والمخادعة : أن يظهر المخادع لمن يخادعه شيئا ، ويبطن خلافه لكي يتمكن من مقصوده ممن يخادع ، فهؤلاء المنافقون ، سلكوا مع الله وعباده هذا المسلك ، فعاد خداعهم على أنفسهم ، فإن{[39]} هذا من العجائب ، لأن المخادع ، إما أن ينتج خداعه ويحصل له ما يريد{[40]} أو يسلم ، لا له ولا عليه ، وهؤلاء عاد خداعهم عليهم ، وكأنهم{[41]} يعملون ما يعملون من المكر لإهلاك أنفسهم وإضرارها وكيدها ، لأن الله تعالى لا يتضرر بخداعهم [ شيئا ] وعباده المؤمنون ، لا يضرهم كيدهم شيئا ، فلا يضر المؤمنين أن أظهر المنافقون الإيمان ، فسلمت بذلك أموالهم وحقنت دماؤهم ، وصار كيدهم في نحورهم ، وحصل لهم بذلك الخزي والفضيحة في الدنيا ، والحزن المستمر بسبب ما يحصل للمؤمنين من القوة والنصرة .
ثم في الآخرة لهم العذاب الأليم الموجع المفجع ، بسبب كذبهم وكفرهم وفجورهم ، والحال أنهم من جهلهم وحماقتهم لا يشعرون بذلك .
ثم بين - سبحانه - الدوافع التي دفعتهم إلى أن يقولوا { آمَنَّا بالله وباليوم الآخر وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ } فقال : { يُخَادِعُونَ الله والذين آمَنُوا } .
والخدع في أصل اللغة : الإِخفاء والإِبهام ، يقال خدعه - كمنعه - خدعا ، ختله وأراد به مكروها من حيث لا يعلم ؛ وأصله من خدع الضب حارسه إذ أظهر الإِقبال عليه ثم خرج من باب آخر . وخداعهم لله - تعالى - معناه إظهارهم الإِيمان وإبطانهم الكفر ليحقنوا دماءهم وأموالهم ، ويفوزوا بسهم من الغنائم ، وسمى فعلهم هذا خداعاً لله - تعالى - لأن صورته صورة الخداع ، فالجملة الكريمة مسوقة على أسلوب المشاكلة ، ولا يجوز حملها على الحقيقة ، لأنه - سبحانه - لا يخفى عليه صنع المنافقين ؛ بل لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء . قال - تعالى - { إِنَّ المنافقين يُخَادِعُونَ الله وَهُوَ خَادِعُهُمْ }
أما خداعهم للمؤمنين فمن مظاهره إظهارهم لهم أنهم إخوانهم في العقيدة وأنهم لا يريدون لهم إلا الخير . بينما هم في الحقيقة يضمرون لهم إلا الخير . بينما هم في الحقيقة يضمرون لهم العداوة ويتربصون بهم الدوائر .
وجاءت الآية الكريمة هكذا بدون عطف ، لأنها جواب سؤال نشأ من الآية السابقة ، إذ أن قول المنافقين " آمنا " وما هم بمؤمنين ، يثير في نفس السامعين استفهاما عما يدعو هؤلاء لمثل تلك الحالة المضطربة والحياة القلقة المقامة على الكذب ، فكان الجواب : إنهم يفعلون ذلك محاولين مخادعة المؤمنين ، جهلا منهم بصفات خالقهم .
وقال القرآن : { يُخَادِعُونَ الله والذين آمَنُوا } . ولم يذكر مخادعتهم للرسول صلى الله عليه وسلم ، ولعل الحكمة في ذلك أن القرآن يعتبر مخادعة لرسوله ، لأنه هو الذي بعثه إليهم ، وهو المبلغ عن الله أحكامه وشرائعه . قال - تعالى - : { إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ } وقال - تعالى { مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله } ثم بين - سبحانه - غفلتهم وغباءهم فقال : { وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ } .
الأنفس : جمع نفس بمعنى ذات الشيء وحقيقته . وتطلق على الجوهر اللطيف الذي يكون به الحس والحركة والإدراك .
ويشعرون : مضارع شعر بالشيء - كنصر وكرم - يقال : شعر بالشيء أي : فطن له ، ومنه الشاعر لفطنته ، لأنه يفطن لما لا يفطن له غيره من غريب المعاني ودقائقها .
والشعور : العلم الحاصل بالحواس ، ومنه مشاعر الإنسان أي : حواسه . والمعنى : أن هؤلاء المنافقين لم يخادعوا الله لعلمه بما يسرون ، ولم يخادعوا المؤمنين لأن الله يدفع عنهم ضرر خداع المنافقين ، وإنما يخدعون أنفسهم لأن ضرر المخادعة عائد عليهم ولكنهم لا يشعرون بذلك . لأن ظلام الغي خالط قلوبهم ، فجعلهم عديمي الشعور ، فاقدى الحس .
وأتى بجملة " وما يخدعون إلا أنفسهم " بأسلوب القصر مع أن خداعهم للمؤمنين قد ينالهم بسببه ضرر ، لأن أولئك المنافقين سيصيبهم عذاب شديد بسبب ذلك ، أما المؤمنون فحتى لو نالهم ضرر فلهم عند الله ثوابه . ونفى عنهم الشعور مع سلامة مشاعرهم ، لأنهم لم ينتفعوا من نعمتها ، ولم يستعملوها فيما خلقت له ، فكانوا كالفاقدين لها .
يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ ( 9 ) فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ( 10 )
وهم يظنون في أنفسهم الذكاء والدهاء والقدرة على خداع هؤلاء البسطاء ؛ ولكن القرآن يصف حقيقة فعلتهم ، فهم لا يخادعون المؤمنين ، إنما يخادعون الله كذلك أو يحاولون :
( يخادعون الله والذين آمنوا ) . .
وفي هذا النص وأمثاله نقف أمام حقيقة كبيرة ، وأمام تفضل من الله كريم . . تلك الحقيقة هي التي يؤكدها القرآن دائما ويقررها ، وهي حقيقة الصلة بين الله والمؤمنين . إنه يجعل صفهم صفه ، وأمرهم أمره . وشأنهم شأنه . يضمهم سبحانه إليه ، ويأخذهم في كنفه ، ويجعل عدوهم عدوه ، وما يوجه إليهم من مكر موجها إليه - سبحانه - وهذا هو التفضل العلوي الكريم . . التفضل الذي يرفع مقام المؤمنين وحقيقتهم إلى هذا المستوى السامق ؛ والذي يوحي بأن حقيقة الإيمان في هذا الوجود هي أكبر وأكرم الحقائق ، والذي يسكب في قلب المؤمن طمأنينة لا حد لها ، وهو يرى الله - جل شأنه - يجعل قضيته هي قضيته ، ومعركته هي معركته ، وعدوه هو عدوه ، ويأخذه في صفة ، ويرفعه إلى جواره الكريم . . فماذا يكون العبيد وكيدهم وخداعهم وأذاهم الصغير ؟ !
وهو في ذات الوقت تهديد رعيب للذين يحاولون خداع المؤمنين والمكر بهم ، وإيصال الأذى إليهم . تهديد لهم بأن معركتهم ليست مع المؤمنين وحدهم إنما هي مع الله القوي الجبار القهار . وأنهم إنما يحاربون الله حين يحاربون أولياءه ، وإنما يتصدون لنقمة الله حين يحاولون هذه المحاولة اللئيمة .
وهذه الحقيقة من جانبيها جديرة بأن يتدبرها المؤمنون ليطمئنوا ويثبتوا ويمضوا في طريقهم لا يبالون كيد الكائدين ، ولا خداع الخادعين ، ولا أذى الشريرين . ويتدبرها أعداء المؤمنين فيفزعوا ويرتاعوا ويعرفوا من الذي يحاربونه ويتصدون لنقمته حين يتصدون للمؤمنين . .
ونعود إلى هؤلاء الذين يخادعون الله والذين آمنوا بقولهم : آمنا بالله وباليوم الآخر . ظانين في أنفسهم الذكاء والدهاء . . ولكن يا للسخرية ! يا للسخرية التي تنصب عليهم قبل أن تكتمل الآية : ( وما يخدعون إلا أنفسهم ، وما يشعرون ) . .
إنهم من الغفلة بحيث لا يخدعون إلا أنفسهم في غير شعور ! إن الله بخداعهم عليم ؛ والمؤمنون في كنف الله فهو حافظهم من هذا الخداع اللئيم . أما أولئك الأغفال فهم يخدعون أنفسهم ويغشونها . يخدعونها حين يظنون أنهم أربحوها وأكسبوها بهذا النفاق ، ووقوها مغبة المصارحة بالكفر بين المؤمنين . وهم في الوقت ذاته يوردونها موارد التهلكة بالكفر الذي يضمرونه ، والنفاق الذي يظهرونه . وينتهون بها إلى شر مصير !
{ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاّ أَنْفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ }
قال أبو جعفر : وخداع المنافق ربه والمؤمنين إظهاره بلسانه من القول والتصديق خلاف الذي في قلبه من الشك والتكذيب ليدرأ عن نفسه بما أظهر بلسانه حُكْمَ الله عز وجل اللازمَ من كان بمثل حاله من التكذيب لو لم يظهر بلسانه ما أظهر من التصديق والإقرار من القتل والسباء ، فذلك خداعه ربه وأهل الإيمان بالله .
فإن قال قائل : وكيف يكون المنافق لله وللمؤمنين مخادعا وهو لا يظهر بلسانه خلاف ما هو له معتقد إلا تقية ؟ قيل : لا تمتنع العرب أن تسمي من أعطى بلسانه غير الذي هو في ضميره تقية لينجو مما هو له خائف ، فنجا بذلك مما خافه مخادعا لمن تخلص منه بالذي أظهر له من التقية ، فكذلك المنافق سمي مخادعا لله وللمؤمنين باظهاره ما أظهر بلسانه تقية مما تخلص به من القتل والسباء والعذاب العاجل ، وهو لغير ما أظهر مستبطن ، وذلك من فعله وإن كان خداعا للمؤمنين في عاجل الدنيا فهو لنفسه بذلك من فعله خادع لأنه يظهر لها بفعله ذلك بها أنه يعطيها أمنيتها ويسقيها كأس سرورها ، وهو موردها به حياض عطبها ، ومجرّعها به كأس عذابها ، ومذيقها من غضب الله وأليم عقابه ما لا قبل لها به . فذلك خديعته نفسه ظنّا منه مع إساءته إليها في أمر معادها أنه إليها محسن ، كما قال جل ثناؤه : وَما يَخْدَعُونَ إلاّ أنْفُسَهُمْ وَما يَشْعَرُونَ إعلاما منه عباده المؤمنين أن المنافقين بإساءتهم إلى أنفسهم في إسخاطهم ربهم بكفرهم وشكهم وتكذيبهم غير شاعرين ولا دارين ، ولكنهم على عمياء من أمرهم مقيمون .
وبنحو ما قلنا في تأويل ذلك كان ابن زيد يقول .
حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب قال : سألت عبد الرحمن بن زيد ، عن قول الله جل ذكره : يُخادعُونَ اللّهَ وَالّذِينَ آمَنُوا إلى آخر الآية ، قال : هؤلاء المنافقون يخادعون الله ورسوله والذين آمنوا ، أنهم مؤمنون بما أظهروا .
وهذه الآية من أوضح الدليل على تكذيب الله جل ثناؤه قول الزاعمين : إن الله لا يعذب من عباده إلا من كفر به عنادا ، بعد علمه بوحدانيته ، وبعد تقرّر صحة ما عاند ربه تبارك وتعالى عليه من توحيده والإقرار بكتبه ورسله عنده لأن الله جل ثناؤه قد أخبر عن الذين وصفهم بما وصفهم به من النفاق وخداعهم إياه والمؤمنين أنهم لا يشعرون أنهم مبطلون فيما هم عليه من الباطل مقيمون ، وأنهم بخداعهم الذي يحسبون أنهم به يخادعون ربهم وأهل الإيمان به مخدوعون . ثم أخبر تعالى ذكره أن لهم عذابا أليما بتكذيبهم بما كانوا يكذبونه من نبوّة نبيه واعتقاد الكفر به ، وبما كانوا يكذبون في زعمهم أنهم مؤمنون ، وهم على الكفر مصرّون .
فإن قال لنا قائل : قد علمت أن المفاعلة لا تكون إلا من فاعلين ، كقولك : ضاربت أخاك ، وجالست أباك إذا كان كل واحد مجالس صاحبه ومضاربه . فأما إذا كان الفعل من أحدهما فإنما يقال : ضربت أخاك وجلست إلى أبيك ، فمن خادع المنافق فجاز أن يقال فيه : خادع الله والمؤمنين . قيل : قد قال بعض المنسوبين إلى العلم بلغات العرب : إن ذلك حرف جاء بهذه الصورة ، أعني «يُخادع » بصورة «يُفاعل » وهو بمعنى «يَفْعل » في حروف أمثالها شاذّة من منطق العرب ، نظير قولهم : قاتلك الله ، بمعنى قتلك الله .
وليس القول في ذلك عندي كالذي قال ، بل ذلك من التفاعل الذي لا يكون إلا من اثنين كسائر ما يعرف من معنى «يُفاعل ومُفاعل » في كل كلام العرب ، وذلك أن المنافق يخادع الله جل ثناؤه بكذبه بلسانه على ما قد تقدم وصفه ، والله تبارك اسمه خادعه بخذلانه عن حسن البصيرة بما فيه نجاة نفسه في آجل معاده ، كالذي أخبر في قوله : { وَلا يَحْسَبنّ الّذِينَ كَفَرُوا أنّمَا نُمْلي لَهُمْ خَيْرٌ لأنْفُسِهِمْ إِنّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إثْما } وبالمعنى الذي أخبر أنه فاعل به في الاَخرة بقوله : { يَوْمَ يَقُولُ المُنافِقُونَ وَالمُنافِقَاتُ لِلّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ } الآية ، فذلك نظير سائر ما يأتي من معاني الكلام بيفاعل ومفاعل . وقد كان بعض أهل النحو من أهل البصرة يقول : لا تكون المفاعلة إلا من شيئين ، ولكنه إنما قيل : يخادعون الله عند أنفسهم بظنهم أن لا يعاقبوا ، فقد علموا خلاف ذلك في أنفسهم بحجة الله تبارك اسمه الواقعة على خلقه بمعرفته وما يخْدَعُونَ إلاّ أنْفُسَهُمْ . قال : وقد قال بعضهم : وما يخدعون يقول : يخدعون أنفسهم بالتخلية بها . وقد تكون المفاعلة من واحد في أشياء كثيرة .
القول في تأويل قوله تعالى : وَما يَخْدَعُونَ إلاّ أنْفُسَهُمْ .
إن قال لنا قائل : أوليس المنافقون قد خدعوا المؤمنين بما أظهروا بألسنتهم من قيل الحقّ عن أنفسهم وأموالهم وذراريهم حتى سلمت لهم دنياهم وإن كانوا قد كانوا مخدوعين في أمر آخرتهم ؟ قيل : خطأ أن يقال إنهم خدعوا المؤمنين لأنا إذا قلنا ذلك أوجبنا لهم حقيقة خدعة جازت لهم على المؤمنين ، كما أنا لو قلنا : قتل فلان فلانا ، أوجبنا له حقيقة قتل كان منه لفلان . ولكنا نقول : خادع المنافقون ربهم والمؤمنين ، ولم يخدعوهم بل خدعوا أنفسهم ، كما قال جل ثناؤه ، دون غيرها ، نظير ما تقول في رجل قاتل آخر فقتل نفسه ولم يقتل صاحبه : قاتل فلان فلانا ولم يقتل إلا نفسه ، فتوجب له مقاتلة صاحبه ، وتنفي عنه قتله صاحبه ، وتوجب له قتل نفسه . فكذلك تقول : خادع المنافق ربه والمؤمنين ، ولم يخدع إلا نفسه ، فتثبت منه مخادعة ربه والمؤمنين ، وتنفي عنه أن يكون خدع غير نفسه لأن الخادع هو الذي قد صحت له الخديعة ووقع منه فعلها . فالمنافقون لم يخدعوا غير أنفسهم ، لأن ما كان لهم من مال وأهل فلم يكن المسلمون ملكوه عليهم في حال خداعهم إياه عنه بنفاقهم ولا قبلها فيستنقذوه بخداعهم منهم ، وإنما دافعوا عنه بكذبهم وإظهارهم بألسنتهم غير الذي في ضمائرهم ، ويحكم الله لهم في أموالهم وأنفسهم وذراريهم في ظاهر أمورهم بحكم ما انتسبوا إليه من الملة ، والله بما يخفون من أمورهم عالم . وإنما الخادع من خَتَلَ غيره عن شيئه ، والمخدوع غير عالم بموضع خديعة خادعه . فأما والمخادَع عارف بخداع صاحبه إياه ، وغير لاحقه من خداعه إياه مكروه ، بل إنما يتجافى للظان به أنه له مخادع استدراجا ليبلغ غاية يتكامل له عليه الحجة للعقوبة التي هو بها موقع عند بلوغه إياها . والمستدرج غير عالم بحال نفسه عند مستدرجه ، ولا عارف باطلاعه على ضميره ، وأن إمهال مستدرجيه إياه تركه معاقبته على جرمه ليبلغ المخاتل المخادع من استحقاقه عقوبة مستدرجه بكثرة إساءته وطول عصيانه إياه وكثرة صفح المستدرج وطول عفوه عنه أقصى غاية ، فإنما هو خادع نفسه لا شك دون من حدثته نفسه أنه له مخادع . ولذلك نفى الله جل ثناؤه عن المنافق أن يكون خدع غير نفسه ، إذ كانت الصفة التي وصفنا صفته . وإذ كان الأمر على ما وصفنا من خداع المنافق ربه وأهل الإيمان به ، وأنه غير سائر بخداعه ذلك إلى خديعة صحيحة إلا لنفسه دون غيرها لما يورطها بفعله من الهلاك والعطب ، فالواجب إذا أن يكون الصحيح من القراءة : وَما يَخْدَعُونَ إلاّ أنْفُسَهُمْ دون : «وما يخادعون » ، لأن لفظ المخادع غير موجب تثبيت خديعة على صحة ، ولفظ خادع موجب تثبيت خديعة على صحة . ولا شك أن المنافق قد أوجب خديعة الله عز وجل لنفسه بما ركب من خداعه ربه ورسوله والمؤمنين بنفاقه ، فلذلك وجبت الصحة لقراءة من قرأ : وَما يَخْدَعُونَ إلاّ أنْفُسَهُمْ .
ومن الدلالة أيضا على أن قراءة من قرأ : وما يَخْدَعُونَ أولى بالصحة من قراءة من قرأ : «وما يخادعون » أن الله جل ثناؤه قد أخبر عنهم أنهم يخادعون الله والمؤمنين في أول الآية ، فمحال أن ينفي عنهم ما قد أثبت أنهم قد فعلوه ، لأن ذلك تضادّ في المعنى ، وذلك غير جائز من الله جل وعز .
القول في تأويل قوله تعالى : وَما يَشْعُرُونَ .
يعني بقوله جل ثناؤه : وَما يَشْعُرُونَ : وَما يدرون ، يقال : ما شعر فلان بهذا الأمر ، وهو لا يشعر به إذا لم يدر ولم يعلم شعرا وشعورا ، كما قال الشاعر :
عَقّوا بِسَهْمٍ ولَمْ يَشْعُرْ بِهِ أحَدٌ *** ثُمّ اسْتَفاءُوا وَقالُوا حَبّذَا الوَضَحُ
يعني بقوله : «لم يشعر به » : لم يدر به أحد ولم يعلم . فأخبر الله تعالى ذكره عن المنافقين ، أنهم لا يشعرون بأن الله خادعهم بإملائه لهم واستدراجه إياهم الذي هو من الله جل ثناؤه إبلاغ إليهم في الحجة والمعذرة ، ومنهم لأنفسهم خديعة ، ولها في الاَجل مضرّة . كالذي :
حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : سألت ابن زيد عن قوله : وَما يَخْدَعُونَ إلاّ أنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ قال : ما يشعرون أنهم ضرّوا أنفسهم بما أسرّوا من الكفر والنفاق . وقرأ قول الله : يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ الله جَمِيعا قال : هم المنافقون ، حتى بلغ وَيحْسَبُونَ أنّهُمْ على شَيءٍ قد كان الإيمان ينفعهم عندكم .
جملة : { يخادعون } بدل اشتمال من جملة : { يقول آمنا بالله } [ البقرة : 8 ] وما معها لأن قولهم ذلك يشتمل على المخادعة . والخداع مصدر خادع الدال على معنى مفاعلة الخدع ، والخدع هو فعل أو قول معه ما يوهم أن فاعله يريد بمدلوله نفع غيره وهو إنما يريد خلاف ذلك ويتكلف ترويجه على غيره ليغيره عن حالة هو فيها أو يصرفه عن أمر يوشك أن يفعله ، تقول العرب : خدع الضب إذا أوهم حارشه أنه يحاول الخروج من الجهة التي أدخل فيها الحارش يده حتى لا يرقبه الحارش لعلمه أنه آخذه لا محالة ثم يخرج الضب من النافقاء .
والخداع فعل مذموم إلا في الحرب والانخداع تمشي حيلة المخادع على المخدوع وهو مذموم أيضاً لأنه من البله وأما إظهار الانخداع مع التفطن للحيلة إذا كانت غير مضرة فذلك من الكرم والحلم قال الفرزدق :
استمطروا من قريش كل منخدع *** إن الكريمَ إذا خادعته انخدعا
وفي حديث " المؤمن غر كريم " أي من صفاته الصفح والتغاضي حتى يظن أنه غر ولذلك عقبه بكريم لدفع الغرية المؤذنة بالبله فإن الإيمان يزيد الفطنة لأن أصول اعتقاده مبنية على نبذ كل ما من شأنه تضليل الرأي وطمس البصيرة ألا ترى إلى قوله : " والسعيد من وعظ بغيره " مع قوله : " لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين " ، وكلها تنادي على أن المؤمن لا يليق به البله وأما معنى « المؤمن غر كريم » فهو أن المؤمن لما زكت نفسه عن ضمائر الشر وخطورها بباله وحمل أحوال الناس على مثل حاله فعرضت له حالة استئمان تشبه الغرية قال ذو الرمة :
تلك الفتاة التي علقتها عرضاً *** إِنَّ الحليم وذا الإسلام يختلب
فاعتذر عن سرعة تعلقه بها واختلابها عقله بكرم عقله وصحة إسلامه فإن كل ذلك من أسباب جودة الرأي ورقة القلب فلا عجب أن يكون سريع التأثر منها .
ومعنى صدور الخداع من جانبهم للمؤمنين ظاهر ، وأما مخادعتهم الله تعالى المقتضية أن المنافقين قصدوا التمويه على الله تعالى مع أن ذلك لا يقصده عاقل يعلم أن الله مطلع على الضمائر والمقتضية أن الله يعاملهم بخداع ، وكذلك صدور الخداع من جانب المؤمنين للمنافقين كما هو مقتضى صيغة المفاعلة مع أن ذلك من مذموم الفعل لا يليق بالمؤمنين فعله فلا يستقيم إسناده إلى الله ولا قصد المنافقين تعلقه بمعاملتهم لله كل ذلك يوجب تأويلاً في معنى المفاعلة الدال عليه صيغة { يخادعون } أو في فاعله المقدر من الجانب الآخر وهو المفعول المصرح به .
فأما التأويل في { يخادعون } فعلى وجوه :
أحدها : أن مفعول خَادع لا يلزم أن يكون مقصوداً للمخادِع بالكسر إذ قد يقصد خداع أحد فيصادف غيره كما يخادع أحد وكيلَ أحد في مال فيقال له أنت تخادع فلاناً وفلاناً تعني الوكيل وموكِّلَه ، فهم قصدوا خداع المؤمنين لأنهم يكذّبون أن يكون الإسلام من عند الله فلما كانت مخادعتهم المؤمنين لأجل الدِّين كان خداعهم راجعاً لشارع ذلك الدين ، وأمَّا تأويل معنى خداع الله تعالى والمؤمنين إياهم فهو إغضاء المؤمنين عن بوادرهم وفلتات أَلسُنهم وكبواتِ أفعالهم وهفواتِهم الدال جميعها على نفاقهم حتى لم يزالوا يعاملونهم معاملة المؤمنين فإن ذلك لما كان من المؤمنين بإذن الرسول صلى الله عليه وسلم حتى لقد نهى من استأذنه في أن يقتل عبدَ الله بن أبي ابن سلول ، كان ذلك الصنيع بإذن الله فكان مرجعه إلى الله ، ونظيره قوله تعالى : { إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم } في سورة النساء ( 142 ) ، كما رجع إليه خداعُهم للمؤمنين ، وهذا تأويل في المخادعة من جانبيها ، كل بما يلائمه .
الثاني : ما ذكره صاحب « الكشاف » أن { يخادعون } استعارة تمثيلية تشبيهاً للهيئة الحَاصلة من معاملتهم للمؤمنين ولدين الله ، ومن معاملة الله إياهم في الإملاء لهم والإِبْقاء عليهم ، ومعاملة المؤمنين إياهم في إجراء أحكام المسلمين عليهم ، بهيئة فعل المتخادعَين .
الثالث : أن يكون خادع بمعنى خدع أي غير مقصود به حصول الفعل من الجانبين بل قَصْدُ المبالغة . قال ابن عطية عن الخليل : يقال خَادع مِنْ واحد لأن في المخادعة مُهْلةً كما يقال عَالجت المريضَ لمكان المهلة ، قال ابن عطية كأنه يرد فَاعَل إلى اثنين ولا بُدَّ من حيثُ إن فيه مهلة ومدافعة ومماطلة فكأنه يقاوم في المعنى الذي يجيء فيه فاعَلَ ا هـ . وهذا يرجع إلى جعل صيغة المفاعلة مستعارة لِمعنى المبالغة بتشبيه الفعل القوي بالفعل الحاصل من فاعلَيْن على وجه التبَعية ، ويؤيد هذا التأويل قراءة ابن عامر ومن معه : ( يخْدَعون الله ) . وهذا إنما يدفع الإشكال عن إسناد صدور الخداع من الله والمؤمنين مع تنزيه الله والمؤمنين عنه ، ولا يدفع إشكال صدور الخداع من المنافقين لله .
وأما التأويل في فَاعِل { يخادعون } المقدَّر وهو المفعول أيضاً فبأن يُجعل المراد أنهم يخادعون رسول الله فالإسناد إلى الله تعالى إما على طريقة المجاز العقلي لأجل الملابسة بين الرسول ومُرسله وإما مجازٌ بالحذف للمضافِ ، فلا يكون مرادهم خداعَ الله حقيقة ، ويبقى أن يكون رسول الله مخدوعاً منهم ومخادعاً لهم ، وأما تجويز مخادعة الرسول والمؤمنين للمنافقين لأنها جزاءٌ لهم على خداعهم فذلك غير لائق .
وقوله : { يخادعون الله } قرأه نافع وابن كثير وأبو عَمرو وخلَف ( يخادعون ) بألف بعد الخاء وقرأه ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي وأبو جعفر ويعقوب ( يخْدَعون ) بفتح التحتية وسكون الخاء .
وجملة { وما يخادعون إلا أنفسهم } حال من الضمير في { يُخادعون } الأول أي يخادعون في حال كونهم لا يخادعون إلا أنفسهم أي خداعهم مقصور عن ذواتهم لا يرجع شيء منه إلى الله والذين آمنوا ، فيتعين أن الخداع في قوله { وما يخادعون } عينُ الخِداع المتقدم في قوله : { يخادعون الله } فَيَرِد إشكال صحة قصر الخِداع على أنفسهم مع إثبات مخادعتهم الله تعالى والمؤمنين .
وقد أجاب صاحب « الكشاف » بما حاصله أن المخادعة الثانية مستعملة في لازم معنى المخادعة الأولى وهو الضُّر فإنها قد استعملت أولاً في مطلق المعاملة الشبيهة بالخداع وهي معاملة الماكر المستخف فأطلق عليها لفظُ المخادعة استعارة ثم أطلقت ثانياً وأريد منها لازِم معنى الاستعارة وهو الضُر لأن الذي يعامَل بالمكر والاستخفاف يتصدى للانتقام من معامِلِه فقد يجد قدرة من نفسه أو غِرَّةً من صاحبه فيضره ضراً فصار حصول الضر للمعامِل أمراً عرفياً لازماً لمعامَله ، وبذلك صح استعمال يخادع في هذا المعنى مجازاً أو كناية وهو من بناء المجاز على المجاز لأن المخادعة أطلقت أولاً استعارة ثم نُزلت منزلة الحقيقة فاستعملت مجازاً في لازم المعنى المستعار له ، فالمعنى وما يَضُرون إلا أنفسهم فيجري فيه الوجوه المتعلقة بإطلاق مادة الخداع على فعلهم ، ويجىء تأويل معنى جَعل أنفسهم شقاً ثانياً للمخادعة مع أن الأنفس هي عينهم فيكون الخداع استعارة للمعاملة الشبيهة بفعل الجانبين المتخادعين بناء على ما شاع في وِجدان الناس من الإحساس بأن الخواطر التي تدعو إلى ارتكاب ما تَسوء عواقبه أنها فعلُ نفس هي مغايرة للعقل وهي التي تسول للإنسان الخير مرة والشر أخرى وهو تخيُّل بُني على خَطابة أخلاقية لإحداث العداوة بين المرء وبين خواطره الشريرة بجعلها واردة عليه من جهة غير ذاته بل من النَّفْس حتى يتأهب لمقارعتها وعصيان أمرها ولو انتسبت إليه لما رأى من سبيل إلى مدافعتها ، قال عمرو بن معديكرب :
فجاشَت عليَّ أوَّلَ مرة *** فرُدَّتْ على مكروهها فاستقرتِ
وذكر ابن عطية أن أبا عليّ الفارسي أنشد لبعض الأعراب :
لم تَدر ما ( لا ) ولستَ قائلَها *** عُمْرَك ما عِشْتَ آخر الأبد
ولم تُؤامر نفسيْك مُمتريـا *** فيها وفي أختها ولم تكــد
يريد بأختها كلمة ( نعم ) وهي أخت ( لا ) والمراد أنها أخت في اللسان . وقلت ومنه قول عروة بن أذينة :
وإذا وجدتُ لها وَسَاوِسَ سَلْوَة *** شَفَع الفؤاد إلى الضمير فَسَلَّها
فكأنهم لما عصوا نفوسهم التي تدعوهم للإيمان عند سماع الآيات والنذر إذ لا تخلو النفس من أوبة إلى الحق جعل معاملتهم لها في الإعراض عن نصحها وإعراضها عنهم في قلة تجديد النصح لهم وتركهم في غيهم كالمخادعة من هذين الجانبين .
واعلم أن قوله : { وما يخادعون إلا أنفسهم } أجمعت القراءات العشر على قراءته بضم التحتية وفتح الخاء بعدها ألف . والنفس في لسان العرب الذات والقوة الباطنية المعبر عنها بالروح وخاطر العقل .
وقوله : { وما يشعرون } عطف على جملة { وما يخادعون } والشعور يطلق على العلم بالأشياء الخفية ، ومنه سمي الشاعر شاعراً لعلمه بالمعاني التي لا يهتدي إليها كل أحد وقدرته على الوزن والتقفية بسهولة ، ولا يحسن لذلك كل أحد ، وقولهم ليت شعري في التحير في علم أمر خفي ، ولولا الخفاء لما تمنى علمه بل لعلمه بلا تمن ، فقولهم هو لا يشعر وصف بعدم الفطنة لا بعدم الإحساس وهو أبلغ في الذم لأن الذم بالوصف الممكن الحصول أنكى من الذم بما يتحقق عدمه فإن إحساسهم أمر معلوم لهم وللناس فلا يغيضهم أن يوصفوا بعدمه وإنما الذي يغيضهم أن يوصفوا بالبلادة .
على أن خفاء مخادعتهم أنفسهم مما لا يمتري فيه واختير مثله في نظيره في الخفاء وهو { ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون } [ البقرة : 12 ] لأن كليهما أثبت فيه ما هو المآل والغاية وهي مما يخفى واختير في قوله { ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون } [ البقرة : 13 ] نفي العلم دون نفي الشعور لأن السفه قد يبدو لصاحبه بأقل التفاتة إلى أحواله وتصرفاته لأن السفه أقرب لادعاء الظهور من مخادعة النفس عند إرادة مخادعة الغير ومن حصول الإفساد عند إرادة الإصلاح وعلى الإطلاق الثاني درج صاحب « الكشاف » قال : فهم لتمادي غفلتهم كالذي لا حس له .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{يخادعون الله} حين أظهروا الإيمان بمحمد، وأسروا التكذيب...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
... خداع المنافق ربه والمؤمنين: إظهاره بلسانه من القول والتصديق خلاف الذي في قلبه من الشك والتكذيب، ليدرأ عن نفسه بما أظهر بلسانه حُكْمَ الله عز وجل اللازمَ من كان بمثل حاله من التكذيب لو لم يظهر بلسانه ما أظهر من التصديق والإقرار من القتل والسباء، فذلك خداعه ربه وأهل الإيمان بالله...
وهذه الآية من أوضح الدليل على تكذيب الله جل ثناؤه قول الزاعمين: إن الله لا يعذب من عباده إلا من كفر به عنادا، بعد علمه بوحدانيته، وبعد تقرّر صحة ما عاند ربه تبارك وتعالى عليه من توحيده والإقرار بكتبه ورسله عنده، لأن الله جل ثناؤه قد أخبر عن الذين وصفهم بما وصفهم به من النفاق وخداعهم إياه والمؤمنين أنهم لا يشعرون أنهم مبطلون فيما هم عليه من الباطل مقيمون، وأنهم بخداعهم الذي يحسبون أنهم به يخادعون ربهم وأهل الإيمان به مخدوعون. ثم أخبر تعالى ذكره أن لهم عذابا أليما بتكذيبهم بما كانوا يكذبونه من نبوّة نبيه واعتقاد الكفر به، وبما كانوا يكذبون في زعمهم أنهم مؤمنون، وهم على الكفر مصرّون...
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
قال الله تعالى: {وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُم} لأن وبال خداعهم راجع إليهم كأنهم في الحقيقة يخدعون أنفسهم؛ وذلك أنّ الله تعالى لمطلع نبيّه محمداً صلى الله عليه وسلم على أسرارهم ونفاقهم، فيفتضحون في الدنيا ويستوجبون العقاب الشديد في العقبى...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
عاد وبال خداعهم والعقوبة عليه إلى أنفسهم فصاروا في التحقيق كأنهم خادعوا أنفسهم، فما استهانوا إلا بأقدارهم، وما اسْتَخَفُّوا إلا بأنفسهم، وما ذاق وبالَ فعلهم سواهم، وما قطعوا إلا وتينَهم. ومن كان عالماً بحقائق المعلومات فمن رام خداعه إنما يخدع نفسه.
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي 516 هـ :
وأصل الخدع في اللغة: الإخفاء، ومنه المخدع للبيت الذي يخفى فيه المتاع. فالمخادع يظهر خلاف ما يضمر. والخدع من الله في قوله (وهو خادعهم) أي يظهر لهم ويعجل لهم من النعيم في الدنيا خلاف ما يغيب عنهم من عذاب الآخرة...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
والخدع: أن يوهم صاحبه خلاف ما يريد به من المكروه. من قولهم: ضب خادع وخدع، إذا أمر الحارش يده على باب جحره أوهمه إقباله عليه، ثم خرج من باب آخر. فإن قلت: كيف ذلك ومخادعة الله والمؤمنين لا تصح لأن العالم الذي لا تخفى عليه خافية لا يخدع، والحكيم الذي لا يفعل القبيح لا يخدع، والمؤمنون وإن جاز أن يُخدعوا لم يجز أن يَخدعوا،فقد جاء النعت بالانخداع ولم يأت بالخدع. قلت: فيه وجوه.
أحدها: أن يقال كانت صورة صنعهم مع الله حيث يتظاهرون بالإيمان وهم كافرون، صورة صنع الخادعين. وصورة صنع الله معهم -حيث أمر بإجراء أحكام المسلمين عليهم وهم عنده في عداد شرار الكفرة وأهل الدرك الأسفل من النار -صورة صنع الخادع، وكذلك صورة صنع المؤمنين معهم حيث امتثلوا أمر الله فيهم فأجروا أحكامهم عليهم.
والثاني: أن يكون ذلك ترجمة عن معتقدهم وظنهم أن الله ممن يصح خداعه؛ لأن من كان ادعاؤه الإيمان بالله نفاقاً لم يكن عارفاً بالله ولا بصفاته، ولا أن لذاته تعلقاً بكل معلوم، ولا أنه غني عن فعل القبائح؛ فلم يبعد من مثله تجويز أن يكون الله في زعمه مخدوعاً ومصاباً بالمكروه من وجه خفي، وتجويز أن يدلس على عباده ويخدعهم.
والثالث: أن يذكر الله تعالى ويراد الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه خليفته في أرضه، والناطق عنه بأوامره ونواهيه مع عباده، كما يقال: قال الملك كذا ورسم كذا؛ وإنما القائل والراسم وزيره أو بعض خاصته الذين قولهم قوله ورسمهم رسمه. مصداقه قوله: {إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح: 10] وقوله: {مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله} [النساء: 80].
والرابع: أن يكون من قولهم: أعجبني زيد وكرمه، فيكون المعنى يخادعون الذين آمنوا بالله. وفائدة هذه الطريقة قوة الاختصاص، ولما كان المؤمنون من الله بمكان، سلك بهم ذلك المسلك. ومثله: {والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ} [التوبة: 62] وكذلك: {إِنَّ الذين يُؤْذُونَ الله وَرَسُولَهُ} [الأحزاب: 57]...
فإن قلت: عمّ كانوا يخادعون؟ قلت: كانوا يخادعونهم عن أغراض لهم ومقاصد
منها متاركتهم وإعفاؤهم عن المحاربة، وعما كانوا يطرقون به من سواهم من الكفار.
ومنها اصطناعهم بما يصطنعون به المؤمنين من إكرامهم والإحسان إليهم وإعطائهم الحظوظ من المغانم ونحو ذلك من الفوائد.
ومنها اطلاعهم- لاختلاطهم بهم -على الأسرار التي كانوا حراصاً على إذاعتها إلى منابذيهم.
فإن قلت: فلو أظهر عليهم حتى لا يصلوا إلى هذه الأغراض بخداعهم عنها. قلت: لم يظهر عليهم لما أحاط به علماً من المصالح التي لو أظهر عليهم لانقلبت مفاسد، واستبقاء إبليس وذرّيته ومتاركتهم وما هم عليه من إغواء المنافقين وتلقينهم النفاق أشدّ من ذلك. ولكن السبب فيه ما علمه تعالى من المصلحة.
فإن قلت: ما المراد بقوله: {وَمَا يخادعُونَ إلاَّ أَنفُسَهُمْ}؟ قلت: يجوز أن يراد: وما يعاملون تلك المعاملة المشبهة بمعاملة المخادعين إلا أنفسهم لأن ضررها يلحقهم، ومكرها يحيق بهم، كما تقول: فلان يضارّ فلاناً وما يضارّ إلا نفسه، أي: دائرة الضرار راجعة إليه وغير متخطية إياه، وأن يراد حقيقة المخادعة أي: وهم في ذلك يخدعون أنفسهم حيث يمنونها الأباطيل ويكذبونها فيما يحدثونها به، وأنفسهم كذلك تمنيهم وتحدّثهم بالأماني، وأن يراد: وما يخدعون فجيء به على لفظ «يفاعلون» للمبالغة.
والنفس: ذات الشيء وحقيقته. يقال عندي كذا نفساً. ثم قيل للقلب: نفس؛ لأن النفس به. ألا ترى إلى قولهم: المرء بأصغريه. وكذلك بمعنى الروح، وللدم نفس؛ لأن قوامها بالدم. وللماء نفس؛ لفرط حاجتها إليه...
والمراد بالأنفس ههنا ذواتهم. والمعنى بمخادعتهم ذواتهم؛ أن الخداع لاصق بهم لا يعدوهم إلى غيرهم ولا يتخطاهم إلى من سواهم. ويجوز أن يراد قلوبهم ودواعيهم وآراؤهم.
والشعور علم الشيء علم حس من الشعار. ومشاعر الإنسان: حواسه. والمعنى أن لحوق ضرر ذلك بهم كالمحسوس، وهم لتمادي غفلتهم كالذي لا حسّ له.
قوله تعالى {يخادعون الله والذين آمنوا وما يخادعون إلا أنفسهم وما يشعرون. في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون}.
اعلم أن الله تعالى ذكر من قبائح المنافقين أربعة أشياء أحدها: ما ذكره في هذه الآية، وهو أنهم {يخادعون الله والذين آمنوا} فيجب أن يعلم أولا ما المخادعة، ثم ثانيا ما المراد بمخادعة الله؟ وثالثا أنهم لماذا كانوا يخادعون الله؟ ورابعا أنه المراد بقوله وما يخدعون إلا أنفسهم؟
المسألة الأولى: اعلم أنه لا شبهة في أن الخديعة مذمومة، والمذموم يجب أن يميز من غيره لكي لا يفعل، وأصل هذه اللفظة الإخفاء، وسميت الخزانة المخدع، والأخدعان عرقان في العنق لأنهما خفيان. وقالوا: خدع الضب خدعا إذا توارى في جحره فلم يظهر إلا قليلا، وطريق خيدع وخداع، إذا كان مخالفا للمقصد بحيث لا يفطن له، ومنه المخدع. وأما حدها فهو إظهار ما يوهم السلامة والسداد، وإبطان ما يقتضي الإضرار بالغير والتخلص منه، فهو بمنزلة النفاق في الكفر والرياء في الأفعال الحسنة، وكل ذلك بخلاف ما يقتضيه الدين؛ لأن الدين يوجب الاستقامة والعدول عن الغرور والإساءة، كما يوجب المخالصة لله تعالى في العبادة.
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
... قال أهل اللغة: أصل المخدع في كلام العرب الفساد.
محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :
واستند غير واحد من الأئمة في الحكمة عن كفّه صلى الله عليه وسلم عن قتل المنافقين، بما ثبت في (الصحيحين) أنه صلى الله عليه وسلم قال لعمر رضي الله عنه 92 (أكره أن يتحدث العرب أنّ محمدا يقتل أصحابه). ومعناه خشية أن يقع بسبب ذلك تنفير لكثير من الأعراب عن الدخول في الإسلام، ولا يعلمون حكمة قتلهم بأنه لأجل كفرهم فإنهم إنما يأخذونه بمجرد ما يظهر لهم، فيقولون: إن محمدا يقتل أصحابه...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{يخادعون الله والذين آمنوا} أقول: الخدع أن توهم غيرك خلاف ما تخفيه من المكروه لتنزله عما هو بصدده من قولهم: خدع الضب إذا توارى في جحره، وضب خادع – إذا أوهم الصائد إقباله عليه ثم خرج من باب آخر، وأصله الإخفاء، هذا ما حرره البيضاوي، وقد جعله الراغب أعم، فلم يعتبر فيما يخفيه الخادع أن يكون مكروها، وهذا المعنى لا يمتنع إسناده إلى الله تعالى وإلى المؤمنين وهو ما تدل عليه صيغة المشاركة "يخادعون "وقالوا: إنه محال على الله وغير لائق بالمؤمنين بل يستقبح لأنه عمل المنافقين، وقد جاء في سورة النساء {4: 142 إن النافقين يخادعون الله وهو خادعهم} ولما كان إخفاء شيء عن الله تعالى محالا فسروا مخادعتهم لله هنا وهناك بأنه خداع في الصورة لا في الحقيقة؛ وذلك أنه شرع أن يعاملوا معاملة المؤمنين ولكنهم لا يجزون جزاءهم في الآخرة، بل يكونون في الدرك الأسفل من النار – فمعاملتهم الظاهرة غير جزائهم المغيب عنهم في الآخرة، كما أن عملهم الظاهر غير كفرهم الخفي في أنفسهم، فالجزاء من جنس العمل، ولكن عملهم خداع – ومقابله حق صورته صورة الخداع، ولكنه لا غش فيه لأن النصوص صريحة في كفر المنافقين – والتحقيق: أن فعل المشاركة هنا خاص بالفاعل المسند إليه فعله وهم المنافقون، وصيغة "فاعل" لا تطرد فيها المشاركة بالفعل كعاقبة اللص، وقد تكون مقدرة أو باعتبار الشأن أو القصد، ومن التكلف قول بعضهم إنه عبر عن مخادعتهم للرسول صلى الله عليه وسلم بمخادعة الله تعالى.
وقال شيخنا: العمل الظاهر الذي لا يصدقه الباطن إذا قصد به إرضاء آخر يسمى في اللغة مداجاة ومداراة ومخادعة، فإن كان يقصد به المخادعة فظاهر، وإلا فيكفي لصحة الإطلاق أن العمل عمل المخادع، لا عمل الطائع الخادع، وهذا مراد القرآن من مخادعة هؤلاء الذين هم من أهل الكتاب المؤمنين بالله إيمانا ناقصا، لم يقدروا الله فيه حق قدره، ويستحيل أن يقصد المؤمن بالله تعالى مخادعته، ولكنهم لجهلهم بالله ظنوا به ما سوغ وصفهم بما ذكر عنهم.
قال تعالى {وما يخدعون إلا أنفسهم} أقول: وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو (وما يخادعون إلا أنفسهم) وهو دليل على ما قلنا آنفا في صيغة "فاعل" والمشاركة هنا للإشارة إلى أنهم هم الخادعون المخدوعون، وقراءة الجمهور (يخدعون) نص في أن مخادعتهم لله وللمؤمنين لا تأثير لها فيهما، فهي بالنسبة إليهما صورية وفي الحقيقة أن القوم يخدعون أنفسهم لأن ضرر عملهم خاص بهم، وعاقبته وبال عليهم وحدهم. وقال الأستاذ في الدرس فيها ما مثاله:
إذا رجع الإنسان إلى نفسه، وأصغى لمناجاة سره، يجد عندما يهم بعمل شيء أن في قلبه طريقين، وفي نفسه خصمين مختصمين، أحدهما يأمره بالعمل وسلوك الطريق الأعوج، وآخر ينهاه عن العوج، ويأمره بالاستقامة على المنهج، ولا يترجح عنده باعث الشر، ولا يجيب داعي السوء، إلا إذا خدع نفسه بعد المشاورة والمذاكرة المطوية فيها، وصرفها عن الحق، وزين لها الباطل، وهذه الشؤون النفسية في غاية الخفاء، تكون المنازعة ثم المخادعة ثم الترجيح ويمر ذلك كله كلمح البصر، وربما لا يلتفت إليه الإنسان بفكره، ولذلك قال {وما يشعرون} فإن الشعور هو إدراك ما خفي.
أقول: قال الراغب بعد ذكر الشعر – بفتح الشين وسكون العين وفتحها – من مفرداته وشعرت أصبت الشعر، ومنه استعير شعرت كذا أي علمت علما هو في الدقة كإصابة الشعر ومنه يسمى الشاعر شاعرا لفطنته ودقة معرفته، فالشعر في الأصل اسم للعلم الدقيق في قولهم: ليث شعري. وصار في التعارف اسما للموزون المقفى من الكلام ا ه
أقول: ويناسب هذا الشعار – بالكسر – للكساء الباطن الذي يمس شعر الإنسان. والمعروف في كتب اللغة أن شعر به – كنصر وكرم – يشعر شعرا – بالكسر والفتح – وشعورا معناه علم به وفطن له وأدركه. والفطنة تتعلق بالأمور الدقيقة وأطلق بعض المفسرين: أن الشعور إدراك المشاعر أي الحواس الخمس، والتحقيق أنه إدراك ما دق من حسي وعقلي، فلا تقول: شعرت بحلاوة العسل وبصوت الصاعقة وبألم كية النار، وإنما تقول: أشعر بحرارة ما في بدني، وبملوحة أو مرارة في هذا الماء، إذا كانت قليلة – وهيمنة وراء الجدار، وما ورد في القرآن من هذا الحرف يدل على هذا المعنى أي إدراك ما فيه دقة وخفاء.
فمعنى نفي الشعور عن المنافقين في مخادعتهم لله تعالى أنهم يجرون في كذبهم وتلبيسهم وريائهم على ما ألفوا وتعودوا، فلا يحاسبون أنفسهم عليه، ولا يراقبون الله فيه، وما كلهم يؤمنون بوجود الله وإحاطة علمه، ومن يؤمن بوجوده لم يتربّ على خشيته ومراقبته، ولا يفكر فيما يرضيه وفيما يغضبه، فهو يعمل عمل المخادع له وما يشعر بذلك. وأما مخادعتهم للمؤمنين فظاهرة لأنهم اتخذوهم أعداء وهم عاجزون عن إظهار عداوتهم، فأعمالهم التي يقصدون بها إرضاء المؤمنين كلها خداع ورياء.
وقد فصل شيخنا سر مخادعتهم وفلسفتها ببيان علمي جلي، فقال ما معناه: هؤلاء المغرورون إذا عرض زاجر الدين بينهم وبين شهواتهم قال لهم من أنفسهم ما يسهل لهم أمره من أمل في الغفران، أو تأويل إلى غير المراد، أو تحريف إلى ما يخالف القصد من الخطاب، وذلك بما رسخ في نفوسهم من ملكات السوء، المغشاة بصور من العقائد الملونة لما قد يتجلى للأعين فيما يسمونه إيمانا. وما هم في الحقيقة بمؤمنين، وإنما هم خادعون مخدوعون، ولكنهم لما عمي عليهم من أمر أنفسهم، لا يشعرون، لأن ذلك يمر في أنفسهم وهم عنه غافلون.
وفرق ظاهر بين ما تستحضره النفس من المعلومات وتستعرضه عند ما تسأل عنه: وما هو راسخ فيها من تلك المعلومات، بصيرورته ملكة في النفس متصرفة في الإرادة، باعثة لها على العمل. فمن العلوم ما هو ثابت في النفس ممتزج بها – [على النحو الذي ذكرنا فيتبع امتزاجه هذا تمكن ملكات أخر تصدر عنها الأعمال. وهي ما يعبر عنه بالأخلاق والصفات كالكرم والشجاعة ونحوها فإنها إنما تنطبع في النفس تبعا للعلم الذي يلائمها] وهو العلم الحقيقي الذي تصدر عنه الأعمال وربما يغفل الإنسان عنه ولا يلاحظه عند ما يعمل. وفرق بين ملاحظة العلم واستحضاره وبين وجوده وتحققه في نفسه.
ومن العلوم ما يلاحظ الإنسان أنه عنده فهو صورة عند النفس تستحضره عند المناسبة ويغيب عنها عند عدمها، لأنه لم يشر به القلب ولم يمتزج بالنفس فيصير صفة من صفاتها الراسخة التي لا تزايلها [وهذا النوع من العلم يتعلق بما تعلق به النوع الأول، كعلم الحلال والحرام الذي يحصله طلبة الفقه الإسلامي مثلا. وكعلم مزايا الفضيلة، ورزايا الرذيلة الذي يخزنه طلاب علوم الآداب والأخلاق والنظار في كتب الأواخر والأوائل. لتغزير مادة العلم وتوسيع مجال القول وتوفير القدرة على حسن المنطق ونحو ذلك، فهذا العلم كالأداة المنفصلة عن العامل، يبقى في خزانة الخيال، تستحضره النفس عندما تدفعها الشهوة إلى تزيين ظاهر المقال لا إلى تحسين باطن الحال، ولن يكون لهذا الضرب من العلم أدنى أثر في عمل من أعمال صاحبه. وتسميته علما لأنه يدخل في تعريفه العام "صورة من الشيء حاضرة عند النفس" وعند التدقيق لا ترتفع به منزلته إلى أن يندرج في معنى العلم الحقيقي] فاستحضار هذا العلم كاستحضار الكتاب واللوح وإدراك ما فيه، ثم الذهول عنه ونسيانه عند الاشتغال بشيء آخر.
فهؤلاء – الذين يخدعون أنفسهم ويخادعون الله تعالى – عندهم علم حقيقي تنبعث عنه أعمالهم، وإن كان باطلا في نفسه، وهو تصديقهم بما في شهواتهم، من المصلحة لذواتهم، وهو الذي رجح عندهم اختيار ما فيه قضاؤها والانصباب إلى ما تدعو إليه، وهو ما أنساهم ما كانوا خزنوا في أنفسهم من صور الاعتقادات الدينية، فأبعدهم ذلك عن الاعتقاد الحقيقي الذي يعتد به وجعله رسما مخزونا في الخيال، لا أثر له في الأفعال، يدعونه بألسنتهم، وتكذيبهم في دعواهم أعمالهم وأحوالهم، ولذلك نسبهم إلى الدعوى القولية ولم يقل فيهم ما قال في ذلك الفريق الأول {الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون} فإنه هناك ذكر إيمانهم وقفى عليه بذكر العمل الذي يشهد له. ومن هنا يعلم ما الإيمان الذي يعتد به القرآن وهو يظهر لمن يقرأ القرآن ليحاسب به نفسه، ويزن إيمانه وأعماله لما يحكم به على إيمان من قبله وأعمالهم، لا لمن يقرأه على أنه قصة تاريخية مات من يحكى عنها، واستثنى القارئ نفسه ممن حكم عليهم فيها، فإن كان مات من كانوا سبب النزول فالقرآن حي لا يموت، ينطبق حكمه ويحكم سلطانه على الناس في كل زمان [فكل مؤمن بالله واليوم الآخر ومع ذلك يصدر في عمله عن شهواته، ولا يمنعه عن ركوب خطيئاته، فاعتقاده إنما هو خيال، لا يعلو عن لفظ في مقال، ودعوى عند جدال، فإذا ركن إلى هذا المعتقد فهو خادع لنفسه، مخادع لربه يظن أن علام الغيوب، لا ينظر إلى ما في القلوب].
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وهم يظنون في أنفسهم الذكاء والدهاء والقدرة على خداع هؤلاء البسطاء؛ ولكن القرآن يصف حقيقة فعلتهم، فهم لا يخادعون المؤمنين، إنما يخادعون الله كذلك أو يحاولون: (يخادعون الله والذين آمنوا)..
وفي هذا النص وأمثاله نقف أمام حقيقة كبيرة، وأمام تفضل من الله كريم.. تلك الحقيقة هي التي يؤكدها القرآن دائما ويقررها، وهي حقيقة الصلة بين الله والمؤمنين. إنه يجعل صفهم صفه، وأمرهم أمره. وشأنهم شأنه. يضمهم سبحانه إليه، ويأخذهم في كنفه، ويجعل عدوهم عدوه، وما يوجه إليهم من مكر موجها إليه -سبحانه- وهذا هو التفضل العلوي الكريم.. التفضل الذي يرفع مقام المؤمنين وحقيقتهم إلى هذا المستوى السامق؛ والذي يوحي بأن حقيقة الإيمان في هذا الوجود هي أكبر وأكرم الحقائق، والذي يسكب في قلب المؤمن طمأنينة لا حد لها، وهو يرى الله -جل شأنه- يجعل قضيته هي قضيته، ومعركته هي معركته، وعدوه هو عدوه، ويأخذه في صفة، ويرفعه إلى جواره الكريم.. فماذا يكون العبيد وكيدهم وخداعهم وأذاهم الصغير؟!
وهو في ذات الوقت تهديد رعيب للذين يحاولون خداع المؤمنين والمكر بهم، وإيصال الأذى إليهم. تهديد لهم بأن معركتهم ليست مع المؤمنين وحدهم إنما هي مع الله القوي الجبار القهار. وأنهم إنما يحاربون الله حين يحاربون أولياءه، وإنما يتصدون لنقمة الله حين يحاولون هذه المحاولة اللئيمة.
وهذه الحقيقة من جانبيها جديرة بأن يتدبرها المؤمنون ليطمئنوا ويثبتوا ويمضوا في طريقهم لا يبالون كيد الكائدين، ولا خداع الخادعين، ولا أذى الشريرين. ويتدبرها أعداء المؤمنين فيفزعوا ويرتاعوا ويعرفوا من الذي يحاربونه ويتصدون لنقمته حين يتصدون للمؤمنين..
ونعود إلى هؤلاء الذين يخادعون الله والذين آمنوا بقولهم: آمنا بالله وباليوم الآخر. ظانين في أنفسهم الذكاء والدهاء.. ولكن يا للسخرية! يا للسخرية التي تنصب عليهم قبل أن تكتمل الآية: (وما يخدعون إلا أنفسهم، وما يشعرون)..
إنهم من الغفلة بحيث لا يخدعون إلا أنفسهم في غير شعور! إن الله بخداعهم عليم؛ والمؤمنون في كنف الله فهو حافظهم من هذا الخداع اللئيم. أما أولئك الأغفال فهم يخدعون أنفسهم ويغشونها. يخدعونها حين يظنون أنهم أربحوها وأكسبوها بهذا النفاق، ووقوها مغبة المصارحة بالكفر بين المؤمنين. وهم في الوقت ذاته يوردونها موارد التهلكة بالكفر الذي يضمرونه، والنفاق الذي يظهرونه. وينتهون بها إلى شر مصير!