{ الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ * الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ * إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ }
لما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من " أحد " إلى المدينة ، وسمع أن أبا سفيان ومن معه من المشركين قد هموا بالرجوع إلى المدينة ، ندب أصحابه إلى الخروج ، فخرجوا -على ما بهم من الجراح- استجابة لله ولرسوله ، وطاعة لله ولرسوله ، فوصلوا إلى " حمراء الأسد " وجاءهم من جاءهم وقال لهم : { إن الناس قد جمعوا لكم } وهموا باستئصالكم ، تخويفا لهم وترهيبا ، فلم يزدهم ذلك إلا إيمانا بالله واتكالا عليه .
ثم مدح - سبحانه - المؤمنين الصادقين الذين لم تمنعهم جراحهم وآلامهم عن الاستجابة لأمر رسولهم - صلى الله عليه وسلم - فقال - تعالى - : { الذين استجابوا للَّهِ والرسول مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ القرح لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ واتقوا أَجْرٌ عَظِيمٌ } .
قال الفخر الرازى ما ملخصه : اعلم أن الله - تعالى - مدح المؤمنين على غزوتين تعرف إحداهما : بغزوة حمراء الأسد ، والثانية : بغزوة بدر الصغرى . وكلاهما متصلة بغزوة أحد .
أما غزوة حمراء الأسد فهى المرادة من هذه الآية ، فإن الأصح فى سبب نزولها أن أبا سفيان وأصحابه بعد أن انصرفوا من أحد وبلغوا الروحاء ، ندموا وقالوا : إنا قتلنا أكثرهم ولم يبق منهم إلا القليل فَلِم تركناهم ؟ بل الواجب أن نرجع ونستأصلهم ، فهموا بالرجوع .
فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأراد أن يرهب الكفار ويريهم من نفسه ومن أصحابه قوة . فندب أصحابه إلى الخروج فى طلب أبى سفيان وقال : لا اريد أن يخرج الآن معى إلا من كان معى فى القتال - فى أحد - .
فخرج الرسول صلى الله عليه وسلم مع قوم من أصحابه حتى بلغوا حمراء الأسد .
وهى مكان على بعد ثمانية أميال من المدينة .
فألقى الله الرعب فى قلوب المشركين فانهزموا .
وروى أنه كان فيهم من يحمل صاحبه على عنقه ساعة ، ثم كان المحمول يحمل الحامل ساعة أخرى . وكان كل ذلك لإثخان الجراح فيهم ، وكان فيهم من يتوكأ على صاحبه ساعة ويتوكأ عليه صاحبه ساعة .
وقوله { استجابوا } بمعنى أجابوا . وقيل : استجابوا ، أصلها طلبوا الإجابة لأن الأصل فى الاستفعال طلب الفعل . والقرح : الجراح الشديدة .
والمعنى : أن الله - تعالى - لا يضيع أجر هؤلاء المؤمنين الصادقين ، الذين أجابوا داعى الله وأطاعوا رسوله ، بأن خرجوا للجهاد فى سبيل عقيدتهم بدون وهن أو ضعف أو استكانة مع ما بهم من جراح شديدة ، وآلام مبرحة .
ثم بين - سبحانه - جزاءهم فقال : { لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ واتقوا أَجْرٌ عَظِيمٌ } أى للذين أحسنوا منهم بأن أدوا جميع المأمورات ، واتقوا الله فى كل أحوالهم بأن صانوا أنفسهم عن جميع المنهيات ، لهؤلاء أجر عظيم لا يعلم كنهه إلا الله - تعالى - .
وقوله { الذين استجابوا } فى موضع رفع على الابتداء وخبره قوله { لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ } ويجوز أن يكون فى موضع جر على أنه صفة للمؤمنين فى قوله : { وَأَنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المؤمنين } .
قال صاحب الكشاف : و " من " فى قوله { لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ } للتبيين مثلها فى قوله - تعالى - { وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً } لأن الذين استجابوا لله والرسول قد أحسنوا كلهم واتقوا لا بعضهم .
وبعد تقرير هذه الحقيقة الكبيرة يتحدث عن " المؤمنين " الذين يستبشر الشهداء في الموقعة بما هو مدخر لهم عند ربهم ، فيعين من هم ؛ ويحدد خصائصهم وصفاتهم وقصتهم مع ربهم :
( الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم . الذين قال لهم الناس : إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم ، فزادهم إيمانا . وقالوا : حسبنا الله ونعم الوكيل . فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء ، واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم ) . .
إنهم أولئك الذين دعاهم الرسول [ ص ] إلى الخروج معه كرة أخرى غداة المعركة المريرة . وهم مثخنون بالجراح . وهم ناجون بشق الأنفس من الموت أمس في المعركة . وهم لم ينسوا بعد هول الدعكة ، ومرارة الهزيمة ، وشدة الكرب . وقد فقدوا من أعزائهم من فقدوا ، فقل عددهم ، فوق ما هم مثخنون بالجراح !
ولكن رسول الله [ ص ] دعاهم . ودعاهم وحدهم . ولم يأذن لأحد تخلف عن الغزوة أن يخرج معهم - ليقويهم ويكثر عددهم كما كان يمكن أن يقال ! - فاستجابوا . . استجابوا لدعوة الرسول [ ص ] وهي دعوة الله - كما يقرر السياق وكما هي في حقيقتها وفي مفهومهم كذلك - فاستجابوا بهذا لله والرسول ( من بعد ما أصابهم القرح ) ، ونزل بهم الضر ، وأثخنتهم الجراح .
لقد دعاهم رسول الله [ ص ] ودعاهم وحدهم . وكانت هذه الدعوة وما تلاها من استجابة تحمل إيحاءات شتى ، وتومى ء إلى حقائق كبرى ، نشير إلى شيء منها :
فلعل رسول الله [ ص ] شاء ألا يكون آخر ما تنضم عليه جوانح المسلمين ومشاعرهم ، هو شعور الهزيمة ، وآلام البرح والقرح ؛ فاستنهضهم لمتابعة قريش ، وتعقبها ، كي يقر في أخلادهم إنها تجربة وابتلاء ، وليست نهاية المطاف . وأنهم بعد ذلك أقوياء ، وأن خصومهم المنتصرين ضعفاء ، إنما هي واحدة وتمضي ، ولهم الكرة عليهم ، متى نفضوا عنهم الضعف والفشل ، واستجابوا لدعوة الله والرسول .
ولعل رسول الله [ ص ] شاء في الجانب الآخر ألا تمضي قريش ، وفي جوانحها ومشاعرها أخيلة النصر ومذاقاته . فمضى خلف قريش بالبقية ممن حضروا المعركة أمس ؛ يشعر قريشا أنها لم تنل من المسلمين منالا . وأنه بقي لها منهم من يتعقبها ويكر عليها . .
وقد تحققت هذه وتلك كما ذكرت روايات السيرة .
ولعل رسول الله [ ص ] شاء أن يشعر المسلمين ، وأن يشعر الدنيا كلها من ورائهم ، بقيام هذه الحقيقة الجديدة التي وجدت في هذه الأرض . . حقيقة أن هناك عقيدة هي كل شيء في نفوس أصحابها . ليس لهم من أرب في الدنيا غيرها ، وليس لهم من غاية في حياتهم سواها . عقيدة يعيشون لها وحدها ، فلا يبقى لهم في أنفسهم شيء بعدها ، ولا يستبقون هم لأنفسهم بقية في أنفسهم لا يبذلونها لها ، ولا يقدمونها فداها . .
لقد كان هذا أمرا جديدا في هذه الأرض في ذلك الحين . ولم يكن بد أن تشعر الأرض كلها - بعد أن يشعر المؤمنين - بقيام هذا الأمر الجديد ، وبوجود هذه الحقيقة الكبيرة .
وقوله : { الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ } هذا كان يوم " حمراء الأسد " ، وذلك أن المشركين لما أصابوا ما أصابوا من المسلمين كرُّوا راجعين إلى بلادهم ، فلما استمروا{[6182]} في سيرهم تَنَدّمُوا لم لا تَمَّموا على أهل المدينة وجعلوها الفيصلة . فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ندب المسلمين إلى الذهاب وراءهم ليُرْعِبَهم ويريهم أن بهم قُوّةً وجلدا ، ولم يأذنْ لأحد سوى من حضر الوقعة يوم أحد ، سوى جابر بن عبد الله رضي الله عنه - لما سنذكره - فانتدب المسلمون على ما بهم من الجراح والإثخان طاعة لله [ عز وجل ]{[6183]} ولرسوله صلى الله عليه وسلم .
قال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد ، حدثنا سفيان بن عيينة ، عن عمرو ، عن عكرمة قال : لما رجع المشركون عن أحد قالوا : لا محمدا قتلتم ، ولا الكواعب أردفتم ، بئسما{[6184]} صنعتم ، ارجعوا . فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فندب المسلمين فانتدبوا حتى بلغ حَمْراء الأسد - أو : بئر أبي عيينة{[6185]} - الشك من سفيان - فقال المشركون : نرجع من قابل . فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكانت تعد{[6186]} غزوة ، فأنزل{[6187]} الله عز وجل : { الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ }
ورواه ابن مَرْدويه من حديث محمد بن منصور ، عن سفيان بن عيينة ، عن عمرو ، عن عكرمة ، عن ابن عباس فذكره{[6188]} .
وقال محمد بن إسحاق : كان يوم أحد يوم السبت النصف من شوال ، فلما كان الغد من يوم الأحد لستّ عشرةَ ليلة مضت من شوال ، أذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس بطلب العدو ، وأذن مؤذنه ألا يخرج{[6189]} معنا أحد إلا أحد حضر يومنا بالأمس . فكلمه جابر بن عبد الله بن عَمْرو بن حرام فقال : يا رسول الله ، إن أبي كان خَلَّفني على أخوات لي سَبْع وقال : يا بَنَيّ ، إنه لا ينبغي لي ولا لك أن نترك هؤلاء النّسوةَ لا رجلَ فيهن ، ولست بالذي أوثرك بالجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على نفسي ، فتخلّف على أخواتك ، فتخلفت عليهن ، فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فخرج معه . وإنما خرج رسول الله مُرْهبا للعدو ، وليبلغهم أنه خرج في طلبهم ليظنوا به قوةً ، وأن الذي أصابهم لم يُوهنْهم عن عدوهم .
قال ابن إسحاق : حدثني{[6190]} عبد الله بن خارجة بن زيد بن ثابت ، عن أبي السائب مولى عائشة بنت عثمان ؛ أن رجلا من أصحاب رَسُول الله صلى الله عليه وسلم من بني عبد الأشهل ، كان شَهد أحدا قال : شهدتُ أحدا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا وأخي{[6191]} فرجعنا جريحين ، فلما أذّن مُؤذّن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخروج في طلب العدوّ ، قلتُ لأخي - أو قال{[6192]} لي - : أتفوتنا غزوة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ والله ما لنا من دابَّة نركبها ، وما منّا إلا جريح ثَقيل ، فخرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكنت أيسر جراحا{[6193]} منه ، فكان إذا غُلب حملته عُقْبة ومشى عُقْبة حتى انتهينا إلى ما انتهى إليه المسلمون{[6194]} .
وقال البخاري : حدثنا محمد بن سلام ، حدثنا أبو معاوية ، عن هشام ، عن أبيه ، عن عائشة رضي الله عنها : { الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ [ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ ] {[6195]} } قالت{[6196]} لعروة : يا ابن أختي ، كان أبواك منهم الزبير وأبو بكر ، رضي الله عنهما ، لمّا أصاب نبي الله صلى الله عليه وسلم ما أصابه يوم أحد ، وانصرف عنه المشركون ، خاف أن يرجعوا فقال : " مَنْ يَرْجِعُ فِي إثْرِهِمْ ؟ " فانتدبَ منهم سبعون رجلا فيهم أبو بكر والزبير ، رضي الله عنهما .
هكذا رواه البخاري منفردا به ، بهذا السياق . وهكذا رواه الحاكم في مستدركه عن الأصَم ، عن العباس الدوري ، عن أبي النضر ، عن أبى سعيد المؤدب ، عن هشام بن عروة ، به ، ثم قال : صحيح ولم يخرجاه . كذا قال{[6197]} .
ورواه أيضا من حديث إسماعيل بن أبي خالد ، عن البَهِيّ ، عن عروة قال : قالت لي عائشة : يا بُني ، إن أباك من الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح . ثم قال : صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه{[6198]} .
وروى ابن ماجة ، عن هشام بن عمّار ، وهُدْبَة بن عبد الوهاب عن سفيان بن عيينة ، عن هشام بن عروة به وهكذا رواه سعيد بن منصور وأبو بكر الحميدي في مسنده عن سفيان ، به{[6199]} .
وقال أبو بكر بن مَرْدُويه . حدثنا عبد الله بن جعفر من أصل كتابه ، أنبأنا سَمويه ، أنبأنا عبد الله بن الزبير ، أنبأنا سفيان ، أنبأنا هشام ، عن أبيه ، عن عائشة قالت : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنْ كَانَ أبَواك لَمن{[6200]} الَّذِينَ اسْتَجَابُوا للهِ والرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ القَرْحُ : أبو بكر والزبير ، رضي الله عنهما " {[6201]} .
ورفْعُ هذا الحديث خطأ محض من جهة إسناده ، لمخالفته رواية {[6202]} الثقات من وقْفه على عائشة كما قدمناه ، ومن جهة معناه ، فإن الزبير ليس هو من آباء عائشة ، وإنما قالت عائشة لعروة بن الزبير ذلك لأنه ابن أختها أسماء بنت أبي بكر الصديق ، رضي الله عنهم .
وقال ابن جرير : حدثني محمد بن سعد ، حدثني أبي ، [ حدثني ] {[6203]} عَمي ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : إن الله قَذَفَ في قَلْب أبي سفيان الرُّعْب يوم أحد بعد ما{[6204]} كان منه ما كان ، فرجع إلى مكة ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إنَّ أبَا سُفْيَانَ قَدْ أَصَابَ مِنْكُمْ طَرَفًا ، وَقَدْ رَجَعَ ، وَقَذَفَ اللهُ فِي قَلْبِهِ الرُّعْبَ " . وكانت وقعةُ أحد في شوال ، وكان التجار يَقْدَمون المدينة في ذي القعدة ، فينزلون ببدر الصغرى في كل سنة مَرة ، وإنهم قدموا بعد وقعة أحد{[6205]} وكان أصاب المؤمنين القرح ، واشتكوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، واشتد عليهم الذي أصابهم . وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نَدَب الناس لينطلقوا معه ، ويتبعوا ما كانوا مُتَّبعين ، وقال : " إنَّمَا يَرْتَحِلُونَ الآنَ فَيَأْتُونَ الْحَجَّ ولا يَقْدرُونَ عَلَى مِثْلِهَا حَتَّى عَامٍ مُقْبِلٍ " . فجاء الشيطان فخوف أولياءه فقال : إن الناس قد جمعوا لكم فأبى عليه الناس أن يتبعوه ، فقال : " إنَّي ذَاهِبٌ وإنْ لمْ يَتْبَعْنِي أحَدٌ " . لأحضض الناس ، فانتدب معه أبو بكر الصديق ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، والزبير ، وسعد ، وطلحة ، وعبد الرحمن بن عوف ، وعبد الله بن مسعود ، وحذيفة بن اليمان ، وأبو عبيدة بن الجراح في سبعين رجلا فساروا في طلب أبي سفيان ، فطلبوا حتى بلغوا الصفراء ، فأنزل الله [ عز وجل ]{[6206]} { الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ [ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ ] }{[6207]} {[6208]} .
ثم قال ابن إسحاق : فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتهى إلى حمراء الأسد ، وهي من المدينة على ثمانية أميال .
قال ابن هشام : واستعمل على المدينة ابن أم مَكْتوم فأقام بها الاثنين والثلاثاء والأربعاء ، ثم رجع إلى المدينة . وقد مَر به - كما حدثني عبد الله بن أبي بكر - معبد بن أبي مَعْبد الخزاعي ، وكانت خُزاعة - مسلمهم ومشركهم - عيبة نُصح لرسول الله صلى الله عليه وسلم بتِهامة ، صَفْقَتُهم معه ، لا يخفون عنه شيئا كان بها ، ومعبد يومئذ مشرك فقال : يا محمد ، أما والله لقد عَزّ علينا ما أصابك في أصحابك ، ولوَددْنا أن الله عافاك فيهم . ثم خرج ورسول الله صلى الله عليه وسلم بحمراء الأسد ، حتى لقي أبا سفيان بن حرب ومن معه بالرَّوحاء ، وقد أجمعوا الرجعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وقالوا : أصبنا حَد أصحابه وقادتهم وأشرافهم ، ثم نرجع قبل أن نستأصلهم . . لنُكرّنَّ على بقيتهم فَلَنَفْرُغَنَّ منهم . فلما رأى أبو سفيان معبدا قال : ما وراءك يا معبد ؟ قال : محمد قد خرج في أصحابه يطلبكم في جَمْع لم أر مثله قط ، يتحرقون عليكم تحرقا ، قد اجتمع معه من كان تخلف عنه في يومكم ، وندموا على ما صنعوا ، فيهم من الحَنَق عليكم شيء لم أر مثله قط . قال : ويلك . ما تقول ؟ قال : والله ما أرى أن ترتحل {[6209]} حتى ترى نواصي الخيل - قال : فوالله لقد أجمعنا الكرة عليهم لنستأصل بقيتهم . قال : فإني أنهاك عن ذلك . ووالله لقد حملني ما رأيت على أن قلت فيهم أبياتا من شعر ، قال : وما قلت ؟ قال : قلت :
كادَتْ تُهدُّ منَ الأصوات رَاحلتي*** إذْ سَالَت الأرضُ بالجُرْدِ الأبابيل
تَرْدى بأسْدٍ كرام لا تَنَابلة *** عنْد اللّقاء ولا ميل مَعَازيل{[6210]}
فَظَلْتُ عَدْوا أظُنُّ الأرض مائلةً*** لَمَّا سَمَوا برئيس غير مَخْذول
فقلتُ : ويل ابن حَرْب من لقائكُمُ *** إذا تَغَطْمَطَت البطحاء بالجيل{[6211]}
إني نذير لأهل البَسْل ضَاحيَةً *** لكل ذي إرْبَة منهم ومعقول
من جَيْش أحمدَ لا وَخْشٍ تَنَابِلة *** وليس يُوصف ما أنذرت بالقيل
قال : فثنى ذلك أبا سفيان ومن معه .
ومر به ركب من بني عبد القيس ، فقال : أين تريدون ؟ قالوا : نريدُ المدينة . قال : ولم ؟ قالوا :
بعكاظ إذ وَافَيْتُمونا{[6212]} قالوا : نعم . قال : فإذا وافيتموه فأخبروه أنا قد أجمعنا{[6213]} المسير إليه وإلى أصحابه لنستأصل بقيتهم ، فمر الركب{[6214]} برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بحمراء الأسد ، فأخبروه بالذي قال أبو سفيان وأصحابه ، فقالوا : حسبنا الله ونعم الوكيل{[6215]} .
وذكر ابن هشام عن أبي عُبيدة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بلغه رجوعهم : " وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ سُوِّمَتْ لَهُمْ حِجَارَةٌ لَوْ صُبِّحُوا بَها لَكَانُوا كَأَمْسِ الذَّاهِبِ " {[6216]} .
وقال الحسن البصري [ في قوله ]{[6217]} { الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ } إن أبا سفيِان وأصحابه أصابوا من المسلمين ما أصابوا ورجعوا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنَّ أبَا سُفْيَانَ قَدْ رَجَعَ وَقَدْ قَذَفَ اللهُ فِي قَلْبِهِ [ الرُّعْبَ ]{[6218]} فمن يَنْتَدبُ فِي طَلَبِهِ ؟ " فقام النبي صلى الله عليه وسلم ، وأبو بكر وعُمَر ، وعثمان ، وعلي ، وناس من أصحاب النبي{[6219]} صلى الله عليه وسلم ، فاتبعوهم ، فبلغ أبا سفيان أن النبي صلى الله عليه وسلم ، يطلبه فلقي عيرا من التجار فقال : ردُّوا محمدا ولكم من الجُعْل كذا وكذا ، وأخْبروهم أني قد جمعت لهم جموعا ، وأنني راجع إليهم . فجاء التجار فأخبروا بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : { حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } فأنزل الله هذه الآية .
وهكذا قال عِكْرِمة ، وقتادة وغير واحد : إن هذا السياق نزل في شأن [ غزوة ]{[6220]} حَمْراء الأسد " ، وقيل : نزلت في بَدْر الموعد ، والصحيح الأول .
{ الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح } صفة للمؤمنين ، أو نصب على المدح أو مبتدأ خبره . { للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم } بجملته ومن البيان ، والمقصود من ذكر الوصفين المدح والتعليل لا التقييد ، لأن المستجيبين كلهم محسنون متقون . روي ( أن أبا سفيان وأصحابه لما رجعوا فبلغوا الروحاء ندموا وهموا بالرجوع ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فندب أصحابه للخروج في طلبه وقال لا يخرجن معنا إلا من حضر يومنا بالأمس ، فخرج عليه الصلاة والسلام مع جماعة حتى بلغوا حمراء الأسد - وهي ثمانية أميال من المدينة- وكان بأصحابه القرح فتحاملوا على أنفسهم حتى لا يفوتهم الأجر ، وألقى الله الرعب في قلوب المشركين فذهبوا ) فنزلت .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
{الّذِينَ اسْتَجَابُواْ للّهِ وَالرّسُولِ مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتّقَواْ أَجْرٌ عَظِيمٌ}
يعني بذلك جل ثناؤه: وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين، المستجيبين لله والرسول، من بعد ما أصابهم الجراح والكلوم وإنما عنى الله تعالى ذكره بذلك الذين اتبعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حمراء الأسد في طلب العدو أبي سفيان، ومن كان معه من مشركي قريش منصرفهم عن أحد، وذلك أن أبا سفيان لما انصرف عن أحد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في أثره حتى بلغ حمراء الأسد وهي على ثمانية أميال من المدينة، ليري الناس أن به وأصحابه قوة على عدوهم...
عن محمد بن إسحاق، قال: ثني حسان بن عبد الله، عن عكرمة، قال: كان يوم أُحُد السبت للنصف من شوال فلما كان الغد من يوم أُحد، يوم الأحد لست عشرة ليلة مضت من شوال أذّن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس بطلب العدو، وأذن مؤذنه أن لا يخرجن معنا أحد إلا من حضر يومنا بالأمس، فكلمه جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام، فقال: يا رسول الله إن أبي كان خلفني على أخوات لي سبع وقال لي يا بني إنه لا ينبغي لي ولا لك أن نترك هؤلاء النسوة لا رجل فيهن، ولست بالذي أوثرك بالجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على نفسي، فتخلف على أخواتك! فتخلفت عليهن. فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج معه. وإنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مرهبا للعدو، ليبلغهم أنه خرج في طلبهم ليظنوا به قوة، وأن الذي أصابهم لم يوههم عن عدوهم...
قال: فحدثني عبد الله بن خارجة بن زيد بن ثابت، عن أبي السائب مولى عائشة بنت عثمان: أن رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من بني عبد الأشهل كان شهد أُحُدا، قال: شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أُحدا أنا وأخ لي، فرجعنا جريحين، فلما أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخروج في طلب العدوّ، قلت لأخي، أو قال لي: أتفوتنا غزوة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ والله ما لنا من دابة نركبها وما منا إلا جريح ثقيل! فخرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكنت أيسر جرحا منه، فكنت إذا غلب حملته عُقْبة ومشى عقبة، حتى انتهينا إلى ما انتهى إليه المسلمون، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتهى إلى حمراء الأسد، وهي من المدينة على ثمانية أميال، فأقام بها ثلاثا: الاثنين والثلاثاء والأربعاء، ثم رجع إلى المدينة... قال: فقال الله تبارك وتعالى: {الّذِينَ اسْتَجابُوا لِلّهِ والرّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أصابهُمُ القَرْحُ}: أي الجراح، وهم الذين ساروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الغد من يوم أُحد إلى حمراء الأسد على ما بهم من ألم الجراح. {للّذِينَ أحْسَنُوا مِنْهُمْ واتّقَوْا أجْرٌ عَظِيمٌ}.
عن السديّ: انطلق أبو سفيان منصرفا من أُحد حتى بلغ بعض الطريق. ثم إنهم ندموا، وقالوا: بئسما صنعتم إنكم قتلتموهم، حتى إذا لم يبق إلا الشريد تركتموهم، ارجعوا واستأصلوهم! فقذف الله في قلوبهم الرعب، فهزموا. فأخبر الله رسوله، فطلبهم حتى بلغ حمراء الأسد، ثم رجعوا من حمراء الأسد، فأنزل الله جلّ ثناؤه فيهم: {الّذِينَ اسْتَجابُوا لِلّهِ والرّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أصابهُمُ القَرْحُ}...
فوعد تعالى ذكره مُحسِنَ من ذكرنا أمره من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: {الّذِينَ اسْتَجابُوا لِلّهِ والرّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أصابهُمُ القَرْحُ} إذا اتقى الله فخافه، فأدّى فرائضه وأطاعه في أمره ونهيه فيما يستقبل من عمره أجرا عظيما، وذلك الثواب الجزيل، والجزاء العظيم، على ما قدّم من صالح أعماله في الدنيا.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قوله تعالى: {الذين استجابوا لله والرسول} الآية قيل: أجابوا لله عز وجل والرسول صلى الله عليه وسلم على ما دعاهم إليه، وأطاعوا في ما أمرهم به {من بعد ما أصابهم القرح} أي الجراحة قيل: دعاهم إلى بدر الصغرى بعد ما أصابهم بأحد القروح والجراحات فأجابوه، فذلك قوله تعالى: {الذين استجابوا لله والرسول} الآية. وقوله تعالى: {للذين أحسنوا منهم} في الإجابة بعد ما أصابتهم الجراحة وشهدوا القتال معه {واتقوا} الخلاف له وترك الإجابة، ويحتمل اتقوا النار وعقوبته {أجر عظيم} في الجنة وثواب جزيل والله أعلم.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
قال الأستاذ الإمام: ذكر في الآية السابقة استبشارهم بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم وأنهم فرحون بما آتاهم الله من فضله ثم ذكر هنا أنهم يستبشرون بنعمة من الله وفضل. فالذي آتاهم من فضله مجمل تفصيله ما بعده وهو قسمان فضل عليهم في إخوانهم الذين وراءهم وفضل عليهم في أنفسهم، وهو نعمة الله عليهم وفضله الخاص بهم في دار الكرامة، وقد أبهمه فلم يعينه للدلالة على عظمه وعلى كونه غيبا لا يكتنه كنهه في هذه الدار. ثم اختتم الكلام بفضله على إخوانهم كما افتتحه به وترك العطف لتنزيل الاستبشار الثاني منزلة الاستبشار الأول حتى كأنه هو وليس عندي في ذلك عنه غير هذا.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
بعد تقرير هذه الحقيقة الكبيرة يتحدث عن "المؤمنين "الذين يستبشر الشهداء في الموقعة بما هو مدخر لهم عند ربهم، فيعين من هم؛ ويحدد خصائصهم وصفاتهم وقصتهم مع ربهم:
(الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم. الذين قال لهم الناس: إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم، فزادهم إيمانا. وقالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل. فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء، واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم)..
إنهم أولئك الذين دعاهم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الخروج معه كرة أخرى غداة المعركة المريرة. وهم مثخنون بالجراح. وهم ناجون بشق الأنفس من الموت أمس في المعركة. وهم لم ينسوا بعد هول الدعكة، ومرارة الهزيمة، وشدة الكرب. وقد فقدوا من أعزائهم من فقدوا، فقل عددهم، فوق ما هم مثخنون بالجراح!
ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاهم. ودعاهم وحدهم. ولم يأذن لأحد تخلف عن الغزوة أن يخرج معهم -ليقويهم ويكثر عددهم كما كان يمكن أن يقال!- فاستجابوا.. استجابوا لدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم وهي دعوة الله -كما يقرر السياق وكما هي في حقيقتها وفي مفهومهم كذلك- فاستجابوا بهذا لله والرسول (من بعد ما أصابهم القرح)، ونزل بهم الضر، وأثخنتهم الجراح.
لقد دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاهم وحدهم. وكانت هذه الدعوة وما تلاها من استجابة تحمل إيحاءات شتى، وتومئ إلى حقائق كبرى، نشير إلى شيء منها:
فلعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شاء ألا يكون آخر ما تنضم عليه جوانح المسلمين ومشاعرهم، هو شعور الهزيمة، وآلام البرح والقرح؛ فاستنهضهم لمتابعة قريش، وتعقبها، كي يقر في أخلادهم إنها تجربة وابتلاء، وليست نهاية المطاف. وأنهم بعد ذلك أقوياء، وأن خصومهم المنتصرين ضعفاء، إنما هي واحدة وتمضي، ولهم الكرة عليهم، متى نفضوا عنهم الضعف والفشل، واستجابوا لدعوة الله والرسول.
ولعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شاء في الجانب الآخر ألا تمضي قريش، وفي جوانحها ومشاعرها أخيلة النصر ومذاقاته. فمضى خلف قريش بالبقية ممن حضروا المعركة أمس؛ يشعر قريشا أنها لم تنل من المسلمين منالا. وأنه بقي لها منهم من يتعقبها ويكر عليها..
وقد تحققت هذه وتلك كما ذكرت روايات السيرة.
ولعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شاء أن يشعر المسلمين، وأن يشعر الدنيا كلها من ورائهم، بقيام هذه الحقيقة الجديدة التي وجدت في هذه الأرض.. حقيقة أن هناك عقيدة هي كل شيء في نفوس أصحابها. ليس لهم من أرب في الدنيا غيرها، وليس لهم من غاية في حياتهم سواها. عقيدة يعيشون لها وحدها، فلا يبقى لهم في أنفسهم شيء بعدها، ولا يستبقون هم لأنفسهم بقية في أنفسهم لا يبذلونها لها، ولا يقدمونها فداها..
لقد كان هذا أمرا جديدا في هذه الأرض في ذلك الحين. ولم يكن بد أن تشعر الأرض كلها -بعد أن يشعر المؤمنين- بقيام هذا الأمر الجديد، وبوجود هذه الحقيقة الكبيرة.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
جملة {الذين استجابوا لله والرسول} صفة للمؤمنين أو مبتدأ خبره {للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم} وهذه الاستجابة تشير إلى ما وقع إثر أُحُد من الأرجاف بأنّ المشركين، بعد أن بلغوا الرّوحاء، خطر لهم أنْ لو لحقوا المسلمين فاستأصلوهم. وقد مرّ ذكر هذا وما وقع لمعبد بن أبي معبد الخزاعي عند قوله تعالى: {يأيها الذين ءامنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم} [آل عمران: 149]. وقد تقدّم القول في القرح عند قوله: {إن يمسسكم قرح} [آل عمران: 140]. والظاهر أنَّه هنا للقرح المجازي، ولذلك لم يجمع فيقال القروح.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
وهم الذين قال الله تعالى فيهم: {الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح}.
أصل استجابوا: طلبوا الإجابة، والمعنى هنا انهم عالجوا انفسهم وطلبوا إجابة داعي الله إلى النصر، فأجابوا، فالاستجابة لن السين والتاء للطلب تدل على انهم راضوا نفسهم على إجابة الله تعالى، ونالوا ذلك الشرف العظيم؛ إذ أجابوا داعي الله ورسوله من بعد ما أصابهم ذلك الجرح ولم ينهنه من قوتهم، بل استرسلوا في قوة وصبر وعزيمة، واستثارهم الجرح ولم يضعفهم، وأنهم أجابوا الداعي فور الواقعة، فإنه يروى في ذلك انه لما رجع المشركون قالوا: (لا محمدا قتلتم، ولا الكواعب أردفتم، بئسما صنعتم، ارجعوا). فسمع رسول الله بذلك فندب المسلمين، فانتدبوا حتى بلغوا حمراء الأسد، ولكن خذل الله المشركين، وقوى المؤمنين، فرجع المشركون من حيث جاءوا، ويروى ان النبي صلى الله عليه وسلم عندما ندب المؤمنين أذن مؤذن رسول الله بطلب العدو، وأذن مؤذنه" ألا يخرجن معنا إلا من حضر أحدا، فخرجوا فهؤلاء هم الذين استجابوا لله والرسول، لأنه لم تأخذ الهزيمة من نفوسهم، وإن أصيبوا بكلوم في أجسامهم، وقد قال سبحانه وتعالى في جزائهم.
{للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم} اختص سبحانه وتعالى من أولئك الذين جاهدوا ولم يستشهدوا بعد بان لهم أجرا عظيما، وهنا يلاحظ ثلاثة أمور:
(أولها) أن الله لم يذكر الأجر لهم جميعا، لأنهم كانوا أحياء، والحي قد يغير ويبدل، فكان لا بد من التقييد بالإحسان والتقوى، أي يستمر على ما هو عليه.
(وثانيها) أن الإحسان هنا غير التقوى؛ إذ الإحسان هو إجادة الخطة، واتباع المنهج المستقيم في القتال، وذلك لا بد منه في الانتصار، والطاعة المطلقة للقائد من إحكام الخطة.
(ثالثها) أن التقوى- وهي وقاية النفس من الغرض والهوى والاتجاه إلى الله بإخلاص وقلب سليم خال من الشوائب- أساس الأجر العظيم، والله سبحانه وتعالى بكل شيء عليم.
انظر إلى المنزلة العالية كي تعلم أن الهزة التي حدثت في أُحُد أعادت ترتيب الذرات الإيمانية في نفوس المؤمنين. ولذلك أراد الله ألا يطول أمد الغم على مَن ندموا بسبب ما وقع منهم، وألا يطول أمد الكفار الذين فرحوا بما أُلحق بالمؤمنين من الضرر في المعركة الأخيرة، هؤلاء المشركون فرحون، وهؤلاء المسلمون في حزن؛ لأننا قلنا: ما داموا مسلمين ومؤمنين فلهم الحق، وإن قَصَّروا فعليهم عقوبة، وسبحانه قد أنزل بهم العقوبة لكن بقي لإسلامهم حق على الله؛ لأنه أجرى تلك الأقدار ليُهذب ويُمحص ويُربي، فلا يطيل أمد الغم على المؤمنين ولا يمد الفرحة للكافرين، فيأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم والحالة كما تعلمون هكذا، ويؤذن مؤذنه صلى الله عليه وسلم في الناس بطلب قريش قائلا:"لا يخرجن معنا إلا من حضر معنا القتال". ويخرج الرسول صلى الله عليه وسلم إليهم بعدد لا يزيد على عدد المقاتلين الذين كانوا يواجهونهم حتى لا يقال إنهم جاءوا بمددٍ إضافي، بل بالعكس، فالذين خرجوا لمطاردة الكفار هم الذين بقوا مع الرسول في أُحد، ونقص منهم من قُتل ونقص منهم أيضا كل من أثقلته جراحه. لقد كانوا أقل ممن كانوا في المعركة، وكأن الله يريد أن يبين لنا أن التمحيص قد أدى مطلوبه. هم في هذه الحالة استجابوا للرسول، كأن المسألة جاءت رد اعتبار لمن شهدوا المعركة؛ حتى لا يضعفوا أمام نفوسهم؛ وحتى لا يجعلوها زلة تطاردهم وتلاحقهم في تاريخهم الطويل، بل يعلمون أن معركة أُحد قد انتهت وعرفوا آثارها.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
قلنا إن جيش أبي سفيان المنتصر أسرع بعد انتصاره في معركة «أُحد» على الجيش الإِسلامي يغذ السير في طريق العودة إلى مكّة حتى إذا بلغ أرض «الروحاء» ندم على فعله، وعزم على العودة إلى المدينة للإِجهاز على ما تبقى من فلول المسلمين، واستئصال جذور الإِسلام حتى لا تبقى له ولهم باقية. ولما بلغ هذا الخبر إِلى النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أمر مقاتلي أُحد أن يستعدوا للخروج إلى معركة أخرى مع المشركين، وخص بأمره هذا الجرحى والمصابين حيث أمرهم بأن ينضموا إلى الجيش. يقول رجل من أصحاب النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان قد شهد أُحداً: شهدت أُحداً وأخ لي فرجعنا جريحين، فلما أذن مؤذن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالخروج في طلب العدو قلنا: لا تفوتنا غزوة مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فوالله مالنا دابة نركبها وما منّا إِلا جريح ثقيل، فخرجنا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وكنت أيسر جرحاً من أخي، فكنت إِذا غلب حملته عقبة ومشى عقبة حتى انتهينا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إِلى «حمراء الأسد». فلما بلغ هذا الخبر أبا سفيان وأدرك صمود المسلمين، والذي تجلّى في اشتراك الجرحى والمصابين خاف وأُرعب، ولعله ظن أنه أدركت المسلمين قوّة جديدة من المقاتلين وأتاهم المدد. هذا وقد حدثت في هذا الموضع حادثة زادت من إضعاف معنوية المشركين، وألقت مزيداً من الوهن في عزائمهم، وهي أنه: مرّ برسول الله «معبد الخزاعي» وهو يومئذ مشرك، فلما شاهد النّبي وما عليه هو وأصحابه من الحالة تحركت عواطفه وجاشت، فقال للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم): يا محمّد والله لقد عزّ علينا ما أصابك في قومك وأصحابك، ولوددنا أن الله كان أعفاك فيهم، ثمّ خرج من عند رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى لقى أبا سفيان ومن معه بالرّوحاء وقد أجمعوا الرّجعة إِلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فلمّا رأى أبو سفيان معبداً قال: ما وراك يا معبد؟ قال: محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) قد خرج في أصحابه يطلبكم في جمع لم أر قط مثله يتحرقون عليكم تحرقاً، وقد اجتمع عليه من كان تخلف عنه في يومكم، وندموا على صنيعهم، وفيه من الحنق عليكم ما لم أر مثله قط. قال أبو سفيان: ويلك ما تقول؟ قال معبد: «فأنا والله ما أراك ترتحل حتى ترى نواصي الخيل». قال أبو سفيان: فوالله لقد أجمعنا الكرّة عليهم لنستأصلهم. قال معبد: فأنا والله أنهاك عن ذلك. فثنى ذلك أبا سفيان ومن معه وقفل راجعاً ومنسحباً إِلى مكّة بسرعة، وحتى يتوقف المسلمون عن طلبه وملاحقته ويجد فرصة كافية للانسحاب قال لجماعة من بني عبد قيس كانوا يمرون من هناك قاصدين المدينة لشراء القمح: «اخبروا محمّداً إِنا قد أجمعنا الكرّة عليه وعلى أصحابه لنستأصل بقيتهم» ثمّ انصرف إِلى مكّة. ولما مرّت هذه الجماعة برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو بحمراء الأسد أخبره بقول أبي سفيان، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «حسبنا الله ونعم الوكيل» وبقي هناك ينتظر المشركين ثلاثة أيّام، فلم ير لهم أثراً فانصرف إِلى المدينة بعد الثالثة. والآيات الحاضرة تشير إِلى هذه الحادثة وملابساتها.