ولجعل لهم { زخرفا } أي : لزخرف لهم دنياهم بأنواع الزخارف ، وأعطاهم ما يشتهون ، ولكن منعه من ذلك رحمته بعباده خوفا عليهم من التسارع في الكفر وكثرة المعاصي بسبب حب الدنيا ، ففي هذا دليل على أنه يمنع العباد بعض أمور الدنيا منعا عاما أو خاصا لمصالحهم ، وأن الدنيا لا تزن عند اللّه جناح بعوضة ، وأن كل هذه المذكورات متاع الحياة الدنيا ، منغصة ، مكدرة ، فانية ، وأن الآخرة عند اللّه تعالى خير للمتقين لربهم بامتثال أوامره واجتناب نواهيه ، لأن نعيمها تام كامل من كل وجه ، وفي الجنة ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين ، وهم فيها خالدون ، فما أشد الفرق بين الدارين " .
{ وَزُخْرُفاً } أى : ولجعلنا لهم زخرفا ، ليستعملوه فى أسقف منازلهم ، وفى أبواب بيوتهم ، وفى غير ذلك من شئون حياتهم .
والزخرف : يطلق على الشئ الذى يتزين به . فيشمل الذهب والفضة ، وغيرهما مما يستعمله الناس فى تزيين بيوتهم .
وقوله : { وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الحياة الدنيا والآخرة عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ } أى : وما كل ما ذكرناه من البيوت الموصوفة بما ذكرناه من الصفات السابقة ، إلا شئ يتمتع به المتمتعون فى الحياة ، التى أمرها إلى زوال واضمحلال . .
أما الآخرة التى زينتها باقية لا تنتهى ولا تنقطع ، فهى عند ربك خاصة بالمؤمنين الصادقين ، الذين آثروا النعيم الباقى على النعيم الفانى ، فقدموا فى دنياهم العمل الصالح ، الذى ينفعهم فى أخراهم .
ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفاً من فضة ومعارج عليها يظهرون . ولبيوتهم أبواباً وسرراً عليها يتكئون . وزخرفاً . وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا . والآخرة عند ربك للمتقين . .
فهكذا - لولا أن يفتتن الناس . والله أعلم بضعفهم وتأثير عرض الدنيا في قلوبهم - لجعل لمن يكفر بالرحمن صاحب الرحمة الكبيرة العميقة - بيوتاً سقفها من فضة ، وسلالمها من ذهب .
بيوتاً ذات أبواب كثيرة . قصورا . فيها سرر للاتكاء ، وفيها زخرف للزينة . . رمزاً لهوان هذه الفضة والذهب والزخرف والمتاع ؛ بحيث تبذل هكذا رخيصة لمن يكفر بالرحمن !
( وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا ) . .
متاع زائل ، لا يتجاوز حدود هذه الدنيا . ومتاع زهيد يليق بالحياة الدنيا .
( والآخرة عند ربك للمتقين ) . .
وهؤلاء هم المكرمون عند الله بتقواهم ؛ فهو يدخر لهم ما هو أكرم وأبقى ؛ ويؤثرهم بما هو أقوم وأغلى . ويميزهم على من يكفر بالرحمن ، ممن يبذل لهم من ذلك المتاع الرخيص ما يبذله للحيوان !
وإن عرض الحياة الدنيا الذي ضرب الله له بعض الأمثال من المال والزينة والمتاع ليفتن الكثيرين . وأشد الفتنة حين يرونه في أيدي الفجار ، ويرون أيادي الأبرار منه خالية ؛ أو يرون هؤلاء في عسر أو مشقة أو ابتلاء ، وأولئك في قوة وثروة وسطوة واستعلاء . والله يعلم وقع هذه الفتنة في نفوس الناس . ولكنه يكشف لهم عن زهادة هذه القيم وهوانها عليه ؛ ويكشف لهم كذلك عن نفاسة ما يدخره للأبرار الأتقياء عنده . والقلب المؤمن يطمئن لاختيار الله للأبرار وللفجار .
وأولئك الذين كانوا يعترضون على اختيار الله لرجل لم يؤت شيئاً من عرض هذه الحياة الدنيا ؛ ويقيسون الرجال بما يملكون من رياسة ، أو بما يملكون من مال . يرون من هذه الآيات هوان هذه الأعراض وزهادتها عند الله . وأنها مبذولة لشر خلق الله وأبغضهم عند الله . فهي لا تدل على قربى منه ولا تنبئ عن رضى ، ولا تشي باختيار !
وهكذا يضع القرآن الأمور في نصابها ؛ ويكشف عن سنن الله في توزيع الأرزاق في الدنيا والآخرة ؛ ويقرر حقيقة القيم كما هي عند الله ثابتة . وذلك في صدد الرد على المعترضين على رسالة محمد ؛ واختياره . واطراح العظماء المتسلطين !
وهكذا يرسي القواعد الأساسية والحقائق الكلية التي لا تضطرب ولا تتغير ؛ ولا تؤثر فيها تطورات الحياة ، واختلاف النظم ، وتعدد المذاهب ، وتنوع البيئات . فهناك سنن للحياة ثابتة ، تتحرك الحياة في مجالها ؛ ولكنها لا تخرج عن إطارها . والذين تشغلهم الظواهر المتغيرة عن تدبر الحقائق الثابتة ، لا يفطنون لهذا القانون الإلهي ، الذي يجمع بين الثبات والتغير ، في صلب الحياة وفي أطوار الحياة ؛ ويحسبون أن التطور والتغير ، يتناول حقائق الأشياء كما يتناول أشكالها . ويزعمون أن التطور المستمر يمتنع معه أن تكون هناك قواعد ثابتة لأمر من الأمور ؛ وينكرون أن يكون هناك قانون ثابت غير قانون التطور المستمر . فهذا هو القانون الوحيد الذي يؤمنون بثباته !
فأما نحن - أصحاب العقيدة الإسلامية - فنرى في واقع الحياة مصداق ما يقرره الله من وجود الثبات والتغير متلازمين في كل زاوية من زوايا الكون ، وفي كل جانب من جوانب الحياة . وأقرب ما بين أيدينا من هذا التلازم ثبات التفاوت في الرزق بين الناس ، وتغير نسب التفاوت وأسبابه في النظم والمجتمعات . . وهذا التلازم مطرد في غير هذا المثال .
ثم قال : { وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } أي : إنما ذلك من الدنيا الفانية الزائلة الحقيرة عند الله [ تعالى ] {[26031]} أي : يعجل{[26032]} لهم بحسناتهم التي يعملونها في الدنيا مآكل ومشارب ، ليوافوا الآخرة وليس لهم عند الله حسنة يجزيهم بها ، كما ورد به الحديث الصحيح {[26033]} . [ وقد ] {[26034]} ورد في حديث آخر : " لو أن الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ، ما سقى منها كافرا شربة ماء " ، أسنده البغوي من رواية زكريا بن منظور ، عن أبى حازم ، عن سهل بن سعد ، عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره{[26035]} ورواه الطبراني من طريق زمعة بن صالح ، عن أبي حازم عن سهل بن سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم : " لو عدلت الدنيا جناح بعوضة ، ما أعطى كافرا منها شيئا " . {[26036]} ثم قال : { وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ } أي : هي لهم خاصة لا يشاركهم : فيها [ أحد ]{[26037]} غيرهم ولهذا لما قال عمر بن الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين صعد إليه في تلك المشربه لما آلى من نسائه ، فرآه [ عمر ] {[26038]} على رمال حصير قد أثر بجنبه{[26039]} فابتدرت عيناه بالبكاء وقال : يا رسول الله هذا كسرى وقيصر فيما هما فيه وأنت صفوة الله من خلقه . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئا فجلس وقال : " أوَ في{[26040]} شك أنت يا ابن الخطاب ؟ " ثم قال : " أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا " وفي رواية : " أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة ؟ " {[26041]}
وفي الصحيحين أيضا وغيرهما : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا تشربوا في آنية الذهب والفضة ، ولا تأكلوا في صحافها ، فإنها لهم في الدنيا ولنا في الآخرة " . وإنما خولهم الله تعالى في الدنيا لحقارتها ، كما روى الترمذي وابن ماجه ، من طريق أبي حازم ، عن سهل بن سعد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ، ما سقى منها كافرا شربة ماء أبدا " ، قال الترمذي : حسن صحيح {[26042]} .
وقوله : وَزُخْرُفا يقول : ولجعلنا لهم مع ذلك زخرفا ، وهو الذهب . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس وَزُخْرُفا وهو الذهب .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله : وَزُخْرُفا قال : الذهب . وقال الحسن : بيت من زُخرف ، قال : ذهب .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَزُخْرُفا الزخرف : الذهب ، قال : قد والله كانت تكره ثياب الشهرة . وذُكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : «إيّاكُمْ والحُمْرَةَ فإنّها مِنْ أحَبّ الزّينَةِ إلى الشّيْطانِ » .
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ وَزُخْرُفا قال : الذهب .
حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ وَزُخْرُفا قال : الذهب .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَزُخْرُفا لجعلنا هذا لأهل الكفر ، يعني لبيوتهم سقفا من فضة وما ذكر معها . والزخرف سمى هذا الذي سمى السقف ، والمعارج والأبواب والسرر من الأثاث والفرش والمتاع .
حُدثت عن الحسن ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : وَزُخْرُفا يقول : ذهبا . والزخرف على قول ابن زيد : هذا هو ما تتخذه الناس في منازلهم من الفرش والأمتعة والاَلات .
وفي نصب الزخرف وجهان : أحدهما : أن يكون معناه : لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومن زخرف ، فلما لم يكرّر عليه من نصب على إعمال الفعل فيه ذلك ، والمعنى فيه : فكأنه قيل : وزخرفا يجعل ذلك لهم منه . والوجه الثاني : أن يكون معطوفا على السرر ، فيكون معناه : لجعلنا لهم هذه الأشياء من فضة ، وجعلنا لهم مع ذلك ذهبا يكون لهم غنى يستغنون بها ، ولو كان التنزيل جاء بخفض الزخرف لكان : لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومن زخرف ، فكان الزخرف يكون معطوفا على الفضة . وأما المعارج فإنها جُمعت على مفاعل ، وواحدها معراج ، على جمع مِعرج ، كما يجمع المفتاح مفاتح على جمع مفتح ، لأنهما لغتان : معرج ، ومفتح ، ولو جمع معاريج كان صوابا ، كما يجمع المفتاح مفاتيح ، إذ كان واحده معراج .
وقوله : وَإنْ كُلّ ذلكَ لَمّا مَتاعُ الحَياةِ الدّنيْا يقول تعالى ذكره : وما كلّ هذه الأشياء التي ذكرت من السقف من الفضة والمعارج والأبواب والسرر من الفضة والزخرف ، إلا متاع يستمتع به أهل الدنيا في الدنيا وَالاَخِرَةُ عِنْدَ رَبّكَ لَلْمُتّقِينَ يقول تعالى ذكره : وزين الدار الاَخرة وبهاؤها عند ربك للمتقين ، الذين اتقوا الله فخافوا عقابه ، فجدّوا في طاعته ، وحذروا معاصيه خاصة دون غيرهم من خلق الله . كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَالاَخِرَةُ عِنْدَ رَبّكَ لِلْمْتّقِينَ خصوصا .
{ وزخرفا } وزينة عطف على { سقفا } أو ذهبا عطف على محل من فضة { وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا } إن هي المخففة واللام هي الفارقة . وقرأ عاصم وحمزة وهشام بخلاف عنه لما بالتشديد بمعنى إلا وأن نافية ، وقرئ به مع أن وما { والآخرة عند ربك للمتقين } عن الكفر والمعاصي ، وفيه دلالة على أن العظيم هو العظيم في الآخرة لا في الدنيا ، وإشعار بما لأجله لم يجعل ذلك للمؤمنين حتى يجتمع الناس على الإيمان ، وهو أنه تمتع قليل بالإضافة إلى ما لهم في الآخرة مخل به في الأغلب لما فيه من الآفات قل من يتخلص عنها كما أشار إليه بقوله : { ومن يعش عن ذكر الرحمن }