100- أغاب عن الذين يخلفون من قبلهم من الأمم سنة الله فيمن قبلهم ، وأن شأننا فيهم كشأننا فيمن سبقوهم ؟ وهو أنهم خاضعون لمشيئتنا ، لو نشاء أن نُعَذبهم بسبب ذنوبهم لأصبناهم كما أصبنا أمثالهم ، ونحن نختم على قلوبهم لفرط فسادها حتى وصلت إلى حالة لا تقبل معها شيئاً من الهدى ، فهم بهذا الطبع والختْم لا يسمعون الحكم والنصائح سماع تفقه واتعاظ .
{ 100 - 102 ْ } { أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ * تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ * وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ ْ }
يقول تعالى منبها للأمم الغابرين بعد هلاك الأمم الغابرين{[321]} { أَوَ لَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ ْ } أي : أو لم يتبين ويتضح للأمم الذين ورثوا الأرض ، بعد إهلاك من قبلهم بذنوبهم ، ثم عملوا كأعمال أولئك المهلكين ؟ .
أو لم يهتدوا أن اللّه ، لو شاء لأصابهم بذنوبهم ، فإن هذه سنته في الأولين والآخرين .
وقوله : { وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ ْ } أي : إذا نبههم اللّه فلم ينتبهوا ، وذكرهم فلم يتذكروا ، وهداهم بالآيات والعبر فلم يهتدوا ، فإن اللّه تعالى يعاقبهم ويطبع على قلوبهم ، فيعلوها الران والدنس ، حتى يختم عليها ، فلا يدخلها حق ، ولا يصل إليها خير ، ولا يسمعون ما ينفعهم ، وإنما يسمعون ما به تقوم الحجة عليهم .
قال - تعالى - : { أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأرض مِن بَعْدِ أَهْلِهَآ أَن لَّوْ نَشَآءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ } .
الاستفهام للانكار والتوبيخ . ويهد : أى يتبين ، يقال : هداه السبيل أو الشىء وهداه إليه ، إذا دله عليه وبينه له .
أى : أو لم يتبين لهؤلاء الذين يعيشون على تلك الأرض التي ورثوها بعد أهلها المهلكين ، أننا في قدرتنا أن ننزل بهم العذاب بسبب ذنوبهم كما أنزلناه بأولئك المهلكين .
والمراد بالذين يرثون الأرض من بعد أهلها ، أهل مكة ومن حولها الذين أرسل النبى صلى الله عليه وسلم لهدايتهم . وقيل المراد بهم الأحياء في كل زمان ومكان الذين يخلفون من سبقهم من الأمم .
قال الجمل : وفاعل { يَهْدِ } فيه وجوه أظهرها : أنه المصدر المؤول من أن وما في حيزها والمفعول محذوف . والتقدير : أو لم يهدى أى يبين ويوضح للوارثين مآلهم وعاقبة أمرهم إصابتنا إياهم بذنوبهم لو شئنا ذلك .
وقوله : { وَنَطْبَعُ على قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ } جملة مستأنفة لإثبات حصول الطبع على قلوبهم .
أى : ونحن نطبع على قلوبهم ونختم عليها ، بسبب اختيارهم الكفر على الإيمان ، فهم لذلك لا يسمعون الحكم والنصائح سماع تفقه وتدبر واتعاظ .
والذى يتأمل في الآيات السابقة يراها تحذر الناس بأساليب متنوعة حكيمة من الغفلة عن العظات والعبر ، وتحضهم على التخلص من الأمن الكاذب ، والشهوات المردية . والمتع الزائلة .
وما يريد القرآن بهذا أن يعيش الناس قلقين ، يرتجفون من الهلاك والدمار أن يأخذهم في لحظة من ليل أو نهار .
كلا ، ما يريد منهم ذلك لأن القلق الدائم من المستقبل ، يشل طاقة البشر ، وقد ينتهى بهم إلى اليأس من العمل والإنتاج وتنمية الحياة .
وإنما الذي يريد القرآن منهم أن يتعظوا بآيات الله في كونه ، وأن يكونوا دائماً على صلة طيبة به ، وأن يبتغوا فيما آتاهم الله من فضله الدار الآخرة دون أن ينسوا نصيبهم من الدنيا ، والا يغتروا بطراوة العيش ، ورخاء الحياة ، وقوة الجاه ، كى لا يقودهم ذلك إلى الفساد والطغيان ، والاستهتار والانحلال .
وإذا كان القرآن في هذه الآية قد حذرو أنذر ، فلأنه يعالج كل أمة وجماعة بالطب الذي يناسبها ويلائمها ، فهو يعطيها جرعات من الأمن والثقة والطمأنينة حين يرسخ الإيمان في قلوب أبنائها ، وحين يراقبون خالقهم في سرهم وعلنهم ، ويشكرونه على نعمه ، وهو يعطيها جرعات من التحذير والتخويف ، حين تستولى الشهوات على النفوس ، وحين تصبح الدنيا بمتعها ولذائذها المطلب الأكبر عند الناس .
( أو لم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم ، ونطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون ) . .
إن سنة الله لا تتخلف ؛ ومشيئة الله لا تتوقف . فما الذي يؤمنهم أن يأخذهم الله بذنوبهم كما أخذ من قبلهم ؟
وأن يطبع على قلوبهم فلا يهتدوا بعد ذلك ، بل لا يستمعوا إلى دلائل الهدى ، ثم ينالهم جزاء الضلال في الدنيا والآخرة . . ألا إن مصارع الخالين قبلهم ، ووراثتهم لهم ، وسنة الله الجارية . . كل أولئك كان نذيراً لهم أن يتقوا ويحذروا ؛ وأن يطرحوا عنهم الأمن الكاذب ، والاستهتار السادر ، والغفلة المردية ، وأن يعتبروا بما كان في الذين خلوا من قبلهم . عسى ألا يكون فيهم . لو كانوا يسمعون !
وما يريد الله للناس بهذا التحذير في القرآن أن يعيشوا مفزعين قلقين ؛ يرتجفون من الهلاك والدمار أن يأخذهم في لحظة من ليل أو نهار . فالفزع الدائم من المجهول ، والقلق الدائم من المستقبل ، وتوقع الدمار في كل لحظة . . قد تشل طاقة البشر وتشتتها ؛ وقد تنتهي بهم إلى اليأس من العمل والنتاج وتنمية الحياة وعمارة الأرض . . إنما يريد الله منهم اليقظة والحساسية والتقوى ، ومراقبة النفس ، والعظة بتجارب البشر ، ورؤية محركات التاريخ الإنساني ، وإدامة الاتصال بالله ، وعدم الاغترار بطراءة العيش ورخاء الحياة .
والله يعد الناس الأمن والطمأنينة والرضوان والفلاح في الدنيا والآخرة ، إذا هم أرهفوا حساسيتهم به ، وإذا هم أخلصوا العبودية له ؛ وإذا هم اتقوه فاتقوا كل ما يلوث الحياة . فهو يدعوهم إلى الأمن في جوار الله لا في جوار النعيم المادي المغري . وإلى الثقة بقوة الله لا بقوتهم المادية الزائلة . وإلى الركون إلى ما عند الله لا إلى ما يملكون من عرض الحياة .
ولقد سلف من المؤمنين بالله المتقين لله سلف ما كان يأمن مكر الله . وما كان يركن إلى سواه . وكان بهذا وذاك عامر القلب بالإيمان ، مطمئناً بذكر الله ، قوياً على الشيطان وعلى هواه ، مصلحاً في الأرض بهدى الله ، لا يخشى الناس والله أحق أن يخشاه .
وهكذا ينبغي أن نفهم ذلك التخويف الدائم من بأس الله الذي لا يدفع ، ومن مكر الله الذي لا يدرك . لندرك أنه لا يدعو إلى القلق إنما يدعو إلى اليقظة ، ولا يؤدي إلى الفزع إنما يؤدي إلى الحساسية ، ولا يعطل الحياة إنما يحرسها من الاستهتار والطغيان .
والمنهج القرآني - مع ذلك - إنما يعالج أطوار النفوس والقلوب المتقلبة ، وأطوار الأمم والجماعات المتنوعة ، ويطب لكل منها بالطب المناسب في الوقت الملائم . فيعطيها جرعة من الأمن والثقة والطمأنينة إلى جوار الله ، حين تخشى قوى الأرض وملابسات الحياة . ويعطيها جرعة من الخوف والحذر والترقب لبأس الله ، حين تركن إلى قوى الأرض ومغريات الحياة . وربك أعلم بمن خلق ، وهو اللطيف الخبير . .
قال ابن عباس ، رضي الله عنهما ، في قوله : { أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا } أو لم نُبَيِّن ، [ وكذا قال مجاهد والسدي ، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : أو لم نبين ]{[11986]} لهم أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم .
وقال أبو جعفر بن جرير في تفسيرها : يقول{[11987]} تعالى : أو لم نبيِّن للذين يستخلفون في الأرض من بعد إهلاك آخرين قبلهم كانوا أهلها ، فساروا سيرتهم ، وعملوا أعمالهم ، وعتوا على ربهم : { أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ } يقول : أن لو نشاء فعلنا بهم كما فعلنا بمن قبلهم ، { وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ } يقول : ونختم على قلوبهم { فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ } موعظة ولا تذكيرًا .
قلت : وهكذا قال تعالى : { أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأولِي النُّهَى } [ طه : 128 ] وقال تعالى : { أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ } [ السجدة : 29 ] وقال { أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ . وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ [ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأمْثَالَ ]{[11988]} } [ إبراهيم : 44 ، 45 ] وقال تعالى : { وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا } [ مريم : 98 ] أي : هل ترى لهم شخصًا أو تسمع لهم صوتًا ؟ وقال تعالى : { أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الأنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ } [ الأنعام : 6 ] وقال تعالى بعد ذكره إهلاك عاد : { فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ . وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ . وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } [ الأحقاف : 25 - 27 ] وقال تعالى : { وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ } [ سبأ : 45 ] وقال تعالى : { وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ } [ الملك : 18 ] وقال تعالى : { فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ . أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ } [ الحج : 45 ، 46 ] وقال تعالى : { وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } [ الأنعام : 10 ] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على حلول نقمه بأعدائه ، وحصول نعمه لأوليائه ؛ ولهذا عقب ذلك بقوله ، وهو أصدق القائلين ورب العالمين :
{ تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ }
{ أوَلم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها } أي يخلفون من خلا قبلهم ويرثون ديارهم ، وإنما عدي يهد باللام لأنه بمعنى يبين . { أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم } أن الشأن لو نشاء أصبناهم بجزاء ذنوبهم كما أصبنا من قبلهم ، وهو فاعل يهد ومن قرأه بالنون جعله مفعولا . { ونطبع على قلوبهم } عطف على ما دل عليه ، أو لم يهد أي يغفلون عن الهداية أو منقطع عنه بمعنى ونحن نطبع ، و لا يجوز عطفه على أصبناهم على أنه بمعنى وطبعنا لأنه في سياقه جواب لولا فضائه إلى نفي الطبع عنهم { فهم لا يسمعون } سماع تفهم واعتبار .
وقوله { أو لم يهد للذين يرثون الأرض } الآية ، هذه ألف تقرير دخلت على واو العطف ، و «يهدي » معناه يبين والهدى الصباح وأنشدوا على ذلك :
حتى استبنت الهدى والبيد هاجمة*** يسبحن في الآل غلفاً أو يصلينا
ويحتمل أن يكون المبين الله ويحتمل أن يكون المبين قوله { أن لو نشاء } أي علمهم بذلك وقال ابن عباس ومجاهد وابن زيد : و «يهدي » معناه يتبين ، وهذه أيضاً آية وعيد ، أي ألم يظهر لوارث الأرض بعد أولئك الذين تقدم ذكرهم وما حل بهم أنا نقدر لو شئنا أن نصيبهم إصابة إهلاك بسبب معاصيهم كما فعل بمن تقدم وكنا نطبع : أي نختم ، ونختم عليها بالشقاوة ، وفي هذه العبارة ذكر القوم الذين قصد ذكرهم وتعديد النعمة عليهم فيما «ورثوا » والوعظ بحال من سلف من المهلكين ، ونطبع عطف على المعاصي إذ المراد به الاستقبال ، ويحتمل أن يكون ونطبع منقطعاً إخباراً عن وقوع الطبع لا أنه متوعد به ويبقى التوعد بالإهلاك الذي هو بعذاب كالصيحة والغرق ونحوه ، وقرأ أبو عمرو : { ونطبع على } بإدغام العين في العين وإشمام الضم ، ذكره أبو حاتم .
عطفت على جملة : { أفأمن أهل القرى } [ الأعراف : 97 ] لاشتراك مضمون الجملتين في الاستفهام التعجيبي ، فانتقُل عن التعجيب من حال الذين مضوا إلى التعجيب من حال الأمة الحاضرة ، وهي الأمة العربية الذين ورثوا ديار الأمم الماضية فسكنوها : مثل أهل نَجْران ، وأهل اليمن ، ومن سكنوا ديار ثمود مثل بَليِّ ، وكعب ، والضجاغم ، وبهراء ، ومن سكنوا ديار مَدْين مثل جُهَيْنة ، وجَرْم ، وكذلك من صاروا قبائل عظيمة فنالوا السيادة على القبائل : مثل قُريش ، وطَي ، وتَميم ، وهُذَيْل . فالموصول بمنزلة لام التعريف العهدي ، وقد يقصد بالذين يرثون الأرض كل أمة خلفت أمة قبلها ، فيشمل عاداً وثموداً ، فقد قال لكلَ نبيّهم { واذكروا إذ جعلكم خلفاء } [ الأعراف : 74 ] الخ ولكن المشركين من العرب يومئذٍ مقصودون في هذا ابتداء . فالموصول بمنزلة لام الجنس .
والاستفهام في قوله : { أو لم يهد } مستعمل في التعجيب . مثل الذي في قوله : { أفأمن أهلُ القرى } [ الأعراف : 97 ] تعجيباً من شدة ضلالتهم إذ عدموا الاهتداء والاتعاظ بحال من قبلهم من الأمم ، ونسوا أن الله قادر على استئصالهم إذا شاءه .
والتعريف في الأرض تعريف الجنس ، أي يرثون أي أرض كانت منازل لقوم قبلهم ، وهذا إطلاق شائع في كلام العرب ، يقولون هذه أرض طَيء ، وفي حديث الجنازة « من أهل الأرض » أي من السكان القاطنين بأرضهم لا من المسلمين الفاتحين فالأرض بهذا المعنى اسم جنس صادق على شائع متعدد ، فتعريفه تعريف الجنس ، وبهذا الإطلاق جُمعت على أرضين ، فالمعنى : أو لم يهد للذين يرثون أرضاً من بعد أهلها .
والإرث : مصير مال الميت إلى من هو أولى به ، ويطلق مجازاً على مماثلة الحي مَيتاً في صفات كانت له ، من عزّ أوسيادة ، كما فسر به قوله تعالى حكاية عن زكرياء { فهب لي من لدنك ولياً يرثني } [ مريم : 5 ، 6 ] أي يخلفني في النبوءة ، وقد يطلق على القَدْر المشترك بين المعنيين ، وهو مطلقُ خلافةِ المُنْقَرَضِ . وهو هنا محتمل للإطلاقين ، لأنه إن أريد بالكلام أهل مكة فالإرث بمعناه المجازي ، وإن أريد أهل مكة والقبائل التي سكنت بلاد الأمم الماضية فهو مستعمل في القدر المشترك ، وهو كقوله تعالى : { أن الأرض يرثها عبادي الصالحون } [ الأنبياء : 105 ] وأيّاً ما كان فقيْدُ { من بعد أهلها } تأكيدٌ لمعنى { يرثون } ، يراد منه تذكير السامعين بما كان فيه أهل الأرض الموروثة من بحبوحة العيش ، ثم ما صاروا إليه من الهلاك الشامل العاجل ، تصويراً للموعظة بأعظم صورة فهو كقوله تعالى : { ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون } [ الأعراف : 129 ] .
ومعنى { لم يهد } لم يرشد ويُبَيْن لهم ، فالهداية أصلها تبيين الطريق للسائر ، واشتهر استعمالهم في مطلق الإرشاد : مجازاً أو استعارة كقوله تعالى : { اهْدنا الصراط المستقيم } [ الفاتحة : 6 ] . وتقدم أن فعلها يتعدى إلى مفعولين ، وأنه يتعدى إلى الأول منهما بنفسه وإلى الثاني تارة بنفسه وأخرى بالحرف : اللام أو ( إلى ) ، فلذلك كانت تعديته إلى المفعول الأول باللام في هذه الآية إمّا لتضمينه معنى يُبين ، وإما لتقوية تعلق معنى الفعل بالمفعول كما في قولهم : شكرتُ له ، وقوله تعالى : { فَهَبْ لي من لدنك ولياً } [ مريم : 5 ] ، ومثل قوله تعالى : { أفلم يهد لهم كم أهلكنا قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم } في سورة طه ( 128 ) .
و { أنْ } مخففة من ( أنّ ) واسمها ضمير الشأن ، وجملة { لو نشاء } خبرها . ولما كانت ( أن ) المفتوحة الهمزة من الحروف التي تفيد المصدرية على التحقيق لأنها مركّبة من ( إنّ ) المكسورة المشددة ، ومن ( أنّ ) المفتوحة المخففة المصدرية لذلك عُدّت في الموصولات الحرفية وكان ما بعدها مؤولاً بمصدر منسبك من لفظ خبرها إن كان مفرداً مشتقاً ، أو من الكَون إن كان خبرها جملة ، فموقع { أن لو نشاء أصبناهم } موقعُ فاعل { يهد } ، والمعنى : أو لم يبيّنْ للذين يخلْفون في الأرض بعد أهلها كونُ الشأن المهم وهو لو نشاءُ أصبناهم بذنوبهم كما أصبنا من قبلهم .
وهؤلاء هم الذين أشركوا بالله وكذبوا محمداً صلى الله عليه وسلم .
والإصابة : نوال الشيء المطلوب بتمكّن فيه . فالمعنى : أن نأخذهم أخذاً لا يفلتون منه . والباء في { بذنوبهم } للسببية ، وليست لتعدية فعل { أصبناهم } .
وجملة : { أنْ لو نشاء أصبناهم بذنوبهم } واقعة موقع مفرد ، هو فاعل { يَهْدِ } ، ف ( إنْ ) مخففة من الثقيلة وهي من حروف التأكيد والمصدرية واسمها في حالةِ التخفيف ، ضمير شأن مقدر ، وجملة شرط ( لو ) وجوابه خبر ( أنّ ) .
و ( لو ) حرف شرط يفيد تعليق امتناع حصول جوابه لأجل امتناع حصول شرطه : في الماضي ، أو في المستقبل ، وإذ قد كان فعل الشرط هنا مضارعاً كان في معنى الماضي ، إذ لا يجوز اختلاف زمني فعلي الشرط والجواب ، وإنما يخالف بينهما في الصورة لمجرد التفنن كراهية تكرير الصورة الواحدة ، فتقدير قوله : { لَوْ نشاء أصبناهُم } انْتفى أخذُنَا إياهم في الماضي بذنوب تكذيبهم ، لأجل انتفاء مشيئتنا ذلك لحكمة إمهالهم لا لكونهم أعزّ من الأمم البائدة أو أفضل حالاً منهم ، كما قال تعالى : { فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم كانوا هم أشد منهم قوة وآثاراً في الأرض فأخذهم الله بذنوبهم } [ غافر : 21 ] الآية ، وفي هذا تهديد بأن الله قد يصيبهم بذنوبهم في المستقبل ، إذ لا يصده عن ذلك غالبٌ ، والمعنى : أغرهم تأخّر العذاب مع تكذيبهم فحسبوا أنفسهم في منعة منه ، ولم يهتدوا إلى أن انتفاء نزوله بهم معلق على انتفاء مشيئتنا وقوعَه لحكمة ، فما بينهم وبين العذاب إلاّ أن نشاء أخذهم ، والمصدر الذي تفيده ( أن ) المخففة ، إذا كان اسمها ضمير شأن ، يقدر ثُبوتاً متصيّداً مما في ( أنْ ) وخبرها من النسبة المؤكدة ، وهو فاعل { يَهِد } فالتقدير في الآية : { أو لم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها } ثبوتُ هذا الخبر المُهم وهو { لو نشاء أصبناهم بذنوبهم } .
والمعنى : اعْجَبوا كيف لم يهتدوا إلى أن تأخير العذاب عنهم هو بمحض مشيئتنا وأنه يحق عليهم عندما نشاؤه .
وجملة : { ونطبع على قلوبهم } ليست معطوفة على جملة : { أصبناهم } حتى تكون في حكم جواب ( لو ) لأن هذا يفسد المعنى ، فإن هؤلاء الذين ورثوا الأرض من بعد أهلها قد طُبع على قلوبهم فلذلك لم تُجْدِ فيهم دعوة محمد صلى الله عليه وسلم مُنذ بُعث إلى زمن نزول هذه السورة ، فلو كان جواباً ل ( لو ) لصار الطبع على قلوبهم ممتنعاً وهذا فاسد ، فتعين : إما أن تكون جملة { ونطبع } معطوفة على جملة الاستفهام برُمَتها فلها حكمها من العطف على أخبار الأمم الماضية والحاضرة .
والتقدير : وطَبَعنا على قلوبهم ، ولكنه صيغ بصيغة المضارع للدلالة على استمرار هذا الطبع وازدياده آنا فآنا ، وإمّا أن تجعل ( الواو ) للاستئناف والجملة مستأنفة ، أي : ونحن نطبع على قلوبهم في المستقبل كما طبعنا عليها في الماضي ، ويُعرف الطبع عليها في الماضي بأخبار أخرى كقوله تعالى : { إن الذين كفروا سواء عليهم } [ البقرة : 6 ] الآية ، فتكون الجملة تذييلاً لتنهية القصة ، ولكن موقع الواو في أول الجملة يرجح الوجه الأول ، وكأن صاحب « المفتاح » يأبى اعتبار الاستئناف من معاني الواو .
وجملة : { فهم لا يسمعون } معطوفة بالفاء على { نطبع } متفرعاً عليه ، والمراد بالسماع فهم مغزى المسموعات لا استكاك الآذان ، بقرينة قوله : { ونطبع على قلوبهم } . وتقدم معنى الطبع عند قوله تعالى : { بَلْ طبع الله عليها بكفرهم } في سورة النساء ( 155 ) .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
يعني ورثوا الأرض، {من بعد} هلاك {أهلها أن لو نشاء أصبناهم} بعذاب، {بذنوبهم} يخوف كفار مكة، {ونطبع على قلوبهم} بالكفر، {فهم لا يسمعون} بالإيمان.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول: أو لم يبين للذين يستخلفون في الأرض بعد هلاك آخرين قبلهم كانوا أهلها، فساروا سيرتهم وعملوا أعمالهم، وعتوا عن أمر ربهم "أنْ لَوْ نَشاءُ أصَبْناهُمْ بِذُنُوبهِمْ "يقول: إن لو نشاء فعلنا بهم كما فعلنا بمن قبلهم، فأخذناهم بذنوبهم، وعجّلنا لهم بأسنا كما عجلناه لمن كان قبلهم ممن ورثوا عنه الأرض، فأهلكناهم بذنوبهم. "وَنَطْبَعُ على قُلُوبِهِمْ" يقول: ونختم على قلوبهم "فهم لا يَسْمَعونَ" موعظة ولا تذكيرا سماع منتفع بهما...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
وقوله "للذين يرثون الأرض من بعد أهلها "فالإرث ترك الماضي للباقي ما يصير له بعده، وحقيقة ذلك في الأعيان التي يصح فيها الانتقال، وقد استعمل على وجه المجاز في الأعراض، فقيل: العلماء ورثة الأنبياء لأنهم تعلموا منهم، وقاموا بما أدوه إليهم. وقوله "ان لو نشاء أصبناهم بذنوبهم" الإصابة: إيقاع الشيء بالغرض المنصوب، وضده الخطأ وهو: إيقاع الشيء بخلاف الغرض المطلوب. وقوله "ونطبع على قلوبهم" قيل في معنى الطبع -ههنا- قولان: أحدهما -الحكم بأن المذموم كالممنوع من الإيمان لا يفلح، وهو أبلغ الذم. الثاني- أنه علامة وسمة في القلب من نكتة سوداء أن صاحبه لا يفلح تعرفه الملائكة. وفائدة الآية الإنكار على الجهال تركهم الاعتبار بمن مضى من الأمم قبلهم، وأنه قد طبع على قلوب من لا يفلح منهم عيبا وذما لهم.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
أَوَ لا يعلم المغترون بطول سترنا أَنْ لو أردنا لعجَّلنا لهم الانتقام، أو بلغنا فيهم الاصطلام، ثم لا ينفعهم ندم، ولا يُشْكى عنهم ألم.
جهود الإمام الغزالي في التفسير 505 هـ :
{ونطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون} ربط عدم السماع بالطبع بالذنوب.
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي 516 هـ :
قوله تعالى: {أولم يهد}، قرأ قتادة ويعقوب: (نهد) بالنون على التعظيم، والباقون بالياء على التفريد، يعني أو لم يتبين.
قوله تعالى: {للذين يرثون الأرض من بعد}، هلاك.
قوله تعالى: {أهلها}، الذين كانوا فيها.
قوله تعالى: {أن لو نشاء أصبناهم}، أي: أخذناهم وعاقبناهم.
قوله تعالى: {بذنوبهم} كما عاقبنا من قبلهم.
قوله تعالى: {على قلوبهم فهم لا يسمعون}، الإيمان ولا يقبلون الموعظة، قال الزجاج: قوله {ونطبع} منقطع عما قبله، لأن قوله {أصبناهم} ماض ونطبع مستقبل.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
... وهذه أيضاً آية وعيد، أي ألم يظهر لوارث الأرض بعد أولئك الذين تقدم ذكرهم وما حل بهم أنا نقدر لو شئنا أن نصيبهم إصابة إهلاك بسبب معاصيهم كما فعل بمن تقدم وكنا نطبع: أي نختم، ونختم عليها بالشقاوة، وفي هذه العبارة ذكر القوم الذين قصد ذكرهم وتعديد النعمة عليهم فيما «ورثوا» والوعظ بحال من سلف من المهلكين...
اعلم أنه تعالى لما بين فيما تقدم من الآيات حال الكفار الذين أهلكهم الله بالاستئصال مجملا ومفصلا، أتبعه ببيان أن الغرض من ذكر هذه القصص حصول العبرة لجميع المكلفين في مصالح أديانهم وطاعاتهم وقوله: {ونطبع على قلوبهم} أي إن لم نهلكهم بالعقاب نطبع على قلوبهم. {فهم لا يسمعون} أي لا يقبلون، ولا يتعظون، ولا ينزجرون.
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
والمعنى: أنّ من أوضح الله له سبل الهدى وذكر له أمثالاً ممن أهلكه الله تعالى بذنوبهم وهو مع ذلك دائم على غيّه لا يرعوي يطبع الله على قلبه فينبو سمعه عن سماع الحق...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
...ولما بان بما مضى حال الكفار مجملاً ومفصلاً، وكان المقصود من ذلك عبرة السامعين، وكان أخذهم بالبأساء والضراء مع إبقاء مهجهم وحفظ أرواحهم وأفهامهم بعد إهلاك من قبلهم في بعض ما لحقهم من ذلك وإيراثهم الأرض من بعدهم حالاً يكونون 344 بها في حيز من يرجى منه الخوف المقتضي للتضرع والعلم قطعاً بأن الفاعل لذلك هو الله، وأنه لو شاء لأهلكهم بالذنوب أو غطى أفهامهم بحيث يصيرون كالبهائم لا يسمعون إلا دعاء ونداء، فسماعهم حيث لا فهم كلا سماع، فجعلوا ذلك سبباً للأمن؛ أنكر عليهم ذلك بقوله {أفأمن} إلى آخره؛ ثم أنكر عليهم عدم الاستدلال على القدرة فقال عاطفاً على {أفأمن}: {أولم يهد} أي يبين أخذنا للأمم الماضية بالبأساء والضراء ثم إهلاكهم إذا لم يتعظوا {للذين يرثون الأرض} وأظهر موضع الإضمار تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف وإشارة إلى بلادتهم لعدم البحث عن الأخبار ليعلموا منها ما يضر وما ينفع فلا يكونوا كالبهائم، فإنهم لو تأملوا أحوالهم وأحوال من ورثوا أرضهم وأحوال الأرض لكفاهم ذلك في الهداية إلى سواء السبيل. ولما كان إرثهم غير مستغرق للزمان، أتى بالجارّ فقال: {من بعد أهلها} ثم ذكر مفعول {يهد} بقوله: {أن} أي إنا {لو نشاء} أي في أيّ وقت أردنا {أصبناهم بذنوبهم} أي إصابة نمحقهم بها كما فعلنا بمن ورثوا أرضهم؛ ولما كان هذا تخويفاً للموجودين بعد المهلكين، ومنهم قريش وسائر العرب الذين يخاطبون بهذا القرآن، فكأن المخوف به لم يقع بعد، عطف على أصبنا قوله: {ونطبع على قلوبهم} أي بإزالة عقولهم حتى يكونوا كالبهائم، ولذلك سبب عنه قوله: {فهم لا يسمعون} أي سماع فهم، وعبر عن الإصابة بالماضي إشارة إلى سرعة الإهلاك مع كونه شيئاً واحداً غير متجزئ، وعن الطبع بالمضارع إيماء إلى التجدد بحيث لا يمر زمن إلا كانوا فيه في طبع جديد...
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ} أي أخبارَ الأممِ المهلَكة فضلاً عن التدبر والنظرِ فيها والاغتنامِ بما في تضاعيفها من الهداية.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
يقال هداه السبيل أو الشيء وهداه له وهداه إليه – إذا دله عليه وبينه له، وأهل الغور من العرب كانوا يقولون هدى له الشيء بمعنى بينه له، نقله في (لسان العرب) وذكر أنه قد فسر به ما في الآية وأمثالها. وهذا التعبير ورد في سياق النفي والاستفهام. ومثله في سورة طه {أفلم يهد لهم كم أهلكنا قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم إنّ في ذلك لآيات لأولي النّهى} [طه: 128] وفي سورة {ألم السجدة} {أولم يهد لهم كم أهلكنا من قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم إنّ في ذلك لآيات أفلا يسمعون} [السجدة: 26] والسياق الذي وردت فيه آية الأعراف التي نفسرها مثل السياق الذي وردت فيه آيتا طه والسجدة. والاستفهام هنا داخل على فعل محذوف عطف عليه ما بعده كما سبق في نظائره وللتقدير وجوه كلها تقيد العبرة فهو مما تذهب النفس فيه مذاهب من أقربها أن يقال: أكان مجهولا ما ذكر آنفا عن أهل القرون وسنة الله تعالى فيهم، ولم يبيَّن للذين يرثون الأرض من بعد أهلها قرنا بعد قرن وجيلا في أثر جيل – أو لم يتبين لهم به- أن شأننا فيهم كشأننا فيمن سبقهم: وهوانهم خاضعون لمشيئتنا فلو نشاء أن نصيبهم ونعذبهم بسبب ذنوبهم أصبناهم كما أصبنا أمثالهم من قبلهم بمثلها؟... وقوله تعالى: {ونطبع على قلوبهم} معطوف على "أصبناهم "لأنه بمعنى نصيبهم، إذ الكلام في الذين يرثون الأرض في العصر الحالي أو المستقبل على الإطلاق وليس في قوم معينين طبع الله على قلوبهم بالفعل كما ظن الزمخشري وغيره فمنعوا هذا العطف وقالوا المعنى: ونحن نطبع على قلوبهم. والمراد أنه ينبغي لمن يستخلفهم الله في الأرض، ويرثون ما كان لمن قبلهم من الملك والملك، أن يتقوا الله ولا يكونوا من المفسدين الظالمين، ولا من المترفين الفاسقين، وأن يعلموا أن من المحتم عقاب الأمم على السيئات وقد خلت من قبلهم المثلات، فلم يكن ما حل بمن قبلهم من المصادفات، بل هو من السنن المطردة بالمشيئة والاختيار، فلا هوادة ولا ظلم ولا محاباة... ولا يستعمل الطبع على القلوب إلا في الشر والمراد به إنها وصلت من الفساد إلى حالة لا تقبل معها خيرا كالهدى والإيمان والعلم النافع الذي هو فقه الأمور ولبابها، وإنما يحصل بالإصرار على الشرور والمعاصي استحلالا واستحسانا لها، حتى لا يعود في النفس موضع لغيرها، قال تعالى في اليهود: {فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات اللّه وقتلهم الأنبياء بغير حقّ وقولهم قلوبنا غلف بل طبع اللّه عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلّا قليلا} [النساء: 155] أي إلا قليلا منهم وهم الذين لم يطبع على قلوبهم. وقال تعالى في المنافقين {وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون} [التوبة: 87] ومثله في سورتهم. وقال هنا {فهم لا يسمعون} أي فهم بهذا الطبع لا يسمعون الحكم والنصائح سماع تفقه وتدبر واتعاظ، {وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون} [يونس: 101] ما يراد هنا، لأن قلوبهم قد ملئت بما يشغلهم عنها، من آراء وأفكار وشهوات ملكت عليها أمرها، حتى صرفتهم عن غيرها، فجعلتهم من {الأخسرين أعمالا * الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا} [الكهف: 103، 104]...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
أو لم يهتدوا أن اللّه، لو شاء لأصابهم بذنوبهم، فإن هذه سنته في الأولين والآخرين.وقوله: {وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ ْ} أي: إذا نبههم اللّه فلم ينتبهوا، وذكرهم فلم يتذكروا، وهداهم بالآيات والعبر فلم يهتدوا، فإن اللّه تعالى يعاقبهم ويطبع على قلوبهم، فيعلوها الران والدنس، حتى يختم عليها، فلا يدخلها حق، ولا يصل إليها خير، ولا يسمعون ما ينفعهم، وإنما يسمعون ما به تقوم الحجة عليهم.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وما يريد الله للناس بهذا التحذير في القرآن أن يعيشوا مفزعين قلقين؛ يرتجفون من الهلاك والدمار أن يأخذهم في لحظة من ليل أو نهار. فالفزع الدائم من المجهول، والقلق الدائم من المستقبل، وتوقع الدمار في كل لحظة.. قد تشل طاقة البشر وتشتتها؛ وقد تنتهي بهم إلى اليأس من العمل والنتاج وتنمية الحياة وعمارة الأرض.. إنما يريد الله منهم اليقظة والحساسية والتقوى، ومراقبة النفس، والعظة بتجارب البشر، ورؤية محركات التاريخ الإنساني، وإدامة الاتصال بالله، وعدم الاغترار بطراءة العيش ورخاء الحياة. والله يعد الناس الأمن والطمأنينة والرضوان والفلاح في الدنيا والآخرة، إذا هم أرهفوا حساسيتهم به، وإذا هم أخلصوا العبودية له؛ وإذا هم اتقوه فاتقوا كل ما يلوث الحياة. فهو يدعوهم إلى الأمن في جوار الله لا في جوار النعيم المادي المغري. وإلى الثقة بقوة الله لا بقوتهم المادية الزائلة. وإلى الركون إلى ما عند الله لا إلى ما يملكون من عرض الحياة...
ولقد سلف من المؤمنين بالله المتقين لله سلف ما كان يأمن مكر الله. وما كان يركن إلى سواه. وكان بهذا وذاك عامر القلب بالإيمان، مطمئناً بذكر الله، قوياً على الشيطان وعلى هواه، مصلحاً في الأرض بهدى الله، لا يخشى الناس والله أحق أن يخشاه. وهكذا ينبغي أن نفهم ذلك التخويف الدائم من بأس الله الذي لا يدفع، ومن مكر الله الذي لا يدرك. لندرك أنه لا يدعو إلى القلق إنما يدعو إلى اليقظة، ولا يؤدي إلى الفزع إنما يؤدي إلى الحساسية، ولا يعطل الحياة إنما يحرسها من الاستهتار والطغيان. والمنهج القرآني -مع ذلك- إنما يعالج أطوار النفوس والقلوب المتقلبة، وأطوار الأمم والجماعات المتنوعة، ويطب لكل منها بالطب المناسب في الوقت الملائم. فيعطيها جرعة من الأمن والثقة والطمأنينة إلى جوار الله، حين تخشى قوى الأرض وملابسات الحياة. ويعطيها جرعة من الخوف والحذر والترقب لبأس الله، حين تركن إلى قوى الأرض ومغريات الحياة. وربك أعلم بمن خلق، وهو اللطيف الخبير...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والإصابة: نوال الشيء المطلوب بتمكّن فيه. فالمعنى: أن نأخذهم أخذاً لا يفلتون منه
ومعنى {لم يهد} لم يرشد ويُبَيْن لهم، فالهداية أصلها تبيين الطريق للسائر، واشتهر استعمالهم في مطلق الإرشاد.
والمعنى: اعْجَبوا كيف لم يهتدوا إلى أن تأخير العذاب عنهم هو بمحض مشيئتنا وأنه يحق عليهم عندما نشاؤه...
والتقدير: وطَبَعنا على قلوبهم، ولكنه صيغ بصيغة المضارع للدلالة على استمرار هذا الطبع..
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
وقد حذر الله تعالى الذين يرثون الأرض بأسه الذي ينزل بهم؛ ولذا قال: {أو لم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم ونطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون}.
الواو عاطفة، وقدمت عليها همزة الاستفهام؛ لأن الاستفهام له الصدارة في الذكر، وإن هذه عبرة القصص من ذكر أولئك الذين ذكر الله – تعالى بيانه – ذكرهم، وورث هؤلاء أرضهم.
والاستفهام إنكاري، للنفي، وهو خص للذين يرثون الأرض بعد أولئك الذين أنزل الله تعالى بأسه بهم، ومن الذين ورثوا الأرض أهل مكة، فهو تحريض لهم على النظر في العبر من هذا القصص الذي ذكر فيه مآل الكافرين من قوم نوح، وعاد، وثمود، وقوم لوط، وقوم شعيب، وآثارهم بجوار الأرض التي يقيمون فيها، فعليهم أن ينظروا ويعتبروا إن كانت لهم أبصار يعتبرون بها وعقول يهتدون بها.
وقوله تعالى: { {أو لم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها}، معناه يتبين لهم، وقرئ بقراءة مشهورة متواترة: (أولم نهد)، بالنون بإسناد الهداية إلى الله، ومعنى القول الكريم على هذا: أو لم نبين لهم هادين مرشدين معتبرين بالقصص، أن لو نشأ أخذناهم بذنوبهم، وأنزلنا عليهم البأس الذي نزل بغيرهم.
و (هدى) يتعدى بنفسه، في المفعول الأول، وباللام أو (إلى) في المفعول الثاني، فيقال: هديناه إلى الخير، أو: إلى الطريق، أو للطريق.
وهنا في قوله تعالى: {أو لم يهد} فيه نهدي، أو يهدي متضمنا معنى يبين، وذكر لفظ الهداية للدلالة على أنه بيان للهداية الحقة.
وقوله تعالى: {أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم} و (أن) هنا مخففة من الثقيلة أي أنه الحال والشأن لو نشاء أصبناهم أي أنزلنا عليهم بأسنا، كما أنزلناه على من سبقوهم بسبب ذنوبهم التي ارتكبوها من شرك ومحاربة لله تعالى، وكفر بالمبادئ التي جاء بها النبيون معاندين مجاحدين، وأسباب الصدق ثابتة، وطرائق الهداية قائمة.
وقوله تعالى: {ونطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون}، أي الحال أننا نطبع على قلوبهم بخاتم الضلالة فلا يسمعون. وإن مغزى الكلام السامي في هذا أن المشركين الذين كانوا يستعجلون العذاب، كما قال تعالى: {ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة وقد خلت من قبلهم المثلات} (الرعد) إنهم كانوا يستعجلون العذاب، وساق لهم الله من قصص الكافرين وما نزل بهم، ألم يبين لهم؟! وقد استدرك – سبحانه – فقال: {ونطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون}، أي أن الله طبع على قلوبهم، فهم لا يسمعون القصص الحق، ولا يحاولون أن يدركوا مغزاه، وختم الله على قلوبهم، وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة، وفي هذا المعنى قال الله تعالى: {أفلم يهد لهم كم أهلكنا قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم إن في ذلك لآيات لأولي النهى (128)} (طه)، وقال تعالى: {ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم وأرسلنا السماء عليهم مدرارا وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم فأهلكناهم بذنوبهم وأنشأنا من بعدهم قرنا آخرين (6)} (الأنعام).
التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :
نطبع على قلوبهم: نختم على قلوبهم، والمعنى نغلق أذهانهن ونقسي قلوبهم بسبب ذنوبهم وكفرهم فلا يسمعون ولا يدركون.