السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَلَقَدۡ ءَاتَيۡنَا مُوسَى ٱلۡكِتَٰبَ فَلَا تَكُن فِي مِرۡيَةٖ مِّن لِّقَآئِهِۦۖ وَجَعَلۡنَٰهُ هُدٗى لِّبَنِيٓ إِسۡرَـٰٓءِيلَ} (23)

ولما قرر الأصول الثلاثة وعاد إلى الأصل الذي بدأ به وهو الرسالة المذكورة في قوله تعالى { لتنذر قوماً ما أتاهم من نذير } ( القصص : 46 ) بين أنه ليس بدعا من الرسل بقوله تعالى : { ولقد آتينا موسى الكتاب } أي : الجامع للأحكام وهو التوراة فكان قبلك رسل مثلك ، وذكر موسى عليه السلام لقربه من النبي صلى الله عليه وسلم وهو أول من أنزل عليه كتاب من أنبياء بني إسرائيل بعد فترة كثيرة من الأنبياء بينه وبين يوسف عليهما السلام ، ولم يختر عيسى عليه السلام للذكر والاستدلال لأن اليهود ما كانوا يوافقون على نبوته وأما النصارى فكانوا يعترفون بنبوءة موسى عليه السلام فذكر المجمع عليه { فلا تكن في مريه } واختلف في الهاء في قوله تعالى { من لقائه } على أقوال : أحدها : أنها عائدة على موسى عليه السلام والمصدر مضاف لمفعوله أي : من لقائك موسى ليلة الإسراء .

وامتحن المبرد الزجاج في هذه المسألة فأجاب بما ذكر قال ابن عباس وغيره : المعنى فلا تكن في شك من لقاء موسى فإنك تراه وتلقاه ، روى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «رأيت ليلة أسري بي موسى رجلا آدم طوالاً جعداً كأنه من رجال شنوءة ، ورأيت عيسى رجلاً مربوعاً إلى الحمرة والبياض سبط الرأس ، ورأيت مالكاً خازن النار والدجال في آيات آراهن الله إياه » وعن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أتيت على موسى ليلة أسري بي عند الكثيب الأحمر وهو يصلي في قبره » ، فإن قيل : قد صح في حديث المعراج أنه رآه في السماء السادسة ومراجعته في أمر الصلاة ، فكيف الجمع بين هذين الحديثين .

أجيب : بأنه يحتمل أن تكون رؤيته في قبره عند الكثيب الأحمر قبل صعوده إلى السماء وذلك في طريقه إلى بيت المقدس ، فلما صعد إلى السماء السادسة وجده هناك قد سبقه لما يريده الله تعالى وهو على كل شيء قدير .

فإن قيل : كيف تصح منه الصلاة في قبره وهو ميت وقد سقط عنه التكليف وهو في الدار الآخرة وهي ليست دار عمل ، وكذلك رأى النبي صلى الله عليه وسلم جماعة من الأنبياء وهم يحجون ؟ أجيب عن ذلك بأجوبة : الأول : أن الأنبياء أفضل من الشهداء ، والشهداء أحياء عند ربهم فلا يبعد أن يحجوا ويصلوا كما صح في الحديث ، وأن يتقربوا إلى الله تعالى بما استطاعوا لأنهم وإن كانوا قد توفوا لكنهم بمنزلة الأحياء في هذه الدار التي هي دار العمل إلى أن تفنى ويفضوا إلى دار الجزاء التي هي الجنة .

الجواب الثاني : أنه صلى الله عليه وسلم رأى حالهم التي كانوا عليها في حياتهم ومثلوا له كيف كانوا وكيف كان حجهم وصلاتهم . الجواب الثالث : أن التكليف وإن ارتفع عنهم في الآخرة لكن الذكر والشكر والدعاء لا يرتفع قال الله تعالى { دعواهم فيها سبحانك اللهم } ( يونس : 10 ) وقال صلى الله عليه وسلم : «يلهمون التسبيح كما تلهمون النفس » فالعبد يعبد ربه تعالى في الجنة أكثر ما كان يعبده في دار الدنيا ، وكيف لا يكون ذلك وقد صار مثل حال الملائكة الذين قال الله تعالى في حقهم { يسبحون الليل والنهار لا يفترون } ( الأنبياء : 20 ) .

غاية ما في الباب أن العبادة ليست عليهم بتكليف بل هي مقتضى الطبع . ثانيها : أن الضمير يعود إلى الكتاب وحينئذ يجوز أن تكون الإضافة للفاعل أي : من لقاء الكتاب لموسى أو المفعول أي : من لقاء موسى الكتاب لأن اللقاء تصح نسبته إلى كل منهما ؛ لأن من لقيك فقد لقيته . قال السدي : المعنى فلا تكن في مرية من لقائه أي : تلقى موسى كتاب الله تعالى بالرضا والقبول . ثالثها : أنه يعود على الكتاب على حذف مضاف أي : من لقاء مثل كتاب موسى .

رابعها : أنه عائد على ملك الموت عليه السلام لتقدم ذكره . خامسها : عوده على الرجوع المفهوم من قوله { إلى ربكم ترجعون } أي : لا تكن في مرية من لقاء الرجوع . سادسها : أنه يعود على ما يفهم من سياق الكلام مما ابتلي به موسى من الابتلاء والامتحان قاله الحسن أي : لا بد أن تلقى ما لقي موسى من قومه ، واختار موسى عليه السلام الحكمة وهي أن أحداً من الأنبياء لم يؤذه من قومه إلا الذين لم يؤمنوا ، وأما الذين آمنوا به فلم يخالفوه غير قوم موسى عليه السلام فإن من لم يؤمن به آذاه كفرعون ، ومن آمن به من بني إسرائيل آذاه أيضاً بالمخالفة ، فطلبوا أشياء مثل رؤية الله جهرة ، وكقولهم { فاذهب أنت وربك فقاتلا } ( المائدة : 24 ) وأظهر هذه الأقوال أن الضمير إما لموسى وإما للكتاب ، واختلف في الضمير أيضاً في قوله تعالى { وجعلناه } على قولين : أحدهما : يرجع إلى موسى أي : وجعلنا موسى { هدى } أي : هادياً { لبني إسرائيل } كما جعلناك هادياً لأمتك . والثاني : أنه يرجع إلى الكتاب أي : وجعلنا كتاب موسى هادياً كما جعلنا كتابك كذلك .