ثم ختم هذه الآيات بأشد أنواع الوعيد لمن هذه صفاته فقال - تعالى - { سَنَسِمُهُ عَلَى الخرطوم } .
أي : سنبين أمره ونوضحه توضيحا يجعل الناس يعرفونه معرفة تامة لا خفاء معها ولا لبس ولا غموض ، كما لا تخفى العلامة الكائنة على الخرطوم ، الذي يراد به هنا الأنف . والوسم عليه يكون بالنار .
أو سنلحق به عارا لا يفارقه ، بل يلازمه مدى الحياة ، وكان العرب إذا أرادوا أن يسبوا رجلا سبة قبيحة . . قد وُسِمَ فلان مِيسَمَ سوء . . أي : التصق به عار لا يفارقه ، كالسمة التي هي العلامة التى لا يمحى أثرها . .
وذكر الوسم والخرطوم فيه ما فيه من الذم ، لأن فيه جمعا بين التشويه الذي يترتب على الوسم السَّيِّئ ، وبين الإِهانة ، لأن كون الوسم في الوجه بل في أعلى جزء من الوجه وهو الأنف .
ومما لا شك فيه أن وقع هذه الآيات على الوليد بن المغيرة وأمثاله ، كان قاصما لظهورهم ، ممزقا لكيانهم ، هادما لما كانوا يتفاخرون به من أمجاد زائفة ، لأنه ذم لهم من رب الأرض والسماء ، الذي لا يقول إلا حقا وصدقا .
كذلك كانت هذه الآيات تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم ولأصحابه ، عما أصابهم من أذى ، من هؤلاء الحلافين بالباطل والزور ، المشائين بين الناس بالنميمة ، المناعين لكل خير وبر .
ومن ثم يجيء التهديد من الجبار القهار ، يلمس في نفسه موضع الاختيال والفخر بالمال والبنين ؛ كما لمس وصفه من قبل موضع الاختيال بمكانته ونسبه . . ويسمع وعد الله القاطع :
ومن معاني الخرطوم طرف أنف الخنزير البري . . ولعله هو المقصود هنا كناية عن أنفه ! والأنف في لغة العرب يكنى به عن العزة فيقال : أنف أشم للعزيز . وأنف في الرغام للذليل . . أي في التراب ! ويقال ورم أنفه وحمي أنفه ، إذا غضب معتزا . ومنه الأنفة . . والتهديد بوسمه على الخرطوم يحوي نوعين من الإذلال والتحقير . . الأولى الوسم كما يوسم العبد . . والثاني جعل أنفه خرطوما كخرطوم الخنزير !
وما من شك أن وقع هذه الآيات على نفس الوليد كان قاصما . فهو من أمة كانت تعد هجاء شاعر - ولو بالباطل - مذمة يتوقاها الكريم ! فكيف بدمغه بالحق من خالق السماوات والأرض . بهذا الأسلوب الذي لا يبارى . في هذا السجل الذي تتجاوب بكل لفظ من ألفاظه جنبات الوجود . ثم يستقر في كيان الوجود . . في خلود . .
إنها القاصمة التي يستأهلها عدو الإسلام وعدو الرسول الكريم صاحب الخلق العظيم . .
قال تعالى هاهنا : { سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ }
قال ابن جرير : سنبين أمره بيانًا واضحًا ، حتى يعرفوه ولا يخفى عليهم ، كما لا تخفى السمة على الخراطيم{[29187]} وهكذا قال قتادة : { سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ } شين لا يفارقه آخر ما عليه .
وفي رواية عنه : سيما{[29188]} على أنفه . وكذا قال السدي .
وقال العوفي ، عن ابن عباس : { سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ } يقاتل يوم بدر ، فيُخطم بالسيف في القتال . وقال آخرون : { سَنَسِمُهُ } سمة أهل النار ، يعني نسود وجهه يوم القيامة ، وعبر عن الوجه بالخرطوم . حكى ذلك كله أبو جعفر ابن جرير ، ومال إلى أنه لا مانع من اجتماع الجميع عليه في الدنيا والآخرة ، وهو مُتّجه .
وقد{[29189]} قال ابن أبي حاتم في سورة { عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ } حدثنا أبي ، حدثنا أبو صالح كاتب الليث ، حدثني الليث حدثني خالد عن{[29190]} سعيد ، عن عبد الملك بن عبد الله ، عن عيسى بن هلال الصدفي ، عن عبد الله بن عمرو ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن العبد يكتب مؤمنًا أحقابًا ثم أحقابا{[29191]} ثم يموت والله عليه ساخط . وإن العبد يكتب كافرًا أحقابًا ثم أحقابًا ، ثم يموت والله عليه{[29192]} راض . ومن مات هَمَّازًا لمَّازًا مُلَقّبا للناس ، كان علامته يوم القيامة أن يسميه الله على الخرطوم ، من كلا الشفتين " {[29193]} .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.