{ إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا * وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا * وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا * يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا * هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا * وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا * وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا * وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا }
يخبر تعالى أنه أنزل على عبده ورسوله الكتاب بالحق ، أي : محفوظًا في إنزاله من الشياطين ، أن يتطرق إليه منهم باطل ، بل نزل بالحق ، ومشتملا أيضا على الحق ، فأخباره صدق ، وأوامره ونواهيه عدل { وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا } وأخبر أنه أنزله ليحكم بين الناس .
وفي الآية الأخرى : { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ } . فيحتمل أن هذه الآية في الحكم بين الناس في مسائل النزاع والاختلاف ، وتلك في تبيين جميع الدين وأصوله وفروعه ، ويحتمل أن الآيتين كلتيهما معناهما واحد ، فيكون الحكم بين الناس هنا يشمل الحكم بينهم في الدماء والأعراض والأموال وسائر الحقوق وفي العقائد وفي جميع مسائل الأحكام .
وقوله : { بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ } أي : لا بهواك بل بما علَّمك الله وألهمك ، كقوله تعالى : { وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى } وفي هذا دليل على عصمته صلى الله عليه وسلم فيما يُبَلِّغ عن الله من جميع الأحكام وغيرها ، وأنه يشترط في الحاكم{[227]} العلم والعدل لقوله : { بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ } ولم يقل : بما رأيت . ورتب أيضا الحكم بين الناس على معرفة الكتاب ، ولما أمر الله بالحكم بين الناس المتضمن للعدل والقسط نهاه عن الجور والظلم الذي هو ضد العدل فقال : { وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا } أي : لا تخاصم عن مَن عرفت خيانته ، من مدع ما ليس له ، أو منكرٍ حقا عليه ، سواء علم ذلك أو ظنه . ففي هذا دليل على تحريم الخصومة في باطل ، والنيابة عن المبطل في الخصومات الدينية والحقوق الدنيوية .
ويدل مفهوم الآية على جواز الدخول في نيابة الخصومة لمن لم يعرف منه ظلم .
وبعد أن أمر الله - تعالى - المؤمنين بالمحافظة على فرائضه وبأخذ حذرهم من الأعداء . وبالاستعداد لإِبطال مكرهم ، وبمواصلة قتالهم حتى تعلو كلمة الحق ، بعد كل هذا أمر - سبحانه - المؤمنين فى شخص نبيهم صلى الله عليه وسلم بأن يلتزموا الحق فى كل شئونهم وأحوالهم ، لأن عدم التقيد بالحق والعدل يؤدى إلى ضعف الأمة واضمحلالها . وقد ساق - سبحانه - فى آيات كريمة ما يهدى القلوب إلى صراطه المستقيم فقال - تعالى - : { إِنَّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ . . . عَلَيْكَ عَظِيماً } .
إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا ( 105 ) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا ( 106 ) وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا ( 107 ) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا ( 108 ) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا ( 109 ) وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا ( 110 ) وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ( 111 ) وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا ( 112 ) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا ( 113 )
ذكر المفسسرون فى سبب نزول هذه الآيات روايات مختلفة السياق إلا أنها متقاربة المعانى . ومن ذلك ما ذكره صاحب الشكاف من أن رجلا اسمه طعمة بن أبيرق - أحد بنى ظفر - سرق درعا من جار له اسمه قتادة ابن النعمان فى جراب دقيق . فجعل الدقيق ينتثر من خرق فيه . وخبأ طعمة الدرع عند رجل من اليهود اسمه زيد بن السمين .
فالتمست الدرع عند طعمة فلم توجد وحلف ما أخذها ، وماله بها علم ، فتركوه واتبعوه أثر الدقيق حتى انتهى إلى منزل اليهودى فأخذوها . فقال اليهودى : دفعها إلى طعمة وشهد له ناس من اليهود . فقالت بنو ظفر - أقرب طعمة - : انطلقوا بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما وصلوا إليه سألوه أن يجادل - أى يدافع - عن صاحبهم طعمة وقالوا : إن لم تفعل هلك وافتضح وبرئ اليهودى . فهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفعل وأن يعاقب اليهودى . وقيل هم أن يقطع يده فنزلت .
وهذه الآيات الكريمة وإن كانت قد نزلت فى حادثة معينة ، إلا أن توجيهاتها وأحكامها تتناول جميع المكلفين فى كل زمان ومكان .
وقوله تعالى { إِنَّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب بالحق لِتَحْكُمَ بَيْنَ الناس بِمَآ أَرَاكَ } تشريف للنبى صلى الله عليه وسلم وإرشاد إلى ما يجب أن يكون عليه الحاكم أو القاضى من عدالة ونزاهة .
أى : إنا أنزلنا إليك يا محمد القرآن الكريم ، إنزالا ملتبسا بالحق وبالعدل لكى تحكم بين الناس فى قضاياهم بما أراك الله . أى بما عرفك وأعلمك وأوحى به إليك وقوله { بالحق } فى محل نصب على الحال المؤكدة فيتعلق بمحذوف . وصاحب الحال هو الكتاب . أى : أنزلناه ملتبسا بالحق .
وقوله { بِمَآ أَرَاكَ } الفعل هنا متعد لاثنين أحدهما العائد المحذف والآخر كاف الخطاب أى : بما أراكه الله . أى : بما عرفك وأعلمك .
وسمى ذلك العلم بالرؤية ، لأن العلم اليقينى المبرأ عن جهات الريب يكون جاريا مجرى الرؤية فى القوة والظهور .
قال ابن كثير : احتج من ذهب من علماء الأصول إلى أنه كان صلى الله عليه وسلم له أن يحكم بالاجتهاد بهذه الآية . وبما ثبت فى الصحيحين " عن أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع جلبة خصوم بباب حجرته فخرج إليهم فقال : " ألا إنما أنا بشر . وإنما أقضى بنحو مما أسمع . ولعل أحدكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضى له . فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هى قطعة من النار ، فليحملها أو ليذرها " " .
وفى رواية للإِمام أحمد عن السيدة أم سلمة - أيضا - قالت : " جاء رجلان من النصار يختصمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فى مواريث بينهما قد درست . ليس عندها بينه . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنكم تختصمون إلى وإنما أنا بشر . ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض . فإنى أقضى بينكم على نحو ما أسمع . فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار . . . فبكى الرجلان وقال كل منهما : حقى لأخى . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أما إذا قلتما ذلك فاذهبا فاقتسما ، ثم توخيا الحق بينكما ثم استهما . ثم ليحلل كل واحد منكما صاحبه " " .
وقوله { وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً } معطوف على كلام مقدر يفهم من المقام . والخصيم هنا بمعنى المنتصر المدافع عن غيره فهو اسم فاعل بمعنى مخاصم وجمعه الخصماء . وأصله من الخصم وهو ناحية الشئ وطرفه . وقيل للخصمين خصمان ، لأن كل واحد منهما فى ناحية من الحجة والدعوى .
والمعنى : إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاحكم به ولا تكن لأجل الخائنين مخاصما للبرآء ، بأن تجعل فكرك ينحاز إلى أولئك الخائنين - الذين يظهرون الإِسلام - قبل سماع البينات الهادية المرشدة إلى الحق .
وسماهم - سبحانه - خائنين ، لأنهم فى علمه - تعالى - كانوا كذلك وقد أخبر نبيه بخيانتهم ليحذرهم ولا يسحن الظن بهم .
قال القرطبى : قال العلماء : لا ينبغى إذا ظهر للمسلمين نفاق قوم أن يجادل فريق منهم فريقا عنهم ليحموهم ويدفعوا عنهم . فإن هذا قد وقع على عهد النبى صلى الله عليه وسلم وفيهم نزل قوله - تعالى - { وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً } . وقوله { وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الذين يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ } .
والخطاب للنبى صلى الله عليه وسلم والمراد منه الذين كانوا يفعلونه من المسلمين دون لوجهين :
أحدهما : أنه - تعالى - أبان ذلك بما ذكره بعد بقوله { هَا أَنْتُمْ هؤلاء جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الحياة الدنيا } . والآخر : أن النبى صلى الله عليه وسلم كان حكما فيما بينهم ، ولذلك كان يعتذر إليه ولا يعتذر إليه ولا يعتذر هو إلى غيره فدل على أن القصد لغيره .
( إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق ، لتحكم بين الناس بما أراك الله ، ولا تكن للخائنين خصيما . واستغفر الله إن الله كان غفورا رحيما . ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم ، إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما . يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله . وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول - وكان الله بما يعملون محيطا . ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا ، فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة ؟ أم من يكون عليهم وكيلا ؟ ) .
إننا نحس في التعبير صرامة ، يفوح منها الغضب للحق ، والغيرة على العدل ؛ وتشيع في جو الآيات وتفيض منها :
وأول ما يبدو هذا في تذكير رسول الله [ ص ] بتنزيل الكتاب إليه بالحق ليحكم بين الناس بما أراه الله .
{ إِنّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النّاسِ بِمَآ أَرَاكَ اللّهُ وَلاَ تَكُنْ لّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً * وَاسْتَغْفِرِ اللّهِ إِنّ اللّهَ كَانَ غَفُوراً رّحِيماً } . .
يعني جلّ ثناؤه بقوله : { إنّا أنْزَلْنا إلَيْكَ الكِتابَ بالحَقّ لِتَحْكُمَ بينَ النّاسِ بِمَا أرَاكَ اللّهُ } : إنا أنزلنا إليك يا محمد الكتاب ، يعني القرآن ، { لتَحْكُمَ بَيْنَ النَاسِ } لتقضي بين الناس ، فتفصل بينهما { بِما أرَاكَ اللّه } يعني : بما أنزل الله إليك من كتابه . { وَلا تَكُنْ للْخائِنِينَ خَصيما } يقول : ولا تكن لمن خان مسلما أو معاهدا في نفسه أو ماله ، خصيما تخاصم عنه ، وتدفع عنه من طالبه بحقه الذي خانه فيه . { واسْتَغْفِرِ اللّهَ } يا محمدُ وسله أن يصفح لك عن عقوبة ذنبك في مخاصمتك عن الخائن من خان مالاً لغيره . { إنّ اللّهَ كانَ غَفُورا رَحِيما } يقول : إن الله لم يزل يصفح عن ذنوب عباده المؤمنن بتركه عقوبتهم عليها ، إذا استغفروه منها ، رحيما بهم ، فافعل ذلك أنت يا محمد ، يغفر الله لك ما سلف من خصومتك عن هذا الخائن . وقد قيل إن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يكن خاصم عن الخائن ، ولكنه همّ بذلك ، فأمره الله بالاستغفار مما همّ به من ذلك . وذكر أن الخائنين الذين عاتب الله جلّ ثناؤه نبيه صلى الله عليه وسلم في خصومته عنهم بنو أُبَيْرِق .
واختلف أهل التأويل في خيانته التي كانت منه فوصفه الله بها ، فقال بعضهم : كانت سرقة سرقها . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : { إنّا أنْزَلْنا إلَيْكَ الكِتابَ بالحَقّ لِتَحْكُمْ بينَ النّاسِ بِمَا أرَاكَ اللّهُ } . . . إلى قوله : { وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللّهِ } فيما بين ذلك في طعمة بن أبيرق ودرعه من حديد التي سرق ، وقال أصحابه من المؤمنين للنبيّ : اعذره في الناس بلسانك ! ورمَوا بالدرع رجلاً من يهود بريئا .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، نحوه .
حدثنا الحسن بن أحمد بن أبي شعيب أبو مسلم الحراني ، قال : حدثنا محمد بن سلمة ، قال : حدثنا محمد بن إسحاق ، عن عاصم بن عمر بن قتادة ، عن أبيه ، عن جده قتادة بن النعمان ، قال : كان أهل بيت منا يقال لهم بنو أبيرق : بِشر وبُشَير مبشّر ، وكان بشير رجلاً منافقا ، وكان يقول الشعر يهجو به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ينحله إلى بعض العرب ، ثم يقول : قال فلان كذا ، وقال فلان كذا ، فإذا سمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الشعر ، قالوا : والله ما يقول هذا الشعر إلا هذا الخبيث ، فقال :
أوَ كُلّما قالَ الرّجالُ قَصِيدَةً ***أضِمُوا وقالُوا ابنُ الأبَيْرِقِ قالَهَا
قال : وكانوا أهل بيت فاقة وحاجة في الجاهلية والإسلام ، وكان الناس إنما طعامهم بالمدينة التمر والشعير ، وكان الرجل إذا كان له يسار فقدمت ضافطة من الشام بالدّرمك ، ابتاع الرجل منهم ، فخصّ به نفسه ، فأما العيال : فإنما طعامهم التمر والشعير . فقدمت ضافطة من الشام ، فابتاع عمي رفاعة بن زيد حملاً من الدرمك ، فجعله في مشرَبة له ، وفي المشربة سلاح له : درعان وسيفاهما وما يصلحهما . فَعُدي عليه من تحت الليل ، فنقبت المشربة ، وأخذ الطعام والسلاح . فلما أصبح أتاني عمي رفاعة فقال : يا ابن أخي تعّلمْ أنه قد عُدِي علينا في ليلتنا هذه ، فنقبت مشربتنا ، فذهب بسلاحنا وطعامنا . قال : فتجسسنا في الدار وسألنا ، فقيل لنا : قد رأينا بني أبيرق استوقدوا في هذه الليلة ، ولا نرى فيما نراه إلا على بعض طعامكم . قال : وقد كان بنو أبيرق قالوا ونحن نسأل في الدار : والله ما نرى صاحبكم إلا لبيد بن سهم ! رجل منا له صلاح وإسلام . فلما سمع بذلك لبيد اخترط سيفه ، ثم أتى بني أبيرق فقال : والله ليخالطنكم هذا السيف أو لتبيننّ هذه السرقة ! قالوا : إليك عنا أيها الرجل ، فوالله ما أنت بصاحبها ! فسألنا في الدار حتى لم نشكّ أنهم أصحابها ، فقال عمي : يا ابن أخي ، لو أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له . قال قتادة : فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له ، فقلت : يا رسول الله ، إن أهل بيت منا أهل جفاء ، عمدوا إلى عمي رفاعة فنقبوا مشربة له ، وأخذوا سلاحه وطعامه ، فليردّوا علينا سلاحنا ، فأما الطعام فلا حاجة لنا فيه . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «سأنْظُرُ في ذلك » . فلما سمع ذلك بنو أبيرق أتوا رجلاً منهم يقال له أسير بن عروة ، فكلموه في ذلك ، واجتمع إليه ناس من أهل الدار ، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : يا رسول الله ، إن قتادة بن النعمان وعمه عمدوا إلى أهل بيت منا أهل إسلام وصلاح يرمونهم بالسرقة من غير بينة ولا ثَبَت . قال قتادة : فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمته ، فقال : «عَمَدْتَ إلى أهْلِ بَيْتٍ ذُكِرَ مِنْهُمْ إسْلامٌ وَصَلاحٌ تَرْمِيهِمْ بالسّرِقَةِ على غيرِ بَيّنَةٍ وَلا ثَبَتٍ ! » . قال : فرجعت ولوددت أني خرجت من بعض مالي ولم أكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك . فأتيت عمي رفاعة ، فقال : يا ابن أخي ما صنعت ؟ فأخبرته بما قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : الله المستعان . فلم نلبث أن نزل القرآن : { إنّا أنْزَلْنا إلَيْكَ الكِتابَ بالحَقّ لِتَحْكُمَ بينَ النّاسِ بِمَا أرَاكَ اللّهُ وَلا تَكُنْ للخائِنِينَ خَصِيما } يعني : بني أبيرق ، { وَاسْتَغْفِر اللّهَ } أي مما قلت لقتادة ، { إنّ اللّهَ كانَ غَفُورا رَحِيما وَلا تُجَادِلْ عَنِ الّذِينَ يَخْتانُونَ أنْفُسَهُمْ } أي بني أبيرق { إنّ اللّهَ لا يُحِبّ مَنْ كانَ خَوّانا أثِيما . يَسْتَخْفُونَ مِنَ النّاسِ } . . . إلى قوله : { ثُمّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ ، يَجِدِ اللّهَ غَفُورا رَحِيما } : أي أنهم إن يستغفروا الله يغفر لهم ، { وَمَنْ يَكْسِبْ إثْما فإنمَا يَكْسِبُهُ على نَفْسِهِ وكانَ اللّهُ عَلِيما حَكِيما وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أوْ إثْما ثُمّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتانا وَإثْما مُبِينا } قولهم للبيد : { وَلَوْلا فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أنْ يُضِلّوكَ } يعني أسيرا وأصحابه . { وَما يُضِلّونَ إلاّ أنْفُسَهُمْ وَما يَضُرّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وأنْزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الكِتابَ والحِكْمَةَ } . . . إلى قوله : { فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أجْرا عَظِيما } ، فلما نزل القرآن أتِيَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسلاح ، فردّه إلى رفاعة . قال قتادة : فلما أتيت عمي بالسلاح وكان شيخا قد عسا في الجاهلية ، وكنت أرى إسلامه مدخولاً¹ فلما أتيته بالسلاح ، قال : يا ابن أخي ، هو في سبيل الله . قال : فعرفت أن إسلامه كان صحيحا . فلما نزل القرآن لحق بشير بالمشركين فنزل على سلافة بنت سعد بن سهل ، فأنزل اللهفيه : { وَمَنْ يُشاقِقِ الرّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيّنَ لَهُ الهُدَى وَيَتّبِعْ غيرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ } . . . إلى قوله : { وَمَنْ يُشْرِكْ باللّهِ فَقَدْ ضَلّ ضَلالاً بَعِيدا } . فلما نزل على سلافة رماها حسان بن ثابت بأبيات من شعر . فأخذت رحله فوضعته على رأسها ثم خرجت فرمته بالأبطح ، ثم قالت : أهديت إليّ شعر حسان ! ما كنت تأتيني بخير .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { إنّا أنْزَلْنا إلَيْكَ الكِتابَ بالحَقّ لِتَحْكُمَ بينَ النّاسِ بِمَا أرَاكَ اللّهُ } يقول : بِمَا أنزل الله عليك وبيّن لك ، { وَلا تَكُنْ للْخائِنِينَ خَصِيما } فقرأ إلى قوله : { إنّ اللّهَ لا يُحِبّ مَنْ كانَ خَوّانا أثِيما } . ذكر لنا أن هؤلاء الاَيات أنزلت في شأن طعمة بن أبيرق وفيما همّ به نبيّ الله صلى الله عليه وسلم من عذره ، وبين الله شأن طعمة بن أبيرق ، ووعظ نبيه صلى الله عليه وسلم وحذّره أن يكون للخائنين خصيما . وكان طعمة بن أبيرق رجلاً من الأنصار ، ثم أحد بني ظَفَر ، سرق درعا لعمه كانت وديعة عنده ، ثم قذفها على يهوديّ كان يغشاهم ، يقال له زيد بن السمين ، فجاء اليهودي إلى نبيّ الله صلى الله عليه وسلم يهتف ، فلما رأى ذلك قومه بنو ظفر جاءوا إلى نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ليعذروا صاحبهم ، وكان نبيّ الله عليه الصلاة والسلام قد همّ بعُذره ، حتى أنزل الله في شأنه ما أنزل ، فقال : { وَلا تُجادِلْ عَنِ الّذِينَ يَخْتانُونَ أنْفُسَهُمْ } إلى قوله : { ها أنْتُمْ هؤلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الحَياةِ الدّنيْا فَمَنْ يُجادِلُ اللّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ القِيامَةِ } يعني بذلك قومه ، { وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أوْ إثْما ثُمّ يَرْم بِهِ بَريئا فَقَد احْتَمَلَ بُهْتانا وإثْما مُبِينا } ، وكان طعمة قذف بها بريئا . فلما بين الله شأن طعمة ، نافق ولحق بالمشركين بمكة ، فأنزل الله في شأنه : { وَمَنْ يُشاقِق الرّسُولَ مِنْ بَعْد ما تَبَيّنَ لَهُ الهُدَى وَيَتّبِعْ غيرَ سَبِيل المُؤْمِنِينَ نُوَلّه ما تَوَلىّ وَنُصْلِهِ جَهَنّمَ وَساءَتْ مَصِيرا } .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : { إنّا أنْزَلْنا إلَيْكَ الكِتابَ بالحَقّ لِتَحْكُمَ بينَ النّاس بِمَا أرَاكَ اللّهُ وَلا تَكُنْ للخائِنِينَ خَصِيما } وذلك أن نفرا من الأنصار غزوا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في بعض غزواته ، فسرقت درع لأحدهم ، فأَظَنّ بها رجلاً من الأنصار ، فأتى صاحب الدرع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : إن طعمة بن أبيرق سرق درعي . فأُتي به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما رأى السارق ذلك ، عمد إليها فألقاها في بيت رجل بريء ، وقال لنفر من عشيرته : إني قد غيبت الدرع وألقيتها في بيت فلان ، وستوجد عنده . فانطلقوا إلى نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ليلاً ، فقالوا : يا نبيّ الله إن صاحبنا بريء ، وإن سارق الدرع فلان ، وقد أُحطنا بذلك علما ، فاعذر صاحبنا على رؤوس الناس وجادل عنه ، فإنه إن لم يعصمه الله بك يهلك ! فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فبرأه وعذره على رؤوس الناس ، فأنزل الله : { إنّا أنْزَلْنا إلَيْكَ الكِتابَ بالحَقّ لِتَحْكُمَ بينَ النّاسِ بِمَا أرَاكَ اللّهُ وَلا تَكُنْ للخائِنِينَ خَصِيما } يقول : احكم بينهم بما أنزل الله إليك في الكتاب ، { واسْتَغْفِرِ اللّهَ إنّ اللّهَ كانَ غَفُورا رَحِيما وَلا تُجادِلْ عَنِ الّذِينَ يَخْتانُونَ أنْفُسَهُمْ } . . . . الاَية ، ثم قال للذين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلاً : { يَسْتَخْفُونَ مِنَ النّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّهِ } . . . . إلى قوله : { أم مّنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً } يعني الذين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخفين بالكذب . ثم قال : { وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أوْ إثْما ثُمّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتانا وإثْما مُبِينا } يعني : السارق والذين يجادلون عن السارق .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { إنّا أنْزَلْنا إلَيْكَ الكِتابَ بالحَقّ لِتَحْكُمَ بينَ النّاسِ بِمَا أرَاكَ اللّهُ } . . . الاَية . قال : كان رجل سرق درعا من حديد في زمان النبيّ صلى الله عليه وسلم وطرحه على يهوديّ ، فقال اليهوديّ : والله ما سرقتها يا أبا القاسم ، ولكن طرحت عليّ ! وكان للرجل الذي سرق جيران يبرّئونه ويطرحونه على اليهوديّ ويقولون : يا رسول الله ، إن هذا اليهوديّ الخبيث يكفر بالله وبما جئت به ! قال : حتى مال عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم ببعض القول ، فعاتبه الله عزّ وجلّ في ذلك ، فقال : { إنّا أنْزَلْنا إلَيْكَ الكِتابَ بالحَقّ لِتَحْكُمَ بينَ النّاسِ بِمَا أرَاكَ اللّهُ وَلا تَكُنْ للخائِنِينَ خَصِيما واسْتِغْفِرِ اللّهِ } بما قلت لهذا اليهوديّ ، { إنّ اللّهَ كانَ غَفورا رَحِيما } . ثم أقبل على جيرانه فقال : { ها أنُتمْ هؤُلاءِ جادَلُتمْ عنهُمْ في الحياةِ الدّنيَا } فقرأ حتى بلغ : { أمّنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً } . قال : ثم عرض التوبة فقال : { وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءا أوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمّ يَسْتَغْفِر اللّهَ يَجِد اللّهَ غَفُورا رَحِيما وَمَنْ يَكْسِبْ إثْما فإنّمَا يَكْسِبُهُ على نَفْسِهِ } فما أدخلكم أنتم أيها الناس على خطيئة هذا تكلمون دونه . { وكانَ اللّهُ عَلِيما حَكِيما وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أوْ إثْما ثُمّ يَرْم بِهِ بَرِيئا } وإن كان مشركا . { فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتانا وإثْما مُبِينا } فقرأ حتى بلغ إلى قوله : { وَمَنْ يُشاقِق الرّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيّنَ لَهُ الهُدَى } قال : أبى أن يقبل التوبة التي عرض الله له . وخرج إلى المشركين بمكة ، فنقب بيتا ليسرقه ، فهدمه الله عليه فقتله¹ فذلك قوله : { وَمَنْ يُشاقِق الرّسولَ مِنْ بَعِدِ ما تَبِيّنَ لَهُ الهُدَي } فقرأ حتى بلغ : { وَساءَتْ مَصِيرا } . ويقال : هو طعمة بن أبيرق ، وكان نازلاً في بني ظفر .
وقال آخرون : بل الخيانة التي وصف الله بها من وصفه بقوله : { وَلا تَكُنْ للخائِنِينَ خَصيما } جحوده وديعة كان أُودِعَها . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { إنّا أنْزَلْنا إلَيْكَ الكِتابَ بالحَقّ لِتَحْكُمَ بينَ النّاسِ بِمَا أرَاكَ اللّهُ وَلا تَكُنْ للخائِنِينَ خَصِيما } قال : أمّا «ما أراك الله » : فما أوحي الله إليك¹ قال : نزلت في طعمة بن أبيرق ، واستودعه رجل من اليهود درعا ، فانطلق بها إلى داره ، فحفر لها اليهودي ثم دفنها ، فخالف إليها طعمة ، فاحتفر عنها ، فأخذها . فلما جاء اليهوديّ يطلب درعه كَافَرَهُ عنها ، فانطلق إلى ناس من اليهود من عشيرته ، فقال : انطلقوا معي ، فإني أعرف وضع الدرع ! فلما علم بهم طعمة ، أخذ الدرع فألقاها في دار أبي مُلَيْلٍ الأنصاري ، فلما جاءت اليهود تطلب الدرع فلما تقدر عليها ، وقع به طعمة وأناس من قومه ، فسبوه ، وقال : أتخوّنونني ؟ فانطلقوا يطلبونها في داره ، فأشرفوا على بيت أبي مليل ، فإذا هم بالدرع ، وقال طعمة : أخذها أبو مليل . وجادلت الأنصار دون طعمة ، وقال لهم : انطلقوا معي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا له ينضح عني ويكذب حجة اليهودي ، فإني إن أُكّذب كذب على أهل المدينة اليهودي . فأتاه أناس من الأنصار فقالوا : يا رسول الله جادل عن طعمة وأَكْذِب اليهودي ! فهمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفعل ، فأنزل الله عليه : { وَلا تَكُنْ للخائِنِينَ خَصِيما وَاسْتَغْفِر اللّهَ } مما أردت { إنّ اللّهَ كانَ غَفُورا رَحِيما وَلا تُجادِلْ عَنِ الّذِينَ يَخْتانُونَ أنْفُسَهُمْ إنّ اللّهَ لا يُحِبّ مَنْ كانَ خَوّانا أثِيما } . ثم ذكر الأنصار ومجادلتهم عنه ، فقال : { يَسْتَخْفُونَ مِنَ النّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إذْ يُبَيّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ القَوْلِ } يقول : يقولون ما لا يرضى من القول ، { ها أنُتمْ هؤلاء جَادلتمْ عَنهمْ في الحياة الدّنيْا فمنْ يجادِلُ اللّهُ عَنهمْ يومَ القيامةِ } . ثم دعا إلى التوبة ، فقال : { وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءا أوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمّ يَسْتَغْفِر اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُورا رَحِيما } . ثم ذكر قوله حين قال أخذها أبو مليل فقال : { وَمَنْ يَكْسِبْ إثْما فإنّمَا يَكْسِبُهُ على نَفْسِهِ . . . وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أوْ إثْما ثُمّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتانا وإثْما مُبِينا } . ثم ذكر الأنصار وإتيانهم إياه أن ينضح عن صاحبهم ويجادل عنه فقوله : { لَهَمّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أنْ يُضِلّوكَ وَما يُضِلّونَ إلاّ أنْفُسَهُمْ وَما يَضُرّونَك مِنْ شَيْءٍ وأنْزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الكِتابَ والحِكْمَةَ } يقول : النبوّة . ثم ذكر مناجاتهم فيما يريدون أن يكذبوا عن طعمة ، فقال : { لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إلاّ مَنْ أمَرَ بِصَدَقَةٍ أوْ مَعْرُوفٍ أوْ إصْلاحٍ بينَ النّاس } . فلما فضح الله طعمة بالمدينة بالقرآن ، هرب حتى أتى مكة ، فكفر بعد إسلامه . ونزل على الحجاج بن علاط السلمي ، فنقب بيت الحجاج فأراد أن يسرقه ، فسمع الحجاج خشخشة في بيته وقعقة جلود كانت عنده ، فنظر فإذا هو بطعمة ، فقال : ضيفي وابن عمي وأردت أن تسرقني ؟ ! فأخرجه فمات بحرّة بني سليم كافرا ، وأنزل الله فيه : { وَمَنْ يُشاقِق الرّسُولَ مِنْ بَعْد ما تَبيّنَ لَهُ الهُدَى وَيَتّبِعْ غيرَ سَبِيل المُؤْمِنِنَ نُوَلّه ما تَوَلى } . . . إلى : { وَساءَتْ مَصِيرا } .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عكرمة ، قال : استودع رجل من الأنصار طعمة بن أبيرق مشرُبه له فيها درع ، وخرج فغاب . فلما قدم الأنصاريّ فتح مشربته فلم يجد الدرع ، فسأل عنها طعمة بن أبيرق ، فرمي بها رجلاً من اليهود يقال له زيد بن السمين . فتعلق صاحب الدرع بطعمة في درعه¹ فلما رأى ذلك قومه أتوا النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فكلموه ليدرأ عنه فهم بذلك ، فأنزل الله تبارك وتعالى : { إنّا أنْزَلْنا إلَيْكَ الكِتَابَ بالحَقّ لِتَحْكُمْ بينَ النّاسِ بِمَا أرَاكَ اللّهُ وَلا تَكُنْ للخائِنِينَ خَصِيما وَاسْتَغْفِرِ اللّهَ إنّ اللّهَ كانَ غَفُورا رَحيما وَلا تُجادِلْ عَنِ الّذِينَ يَخْتانُونَ أنْفُسَهُمْ } يعني طعمة بن أبيرق وقومه ، { ها أنْتُمْ هَؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الحَياةِ الدّنيْا فَمَنْ يِجادِلُ اللّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ القِيامَةِ أمّنْ يَكُونَ عَلَيْهِمْ وَكيلاً } محمد صلى الله عليه وسلم وقوم طعمة . { وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءا أوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمّ يَسْتَغْفرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُورا رَحِيما } محمد وطعمة وقومه ، قال : { وَمَنْ يَكْسِبْ إثْما فإنّمَا يَكْسِبُهُ على نَفْسِهِ } . . . الاَية ، طعمة . { وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أوْ إثْما ثُمّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئا } يعني : زيد بن السمين ، { فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتانا وَإثْما مُبِينا } طعمة بن أبيرق . { وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمتُهُ } يا محمد ، { لَهَمّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أنْ يُضِلّوكَ وَما يُضِلّونَ إلاّ أنْفُسَهُمْ وَما يَضُرّونَكَ مِنْ شَيْءٍ } قوم طعمة ابن أبيرق . { وأنْزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الكِتابَ والحِكْمَةَ وَعَلّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وكانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيما } محمد صلى الله عليه وسلم . { لا خَيْرَ فِي كَثيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إلاّ مَنْ أمَرَ بِصَدَقَةٍ أوْ مَعْرُوفٍ } حتى تنقضي الاَية للناس عامة . { وَمَنْ يُشاققِ الرّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيّنَ لَهُ الهُدَي وَيَتّبِعْ غيرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ } . . . الاَية . قال : لما نزل القرآن في طعمة بن أبيرق لحق بقريش ورجع في دينه ، ثم عدا على مشربة للحجاج بن علاط البهزيّ ثم السلمي حليف لبني عبد الدار ، فنقبها ، فسقط عليه حجر فَلِحجَ . فلما أصبح أخرجوه من مكة ، فخرج فلقي ركبا من بهراء من قضاعة ، فعرض لهم ، فقال : ابن سبيل منقطع به ! فحملوه حتى إذا جنّ عليه الليل عدا عليهم فسرقهم ، ثم انطلق فرجعوا في طلبه فأدركوه ، فقذفوه بالحجارة حتى مات . قال ابن جريج : فهذه الاَيات كلها فيه نزلت إلى قوله : { إنّ اللّهَ لا يَغْفِرُ أنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشاءُ } أنزلت في طعمة بن أبيرق ، يقولون : إنه رَمى بالدرع في دار أبي مليل بن عبد الله الخزرجي ، فلما نزل القرآن لحق بقريش ، فكان من أمره ما كان .
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ ، حدثنا عبيد بن سلمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : { لِتَحْكُمَ بينَ النّاسِ بِمَا أرَاكَ اللّهُ } يقول : بما أنزل عليك وأراكه في كتابه . ونزلت هذه الاَية في رجل من الأنصار استودع درعا فجحد صاحبها ، فخوّنه رجال من أصحاب نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ، فغضب له قومه ، وأتوا نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ، وقالوا : خوّنوا صاحبنا وهو أمين مسلم ، فاعذره يا نبيّ الله وازجر عنه ! فقام نبيّ الله فعذره وكذب عنه وهو يرى أنه بريء وأنه مكذوب عليه ، فأنزل الله بيان ذلك فقال : { إنّا أنْزَلْنا إلَيْكَ الكِتابَ بالحَقّ لِتَحْكُمَ بينَ النّاسِ بِمَا أرَاكَ اللّهُ } . . . إلى قوله : { أم مّنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً } فبين الله خيانته . فلحق بالمشركين من أهل مكة ، وارتدّ عن الإسلام ، فنزل فيه : { وَمَنْ يُشاقِقِ الرّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيّنَ لَهُ الهُدَى } إلى قوله : وَساءَتْ مَصِيرا } .
قال أبو جعفر : وأولى التأويلين في ذلك بما دلّ عليه ظاهر الاَية قول من قال : كانت خيانته التي وصفه الله بها في هذه الاَية جحوده ما أودع ، لأن ذلك هو المعروف من معاني الخيانات في كلام العرب¹ وتوجيه تأويل القرآن إلى الأشهر من معاني كلام العرب ما وجد إليه سبيل أولى من غيره .
{ إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس } نزلت في طعمة بن أبيرق من بني ظفر ، سرق درعا من جاره قتادة بن النعمان في جراب دقيق ، فجعل الدقيق ينتثر من خرق فيه وخبأها عند زيد بن السمين اليهودي ، فالتمست الدرع عند طعمة فلم توجد ، وحلف ما أخذها وما له بها علم فتركوه واتبعوا أثر الدقيق حتى انتهى إلى منزل اليهودي فأخذوها . فقال دفعها إلى طعمة وشهد له ناس من اليهود فقالت بنو ظفر : انطلقوا بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألوه أن يجادل عن صاحبهم وقالوا : إن لم تفعل هلك وافتضح وبرئ اليهودي فهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفعل { بما أراك الله } بما عرفك الله وأوحى به إليك وليس من الرؤية بمعنى العلم وإلا لاستدعى ثلاثة مفاعيل . { ولا تكن للخائنين } أي لأجلهم والذب عنهم { خصيما } للبرآء .
اتّصال هذه الآية بما قبلها يرجع إلى ما مضى من وصف أحوال المنافقين ومناصريهم ، وانتقل من ذلك إلى الاستعداد لقتال المناوين للإسلام من قوله : { يأيها الذين آمنوا خُذوا حذركم فانفروا } [ النساء : 71 ] الآية ، وتخلّل فيه من أحوال المنافقين في تربّصهم بالمسلمين الدوائر ومختلف أحوال القبائل في علائقهم مع المسلمين ، واستطرد لذكر قتل الخطأ والعمد ، وانتقل إلى ذكر الهجرة ، وعقّب بذكر صلاة السفر وصلاة الخوف ، عاد الكلام بعد ذلك إلى أحوال أهل النفاق .
والجملة مستأنفة استئنافاً ابتدائياً .
وجمهور المفسّرين على أنّ هاته الآية نزلت بسبب حادثة رواها الترمذي حاصلها : أنّ أخوةً ثلاثة يقال لهم : بِشر وبَشير ومُبشّر ، أبناء أبَيْرِق ، وقيل : أبناء طُعْمَةَ بن أبيرق ، وقيل : إنّما كان بشير أحدهم يكنى أبا طُعمة ، وهم من بني ظَفَر من أهل المدينة ، وكان بشير شرّهم ، وكان منافقاً يهجو المسلمين بشعر يشيعه وينسبه إلى غيره ، وكان هؤلاء الإخوة في فاقة ، وكانوا جيرة لرفاعة بن زيد ، وكانت عِير قد أقبلت من الشام بدَرْمَككٍ وهو دقيق الحُوّارَى أي السميذ فابتاع منها رفاعة بن زيد حِملا من دَرْمك لطعامه ، وكان أهل المدينة يأكلون دقيق الشعير ، فإذا جاء الدرمك ابتاع منه سيّد المنزل شيئاً لطعامه فجَعل الدرمك في مشربة له وفيها سلاح ، فعدَى بنو أبيرق عليه فنقبوا مشربته وسرقوا الدقيق والسلاح ، فلمّا أصبح رفاعة ووجد مشربته قد سرقت أخبر ابن أخيه قتادة بن النعمان بذلك ، فجعل يتحسّس ، فأنبىء بأنّ بني أبيرق استوقدُوا في تلك الليلة ناراً ، ولعلّه على بعض طعام رفاعة ، فلمّا افتضح بنو أبيرق طرحوا المسروق في دار أبي مُليل الأنصاري . وقيل : في دار يهودي اسمه زيد بن السمين ، وقيل : لبيد بنُ سهل ، وجاء بعض بني ظَفر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاشتكوا إليه أنّ رفاعة وابن أخيه اتَّهَما بالسرقة أهلَ بيت إيمان وصلاح ، قال قتادة : فأتَيت رسول الله ، فقال لي " عمدت إلى أهل بيت إسلام وصلاح فرميتهم بالسرقة على غير بيّنة " . وأشاعوا في الناس أنّ المسروق في دار أبي مُليل أو دار اليهودي . فما لبث أن نزلت هذه الآية ، وأطْلَعَ الله رسولَه على جِليّة الأمر ، معجزة له ، حتى لا يطمع أحد في أن يروّج على الرسول باطلاً . هذا هو الصحيح في سَوق هذا الخبر . ووقع في « كتاب أسباب النزول » للواحدي ، وفي بعض روايات الطبري سوق القصة ببعض مخالفة لما ذكرتُه : وأنّ بني ظَفر سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجادل عن أصحابهم كي لا يفتضحوا ويبرأ اليهودي ، وأنّ رسول الله هَمّ بذلك ، فنزلت الآية . وفي بعض الروايات أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لام اليهودي وبَرّأ المتّهم ، وهذه الرواية واهية ، وهذه الزيادة خطأ بيِّنٌ من أهل القَصص دون علم ولا تبصّر بمعاني القرآن .
والظاهر أنّ صدر الآية تمهيد للتلويح إلى القصة ، فهو غير مختصّ بها ، إذ ليس في ذلك الكلام ما يلوّح إليها ، ولكن مبدأ التلويح إلى القصة من قوله : { ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم } .
وقوله : { بما أراك الله } الباء للآلة جعل ما أراه الله إيّاه بمنزلة آلة للحكم لأنّه وسيلة إلى مصادفة العدل والحقّ ونفي الجور ، إذ لا يحتمل علم الله الخطأ . والرؤية في قوله : { أراك الله } عرفانية ، وحقيقتها الرؤية البصرية ، فأطلقت على ما يدرك بوجه اليقين لمشابهته الشيء المشاهد . والرؤية البصرية تنصب مفعولا واحداً فإذ أدخلت عليها همزة التعدية نصبت مفعولين كما هنا ، وقد حذف المفعول الثاني لأنّه ضمير الموصول ، فأغنى عنه الموصول ، وهو حذف كثير ، والتقدير : بما أراكَه الله .
فكلّ ما جعله الله حقّا في كتابه فقد أمر بالحكم به بين الناس ، وليس المراد أنّه يُعلمه الحقّ في جانب شخص معيّن بأنّ يقول له : إن فلاناً على الحقّ ، لأنّ هذا لا يلزم اطّراده ، ولأنّه لا يُلفى مدلولا لجميع آيات القرآن وإنْ صلح الحمل عليه في مثل هذه الآية ، بل المراد أنّه أنزل عليه الكتاب ليحكم بالطرق والقضايا الدالّة على وصف الأحوال التي يتحقّق بها العدل فيحكم بين الناس على حسب ذلك ، بأن تندرج جزئيات أحوالهم عند التقاضي تحت الأوصاف الكلية المبيّنة في الكتاب ، مثل قوله تعالى : { وما جعل أدعياءكم أبناءكم } [ الأحزاب : 4 ] ، فقد أبطل حكم التبنّي الذي كان في الجاهلية ، فأعلَمنا أنّ قَول الرجل لمن ليس ولده : هذا ولدي ، لا يجعل للمنسوب حقّاً في ميراثه . ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا يخطىء في إدراج الجزئيات تحت كليّاتها ، وقد يعرض الخطأ لغيره ، وليس المراد أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يصادف الحقّ من غير وجوهه الجارية بين الناس ، ولذلك قال " إنّما أنا بَشَر وإنَّكُم تختصمون إليّ ولعَلّ بعضَكُم أنْ يَكُونَ ألْحَنَ بحجّته من بعضٍ فأقضي له على نحو ما أسمع فمن قضيت له بحقّ أخيه فلا يأخُذْه فإنّما أقْتَطِعُ له قِطعَة من نار " . وغير الرسول يخطىء في الاندراج ، ولذلك وجب بذل الجهد واستقصاء الدليل ، ومن ثمّ استدلّ علماؤنا بهذه الآية على وجوب الاجتهاد في فهم الشريعة . وعن عمر بن الخطاب أنّه قال : « لا يقولّن أحد قضيت بما أراني الله تعالى فإنّ الله تعالى لم يجعل ذلك إلاّ لنبيّه وأمّا الواحد منّا فرأيه يكون ظنّا ولا يكون علماً » ، ومعناه هو ما قدّمناه من عروض الخطأ في الفهم لغير الرسول دون الرسول صلى الله عليه وسلم .
واللام في قوله : { للخائنين خصيماً } لام العلّة وليست لامَ التقوية . ومفعول { خصيماً } محذوف دلّ عليه ذكر مقابله وهو { للخائنين } أي لا تكن تخاصم من يخاصم الخائنين ، أي لا تخاصم عنهم .
فالخصيم هنا بمعنى المنتصر المدافع كقوله : « كنت أنا خَصْمَه يوم القيامة » . والخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم والمراد الأمّة ، لأنّ الخصام عن الخائنين لا يتوقّع من النبي صلى الله عليه وسلم وإنّما المراد تحذير الذين دفعتهم الحميّة إلى الانتصار لأبناء أبيرق .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
{إنّا أنْزَلْنا إلَيْكَ الكِتابَ بالحَقّ لِتَحْكُمَ بينَ النّاسِ بِمَا أرَاكَ اللّهُ}: إنا أنزلنا إليك يا محمد الكتاب، يعني القرآن، {لتَحْكُمَ بَيْنَ النَاسِ}: لتقضي بين الناس، فتفصل بينهم {بِما أرَاكَ اللّه}: بما أنزل الله إليك من كتابه. {وَلا تَكُنْ للْخائِنِينَ خَصيما}: ولا تكن لمن خان مسلما أو معاهدا في نفسه أو ماله، خصيما تخاصم عنه، وتدفع عنه من طالبه بحقه الذي خانه فيه. {واسْتَغْفِرِ اللّهَ} يا محمدُ وسله أن يصفح لك عن عقوبة ذنبك في مخاصمتك عن الخائن من خان مالاً لغيره.
{إنّ اللّهَ كانَ غَفُورا رَحِيما}: إن الله لم يزل يصفح عن ذنوب عباده المؤمنين بتركه عقوبتهم عليها، إذا استغفروه منها، رحيما بهم، فافعل ذلك أنت يا محمد، يغفر الله لك ما سلف من خصومتك عن هذا الخائن. وقد قيل إن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يكن خاصم عن الخائن، ولكنه همّ بذلك، فأمره الله بالاستغفار مما همّ به من ذلك.
وذكر أن الخائنين الذين عاتب الله جلّ ثناؤه نبيه صلى الله عليه وسلم في خصومته عنهم بنو أُبَيْرِق.
واختلف أهل التأويل في خيانته التي كانت منه فوصفه الله بها؛
فقال بعضهم: كانت سرقة سرقها. عن مجاهد في قول الله: {إنّا أنْزَلْنا إلَيْكَ الكِتابَ بالحَقّ لِتَحْكُمْ بينَ النّاسِ بِمَا أرَاكَ اللّهُ}... إلى قوله: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللّهِ} فيما بين ذلك في طعمة بن أبيرق ودرعه من حديد التي سرق، وقال أصحابه من المؤمنين للنبيّ: اعذره في الناس بلسانك! ورمَوا بالدرع رجلاً من يهود بريئا.
عن قتادة بن النعمان، قال: كان أهل بيت منا يقال لهم بنو أبيرق: بِشر وبُشَير مبشّر، وكان بشير رجلاً منافقا، وكان يقول الشعر يهجو به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ينحله إلى بعض العرب، ثم يقول: قال فلان كذا، وقال فلان كذا، فإذا سمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الشعر، قالوا: والله ما يقول هذا الشعر إلا هذا الخبيث... وكانوا أهل بيت فاقة وحاجة في الجاهلية والإسلام، وكان الناس إنما طعامهم بالمدينة التمر والشعير، وكان الرجل إذا كان له يسار فقدمت ضافطة من الشام بالدّرمك، ابتاع الرجل منهم، فخصّ به نفسه، فأما العيال: فإنما طعامهم التمر والشعير. فقدمت ضافطة من الشام، فابتاع عمي رفاعة بن زيد حملاً من الدرمك، فجعله في مشرَبة له، وفي المشربة سلاح له: درعان وسيفاهما وما يصلحهما. فَعُدي عليه من تحت الليل، فنقبت المشربة، وأخذ الطعام والسلاح. فلما أصبح أتاني عمي رفاعة فقال: يا ابن أخي تعلمْ أنه قد عُدِي علينا في ليلتنا هذه، فنقبت مشربتنا، فذهب بسلاحنا وطعامنا. قال: فتجسسنا في الدار وسألنا، فقيل لنا: قد رأينا بني أبيرق استوقدوا في هذه الليلة، ولا نرى فيما نراه إلا على بعض طعامكم. قال: وقد كان بنو أبيرق قالوا ونحن نسأل في الدار: والله ما نرى صاحبكم إلا لبيد بن سهم! رجل منا له صلاح وإسلام. فلما سمع بذلك لبيد اخترط سيفه، ثم أتى بني أبيرق فقال: والله ليخالطنكم هذا السيف أو لتبيننّ هذه السرقة! قالوا: إليك عنا أيها الرجل، فوالله ما أنت بصاحبها! فسألنا في الدار حتى لم نشكّ أنهم أصحابها، فقال عمي: يا ابن أخي، لو أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له. قال قتادة: فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له، فقلت: يا رسول الله، إن أهل بيت منا أهل جفاء، عمدوا إلى عمي رفاعة فنقبوا مشربة له، وأخذوا سلاحه وطعامه، فليردّوا علينا سلاحنا، فأما الطعام فلا حاجة لنا فيه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سأنْظُرُ في ذلك». فلما سمع ذلك بنو أبيرق أتوا رجلاً منهم يقال له أسير بن عروة، فكلموه في ذلك، واجتمع إليه ناس من أهل الدار، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله، إن قتادة بن النعمان وعمه عمدوا إلى أهل بيت منا أهل إسلام وصلاح يرمونهم بالسرقة من غير بينة ولا ثَبَت. قال قتادة: فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمته، فقال: «عَمَدْتَ إلى أهْلِ بَيْتٍ ذُكِرَ مِنْهُمْ إسْلامٌ وَصَلاحٌ تَرْمِيهِمْ بالسّرِقَةِ على غيرِ بَيّنَةٍ وَلا ثَبَتٍ!». قال: فرجعت ولوددت أني خرجت من بعض مالي ولم أكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك. فأتيت عمي رفاعة، فقال: يا ابن أخي ما صنعت؟ فأخبرته بما قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: الله المستعان. فلم نلبث أن نزل القرآن: {إنّا أنْزَلْنا إلَيْكَ الكِتابَ بالحَقّ لِتَحْكُمَ بينَ النّاسِ بِمَا أرَاكَ اللّهُ وَلا تَكُنْ للخائِنِينَ خَصِيما} يعني: بني أبيرق، {وَاسْتَغْفِر اللّهَ} أي مما قلت لقتادة، {إنّ اللّهَ كانَ غَفُورا رَحِيما وَلا تُجَادِلْ عَنِ الّذِينَ يَخْتانُونَ أنْفُسَهُمْ} أي بني أبيرق {إنّ اللّهَ لا يُحِبّ مَنْ كانَ خَوّانا أثِيما. يَسْتَخْفُونَ مِنَ النّاسِ}... إلى قوله: {ثُمّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ، يَجِدِ اللّهَ غَفُورا رَحِيما}: أي أنهم إن يستغفروا الله يغفر لهم، {وَمَنْ يَكْسِبْ إثْما فإنمَا يَكْسِبُهُ على نَفْسِهِ وكانَ اللّهُ عَلِيما حَكِيما وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أوْ إثْما ثُمّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتانا وَإثْما مُبِينا} قولهم للبيد: {وَلَوْلا فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أنْ يُضِلّوكَ} يعني أسيرا وأصحابه. {وَما يُضِلّونَ إلاّ أنْفُسَهُمْ وَما يَضُرّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وأنْزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الكِتابَ والحِكْمَةَ}... إلى قوله: {فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أجْرا عَظِيما}، فلما نزل القرآن أتِيَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسلاح، فردّه إلى رفاعة. قال قتادة: فلما أتيت عمي بالسلاح وكان شيخا قد عسا في الجاهلية، وكنت أرى إسلامه مدخولاً¹ فلما أتيته بالسلاح، قال: يا ابن أخي، هو في سبيل الله. قال: فعرفت أن إسلامه كان صحيحا. فلما نزل القرآن لحق بشير بالمشركين فنزل على سلافة بنت سعد بن سهل، فأنزل الله فيه: {وَمَنْ يُشاقِقِ الرّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيّنَ لَهُ الهُدَى وَيَتّبِعْ غيرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ}... إلى قوله: {وَمَنْ يُشْرِكْ باللّهِ فَقَدْ ضَلّ ضَلالاً بَعِيدا}. فلما نزل على سلافة رماها حسان بن ثابت بأبيات من شعر. فأخذت رحله فوضعته على رأسها ثم خرجت فرمته بالأبطح، ثم قالت: أهديت إليّ شعر حسان! ما كنت تأتيني بخير.
حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: {إنّا أنْزَلْنا إلَيْكَ الكِتابَ بالحَقّ لِتَحْكُمَ بينَ النّاسِ بِمَا أرَاكَ اللّهُ} يقول: بِمَا أنزل الله عليك وبيّن لك، {وَلا تَكُنْ للْخائِنِينَ خَصِيما} فقرأ إلى قوله: {إنّ اللّهَ لا يُحِبّ مَنْ كانَ خَوّانا أثِيما}. ذكر لنا أن هؤلاء الاَيات أنزلت في شأن طعمة بن أبيرق وفيما همّ به نبيّ الله صلى الله عليه وسلم من عذره، وبين الله شأن طعمة بن أبيرق، ووعظ نبيه صلى الله عليه وسلم وحذّره أن يكون للخائنين خصيما. وكان طعمة بن أبيرق رجلاً من الأنصار، ثم أحد بني ظَفَر، سرق درعا لعمه كانت وديعة عنده، ثم قذفها على يهوديّ كان يغشاهم، يقال له زيد بن السمين، فجاء اليهودي إلى نبيّ الله صلى الله عليه وسلم يهتف، فلما رأى ذلك قومه بنو ظفر جاءوا إلى نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ليعذروا صاحبهم، وكان نبيّ الله عليه الصلاة والسلام قد همّ بعُذره، حتى أنزل الله في شأنه ما أنزل، فقال: {وَلا تُجادِلْ عَنِ الّذِينَ يَخْتانُونَ أنْفُسَهُمْ} إلى قوله: {ها أنْتُمْ هؤلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الحَياةِ الدّنيْا فَمَنْ يُجادِلُ اللّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ القِيامَةِ} يعني بذلك قومه، {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أوْ إثْما ثُمّ يَرْم بِهِ بَريئا فَقَد احْتَمَلَ بُهْتانا وإثْما مُبِينا}، وكان طعمة قذف بها بريئا. فلما بين الله شأن طعمة، نافق ولحق بالمشركين بمكة، فأنزل الله في شأنه: {وَمَنْ يُشاقِق الرّسُولَ مِنْ بَعْد ما تَبَيّنَ لَهُ الهُدَى وَيَتّبِعْ غيرَ سَبِيل المُؤْمِنِينَ نُوَلّه ما تَوَلىّ وَنُصْلِهِ جَهَنّمَ وَساءَتْ مَصِيرا}...
وقال آخرون: بل الخيانة التي وصف الله بها من وصفه بقوله: {وَلا تَكُنْ للخائِنِينَ خَصيما} جحوده وديعة كان أُودِعَها. عن السديّ: {إنّا أنْزَلْنا إلَيْكَ الكِتابَ بالحَقّ لِتَحْكُمَ بينَ النّاسِ بِمَا أرَاكَ اللّهُ وَلا تَكُنْ للخائِنِينَ خَصِيما} قال: أمّا «ما أراك الله»: فما أوحي الله إليك¹ قال: نزلت في طعمة بن أبيرق، واستودعه رجل من اليهود درعا، فانطلق بها إلى داره، فحفر لها اليهودي ثم دفنها، فخالف إليها طعمة، فاحتفر عنها، فأخذها. فلما جاء اليهوديّ يطلب درعه كَافَرَهُ عنها، فانطلق إلى ناس من اليهود من عشيرته، فقال: انطلقوا معي، فإني أعرف وضع الدرع! فلما علم بهم طعمة، أخذ الدرع فألقاها في دار أبي مُلَيْلٍ الأنصاري، فلما جاءت اليهود تطلب الدرع فلما تقدر عليها، وقع به طعمة وأناس من قومه، فسبوه، وقال: أتخوّنونني؟ فانطلقوا يطلبونها في داره، فأشرفوا على بيت أبي مليل، فإذا هم بالدرع، وقال طعمة: أخذها أبو مليل. وجادلت الأنصار دون طعمة، وقال لهم: انطلقوا معي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا له ينضح عني ويكذب حجة اليهودي، فإني إن أُكّذب كذب على أهل المدينة اليهودي. فأتاه أناس من الأنصار فقالوا: يا رسول الله جادل عن طعمة وأَكْذِب اليهودي! فهمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفعل، فأنزل الله عليه: {وَلا تَكُنْ للخائِنِينَ خَصِيما وَاسْتَغْفِر اللّهَ} مما أردت {إنّ اللّهَ كانَ غَفُورا رَحِيما وَلا تُجادِلْ عَنِ الّذِينَ يَخْتانُونَ أنْفُسَهُمْ إنّ اللّهَ لا يُحِبّ مَنْ كانَ خَوّانا أثِيما}. ثم ذكر الأنصار ومجادلتهم عنه، فقال: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إذْ يُبَيّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ القَوْلِ} يقول: يقولون ما لا يرضى من القول، {ها أنُتمْ هؤلاء جَادلتمْ عَنهمْ في الحياة الدّنيْا فمنْ يجادِلُ اللّهُ عَنهمْ يومَ القيامةِ}. ثم دعا إلى التوبة، فقال: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءا أوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمّ يَسْتَغْفِر اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُورا رَحِيما}. ثم ذكر قوله حين قال أخذها أبو مليل فقال: {وَمَنْ يَكْسِبْ إثْما فإنّمَا يَكْسِبُهُ على نَفْسِهِ... وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أوْ إثْما ثُمّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتانا وإثْما مُبِينا}. ثم ذكر الأنصار وإتيانهم إياه أن ينضح عن صاحبهم ويجادل عنه فقوله: {لَهَمّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أنْ يُضِلّوكَ وَما يُضِلّونَ إلاّ أنْفُسَهُمْ وَما يَضُرّونَك مِنْ شَيْءٍ وأنْزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الكِتابَ والحِكْمَةَ} يقول: النبوّة. ثم ذكر مناجاتهم فيما يريدون أن يكذبوا عن طعمة، فقال: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إلاّ مَنْ أمَرَ بِصَدَقَةٍ أوْ مَعْرُوفٍ أوْ إصْلاحٍ بينَ النّاس}. فلما فضح الله طعمة بالمدينة بالقرآن، هرب حتى أتى مكة، فكفر بعد إسلامه. ونزل على الحجاج بن علاط السلمي، فنقب بيت الحجاج فأراد أن يسرقه، فسمع الحجاج خشخشة في بيته وقعقة جلود كانت عنده، فنظر فإذا هو بطعمة، فقال: ضيفي وابن عمي وأردت أن تسرقني؟! فأخرجه فمات بحرّة بني سليم كافرا، وأنزل الله فيه: {وَمَنْ يُشاقِق الرّسُولَ مِنْ بَعْد ما تَبيّنَ لَهُ الهُدَى وَيَتّبِعْ غيرَ سَبِيل المُؤْمِنِينَ نُوَلّه ما تَوَلى}... إلى: {وَساءَتْ مَصِيرا}.
وأولى التأويلين في ذلك بما دلّ عليه ظاهر الآية قول من قال: كانت خيانته التي وصفه الله بها في هذه الآية جحوده ما أودع، لأن ذلك هو المعروف من معاني الخيانات في كلام العرب¹ وتوجيه تأويل القرآن إلى الأشهر من معاني كلام العرب ما وجد إليه سبيل أولى من غيره.
قوله تعالى: {وَلاَ تَكُنْ للخَائِنِينَ خَصِيماً}: إنه جائز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم دفع عنهم، وجائز أن يكون هَمَّ بالدفع عنهم مَيْلاً منه إلى المسلمين دون اليهودي، إذْ لم يكن عنده أنهم غير محقّين؛ وإذا كان ظاهر الحال بوجود الدرع عند اليهودي فكان اليهودي أوْلى بالتهمة والمسلم أوْلى ببراءة الساحة، فأمره الله تعالى بترك المَيْلِ إلى أحد الخصمين والدّفْعِ عنه وإن كان مسلماً والآخر يهوديّاً، فصار ذلك أصلاً في أن الحاكم لا يكون له مَيْلٌ إلى أحد الخصمين على الآخر وإن كان أحدهما ذا حرمة له والآخر على خلافه. وهذا يدل أيضاً على أن وجود السرقة في يد إنسان لا يوجب الحكم عليه بها؛ لأن الله تعالى نهاه عن الحكم على اليهودي بوجود السرقة عنده، إذ كان جاحداً أن يكون هو الآخذ...
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
{إِنَّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ}: بالأمر والنهي والفصل {وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً}: معيناً...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
الخطاب وإن توجه إلى النبي (صلى الله عليه وآله) من حيث خاصم من رآه على ظاهر الإيمان والعدالة، وكان في الباطن بخلافه، فلم يكن ذلك معصية، لأنه (ع) منزه عن القبائح فإنما ذكر على وجه التأديب له في أن لا يبادر فيخاصم ويدفع عن خصم إلا بعد أن يبين الحق منه. والمراد بذلك أمته (عليه السلام)...
الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي 468 هـ :
{إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق} هذه الآية وما بعدها نزلت في قصة طعمة بن أبيرق سرق درعا ثم رمى بها يهوديا فلما طلبت منه الدرع أحال على اليهودي ورماه بالسرقة فاجتمع قوم طعمة وقوم اليهودي وأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأل قوم طعمة النبي صلى الله عليه وسلم أن يجادل عن صاحبهم وأن يبريه وقالوا إنك إن لم تفعل افتضح صاحبنا وبرىء اليهودي فهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يفعل فنزل قوله تعالى {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق} في الحكم لا بالتعدي فيه {لتحكم بين الناس بما أراك الله} أي فيما علمك الله {ولا تكن للخائنين} طعمة وقومه {خصيما} مخاصما عنهم.
أحكام القرآن لإلكيا الهراسي 504 هـ :
وفيه دليل على أنه لا يجوز لأحد أن يخاصم عن أحد، إلا بعد أن يعلم أنه محق...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{بِمَا أَرَاكَ الله}: بما عرفك وأوحى به إليك. وعن عمر رضي الله عنه: لا يقولنّ أحدكم قضيت بما أراني الله، فإنّ الله لم يجعل ذلك إلا لنبيه صلى الله عليه وسلم، ولكن ليجتهد رأيه، لأن الرأي من رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مصيباً، لأن الله كان يريه إياه، وهو منا الظن والتكلف.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
في هذه الآية تشريف للنبي صلى الله عليه وسلم وتفويض إليه، وتقويم أيضاً على الجادة في الحكم، وتأنيب ما على قبول ما رفع إليه في أمر بني أبيرق بسرعة، وقوله تعالى: {بما أراك الله} معناه: على قوانين الشرع، إما بوحي ونص، أو بنظر جار على سنن الوحي، وقد تضمن الله تعالى لأنبيائه العصمة...
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ النِّيَابَةَ عَنِ الْمُبْطَلِ وَالْمُتَّهَمِ فِي الْخُصُومَةِ لَا تَجُوزُ، بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا»..
أحكام القرآن لابن الفرس 595 هـ :
وفي هذه الآية أيضا دليل أن الحاكم لا يكون عاميا خلافا لمن أجازه؛ لأن الله تعالى فوض الحكم للاجتهاد ومن لا علم عنده كيف يجتهد...
الأول: أنه تعالى لما شرح أحوال المنافقين على سبيل الاستقصاء ثم اتصل بذلك أمر المحاربة، واتصل بذكر المحاربة ما يتعلق بها من الأحكام الشرعية، مثل قتل المسلم خطأ على ظن أنه كافر، ومثل بيان صلاة السفر وصلاة الخوف، رجع الكلام بعد ذلك إلى أحوال المنافقين، وذكر أنهم كانوا يحاولون أن يحملوا الرسول عليه الصلاة والسلام على أن يحكم بالباطل ويذر الحكم الحق، فأطلع الله رسوله عليه وأمره بأن لا يلتفت إليهم ولا يقبل قولهم في هذا الباب.
والوجه الثاني في بيان النظم: أنه تعالى لما بين الأحكام الكثيرة في هذه السورة بين أن كل ما عرف بإنزال الله تعالى وأنه ليس للرسول أن يحيد عن شيء منها طلبا لرضا قومه.
الوجه الثالث: أنه تعالى لما أمر بالمجاهدة مع الكفار بين أن الأمر وإن كان كذلك لكنه لا تجوز الخيانة معهم ولا إلحاق ما لم يفعلوا بهم، وأن كفر الكافر لا يبيح المسامحة بالنظر له، بل الواجب في الدين أن يحكم له وعليه بما أنزل على رسوله، وأن لا يلحق الكافر حيف لأجل أن يرضى المنافق بذلك... واعلم أن العلماء قالوا هذا يدل على أن طعمة وقومه كانوا منافقين، وإلا لما طلبوا من الرسول نصرة الباطل وإلحاق السرقة باليهودي على سبيل التخرص والبهتان،... قوله {أراك الله}... المراد منه رأيت بمعنى الاعتقاد...
قوله: {ولا تكن للخائنين خصيما}... ولا تكن لأجل الخائنين مخاصما لمن كان بريئا عن الذنب، يعني لا تخاصم اليهود لأجل المنافقين...
قوله {واستغفر الله} يحتمل أن يكون المراد: واستغفر الله لأولئك الذين يذبون عن طعمة ويريدون أن يظهروا براءته عن السرقة...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان أول هذه القصص والتعجيب من حال الذين أوتوا نصيباً من الكتاب في ضلالهم وإضلالهم، ثم التعجيب من إيمانهم بالجبت والطاغوت، ثم التعجيب من حال من ادعى الإيمان بهذا الكتاب مع الكتب السالفة، ثم رضي بحكم غيره، وساق سبحانه وتعالى أصول ذلك وفروعه، ونصب الأدلة حتى علت على الفرقدين، وانتشر ضياؤها على جميع الخافقين، وختم ذلك بمجاهدة المبطلين بالحجة والسيف، وسوّر ذلك بصفتي العلم والحكمة؛ ناسب أتم مناسبة الإخبار بأنه أنزل هذا الكتاب بالحق، وبين فائدته التي عدل عنها المنافقون في استحكام غيره فقال: {إنا أنزلنا} أي بما لنا من العظمة التي تتقاصر دونها كل عظمة {إليك} أي خاصة وأنت أكمل الخلق {الكتاب} أي الكامل الجامع لكل خير {بالحق} أي ملتبساً بما يطابقه الواقع {لتحكم بين الناس} أي عامة، لأن دعوتك عامة فلا أضل ممن عدل عن حكمك وابتغى خيراً من غير كتابك، وأشار إلى أنه لا ينطق عن الهوى بقوله: {بما أراك الله} أي عرفكه الذي له القدرة الشاملة والعلم الكامل، فإن كان قد بين لك شيئاً غاية البيان فافعله، وإلا فانتظر منه البيان...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
روى الترمذي والحاكم وغيرهما عن قتادة بن النعمان قال كان أهل بيت منا يقال لهم بنو أبيرق بشير ومبشر، وكان بشير رجلا منافقا يقول الشعر يهجو به أصحاب رسول الله ثم ينحله بعض العرب يقول قال فلان كذا، وكانوا أهل بيت حاجة وفاقة في الجاهلية والإسلام وكان الناس إنما طعامهم بالمدينة التمر والشعير، فابتاع عمي رفاعة بن زيد حملا من الدرمك فجعله في مشربة له فيها سلاح وذرع وسيف فعدي عليه من تحت فنقبت المشربة وأخذ الطعام والسلاح، فلما أصبح أتاني عمي رفاعة فقال: يا ابن أخي إنه قد عدي علينا في ليلتنا هذه فنقبت مشربتنا وذهب بطعامنا وسلاحنا، فتجسسنا في الدار وسألنا فقيل لنا قد رأينا بني أبيرق استوقدوا في هذه الليلة ولا نرى فيما نرى إلا على بعض طعامكم. فقال بنو أبيرق ونحو نسأل في الدار والله ما نرى صاحبكم إلا لبيد بن سهل، رجل منا له صلاح وإسلام. فلما سمع لبيد اخترط سيفه وقال أنا أسرق؟ والله ليخالطنكم هذا السيف أو لتبينن هذه السرقة، قالوا إليك عنا أيها الرجل فما أنت بصاحبها فسألنا في الدار حتى لم نشك أنهم أصحابها فقال لي عمي يا ابن أخي لو أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له، فأتيته فقلت أهل بيت منا أهل جفاء عمدوا إلى عمي فنقبوا مشربة له وأخذوا سلاحه وطعامه فليردوا علينا سلاحنا وأما الطعام فلا حاجة لنا فيه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (سأنظر في ذلك) فلما سمع بنو أبيرق أتوا رجلا منهم يقال له أسير بن عروة فكلموه في ذلك فاجتمع في ذلك أناس من أهل الدار فقالوا يا رسول الله إن قتادة بن النعمان وعمه عمدا إلى أهل بيت منا أهل إسلام وصلاح يرمونهم بالسرقة من غير بينة ولا ثبت. قال قتادة فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال (عمدت إلى أهل بيت ذكر منهم إسلام وصلاح ترميهم بالسرقة على غير ثبت وبينة)؟ فرجعت فأخبرت عمي فقال: الله المستعان. فلم نلبث أن نزل القرآن {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما} بني أبيرق، {واستغفر الله} أي مما قلت لقتادة إلى قوله {عظيما} فلما نزل القرآن أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسلاح فرد إلى رفاعة ولحق بشير بالمشركين فنزل على سلافة بنت سعد فأنزل الله {ومن يشاقق الرسول من بعدما تبين له الهدى} [النساء:115] إلى قوله {ضلالا بعيدا} [النساء:60] قال الحاكم صحيح على شرط مسلم. وأخرج ابن سعد في الطبقات بسنده عن محمود بن لبيد قال عدا بشير بن الحارث على علية رفاعة بن زيد عم قتادة بن النعمان فنقبها من ظهرها وأخذ طعاما له ودرعين بأداتهما فأتى قتادة النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك فدعا بشيرا فسأله فأنكر ورمى بذلك لبيد بن سهل رجلا من أهل الدار ذا حسب ونسب فنزل القرآن بتكذيب بشير وبراءة لبيد {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس} الآيات اهـ من لباب النقول. وروى ابن جرير عن قتادة " "أن هؤلاء الآيات أنزلت في شأن طعمه بن أبيرق وفيما هم به نبي الله (صلى الله عليه وسلم) من عذره وبين الله شأن طعمه بن أبيرق ووعظ نبيه وحذره أن يكون للخائنين خصيما. وكان طعمه بن أبيرق رجلا من الأنصار ثم أحد بني ظفر سرق درعا لعمه كان وديعة عنده ثم قذفها على يهودي كان يغشاهم يقال له زيد بن السمير فجاء اليهودي إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم يهتف فلما رأى ذلك قومه بنو ظفر جاءوا إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم ليعذروا صاحبهم وكان نبي الله عليه السلام قد هم يعذره حتى أنزل الله في شأنه ما أنزل فقال {ولا تجادل} الخ وكان طعمه قذف بها بريئا. فلما بين الله شأن طعمه نافق ولحق المشركين بمكة فأنزل الله فيه {ومن يشاقق الرسول} الآية. وروي عن ابن عباس أن هذه الآيات نزلت في نفر من الأنصار كانوا مع النبي (صلى الله عليه وسلم) في بعض غزواته فسرقت لأحدهم درع فأظن بها رجلا من الأنصار فأتى صاحب الدرع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن طعمه ابن أبيرق سرق درعي فأتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رأى السارق ذلك عمد إليها فألقاها في بيت رجل بريء وقال لنفر من عشيرته إني قد غيبت الدرع وألقيتها في بيت فلان وستوجد عندهم فانطلقوا إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم ليلا فقالوا يا نبي الله إن صاحبنا بريء وإن سارق الدرع فلان وقد أحطنا بذلك علما فاعذر صاحبنا على رؤوس الناس وجادل عنه فإنه إن لم يعصمه الله بك يهلك. فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فبرأه وعذره على رؤوس الناس فأنزل الله {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق} ـ إلى قوله ـ {وكيلا}. وروي عن ابن زيد أن رجلا سرق درعا من حديد وطرحها على يهودي فقال اليهودي والله ما سرقتها يا أبا القاسم ولكن طرحت علي. وكان للرجل الذي سرق جيران يبرؤونه ويطرحونه على اليهودي ويقولون يا رسول الله هذا اليهودي الخبيث يكفر بالله وربما جئت به، قال حتى مال النبي (صلى الله عليه وسلم) ببعض القول فعاتبه الله عز وجل في ذلك فقال (وذكرت الآيات) ثم قال في الرجل ويقال هو طعمه بن أبيرق. وروي عن السدي أنها نزلت في طعمه بن أبيرق استودعه رجل من اليهود درعا فخانه فيها وأخفاها في دار أبي مليك الأنصاري، وأهان طعمه وأناس من قومه اليهودي لما جاء يطلب درعه، وجادلت الأنصار عن طعمه وطلبوا من النبي أن يجادل عنه الخ وقد اختار أكثر المفسرين أن الخائن هو طعمه وأن اليهودي هو الذي كان صاحب الحق. هذا ما ورد في سبب النزول...
بعد أن حذر الله المنافقين من أعداء الحق الذين يحاولون طمسه بإهلاك أهله، أراد أن يحذرهم من ما يخشى على الحق من جهة الغفلة عنه، وترك العناية بالنظر في حقيقته وترك حفظه، فإن إهمال العناية بالحق أشد الخطرين عليه لأنه يكون سببا لفقد العدل أو تداعي أركانه وذلك يفضي إلى هلاك الأمة وكذلك إهمال غير العدل من الأصول العامة التي جاء بها الدين، فالعدو لا يمكنه إهلاك أمة كبيرة وإعدامها، ولكن ترك الأصول المقومة للأمة كالعدل وغيره يهلك كل أمة تهمله ولذلك قال (وذكر الآية الأولى).
أقول: أما اتصال الآيات بما قبلها مباشرة فالأقرب فيه ما قاله الأستاذ الإمام ويمكن بيانه بأنه تعالى لما أمر المؤمنين بأن يأخذوا حذرهم من الأعداء ويستعدوا لمجاهدتهم حفظا للحق أن يؤتى من الخارج، أمرهم بأن يقوموا بما يحفظه في نفسه فلا يؤتى من الداخل، وأن يقيموه على وجهه كما أمر الله تعالى ولا يحابوا فيه أحدا. وأما اتصالها بمجموع ما قبلها فقد علمنا مما مرّ أن أول السورة في أحكام النساء والبيوت إلى قوله تعالى: {فاعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا} ومن هذه الآية إلى هنا تنوعت الآيات بالانتقال من الأحكام العامة إلى مجادلة اليهود وبيان حالهم مع النبي (صلى الله عليه وسلم) والمؤمنين، وتخلل ذلك الأمر بطاعة الله ورسوله والنعي على المنافقين الذين يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت كاليهود، وتأكيد الأمر بطاعة الرسول، وبيان أنه تعالى لم يبعث رسولا إلا ليطاع، والترغيب في هذه الطاعة. ثم انتقل من ذلك إلى أحكام القتال وبيان حال المؤمنين والكافرين والمنافقين فيه، وقد عاد في هذا السياق أيضا إلى تأكيد طاعة الرسول وحال المنافقين فيها ـ فناسب أن ينتقل الكلام من هذا السياق إلى بيان ما يجب على الرسول نفسه أن يحكم به بعدما حتم الله التحاكم إليه وأمر بطاعته فيما يحكم ويأمر به، فكان هذا الانتقال في بيان واقعة اشترك فيها الخصام بين من سبق القول فيهم من أهل الكتاب والمنافقين الذين سبق شرح أحوالهم في الآيات السابقة فقال عز وجل:"أي إنا أوحينا إليك هذا القرآن بتحقيق الحق وبيانه لأجل أن تحكم بين الناس بما أعلمك الله به من الأحكام فاحكم به {ولا تكن للخائنين خصيما} تخاصم عنهم وتناضل دونهم، وهو طعمه وقومه الذين سرقوا الدرع وأرادوا أن يلصقوا جرمهم باليهودي البرئ، فهو كقوله تعالى في السورة الآتية {وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم} [المائدة:49] فالحق هو المطلوب في الحكم سواء كان المحكوم عليه يهوديا أو مجوسيا، أو مسلما حنيفيا...
وهذا الخطاب ليس خاصا بالنبي (صلى الله عليه وسلم) بل هو عام لكل من يحكم بين الناس بما أنزل الله كما أمر الله...
الآية في الحكم بكتاب الله لا في الاجتهاد ولكنها لا تدل على منع الاجتهاد، ولا عليه أيضا...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
ففي هذا دليل على تحريم الخصومة في باطل، والنيابة عن المبطل في الخصومات الدينية والحقوق الدنيوية. ويدل مفهوم الآية على جواز الدخول في نيابة الخصومة لمن لم يعرف منه ظلم...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
"هذه الآيات تحكي قصة لا تعرف لها الأرض نظيرا، ولا تعرف لها البشرية شبيها.. وتشهد -وحدها- بأن هذا القرآن وهذا الدين لا بد أن يكون من عند الله؛ لأن البشر -مهما ارتفع تصورهم، ومهما صفت أرواحهم، ومهما استقامت طبائعهم- لالله:إن صاحبنا بريء، وإن الذي سرق الدرع فلان. وقد أحطنا بذلك علما. فاعذر صاحبنا على رؤوس الناس، وجادل عنه، فإنه إن لم يعصمه الله بك يهلك.. ولما عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الدرع وجدت في بيت اليهودي، قام فبرأ ابن أبيرق وعذره على رؤوس الناس. وكان أهله قد قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم قبل ظهور الدرع في بيت اليهودي -إن قتادة بن النعمان وعمه عمدا إلى أهل بيت منا أهل إسلام وصلاح يرمونهم بالسرقة من غير بينة ولا ثبت! قال قتادة:فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمته. فقال:""عمدت الى أهل بيت يذكر منهم إسلام وصلاح وترميهم بالسرقة على غير ثبت ولا بينة؟" "قال:فرجعت، ولوددت أني خرجت من بعض مالي ولم أكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك. فأتاني عمي رفاعة فقال:يا ابن أخي ما صنعت؟ فأخبرته بما قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:الله المستعان.. فلم نلبث أن نزلت: (إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله، ولا تكن للخائنين خصيمًا)- أي بني أبيرق -وخصيما:أي محاميا ومدافعا ومجادلا عنهم – (واستغفر الله)- أي مما قلت لقتادة -(إن الله كان غفورا رحيمًا).. (ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم)- إلى قوله تعالى: (رحيمًا) -أي لو استغفروا الله لغفر لهم- (ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه) -إلى قوله: (إثما مبينًا).. (ولولا فضل الله عليك ورحمته). إلى قوله: (فسوف نؤتيه أجرا عظيما).. فلما نزل القرآن أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسلاح فرده إلى رفاعة.. قال قتادة:لما أتيت عمي بالسلاح- وكان شيخا قد عمي -أو عشي- في الجاهلية، وكنت أرى إسلامه مدخولا، فلما أتيته بالسلاح قال:يا ابن أخي هي في سبيل الله. فعرفت أن إسلامه كان صحيحا! فلما نزل القرآن لحق بشير بالمشركين، فأنزل الله تعالى: ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى، ويتبع غير سبيل المؤمنين، نوله ما تولى، ونصله جهنم وساءت مصيرا. إن الله لا يغفر أن يشرك به، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء. ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا. إن المسألة لم تكن مجرد تبرئة برى ء، تامرت عليه عصبة لتوقعه في الاتهام -وإن كانت تبرئة بريء أمرا هائلا ثقيل الوزن في ميزان الله- إنما كانت أكبر من ذلك. كانت هي إقامة الميزان الذي لا يميل مع الهوى، ولا مع العصبية، ولا يتأرجح مع المودة والشنآن أيا كانت الملابسات والأحوال. وكانت المسألة هي تطهير هذا المجتمع الجديد؛ وعلاج عناصر الضعف البشري فيه مع علاج رواسب الجاهلية والعصبية -في كل صورها حتى في صورة العقيدة، إذا تعلق الأمر بإقامة العدل بين الناس- وإقامة هذا المجتمع الجديد، الفريد في تاريخ البشرية، على القاعدة الطيبة النظيفة الصلبة المتينة التي لا تدنسها شوائب الهوى والمصلحة والعصبية، والتي لا تترجرج مع الأهواء والميول والشهوات! ولقد كان هناك أكثر من سبب للإغضاء عن الحادث، أو عدم التشديد فيه والتنديد به وكشفه هكذا لجميع الأبصار. بل فضحه بين الناس -على هذا النحو العنيف المكشوف.. كان هناك أكثر من سبب، لو كانت الاعتبارات الأرضية هي التي تتحكم وتحكم. ولو كانت موازين البشر ومقاييسهم هي التي يرجع إليها هذا المنهج! كان هناك سبب واضح عريض.. أن هذا المتهم ""يهودي "".. من"" يهود "".. يهود التي لا تدع سهما مسموما تملكه إلا أطلقته في حرب الإسلام وأهله. يهود التي يذوق منها المسلمون الأمرين في هذه الحقبة [ويشاء الله أن يكون ذلك في كل حقبة!] يهود التي لا تعرف حقا ولا عدلا ولا نصفة، ولا تقيم اعتبارا لقيمة واحدة من قيم الأخلاق في التعامل مع المسلمين على الإطلاق! وكان هنالك سبب آخر؛ وهو أن الأمر في الأنصار. الأنصار الذين آووا ونصروا. والذين قد يوجد هذا الحادث بين بعض بيوتهم ما يوجد من الضغائن. بينما أن اتجاه الاتهام إلى يهودي، يبعد شبح الشقاق! وكان هنالك سبب ثالث. هو عدم إعطاء اليهود سهما جديدا يوجهونه إلى الأنصار. وهو أن بعضهم يسرق بعضا، ثم يتهمون اليهود! وهم لا يدعون هذه الفرصة تفلت للتشهير بها والتغرير! ولكن الأمر كان أكبر من هذا كله. كان أكبر من كل هذه الاعتبارات الصغيرة. الصغيرة في حساب الإسلام. كان أمر تربية هذه الجماعة الجديدة لتنهض بتكاليفها في خلافة الأرض وفي قيادة البشرية. وهي لا تقوم بالخلافة في الأرض ولا تنهض بقيادة البشرية حتى يتضح لها منهج فريد متفوق على كل ما تعرف البشرية؛ وحتى يثبت هذا المنهج في حياتها الواقعية. وحتى يمحص كيانها تمحيصا شديدا؛ وتنفض عنه كل خبيئة من ضعف البشر ومن رواسب الجاهلية. وحتى يقام فيها ميزان العدل- لتحكم به بين الناس -مجردا من جميع الاعتبارات الأرضية، والمصالح القريبة الظاهرة، والملابسات التي يراها الناس شيئا كبيرا لا يقدرون على تجاهله! واختار الله- سبحانه -هذا الحادث بذاته، في ميقاته.. مع يهودي.. من يهود التي يذوق منها المسلمون الأمرين إذ ذاك في المدينة؛ والتي تؤلب عليهم المشركين، وتؤيد بينهم المنافقين، وترصد كل ما في جعبتها من مكر وتجربة وعلم لهذا الدين! وفي فترة حرجة من حياة المسلمين في المدينة، والعداوات تحيط بهم من كل جانب. ووراء كل هذه العداوات يهود! اختار الله هذا الحادث في هذا الظرف، ليقول فيه- سبحانه -للجماعة المسلمة ما أراد أن يقول، وليعلمها به ما يريد لها أن تتعلم! ومن ثم لم يكن هناك مجال للباقة! ولا للكياسة! ولا للسياسة! ولا للمهارة في إخفاء ما يحرج، وتغطية ما يسوء! ولم يكن هناك مجال لمصلحة الجماعة المسلمة الظاهرية! ومراعاة الظروف الوقتية المحيطة بها! هنا كان الأمر جدا خالصا، لا يحتمل الدهان ولا التمويه! وكان هذا الجد هو أمر هذا المنهج الرباني وأصوله. وأمر هذه الأمة التي تعد لتنهض بهذا المنهج وتنشره. وأمر العدل بين الناس. العدل في هذا المستوى الذي لا يرتفع إليه الناس- بل لا يعرفه الناس -إلا بوحي من الله، وعون من الله. وينظر الإنسان من هذه القمة السامقة على السفوح الهابطة- في جميع الأمم على مدار الزمان -فيراها هنالك.. هنالك في السفوح.. ويرى بين تلك القمة السامقة والسفوح الهابطة صخورا متردية، هنا وهناك، من الدهاء، والمراء، والسياسية، والكياسة، والبراعة، والمهارة، ومصلحة الدولة، ومصلحة الوطن، ومصلحة الجماعة.. إلى آخر الأسماء والعنوانات.. فإذا دقق الإنسان فيها النظر رأى من تحتها.. الدود..!! وينظر الإنسان مرة أخرى فيرى نماذج الأمة المسلمة- وحدها -صاعدة من السفح إلى القمة.. تتناثر على مدار التاريخ، وهي تتطلع إلى القمة، التي وجهها إليها المنهج الفريد. أما العفن الذي يسمونه ""العدالة"" في أمم الجاهلية الغابرة والحاضرة، فلا يستحق أن نرفع عنه الغطاء. في مثل هذا الجو النظيف الكريم.. والآن نواجه نصوص الدرس بالتفصيل:"
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
قوله: {بما أراك الله} الباء للآلة جعل ما أراه الله إيّاه بمنزلة آلة للحكم لأنّه وسيلة إلى مصادفة العدل والحقّ ونفي الجور، إذ لا يحتمل علم الله الخطأ. والرؤية في قوله: {أراك الله} عرفانية، وحقيقتها الرؤية البصرية، فأطلقت على ما يدرك بوجه اليقين لمشابهته الشيء المشاهد...
فكلّ ما جعله الله حقّا في كتابه فقد أمر بالحكم به بين الناس، وليس المراد أنّه يُعلمه الحقّ في جانب شخص معيّن بأنّ يقول له: إن فلاناً على الحقّ،... بل المراد أنّه أنزل عليه الكتاب ليحكم بالطرق والقضايا الدالّة على وصف الأحوال التي يتحقّق بها العدل فيحكم بين الناس على حسب ذلك، بأن تندرج جزئيات أحوالهم عند التقاضي تحت الأوصاف الكلية المبيّنة في الكتاب،... ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا يخطئ في إدراج الجزئيات تحت كليّاتها،... وغير الرسول يخطئ في الادراج، ولذلك وجب بذل الجهد واستقصاء الدليل، ومن ثمّ استدلّ علماؤنا بهذه الآية على وجوب الاجتهاد في فهم الشريعة...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
الأولى: أن الله تعالى عبر عن القرآن ب "الكتاب "للإشارة إلى أنه مكتوب مسجل مدون، باق إلى يوم القيامة.
الثانية: كلمة "بالحق"، والباء تدل على الملابسة والاتصال والمعية فهو مع الحق، وبالحق وناطق بالحق، ومشتمل عليه، ولا شيء في هذا الكتاب إلا ما هو حق، ولا يخالفه إلا ما هو باطل. الثالثة: قوله تعالى {بما أراك الله}، فإنها مقابلة لقوله تعالى: {إنا أنزلنا إليك الكتاب}، وهذه المقابلة تقتضي أن تكون كلمة {بما أراك الله} لها معنى خاص، وهو النظر بنور الله تعالى في الأقضية التي يقضى فيها، فالقاضي لكي يكون قضاؤه عدلا لابد من أمرين:
أحدهما -قانون عادل هو الحق من كل نواحيه وهو هنا الكتاب الكريم، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه.
والثاني- أن يكون فحصه للقضية ببصيرة نيرة نافذة، وقلب مشرق مدرك، وهذا يكون بنور الله وهو للنبي ما عبر عنه بقوله تعالى: {بما أراك الله}. ولكن نور الحق لا يكون إلا إذا نظر القاضي فيما يعرض عليه نظرة غير متحيزة ولا منحرفة وهذا هو ما نهى الله عنه نبيه والنهي لعموم أمته ولذا قال تعالى: {ولا تكن للخائنين خصيما}... وإن على كل قاض أن يستغفر الله دائما في أقضيته لأنه لا يدري: لعله أصاب الباطل والعصمة لله تعالى وحده ولأنبيائه ولذا قال سبحانه: {واستغفر الله إن الله كان غفورا رحيما}...
وبعد أن تكلم الحق عن القتال في سبيل نصرة دينه لم يحرم المؤمنين من توجيه يصفي أيضا حركة الحياة، لماذا؟ لأنه علم أن قوما يؤمنون به وينضوون تحت لوائه صلى الله عليه وسلم فيوضح: انضواءكم أيها المؤمنون تحت لواء الإسلام له تبعات، فأنتم أول من ينطبق عليه حكم الله، وإياكم أن تظنوا أنكم بإيمانكم وإعلان إسلامكم لله واتباعكم لرسول الله قد اتخذتم شيئا يميزكم عن بقية خلق الله، فكما قلنا لكم دافعوا الكفار ودافعوا المنافقين نقول لكم أيضا: دافعوا أنفسكم لأن واحدا قد ينضم إلى الإسلام وبعد ذلك يظن أن الإسلام سيعطيه فرصة ليكون له تميز على غيره، ولمثل هذا الإنسان: نقول لا، ولذلك يخاطب رسوله صلى الله عليه وسلم ويقول له: {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما... ما الغاية من الإنزال؟ الغاية من الإنزال أن يوجد على الأرض منهج يحكم حركة الحياة، والقرآن قد أنزل إلى الرسول وإلى من آمن بالرسالة وحين يقول الحق:"أنزلنا عليك" فمعنى ذلك نزول التكليف وساعة نسمع كلمة "أنزلنا "فعلينا أن نعرف أن كل شيء يجيء من الحق فهو ينزل إلينا منه سبحانه، وكلمة "أنزل" تشعر السامع أو القارئ لها أن الجهة التي أنزلت هي جهة أعلى، وليست مساوية لمن أنزل إليه، وليست أدنى منه أيضا...
"إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق" والحق هو الشيء الثابت الذي لا يأتي واقع آخر لينقضه... {إنا أنزلنا إليك الكتاب لتحكم بين الناس} وهذا يوضح لنا أن حكومة الدين الإسلامي وعلى رأسها الحاكم الأول رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما جاء لا ليحكم بين المؤمنين به فقط بل ليحكم بين الناس ومن شرط الحكم بين الناس القيام بالعدل فيما يختصمون فيه، فلا يقولن واحد، هذا مسلم وذاك كافر فإذا كان الحق مع الكافر فلا بد أن تعطيه له، وإذا كان الحق مع المسلم فيجب أن تعطيه له، لأنك لا تحكم بين المؤمنين فقط ولكنك تحكم بين الناس...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{إِنَّآ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَآ أَرَاكَ اللَّهُ}. إن الله أنزل الكتاب بالحق ليكون هو القاعدة الفكرية والعملية التي ينطلق منها المؤمنون في تسيير جميع شؤون حياتهم، فلا مجال لاتباع الآراء والأهواء التي تبتعد عنه، لأن الله يريد للحياة أن تقوم على أساس الحق الذي يواجه القضايا من منطلق الواقع، بعيداً عن أية علاقة أو انتماء أو مطمع... وفي هذا الجو لا بد أن يحكم الحاكم، في كل المسائل التي تثار أمامه، بما أراه الله من الحق، فلا يتطلع إلى أيِّ شيء آخر في ما يدخل في حيثيات حكمه، مهما كانت الظروف والاعتبارات والنتائج، لأن ذلك يمثل انحرافاً عن الحق وابتعاداً عنه. وهذا هو الخط الذي نستهديه في كل مجالاتنا الفكرية والاجتماعية والسياسية؛ فإذا كان الكتاب هو الذي أنزله الله بالحق، فإن علينا أن ننطلق من مفاهيمه وتعاليمه في كل شيء، وأن ننطلق من أجوائه في منهج التفكير وطريقته...