{ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ } أي : بالإيمان والخير { وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ } أي : تتركونها عن أمرها بذلك ، والحال : { وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ } وسمى العقل{[88]} عقلا لأنه يعقل به ما ينفعه من الخير ، وينعقل به عما يضره ، وذلك أن العقل يحث صاحبه أن يكون أول فاعل لما يأمر به ، وأول تارك لما ينهى عنه ، فمن أمر غيره بالخير ولم يفعله ، أو نهاه عن الشر فلم يتركه ، دل على عدم عقله وجهله ، خصوصا إذا كان عالما بذلك ، قد قامت عليه الحجة .
وهذه الآية ، وإن كانت نزلت في سبب بني إسرائيل ، فهي عامة لكل أحد لقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ } وليس في الآية أن الإنسان إذا لم يقم بما أمر به أنه يترك الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، لأنها دلت على التوبيخ بالنسبة إلى الواجبين ، وإلا فمن المعلوم أن على الإنسان واجبين : أمر غيره ونهيه ، وأمر نفسه ونهيها ، فترك أحدهما ، لا يكون رخصة في ترك الآخر ، فإن الكمال أن يقوم الإنسان بالواجبين ، والنقص الكامل أن يتركهما ، وأما قيامه بأحدهما دون الآخر ، فليس في رتبة الأول ، وهو دون الأخير ، وأيضا فإن النفوس مجبولة على عدم الانقياد لمن يخالف قوله فعله ، فاقتداؤهم بالأفعال أبلغ من اقتدائهم بالأقوال المجردة .
وبعد كل هذه الأوامر والنواهي ، وبخهم الله - تعالى - وقرعهم على ارتكابهم لأمور لا تصدر عن عاقل . وهي أنهم يأمرون الناس بالخير ولا يفعلونه ، فقال تعالى :
{ أَتَأْمُرُونَ الناس بالبر وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ . . . }
الأمر : طلب إيجاد الفعل . والبر : اسم يتناول كل عمل من أعمال الخير . والنسيان : ضد الذكر ، وهو السهو الحادث بعد حصول العلم . والعقل : يطلق على قوة في النفس ، تستعد بها لقبول العلم . وإدراك الشيء .
والمعنى : كيف يليق بكم يا معشر اليهود ، وأنتم تأمرون الناس بأمهات الفضائل ، وألوان الخيرات ، أن تنسوا أنفسكم ، فلا تأمروا بما تأمرون به غيركم ، وأنتم مع ذلك تقرأون توراتكم ، وتدركون أي عقوبة أليمة لمن يأمر الناس بالخير وينسى نفسه ، أفلا عقل لكم يحبسكم عن هذا السفه الذي تردتيم فيه ، ويذحركم من سوء عاقبته .
قال ابن عباس - رضي الله عنهما - كان يهود المدينة يقول الرجل منهم لصهره ، ولذى قرابته ، ولمن بينه وبينه صلة من المسلمين أثبت على الذي أنت عليه ، وما يأمرك به هذا الرجل يريدون محمداً صلى الله عليه وسلم - فإن أمره حق ، فكانوا يأمرون بالناس بذلك ولا يفعلونه .
والمراد بالنسيان في الآية الكريمة ، تركهم العمل بما يأمرون به غيرهم ، لأن الناسي حقيقة ليس مؤاخذا على مانسيه ، فلا يستحق هذا التوبيخ الشديد الوارد في الآية الكريمة ، وليس التوبيخ متوجها إلى كونهم كانوا يأمرون الناس بالبر ، لأنهن فعل محمود ، وإنما التوبيخ متوجه إلى كونهم تركوا العمل بما يرشدون إليه سواهم ، فهم يداوون الناس ، وقلوبهم مليئة بالأمراض والعلل .
وقوله تعالى : { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } أسمى أنواع الهداية وآلإرشاد السليم ، فإن من ألطف الأساليب في الخطاب والتوجيه ، أن يكون للموجه إليه النصح صفة من شأنها أن تسوقه إلى خير ، ولكنه ينساق إلى غيره من أنواع الشرور فيقع فعله من الناس موقع الدهشة والغرابة ، فيذكر له مسدى النصح تلك الصفة في معرض الاستفهام بغية تذكيره بأن ما صدر منه لا يلتقى مع ما عرف عنه .
وتطبيقاً لهذا المبدأ نقول : إن المخاطبين بقوله تعالى : { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } يعقلون ويدركون الأشياء ، وبهذا الإِدراك توجه إليهم التكليف بالعقائد والشرائع ، ولكنهم لم يسيروا على مقنضي ما لديهم من عقول ، حيث كانوا يأمرون الناس بالخير ، ويصرفون أنفسهم عنه ، فكأنه - سبحانه - يقول لهم : إن ما أتيتم من أفعال سقيمة . يجعل الناظر إليكم يحكم عليكم بلا أدنى تردد بأنكم لا عقول لكم ، ولا فضيلة لديكم ، وفي هذا الأسلوب ما فيه من الترغيب في فعل الخير ؛ والترهيب من فعل الشر .
{ أَتَأْمُرُونَ النّاسَ بِالْبِرّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ }
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في معنى البرّ الذي كان المخاطبون بهذه الآية يأمرون الناس به وينسون أنفسهم ، بعد إجماع جميعهم على أن كل طاعة لله فهي تسمى برّا . فروي عن ابن عباس ما :
حدثنا به ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : أتأْمُرُونَ النّاسَ بالبرّ وَتَنْسَوْنَ أنْفُسَكُمْ وأنْتُمْ تَتْلُونَ الكِتابَ أفَلا تَعْقِلُونَ أي تنهون الناس عن الكفر بما عندكم من النبوّة والعهد من التوراة ، وتتركون أنفسكم : أي وأنتم تكفرون بما فيها من عهدي إليكم في تصديق رسولي ، وتنقضون ميثاقي ، وتجحدون ما تعلمون من كتابي .
وحدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس في قوله : أتأْمُرُونَ النّاسَ بالبرّ يقول : أتأمرون الناس بالدخول في دين محمد صلى الله عليه وسلم ، وغير ذلك مما أمرتم به من إقام الصلاة وَتَنْسَوْنَ أنْفُسَكُمْ .
حدثني به موسى بن هارون ، قال : حدثني عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : أتأْمُرُونَ النّاسَ بالبِرّ وتَنْسَوْنَ أنْفُسَكُمْ قال : كانوا يأمرون الناس بطاعة الله وبتقواه وهم يعصونه .
وحدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر عن قتادة في قوله : أتأمُرُونَ النّاسَ بالبِرّ وتَنْسَوْنَ أنْفُسَكُمْ قال : كان بنو إسرائيل يأمرون الناس بطاعة الله وبتقواه وبالبرّ ويخالفون ، فعيّرهم الله .
وحدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا الحجاج ، قال : قال ابن جريج : أتأْمُرُونَ النّاسَ بالبرّ أهل الكتاب والمنافقون كانوا يأمرون الناس بالصوم والصلاة ، ويدعون العمل بما يأمرون به الناس ، فعيّرهم الله بذلك ، فمن أمر بخير فليكن أشدّ الناس فيه مسارعة .
حدثني به يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : هؤلاء اليهود كان إذا جاء الرجل يسألهم ما ليس فيه حق ولا رشوة ولا شيء ، أمروه بالحقّ ، فقال الله لهم : أتأْمُرُونَ النّاسَ بالبرّ وتَنْسَوْنَ أنْفُسَكُمْ وأنْتُمْ تَتْلُونَ الكِتابَ أفَلا تَعْقِلُونَ .
وحدثني عليّ بن الحسن ، قال : حدثنا مسلم الحرمي ، قال : حدثنا مخلد بن الحسين ، عن أيوب السختياني ، عن أبي قلابة في قول الله : أتأْمُرُونَ النّاسَ بالبِرّ وتَنْسَوْنَ أنْفُسَكُمْ وأنْتُمْ تَتْلُونَ الكِتابَ قال : قال أبو الدرداء : لا يفقه الرجل كل الفقه حتى يمقت الناس في ذات الله ثم يرجع إلى نفسه فيكون لها أشدّ مَقْتا .
قال أبو جعفر : وجميع الذي قال في تأويل هذه الآية من ذكرنا قوله متقارب المعنى لأنهم وإن اختلفوا في صفة البرّ الذي كان القوم يأمرون به غيرهم الذين وصفهم الله بما وصفهم به ، فهم متفقون في أنهم كانوا يأمرون الناس بما لله فيه رضا من القول أو العمل ، ويخالفون ما أمروهم به من ذلك إلى غيره بأفعالهم .
فالتأويل الذي يدلّ على صحته ظاهر التلاوة إذا : أتأمرون الناس بطاعة الله وتتركون أنفسكم تعصيه ، فهلا تأمرونها بما تأمرون به الناس من طاعة ربكم معيرهم بذلك ومقبحا إليهم ما أتوا به .
ومعنى نسيانهم أنفسهم في هذا الموضع نظير النسيان الذي قال جل ثناؤه : نَسُوا الله فَنَسِيَهُمْ بمعنى : تركوا طاعة الله فتركهم الله من ثوابه .
القول في تأويل قوله تعالى : وأنْتُمْ تَتْلُونَ الكِتابَ .
قال أبو جعفر : يعني بقوله : تَتْلُونَ : تدرسون وتقرءون . كما :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا بشر ، عن أبي روق ، عن الضحاك عن ابن عباس : وأنْتُمْ تَتْلُونَ الكِتابَ يقول : تدرسون الكتاب بذلك . ويعني بالكتاب : التوراة .
القول في تأويل قوله تعالى : أفَلا تَعْقِلُونَ .
قال أبو جعفر : يعني بقوله : أفَلا تَعْقِلُونَ : أفلا تفقهون وتفهمون قبح ما تأتون من معصيتكم ربكم التي تأمرون الناس بخلافها وتنهونهم عن ركوبها وأنتم راكبوها ، وأنتم تعلمون أن الذي عليكم من حقّ الله وطاعته في اتباع محمد والإيمان به وبما جاء به مثل الذي على من تأمرونه باتباعه . كما :
حدثنا به محمد بن العلاء ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق عن الضحاك ، عن ابن عباس : أفَلا تَعْقلُونَ يقول : أفلا تفهمون فنهاهم عن هذا الخلق القبيح .
وهذا يدل على صحة ما قلنا من أمر أحبار يهود بني إسرائيل غيرهم باتباع محمد صلى الله عليه وسلم ، وأنهم كانوا يقولون هو مبعوث إلى غيرنا كما ذكرنا قبل .
أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ( 44 )
وقوله تعالى : { أتأمرون الناس } خرج مخرج الاستفهام ، ومعناه التوبيخ( {[551]} ) ، و «البر » يجمع وجوه الخير والطاعات ويقع على كل واحد منها اسم بر ، { وتنسون } بمعنى تتركون كما قال الله تعالى : { نسوا الله فنسيهم }( {[552]} ) [ التوبة : 67 ] .
واختلف المتأولون في المقصود بهذه الآية ، فقال ابن عباس : «كان الأحبار يأمرون أتباعهم ومقلديهم باتباع التوراة ، وكانوا هم يخالفونها في جحدهم منها صفة محمد صلى الله عليه وسلم » .
وقالت فرقة : كان الأحبار إذا استرشدهم أحد من العرب في اتباع محمد دلوه على ذلك ، وهم لا يفعلونه .
وقال ابن جريج : «كان الأحبار يحضون الناس على طاعة الله ، وكانوا هم يواقعون المعاصي » . وقالت فرقة : كانوا يحضون على الصدقة ويبخلون .
وقوله تعالى : { وأنتم تتلون } معناه : تدرسون وتقرؤون ، ويحتمل أن يكون المعنى تتبعون أي في الاقتداء به ، و { الكتاب } التوراة وهي تنهاهم عما هم عليه من هذه الصفة الذميمة .
وقوله تعالى : { أفلا تعقلون } معناه : أفلا تمنعون أنفسكم( {[553]} ) من مواقعة هذه الحال المردية لكم ؟ والعقل : الإدراك المانع من الخطأ مأخوذ منه عقال البعير ، أي يمنعه من التصرف ، ومنه المعقل أي موضع الامتناع .