ولما أخبر الله نبيه بما أخبر به عن مريم ، وكيف تنقلت بها الأحوال التي قيضها الله لها ، وكان هذا من الأمور الغيبية التي لا تعلم إلا بالوحي . قال { ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم } أي : عندهم { إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم } لما ذهبت بها أمها إلى من لهم الأمر على بيت المقدس ، فتشاحوا وتخاصموا أيهم يكفل مريم ، واقترعوا عليها بأن ألقوا أقلامهم في النهر ، فأيهم لم يجر قلمه مع الماء فله كفالتها ، فوقع ذلك لزكريا نبيهم وأفضلهم ، فلما أَخْبَرتَهُم يا محمد بهذه الأخبار التي لا علم لك ولا لقومك بها دل على أنك صادق وأنك رسول الله حقا ، فوجب عليهم الانقياد لك وامتثال أوامرك ، كما قال تعالى : { وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر } الآيات .
ثم بين - سبحانه - أن ما جاء به القرآن في شأن مريم - بل وفي كل شأن من الشؤون - هو الحق الذى لا يحوم حوله باطل ، وهو من أنباء الغيب التى لا يعلمها أحد سواه فقال - تعالى - : { ذلك مِنْ أَنَبَآءِ الغيب نُوحِيهِ إِلَيكَ } .
واسم الإشارة { ذلك } يعود إلى ما تقدم الحديث عنه من قصة امرأة عمران وقصة زكريا وغير ذلك من الأخبار البديعة .
والأنباء : جمع نبأ ، وهو الخبر العظيم الشأن .
والغيب : مصدر غاب ، وهو الأمر المغيب المستور الذى لا يعلم إلا من قبل الله - تعالى - .
ونوحيه : من الإيحاء وهو إلقاء المعنى إلى الغير على وجه خفي ، ويكون بمعنى إرسال الملك إلى الأنبياء وبمعنى الإلهام أى : ذلك القصص الحكيم الذى قصصناه عليك يا محمد ، فيما يتعلق بما قالته امرأة عمران وما قاله زكريا ، وما قالته الملائكة لمريم وفيما يتعلق بغير ذلك من شؤون ذلك القصص الحكيم هو من أنباء الغيب التي لا يعلمها أحد سوى الله - عز وجل - وقد أخبرناك بها لتكون دليلا على صدقك فيما تبلغه عن ربك ولتكون عبرة وذكرى لقوم يعقلون .
وقوله { ذلك } مبتدأ وخبره قوله - تعالى - { مِنْ أَنَبَآءِ الغيب } والجملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب . وقوله { نُوحِيهِ إِلَيكَ } جملة مستقلة مبينة للأولى . والضمير في { نُوحِيهِ } يعود إلى الغيب أى الأمر والشأن أنا نوحى إليك الغيب ونعلمك به ، ونظهرك على قصص من تقدمك مع عدم مدارستك لأهل العلم والأخبار .
ولذ قال - تعالى - { وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ } والأقلام جمع قلم وهى التى كانوا يكتبون بها التوراة ، وقيل المراد بها السهام .
أى وما كنت - يا محمد - لديهم أى عندهم معاينا لفعلهم وما جرى من أمرهم فى شأن مريم ، { إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ } التى جعلوا عليها علامات يعرف بها من يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون فيما بينهم بسببها تنافسا في كفالتها .
وقد سبق أن ذكرنا ما قاله صاحب الكشاف من أن مريم بعد أن ولدتها أمها خرجت بها إلى بيت المقدس فوضعتها عند الأحبار وقالت لهم : دونكم هذه النذيرة ! ! فقالوا : هذه ابنة إمامنا عمران - وكان في حياته يؤمهم في الصلاة ، فقال لهم زكريا : أدفعوها إلي فأنا أحق بها منكم فإن خالتها عندى - فقالوا لا حتى نقترع عليها فانطلقوا إلى نهر فألقوا فيه أقلامهم فارتفع قلم زكريا فوق الماء ورسبت أقلامهم ، فتولى كفالتها زكريا - عليه السلام - . فالمضمير فى قوله { لَدَيْهِمْ } يعود على المتنازعين في كفالة مريم لأن السياق قد دل عليهم .
والمقصود من هذه الجملة الكريمة { وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون } الخ تحقيق كون الإخبار بما ذكر إنما هو عن وحي من الله - تعالى - لنبيه صلى الله عليه وسلم لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن معاصرا لهؤلاء الذين تحدث القرآن عنهم . ولم يقرأ أخبارهم في كتاب من الكتب ، ومع ذلك فقد أخبر النبى صلى الله عليه وسلم أهل الكتاب وغيرهم بالحق الذى لا يستطيعون تكذيبه إلا على سبيل الحسد والجحود ، فثبت أن القرآن من عند الله - تعالى - .
{ ذَلِكَ مِنْ أَنَبَآءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ }
يعني جل ثناؤه بقوله : ذلك الأخبار التي أخبر بها عباده عن امرأة عمران وابنتها مريم وزكريا ، وابنه يحيى ، وسائر ما قصّ في الاَيات من قوله : { إنّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحا } ثم جمع جميع ذلك تعالى ذكره بقوله ذلك ، فقال : هذه الأنباء من أنباء الغيب : أي من أخبار الغيب . ويعني بالغيب ، أنها من خفيّ أخبار القوم التي لم تطلع أنت يا محمد عليها ولا قومك ، ولم يعلمها إلا قليل من أحبار أهل الكتابين ورهبانهم ثم أخبر تعالى ذكره نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم أنه أوحى ذلك إليه حجة على نبوّته ، وتحقيقا لصدقه ، وقطعا منه به عذر منكري رسالته من كفار أهل الكتابين الذين يعلمون أن محمدا لم يصل إلى علم هذه الأنباء مع خفائها ولم يدرك معرفتها مع خمولها عند أهلها إلا بإعلام الله ذلك إياه ، إذ كان معلوما عندهم أنه محمدا صلى الله عليه وسلم أمي لا يكتب فيقرأ الكتب فيصل إلى علم ذلك من قِبَل الكتب ، ولا صاحب أهل الكتب فيأخذ علمه من قِبَلهم .
وأما الغيب : فمصدر من قول القائل : غاب فلان عن كذا ، فهو يغيب عنه غَيْبا وغيبةً .
وأما قوله : { نُوحيهِ إِلَيْكَ } فإن تأويله : ننزله إليك ، وأصل الإيحاء : إلقاء الموحي إلى الموحَى إليه ، وذلك قد يكون بكتاب وإشارة وإيماء وبإلهام وبرسالة ، كما قال جلّ ثناؤه : { وَأوْحَى رَبّكَ إلى النّحْلِ } بمعنى : ألقى ذلك إليها فألهمها ، وكما قال :
{ وَإذْ أوْحَيْتُ إلى الحَوارِيّينَ } بمعنى : ألقيت إليهم علم ذلك إلهاما ، وكما قال الراجز :
*** أوْحَى لَهَا القَرَارَ فاسْتَقَرّتِ ***
بمعنى : ألقى إليها ذلك أمرا ، وكما قال جلّ ثناؤه : { فأوْحَى إلَيْهِمْ أنْ سَبّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيّا } بمعنى : فألقى ذلك إليهم أيضا ، والأصل فيه ما وصفت من إلقاء ذلك إليهم . وقد يكون إلقاؤه ذلك إليهم إيماء ، ويكون بكتاب ، ومن ذلك قوله : { وَإنّ الشّياطِينَ لَيُوحُونَ إلى أوْلِيائِهِمْ } يلقون إليهم ذلك وسوسة ، وقوله : { وأُوحِيَ إليّ هَذَا القُرْآنُ لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ } : ألقي إليّ بمجيء جبريل عليه السلام به إليّ من عند الله عزّ وجلّ . وأما الوحي : فهو الواقع من الموحِي إلى الموحَى إليه ، ولذلك سمت العرب الخط والكتاب وحيا ، لأنه واقع فيما كتب ثابت فيه ، كما قال كعب بن زهير :
أتَى العُجْمَ والاَفاقَ منهُ قَصائِدٌ *** بَقِينَ بَقاءَ الوَحْيِ فِي الحَجَرِ الأَصَمّ
يعني به الكتاب الثابت في الحجر . وقد يقال في الكتاب خاصة إذا كتبه الكاتب وَحَى ، بغير ألف ، ومنه قول رؤبة :
كأنّهُ بَعْدَ رِياح تَدْهَمَهُ *** وَمُرْثَعِنّاتِ الدّجُونِ تَثِمُهْ
*** إنجيلُ أحْبارٍ وَحَى مُنَمْنِمُهْ***
القول في تأويل قوله تعالى : { وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إذْ يُلْقُونَ أقْلاَمَهُمْ أيّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ } .
يعني جل ثناؤه بقوله : { وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ } : وما كنت يا محمد عندهم ، فتعلم ما نعلمكه من أخبارهم التي لم تشهدها ، ولكنك إنما تعلم ذلك فتدرك معرفته بتعريفناكه .
ومعنى قوله { لَدَيْهِمْ } : عندهم ، ومعنى قوله { إذْ يُلْقُونَ } : حين يلقون أقلامهم . وأما أقلامهم فسهامهم التي استهم بها المتسهمون من بني إسرائيل على كفالة مريم ، على ما قد بينا قبل في قوله : { وَكَفّلَها زَكَرِيّا } .
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا هشام بن عمرو ، عن سعيد ، عن قتادة في قوله : { وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ } يعني محمدا صلى الله عليه وسلم .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { يُلْقُونَ أقْلامَهُمْ } : زكريا وأصحابه استهموا بأقلامهم على مريم حين دخلت عليهم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : { وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إذْ يُلْقُونَ أقْلامَهُمْ أيّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إذْ يَخْتَصِمُونَ } : كانت مريم ابنة إمامهم وسيدهم ، فتشاحّ عليها بنو إسرائيل ، فاقترعوا فيها بسهامهم أيهم يكفلها ، فقرعهم زكريا ، وكان زوج أختها ، فكفلها زكريا ، يقول : ضمها إليه .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : { يُلْقُونَ أقْلاَمَهُمْ } قال : تساهموا على مريم أيهم يكفلها ، فقرعهم زكريا .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : { وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إذْ يُلْقُونَ أقْلاَمَهُمْ أيّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ } ، وإن مريم لما وضعت في المسجد ، اقترع عليها أهل المصلى ، وهم يكتبون الوحي ، فاقترعوا بأقلامهم أيهم يكفلها ، فقال الله عزّ وجلّ لمحمد صلى الله عليه وسلم : { وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إذْ يُلْقُونَ أقْلامَهُمْ أيّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إذْ يَخْتَصِمُونَ } .
حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : { إذْ يُلْقُونَ أقْلامَهُمْ أيّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ } : اقترعوا بأقلامهم أيهم يكفل مريم ، فقرعهم زكريا .
حدثنا محمد بن سنان ، قال : حدثنا أبو بكر الحنفي ، عن عباد ، عن الحسن ، في قوله : { وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إذْ يُلْقُونَ أقْلامَهُمْ } قال : حيث اقترعوا على مريم ، وكان غيبا عن محمد صلى الله عليه وسلم حين أخبره الله .
وإنما قيل : { أيّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ } لأن إلقاء المستهمين أقلامهم على مريم إنما كان لينظروا أيهم أولى بكفالتها وأحقّ ، ففي قوله عزّ وجلّ : { إذْ يُلْقُونَ أقْلامَهُمْ } دلالة على محذوف من الكلام ، وهو : «لينظروا أيهم يكفل ، وليتبينوا ذلك ويعلموه » .
فإن ظنّ ظانّ أن الواجب في «أيهم » النصب ، إذ كان ذلك معناه ، فقد ظنّ خطأ¹ وذلك أن النظر والتبين والعلم مع أيّ يقتضي استفهاما واستخبارا ، وحظّ «أيّ » في الاستخبار الابتداء ، وبطول عمل المسألة والاستخبار عنه . وذلك أن معنى قول القائل : لأنظرنّ أيهم قام ، لأستخبرنّ الناس أيهم قام¹ وكذلك قولهم : لأعلمنّ . وقد دللنا فيما مضى قبل أن معنى يكفُل يضمّ ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إذْ يَخْتَصِمُونَ } .
يعني بذلك جلّ ثناؤه : وما كنت يا محمد عند قوم مريم ، إذ يختصمون فيها أيهم أحقّ بها وأولى ، وذلك من الله عزّ وجلّ وإن كان خطابا لنبيه صلى الله عليه وسلم ، فتوبيخ منه عزّ وجلّ للمكذّبين به من أهل الكتابين ، يقول : كيف يشكّ أهل الكفر بك منهم ، وأنت تنبئهم هذه الأنباء ولم تشهدها ، ولم تكن معهم يوم فعلوا هذه الأمور ، ولست ممن قرأ الكتب فعلم نبأهم ، ولا جالس أهلها فسمع خبرهم . كما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير : { وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إذْ يَخْتَصِمُونَ } أي ما كنت معهم إذ يختصمون فيها يخبره بخفيّ ما كتموا منه من العلم عندهم ، لتحقيق نبوّته والحجة عليهم ، لما يأتيهم به مما أخفوا منه .
هذه المخاطبة لمحمد عليه السلام ، والإشارة ب { ذلك } إلى ما تقدم ذكره من القصص ، والأنباء : الأخبار ، و{ الغيب } ما غاب عن مدارك الإنسان ، و{ نوحيه } معناه نلقيه في نفسك في خفاء ، وحد الوحي إلقاء المعنى في النفس في خفاء ، ثم تختلف أنواعه ، فمنه بالملك ، ومنه بالإلهام ، ومنه بالإشارة ، ومنه بالكتاب ، كما قال كعب بن زهير{[3170]} : [ الطويل ]
أتَى الْعَجم والآفاق مِنْهُ قصائدٌ . . . بَقينَ بقاءَ الوحْي في الْحَجَرِ الأصمْ
تقول العرب : أوحى ، وتقول وحى ، وفي هذه الآية بيان لنبوة محمد عليه السلام ، إذ جاءهم بغيوب لا يعلمها إلا من شاهدها وهو لم يكن لديهم ، أو من قرأها في كتب أهل الكتاب ، ومحمد عليه السلام أمي من قوم أميين ، أو من أعلمه الله بها وهو ذاك صلى الله عليه وسلم ، ولديهم معناه عندهم ومعهم ، وقد تقدم القول في الأقلام والكفل ، وجمهور العلماء على أنه استهام لأخذها والمنافسة فيها ، وقال ابن إسحاق : إنما كان استهامهم حين نالتهم المجاعة دفعاً منها لتحمل مؤونتها ، و{ يختصمون } معناه يتراجعون القول الجهير في أمرها ، وفي هذه الآية استعمال القرعة والقرعة سنة ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سافر أقرع بين نسائه{[3171]} ، وقال عليه السلام : { لو يعلمون ما في الصف الأول لاستهموا عليه }{[3172]} ، وجمهور الأمة على تجويز القرعة إلا من شذ فظنها قماراً ، وهذا كله فيما يصلح التراضي بكونه دون قرعة فكأن القرعة محسنة لذلك الاختصاص ، وأما حيث لا يجوز التراضي كعتق العبيد في ثلث الميت فجوزها الجمهور ومنعها أبو حنيفة ، وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرع بين ستة أعبد ، فأعتق اثنين وأرقَّ أربعة{[3173]} ، وقوله : { أيهم يكفل مريم } ابتداء وخبر في موضع نصب بالفعل الذي تقديره ، ينظرون ، { أيهم يكفل مريم } والعامل في قوله { إذ قالت الملائكة } .
قوله : { إذ يلقون أقلامهم } وهي الأقلام التي يكتبون بها التوراة كانوا يقترعون بها في المشكلات : بأن يكتبوا عليها أسماء المقترعين أو أسماء الأشياء المقترع عليها ، والناس يصيرون إلى القرعة عند انعدام ما يرجّح الحق ، فكان أهل الجاهلية يستقسمون بالأزلام وجعل اليهود الاقتراع بالأقلام التي يكتبون بها التوراة في المِدراس رجاء أن تكون بركتها مرشدة إلى ما هو الخيْر . وليس هذا من شعار الإسلام وليس لإعمال القرعة في الإسلام إلاّ مواضع تمييز الحقوق المتساوية من كل الجهات وتفصيله في الفقه . وأشارت الآية إلى أنّهم تنازعوا في كفالة مريم حين ولدتها أمها حنّة ، إذ كانت يتيمة كما تقدم فحصل من هذا الامتنان إعلام بأنّ كفالة زكرياء مريم كانت بعد الاستقسام وفيه تنبيه على تنافسهم في كفالتها .