتى من وفرة المعاني في هذه الآية ما لا يتأتى بدون ذِكر {الكتاب.
واللقاء: اسم مصدر لَقِيَ وهو الغالب في الاستعمال دون لِقى الذي هو المصدر القياسي. واللقاء: مصادفة فاعل هذا الفعل مفعولَه، ويطلق مجازاً على الإصابة كما يقال: لقيت عناء، ولقيت عَرق القِربة، وهو هنا مجاز، أي لا تكن في مرية في أن يصيبك ما أصابه، وضمير الغائب عائد إلى موسى. واللقاء مصدر مضاف إلى فاعله، أي مما لقي موسى من قوم فرعون من تكذيب، أي من مثل ما لقي موسى، وهذا المضاف يدل عليه المقام، أو يكون جارياً على التشبيه البليغ كقوله: هو البدر، أي: من لقاء كلقائه، فيكون هذا في معنى آيات كثيرة في هذا المعنى وردت في القرآن كقوله تعالى: {ولقد استُهْزِئ برُسُل من قبلك} [الأنعام: 10] {فصبَروا على ما كُذّبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا} [الأنعام: 34]، وقوله: {وإن كادوا لَيَسْتَفِزُّونك من الأرض لِيُخرِجُوك منها وإذاً لا يلبثون خَلْفَك إلا قليلاً سُنَّةَ من قد أرسلنا من قبلك من رُسُلِنا} [الإسراء: 76، 77]. هذا أحسن تفسير للآية وقريب منه مأثور عن الحسن.
ويجوز أن يكون ضمير {لقائه} عائداً إلى موسى على معنى: من مثل ما لقي موسى من إرساله وهو أن كانت عاقبة النصر له على قوم فرعون، وحصول الاهتداء بالكتاب الذي أوتيه، وتأييده باهتداء بني إسرائيل، فيكون هذا المعنى بشارة للنبيء صلى الله عليه وسلم بأن الله سيظهر هذا الدين.
وللمفسرين احتمالات أخرى كثيرة لا تسفر عن معنى بيِّن، ومن أبعدها حمل اللقاء على حقيقته وعود ضمير الغائب لموسى وأن المراد لقاؤه ليلة الإسراء وعَده الله به وحقَّقه له في هذه الآية قبل وقوعه.
وضمير النصب في {وجعلناه هدى} يجوز أن يعود على الكتاب أو على موسى وكلاهما سبب هدى، فوصف بأنه هدى للمبالغة في حصول الاهتداء به، وهو معطوف على {ءاتينا موسى الكتاب} وما بينهما اعتراض.
وهذا تعريض بالمشركين إذ لم يشكروا نعمة الله على أن أرسل إليهم محمد بالقرآن ليهتدوا، فأعرضوا وكانوا أحق بأن يحرصوا على الاهتداء بالقرآن وبهدي محمد صلى الله عليه وسلم.