{ قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ } الله تعالى ، مشجعين لقومهم ، منهضين لهم على قتال عدوهم واحتلال بلادهم . { أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا } بالتوفيق ، وكلمة الحق في هذا الموطن المحتاج إلى مثل كلامهم ، وأنعم عليهم بالصبر واليقين .
{ ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ } أي : ليس بينكم وبين نصركم عليهم إلا أن تجزموا عليهم ، وتدخلوا عليهم الباب ، فإذا دخلتموه عليهم فإنهم سينهزمون ، ثم أمَرَاهم بعدة هي أقوى العدد ، فقالا : { وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ } فإن في التوكل على الله -وخصوصا في هذا الموطن- تيسيرا للأمر ، ونصرا على الأعداء . ودل هذا على وجوب التوكل ، وعلى أنه بحسب إيمان العبد يكون توكله ،
ثم بين القرآن بعد ذلك أن رجلين مؤمنين منهم قد استنكروا إحجام قومهم عن الجهاد ، وحرضاهم على طاعة نبيهم فقال : { قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الذين يَخَافُونَ أَنْعَمَ الله عَلَيْهِمَا ادخلوا عَلَيْهِمُ الباب فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى الله فتوكلوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ }
والمراد بالرجلين : يوشع بن نون ، وكالب بن يوقنا ، وكانا من الاثني عشر نقيباً .
وقد وصف الله - تعالى - هذين الرجلين بوصفين .
أولهما : قوله : { مِنَ الذين يَخَافُونَ } أي : من الذين يخافون الله وحده ويتقونه ولا يخافون سواه وفي وصفهم بذلك تعريض بأن من عداهما من القوم لا يخافونه - تعالى - بل يخافون العدو .
وقيل المعنى : من الذين يخافون الأعداء ويقدرون قوتهم إلا أن الله - تعالى - ربط على قلبيهما بطاعته . فجعلهما يقولان ما قالا :
الوصف الثاني : فهو قوله : { أَنْعَمَ الله عَلَيْهِمَا } فهذه الجملة صفة ثانية للرجلين . أي : قال رجلان موصوفان بأنهما من الذين يخافون الله - تعالى - ولا يخافون سواه ، وبأنهما من الذين أنعم الله عليهما بالإِيمان والتثبيت والثقة بوعده ، والطاعة لأمره قالا لقومهما .
هذا ، وقد ذكر صاحب الكشاف وغيره وجها ثالثا فقال : ويجوز أن تكون الواو في قوله : { يَخَافُونَ } - لبني إسرائيل . والراجع إلى الموصول محذوف . والتقدير : قال رجلان من الذين يخاف بنو إسرائيل منهم ، - وهم الجبارون - وهما رجلان منهم " أنعم الله عليهما " بالإِيمان فآمنا ، قالا لهم : إن العمالقة أجسام لا قلوب فلا تخافوهم وازحفوا إليهم فإنكم غالبوهم ، يشجعانهم على قتالهم . وقراءؤة من قرأ : ( يخافون ) - يضم الياء - شاهدة له . وكذلك . أنعم الله عليهما .
والذي نراه أن الرأي الأول أرجح وهو أن الرجلين من بني إسرائيل ، وأن قوله - تعالى - { مِنَ الذين يَخَافُونَ أَنْعَمَ الله عَلَيْهِمَا } صفتان للرجلين وأن مفعول يخافون محذوف للعلم به وهو الله - تعالى - أي : يخافون الله ويخشون لأن هذا هو الظاهر من معنى الآية ، وهو الذي صدر به المفسرون تفسيرهم للآية ، ولأنه لم يرد نص يعتمد عليه في أن أحد الجبارين قد آمن وحرض بني إسرائيل على قتال قومه ، بينما وردت الآثار في بيان اسمى الرجلين وأنهما كانا من الاثني عشر نقيبا - كما سبق أن ذكرنا - وقوله - تعالى - { ادخلوا عَلَيْهِمُ الباب فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ } تشجيع من الرجلين لقومهما ليزيلا عنهم الخوف من قتال الجبارين .
أي : قال الرجلان اللذان يخافان الله لقومهما : ادخلوا على أعدائكم باب مدينتهم وفاجئوهم بسيوفكم ، وباغتوهم بقتالكم إياهم ، فإذا فعلتم ذلك أحرزتم النصر عليهم ، وأدركتم الفوز ، فإنه " ما غزى قوم في عقر دارهم إلا ذلوا " .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت : من أين علما أنهم غالبون ؟ قلت : من جهة إخبار موسى بذلك . ومن جهة قوله - تعالى - { كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } وقيل : من جهة غلبة الظن وما تبينا من عادة الله في نصرة رسله ، وما عهدوا من صنع الله لموسى في قهر أعدائه ، وما عرفا من حال الجبابرة .
وقوله - تعالى - : { وَعَلَى الله فتوكلوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } دعوة من الرجلين المؤمنين لقومها ، بأن يكلوا أمورهم إلى خالقهم بعد مباشرة الأسباب ، وأن يعقدوا عزمهم على دخول الباب على أعدائهم ، إن كانوا مؤمنين حقا ، فإن النصر يحتاج إلى تأييد من الله - تعالى - لعباده ، وإلى توكل عليه وحده ، وإلى عزيمة صادقة ، ومباشرة للأسباب التي توصل إليه .
( قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما : ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون . وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين ) .
هنا تبرز قيمة الإيمان بالله ، والخوف منه . . فهذان رجلان من الذين يخافون الله ، ينشيء لهما الخوف من الله استهانة بالجبارين ! ويرزقهما شجاعة في وجه الخطر الموهوم ! وهذان هما يشهدان بقولتهما هذه بقيمة الإيمان في ساعة الشدة ؛ وقيمة الخوف من الله في مواطن الخوف من الناس . فالله سبحانه لا يجمع في قلب واحد بين مخافتين : مخافته - جل جلاله - ومخافة الناس . . والذي يخاف الله لا يخاف أحدا بعده ؛ ولا يخاف شيئا سواه . .
( ادخلوا عليهم الباب . فإذا دخلتموه فإنكم غالبون ) . .
قاعدة في علم القلوب وفي علم الحروب . . أقدموا واقتحموا . فمتى دخلتم على القوم في عقر دارهم انكسرت قلوبهم بقدر ما تقوى قلوبكم ؛ وشعروا بالهزيمة في أرواحهم وكتب لكم الغلب عليهم . .
( وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين ) . .
فعلى الله - وحده - يتوكل المؤمن . وهذه هي خاصية الإيمان وعلامته ؛ وهذا هو منطق الإيمان ومقتضاه . . ولكن لمن يقولان هذا الكلام ؟ لبني إسرائيل ؟ !
وقوله : { قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا } أي : فلما نكل بنو إسرائيل عن طاعة الله ومتابعة رسول الله موسى ، عليه السلام ، حرضهم رجلان لله عليهما نعمة عظيمة ، وهما ممن يخاف أمر الله ويخشى عقابه .
وقرأ بعضهم : { قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يُخَافُونَ } أي : ممن لهم{[9537]} مهابة وموضع من الناس . ويقال : إنهما " يوشع بن نون " و " كالب بن يوفنا " ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ، وعطية ، والسُّدِّي ، والربيع بن أنس ، وغير واحد من السلف ، والخلف ، رحمهم الله ، فقالا { ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } أي : متى توكلتم على الله واتبعتم أمره ، ووافقتم رسوله ، نصركم الله على أعدائكم وأيدكم وظفركم بهم ، ودخلتم البلدة التي كتبها الله لكم . فلم ينفع ذاك فيهم شيئًا .
{ قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكّلُوَاْ إِن كُنتُم مّؤْمِنِينَ } . .
وهذا خبر من الله عزّ ذكره عن الرجلين الصالحين من قوم موسى : يوشع بن نون ، وكالب بن يوفنا ، أنهما وفيا لموسى بما عهد إليهما من ترك إعلام قومه بني إسرائيل الدين أمرهم بدخول الأرض المقدسة على الجبابرة من الكنعانيين ، بما رأيا وعاينا من شدة بطش الجبابرة وعظم خلقهم ، ووصفهما الله بأنهما ممن يخاف الله ويراقبه في أمره ونهيه كما :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان . ح ، وحدثنا ابن وكيع ، قال حدثنا أبي ، عن سفيان . ح ، وحدثنا هناد ، قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد ، قال : رَجُلانِ مِنَ الّذِينَ يَخافُونَ أنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِما قال : كلاب بن يوفنا ويوشع بن نون .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عمرو بن أبي قيس ، عن منصور ، عن مجاهد ، قال : رَجُلانِ مِنَ الّذِينَ يَخافُونَ أنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِما قال : يوشع بن نون ، وكلاب بن يوفنا ، وهما من النقباء .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قصة ذكرها ، قال : فرجع النقباء كلهم ينهى سبطه عن قتالهم ، إلاّ يوشع بن نون ، وكلاب بن يوفنا ، يأمران الأسباط بقتال الجبارين ومجاهدتهم ، فعصوهما ، وأطاعوا الاَخرين ، فهما الرجلان اللذان أنعم الله عليهما .
حدثنا ابن حميد ، وسفيان بن وكيع ، قالا : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد ، مثل حديث ابن بشار ، عن ابن مهدي ، إلاّ أن ابن حميد قال في حديثه : هما من الاثنى عشر نقيبا .
حدثني عبد الكريم بن الهيثم ، قال : حدثنا إبراهيم بن بشار ، قال : حدثنا سفيان ، قال : قال أبو سعيد ، قال عكرمة ، عن ابن عباس في قصة ذكرها ، قال : فرجعوا يعني النقباء الاثني عشر إلى موسى ، فأخبروه بما عاينوا من أمرهم ، فقال لهم موسى : اكتموا شأنهم ولا تخبروا به أحدا من أهل العسكرة فإنكم إن أخبرتموهم بهذا الخبر فشلوا ولم يدخلوا المدينة . قال : فذهب كلّ رجل منهم ، فأخبر قريبه وابن عمه ، إلاّ هذين الرجلين يوشع بن نون وكلاب بن يوفنا ، فإنهما كتما ولم يخبرا به أحدا ، وهما اللذان قال الله : قالَ رَجُلانِ مِنَ الّذِينَ يَخافُونَ أنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِما . . . إلى قوله : وبينَ القَوْمِ الفاسِقِينَ .
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : قالَ رَجُلانِ مِنَ الّذِينَ يَخافُونَ أنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِما وهما اللذان كتماهم : يوشع بن نون فتى موسى ، وكالوب بن يوفنة ختن موسى .
حدثنا سفيان ، قال : حدثنا عبيد الله ، عن فضيل بن مرزوق ، عن عطية : قالَ رَجُلانِ مِنَ الّذِينَ يَخافُونَ أنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِما كالوب ويوشع بن نون فتى موسى .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : قالَ رَجُلانِ مِنَ الّذِينَ يَخافُونَ أنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِما والرجلان اللذان أنعم الله عليهما من بني إسرائيل : يوشع بن نون ، كالوب بن يوفنة .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : قالَ رَجُلانِ مِنَ الّذِينَ يَخافُونَ أنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِما ذُكر لنا أن الرجلين : يوشع بن نون ، وكالب .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : أن موسى قال للنقباء لما رجعوا فحدّثوه العجب : لا تحدّثوا أحدا بما رأيتم ، إن الله سيفتحها لكم ويظهركم عليها من بعد ما رأيتم وإن القوم أفشوا الحديث من بني إسرائيل ، فقام رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما : كان أحدهما فيما سمعنا يوشع بن نون وهو فتى موسى ، والاَخر كالب ، فقالا : ادخلوا عليهم الباب إن كنتم مؤمنين .
واختلف القرّاء في قراءة قوله : قالَ رَجُلانِ مِنَ الّذِينَ يَخافُونَ . قرأ ذلك قرّاء الحجاز والعراق والشام : قالَ رَجُلانِ مِنَ الّذِينَ يَخافُونَ أنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِما بفتح الياء من «يخافون » ، على التأويل الذي ذكرنا عمن ذكرنا عنه آنفا ، أنهما يوشع بن نون وكالب من قوم موسى ، ممن يخاف الله ، وأنعم عليهما بالتوفيق . وكان قتادة يقول في بعض القراءة : «قالَ رَجُلانِ مِنَ الّذِينَ يَخافُونَ أنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِما » .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة . ح ، وحدثثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة : قالَ رَجُلانِ مِنَ الّذِينَ يَخافُونَ أنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِما في بعض الحروف : «يخافون الله أنعم الله عليهما » .
وهذا أيضا مما يدلّ على صحة تأويل من تأوّل ذلك على ما ذكرنا عنه أنه قال : يوشع ، وكالب . ورُوي عن سعيد بن جبير أنه كان يقرأ ذلك : «قال رَجُلانِ منَ الّذِينَ يُخافونَ » بضم الياء «أنعم اللّهُ عَلَيْهِما » .
حدثني بذلك أحمد بن يوسف ، قال : حدثنا القاسم بن سلام ، قال : حدثنا هشيم ، عن القاسم بن أبي أيوب ، ولا نعلمه أنه سمع منه ، عن سعيد بن جبير أنه كان يقرؤها بضم الياء من : «يُخافُونَ » .
وكأنّ سعيدا ذهب في قراءته هذه إلى أن الرجلين اللذين أخبر الله عنهما أنهما قالا لبني إسرائيل : ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون ، كانا من رهط الجبابرة ، وكانا أسلما واتبعا موسى ، فهما من أولاد الجبابرة ، اغلذين يخافهم بنو إسرائيل وإن كان لهم في الدين مخالفين . وقد حُكِي نحو هذا التأويل عن ابن عباس .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : ادْخُلُوا الأرْضَ المُقَدّسَة التي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدّوا على أدبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ قال : هي مدنة الجبارين ، لما نزل بها موسى وقومه ، بعث منهم اثني عشر رجلاً ، وهم النقباء الذين ذكر نعتهم ليأتوه بخبرهم . فساروا ، فلقيهم رجل من الجبارين ، فجعلهم في كسائه ، فحملهم حتى أتى بهم المدينة ، ونادى في قومه ، فاجتمعوا إليه ، فقالوا : من أنتم ؟ فقالوا : نحن قوم موسى ، بعثنا إليكم لنأتيه بخبركم ، فأعطوهم حبة من عنب بوقر الرجل ، فقالوا لهم : اذهبوا إلى موسى وقومه ، فقولوا لهم : اقدُروا قدر فاكهتهم فلما أتوهم ، قالوا لموسى : اذْهَبْ أنْتَ وَرَبّكَ فَقاتِلا إنّا هَهُنا قاعِدُونَ قالَ رَجُلانِ مِنَ الّذِينَ يَخافُونَ أنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِما وكانا من أهل المدينة أسلما واتبعا موسى وهارون ، فقالا لموسى : ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ البابَ فإذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإنّكُمْ غالِبونَ وَلعى اللّهِ فَتَوَكّلُوا إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ .
فعلى هذه القراءة وهذا التأويل لم يكتم من الاثنى عشر نقيبا أحدا ما أمرهم موسى بكتمانه بني إسرائيل مما رأوا وعاينوا من عظم أجسام الجبابرة وشدّة بطشهم وعجيب أمورهم ، بل أفشوا ذلك كله . وإنما القائل للقوم ولموسى : ادخلوا عليهم الباب ، رجلان من أولاد الذين كان بنو إسرائيل يخافونهم ويرهبون الدخول عليهم من الجبابرة ، كان أسلما وتبعا نبيّ الله صلى الله عليه وسلم .
وأولى القراءتين بالصواب عندنا ، قراءة من قرأ مِنَ الّذِينَ يَخافُونَ أنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِما لإجماع قرّاء فيه الخطأ والسهو . ثم في إجماع الحجة في تأويلها على أنهما رجلان من أصحاب موسى من بني إسرائيل وأنهما يوشع وكلاب ، ما أغنى عن الاستشهاد على صحة القراءة بفتح الياء في ذلك وفساد غيره ، وهو التأويل الصحيح عندنا لما ذكرنا من أجماعها عليه .
وأما قوله : أنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِما فإته يعني : أنعم الله عليهم بطاعة الله في طاعة نبيه موسى صلى الله عليه وسلم ، وانتهائهم إلى أمره ، والانزجار عما زجرهما عنه صلى الله عليه وسلم ، من إفشاء ما عاينا من عجيب أمر الجبارين إلى بني إسرائيل الذي حذّر عنه أصحابهما الاَخرين الذين كانوا معهما من النقباء . وقد قيل : إن معنى ذلك : أنعم الل عليهما بالخوف . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا خلف بن تميم ، قال : حدثنا إسحاق بن القاسم ، عن سهل ابن عليّ ، قوله : قالَ رَجُلانِ مِنَ الّذِينَ يَخافُونَ أنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِما قال : أنعم الله عليهما بالخوف .
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، كان الضحاك يقول وجماعة غيره .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : ثني عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : قالَ رَجُلانِ مِنَ الّذِينَ يَخافُونَ أنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِما بالهدى فهداهما ، فكانا على دين موسى ، وكانا في مدينة الجبارين .
القول في تأويل قوله تعالى : ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ البابَ فإذَا دَخَلْتُمُوهُ فإنّكُمْ غالِبُونَ .
وهذا خبر من الله عزّ ذكره عن قول الرجلين اللذين يخافان الله لبني إسرائيل إذ جبنوا وخافوا من الدخول على الجبارين لما سمعوا خبرهم ، وأخبرهم النقباءالذين أفشوا ما عاينوا من أمرهم فيهم ، وقالوا : إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها ، فقالا لهم : ادخلوا عليهم أيها القوم باب مدينتهم ، فإن الله معكم وهو ناصركم ، وإنكم إذا دخلتم الباب غلبتموهم . كما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن بعض أهل العلم بالكتاب الأوّل ، قال : لما همّ بنو إسرائيل بالانصراف إلى مصر حين أخبرهم النقباء بما أخبروهم من أمر الجبابرة ، خرّ موسى وهارون على وجوههما سجودا قدام جماعة بني إسرائيل ، وخرّق يوشع بن نون وكالب بن يوفنا ثيابهما ، وكانا من جواسيس الأرض ، وقالا لجماعة بني إسرائيل : إن الأرض مررنا بها وجسسناها صالحة رضيها ربنا لنا فوهبها لنا ، وإنها لم تكن تفيض لبنا وعسلاً ، ولكن افعلوا واحدة ، لا تعصُوا الله ، ولا تخَشوُا الشعب الذين بها ، فإنهم جبناء ، مدفوعون في أيدينا ، إن حاربناهم ذهبت منهم ، وإن الله معنا فلا تخشوهم . فأراد من بني إسرائيل أن يرجموهما بالحجارة .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : ذكر لنا أنهم بعثوا اثني عشر رجلاً ، من كل سبط رجلاً ، عيونا لهم ، وليأتوهم بأخبار القوم . فأما عشرة فجبّنوا قومهم وكَرّهُوا إليهم الدخول عليهم . وأما الرجلان فأمرا قومهما أن يدخلوها ، وأن يتبعوا أمر الله ، ورغبا في ذلك ، وأخبرا قومهما أنهم غالبون إذا فعلوا ذلك .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : عَلَيْهِمُ البابَ قرية الجبارين .
القول في تأويل قوله تعالى : وعلى اللّهِ فَتَوَكّلُوا إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنينَ .
وهذا أيضا خبر من الله جلّ وعزّ ، عن قول الرجلين اللذين يخافان الله أنهما قالا لقوم موسى يشجعانهم بذلك ، ويرغبانهم في المضيّ لأمر الله بالدخول على الجبارين في مدينتهم : توكلوا أيها القوم على الله في دخولكم عليهم ويقولان لهم : ثقوا بالله فإنه معكم إن أطعتموه فيما أمركم من جهاد عدوّكم . وعنيا بقولهما إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ : إن كنتم مصدّقي نبيكم صلى الله عليه وسلم ، فيما أنبأكم عن ربكم من النصرة والظفر عليهم ، وفي غير ذلك من إخباره عن ربه ، ومؤمنين بأن ربكم قادر على الوفاء لكم بما وعدكم من تمكينكم في بلاد عدوّه وعدوّكم .