وبعد أن بين - سبحانه - سوء مصارع المكذبين ، أتبع ذلك بدعوة الناس إلى الاتعاظ بذلك من قبل فوات الأوان ، فقال - تعالى - : { ياحسرة عَلَى العباد مَا يَأْتِيهِمْ مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } .
والحسرة : الغم والحزن على ما فات ، والندم عليه ندما لا نفع من ورائه ، كأن المتحسر قد انحسرت عنه قواه وذهبت ، وصار فى غير استطاعته إرجاعها .
و " يا " حرف نداء و " حسرة " منادى ونداؤها على المجاز بتنزيلها منزلة العقلاء .
والمراد بالعباد : أولئك الذين كذبوا الرسل ، وآثروا العمى على الهدى ، ويدخل فيهم دخولا أوليا أصحاب تلك القرية المهلكة كانوا فى دنياهم ما يأتيهم من رسول من الرسل ، إلا كانوا به يستهزئون ، ويتغامزون ، ويستخفون به وبدعوته ، مع أنهم - لو كانوا يعقلون لقابلوا دعوة رسلهم بالطاعة والانقياد .
قال صاحب الكشاف : قوله : { ياحسرة عَلَى العباد . . . } نداء للحسرة عليهم ، كأنما قيل لها : تعالى يا حسرة فهذه من أحوالك التى حقك أن تحضرى فيها ، وهى حال استهزائهم بالرسل .
والمعنى : أنهم أحقاء بأن يتحسر عليهم المتحسرون ، ويتلهف علهيم المتلهفون . أو هم متحسر عليهم من جهة الملائكة والمؤمنين من الثقلين .
وقرئ : يا حسرة العباد منهم على أنفسهم ، بسبب تكذيبهم لرسلهم ، واستهزائهم بهم .
القول في تأويل قوله تعالى : { يَحَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مّن رّسُولٍ إِلاّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } .
يقول تعالى ذكره : يا حسرةً من العباد على أنفسها ، وتندّما وتلهفا في استهزائهم برسل الله ، ما يَأتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ من الله إلاّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ . وذُكر أن ذلك في بعض القراءات : «يا حَسْرَةَ العِبادِ عَلى أنْفُسِها » ، وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة يا حَسْرَةً عَلى العِبادِ : أي يا حسرة العباد على أنفسها على ما ضَيّعت من أمر الله ، وفرّطت في جنب الله . قال : وفي بعض القراءات : «يا حَسْرَةَ العِبادِ عَلى أنْفُسِها » .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : يا حَسْرَةً عَلى العِبادِ قال : كان حسرةً عليهم استهزاؤهم بالرسل .
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : يا حَسْرَةً عَلى العِبادِ يقول : يا ويلاً للعباد ، وكان بعض أهل العربية يقول : معنى ذلك : يا لها حسرةً على العباد .
{ يا حسرة على العباد } :تعالي فهذه من الأحوال التي من حقها أن تحضري فيها ، وهي ما دل عليها ، { ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون } ، فإن المستهزئين بالناصحين المخلصين المنوط بنصحهم خير الدارين أحقاء أن يتحسروا ويتحسر عليهم ، وقد تلهف على حالهم الملائكة والمؤمنون من الثقلين ، ويجوز أن يكون تحسرا من الله عليهم على سبيل الاستعارة لتعظيم ما جنوه على أنفسهم ويؤيده قراءة " يا حسرتا " ونصبها لطولها بالجار المتعلق بها ، وقيل بإضمار فعلها والمنادى محذوف ، وقرئ " يا حسرة العباد " بالإضافة إلى الفاعل أو المفعول ، و " يا حسرة " بالهاء على العباد بإجراء الوصل مجرى الوقف .
وقوله { يا حسرة } نداء لها على معنى هذا وقت حضورك وظهورك هذا تقدير نداء مثل هذا عند سيبويه ، وهو معنى قويم في نفسه ، وهو نداء منكور على هذا القراءة{[7]} ، قال الطبري : المعنى «يا حسرة العباد على أنفسهم » ، وذكر أنها في بعض القراءات كذلك ، وقال ابن عباس : «يا ويلا العباد » ، وقرأ ابن عباس والضحاك وعلي بن الحسين ومجاهد وأبي بن كعب «يا حسرةَ العبادِ » ، بإضافتها{[8]} ، وقول ابن عباس حسن مع قراءته ، وتأويل الطبري في ذلك القراءة الأولى ليس بالبين وإنما يتجه أن يكون المعنى تلهفاً على العباد ، كأن الحال يقتضيه وطباع كل بشر توجب عند سماعه حالهم وعذابهم على الكفر وتضييعهم أمر الله تعالى أن يشفق ويتحسر على العبادة ، وقال أبو العالية : المراد ب { العباد } : الرسل الثلاثة ، فكأن هذا التحسر هو من الكفار حين رأوا عذاب الله تلهفوا على ما فاتهم ، وقوله تعالى :
{ ما يأتيهم } الآية ، يدافع هذا التأويل ، والحسرة :التلهفات التي تترك صاحبها حسيراً ، وقرأ الأعرج ومسلم بن جندب{[9]} وأبو الزناد{[10]} «يا حسرة » بالوقف على الهاء وذلك للحرص على بيان معنى التحسر وتقريره للنفس ، والنطق بالهاء في مثل هذا أبلغ في التشفيق وهز النفس كقولهم : أوه ونحوه{[11]} ، وقوله { ما يأتيهم من رسول } الآية ، تمثيل لفعل قريش .