{ مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ } أي : لا يمكن أن يخلف ما قاله الله وأخبر به ، لأنه لا أصدق من الله قيلاً ، ولا أصدق حديثًا .
{ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ } بل أجزيهم بما عملوا من خير وشر ، فلا يزاد{[834]} في سيئاتهم ، ولا ينقص من حسناتهم .
{ مَا يُبَدَّلُ القول لَدَيَّ } أى : لا خلف لوعدى ، ولا معقب لحكمى ، بل هو كائن لا محالة ، وهو أنى : { لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجنة والناس أَجْمَعِينَ } { لَدَيَّ وَمَآ أَنَاْ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ } أى : وما أنا من شأنى أن أعذب أحدا بدون ذنب جناه . وإنا من شأنى أن أجازى الذين أساؤوا بما عملوا ، وأجازى الذين أحسنوا بالحسنى ، وأعفو عن كثير من ذنوب عبادى سوى الشرك بى .
فالمعنى الأول المكنّى عنه بُيِّن بجملة { ما يبدل القول لدى } ، أي لست مبطلاً ذلك الوعيد ، وهو القول ، إذ الوعيد من نوع القول ، والتعريف للعهد ، أي فما أوعدتكم واقع لا محالة لأن الله تعهد أن لا يغفر لمن يشرك به ويموت على ذلك . والمعنى الثاني المكنَّى عنه بُين بجملة { وما أنا بظلام للعبيد } ، أي فلذلك قدمت إليكم الوعيد .
والمبالغة التي في وصف { ظلاّم } راجعة إلى تأكيد النفي .
والمراد : لا أظلم شيئاً من الظلم ، وليس المعنى : ما أنا بشديد الظلم كما قد يستفاد من توجُّه النفي إلى المقيّد يفيد أن يتوجه إلى القيد لأن ذلك أغلبي . والأكثر في نفي أمثلة المبالغة أن يقصد بالمبالغة مبالغة النفي ، قال طرفة :
ولسْتُ بحَلاَّل التلاع مخافة *** ولكن متى يسترفد القوم أرفِد
فإنه لا يريد نفي كثرة حلوله التلاع وإنما أراد كثرة النفي .
وذكر الشيخ في « دلائل الإعجاز » توجه نفي الشيْء المقيد إلى خصوص القيد كتوجّه الإثبات سواء ، ولكن كلام التفتزاني في كتاب « المقاصد في أصول الدين » في مبحث رؤية الله تعالى أشار إلى استعمالين في ذلك ، فالأكثرُ أن النفي يتوجه إلى القيد فيكون المنفي القيد ، وقد يعتبر القيد قيداً للنفي وهذا هو التحقيق . على أني أرى أن عَدّ مثل صيغة المبالغة في عِداد القيود محل نظر فإن المعتبر من القيود هو ما كان لفظاً زائداً على اللفظ المنفي من صفة أو حال أو نحو ذلك ، ألا ترى أنه لا يحسن أن يقال : لست ظَلاّماً ، ولكن أظلم ، ويحسن أن يقال لا آتيك محارباً ولكن مسالماً .
وقد أشار في « الكشاف » إلى أن إيثار وصف { ظَلاّم } هنا إيماء إلى أن المنفي لو كان غير منفي لكان ظلماً شديداً فيفهم منه أنه لو أخذ الجاني قبلَ أن يَعرَّف أن عمله جناية لكانت مؤاخذته بها ظلماً شديداً . ولعل صاحب « الكشاف » يرمي إلى مذهبه من استواء السيئات ، والتعبير بالعبيد دون التعبير بالناس ونحوه لزيادة تقرير معنى الظلم في نفوس الأمة ، أي لا أظلم ولو كان المظلوم عبدي فإذا كان الله الذي خلق العباد قد جعل مؤاخذة من لم يسبق له تشريع ظلماً فما بالك بمؤاخذة الناس بعضهم بعضاً بالتبعات دون تقدّم إليهم بالنهي من قبل ، ولذلك يقال : لا عقوبة إلا على عمل فيه قانون سابق قبل فعله .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ما يبدل القول لدي} يعني عندي الذي قلت لكم في الدنيا من الوعيد قد قضيت ما أنا قاض {وما أنا بظلام للعبيد} يقول: لم أعذب على غير ذنب...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيله للمشركين وقرنائهم من الجنّ يوم القيامة، إذ تبرأ بعضهم من بعض: ما يغير القول الذي قلته لكم في الدنيا، وهو قوله" لأَمْلأَنّ جَهَنّمَ مِنَ الجِنّةِ وَالنّاسِ أجمَعِينَ"، ولا قضائي الذي قضيته فيهم فيها... وقوله: "وَما أنا بِظَلاّمٍ للْعَبِيدِ "يقول: ولا أنا بمعاقب أحدا من خلقي بجرم غيره، ولا حامل على أحد منهم ذنب غيره فمعذّبه به.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
أحدها: ما يبدّل ما استحق كل واحد منكم من العذاب والثواب ما سبق مني من الوعد والوعيد في الدنيا بأن أجعل جزاء الكافر الجنة وجزاء المؤمن النار؛ إذ قد سبق مني وعدي ووعيدي بأن أجعل الجنة مثوى المؤمنين والنار مثوى الكافرين، فلا يبدّل ذلك الوعد والوعيد.
والثاني: {ما يبدّل القول لديّ} يحتمل أنه أراد به قوله: {لأملأن جهنم من الجِنة والناس أجمعين} [هود: 119 والسجدة: 13].
والثالث: أي لا يبدّل اليوم ما يستوجب به الجنة والخلود فيها، وهو الإيمان عن غيب كما أخبر تعالى، عز وجل {من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب} [ق: 33] فأما الإيمان بعد العِيان فلا ينفع كما أخبر عز وجل {فلم يكُ ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا} الآية [غافر: 85]. وقوله تعالى: {وما أنا بظلاّم للعبيد} أي في العقل والحكمة تعذيب من أتى بالكفر والشرك، فيكون ترك تعذيبه سفها.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{وَمَا أَنَاْ بظلام لّلْعَبِيدِ} فأعذب من ليس بمستوجب للعذاب...
فإن قلت: كيف قال: {بظلام} على لفظ المبالغة؟ قلت: فيه وجهان، أحدهما: أن يكون من قولك: هو ظالم لعبده، وظلام لعبيده. والثاني: أن يراد لو عذبت من لا يستحق العذاب لكنت ظلاماً مفرط الظلم، فنفى ذلك...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
{وَمَا أَنَا بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ} أي: لست أعذب أحدا بذنب أحد، ولكن لا أعذب أحدًا إلا بذنبه، بعد قيام الحجة عليه...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كانت الأوقات كلها عنده سبحانه حاضرة، عبر سبحانه في تعليل ذلك ب "ما " التي للحاضر دون " لا " التي للمستقبل فقال: {ما يبدل} أي يغير من مغير ما كان من- كان بوجه من الوجوه بحيث يجعل له بدل فيكون فيه خلف {القول لدي} أي الواصل إليكم من حضرتي التي لا يحاط بأمر غرابتها بأن من أشرك بي لا أغفر له وأغفر ما دون ذلك لمن أشاء، والعفو عن بعض المذنبين ليس تبديلاً لأن دلائل العفو تدل على تخصيص الوعيد، وأنه مشروط بشرائط {وما أنا} وأكد النفي فقال: {بظلام} أي بذي ظلم {للعبيد} لا القرين ولا من أطغاه ولا غيرهم، فأعذب من لا يستحق أو أعفو عمن قلت: إني لا أغفر له وأمرت جندي فعادوه فيّ، ولو عفوت عنه كنت مع تبديل القول قد سؤتهم بإكرام من عادوه فيّ ليس إلا.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
أي لست مبطلاً ذلك الوعيد، وهو القول، إذ الوعيد من نوع القول، والتعريف للعهد، أي فما أوعدتكم واقع لا محالة لأن الله تعهد أن لا يغفر لمن يشرك به ويموت على ذلك. والمعنى الثاني المكنَّى عنه بُين بجملة {وما أنا بظلام للعبيد}، أي فلذلك قدمت إليكم الوعيد.
والمبالغة التي في وصف {ظلاّم} راجعة إلى تأكيد النفي.
والمراد: لا أظلم شيئاً من الظلم، وليس المعنى: ما أنا بشديد الظلم كما قد يستفاد من توجُّه النفي إلى المقيّد يفيد أن يتوجه إلى القيد لأن ذلك أغلبي. والأكثر في نفي أمثلة المبالغة أن يقصد بالمبالغة مبالغة النفي...